الطاقة المتجددة في لبنان: الفوضى والفردية وحس البقاء

منظر للألواح الشمسيّة من لبنان
منظر للألواح الشمسيّة من لبنان (c) هشام معطوق

لا تزال الأنوار مضاءة في الشوارع والبلدات والمدن والبيوت في لبنان، ولكن بأي ثمن؟ ماذا نخسر وماذا نربح من هذا الوضع الذي يعكس مدى مرونة الناس والقطاع الخاص والأنظمة المؤسساتية برمتها في البلاد، ويظهر أيضاً خللاً ولاعدالة في توفير وتوفر الخدمات الأساسية. هذه اللاعدالة لطالما كانت موجودة في المجتمع اللبناني ولم يتم معالجتها رغم الفرص التي اتيحت لنظام الحكم من أيام الاستقلال الى يومنا هذا.

لا استدامة ولا عدالة في الطاقات المتجددة اليوم

منذ انهيار 2019 لم تفعل الحكومة اللبنانية الكثير للخروج من أزمة طالت كل شيء في البلاد. ولكن الملفت كان في طريقة تأقلم الناس مع التغيرات الكبيرة التي حصلت بعد الانهيار، وإحدى مظاهر هذا التأقلم تجلت في قطاع الكهرباء.

لم يعد خفيا على أحد أن قطاع الكهرباء كان يعاني من مشاكل فساد وإدارة سيئة وتجاذبات سياسية، مما أدى إلى خدمة سيئة واعتماد تقنيات قديمة. ولم يكن مفاجئا أن يسقط قطاع الكهرباء أمام هول الأزمة. انقطعت كهرباء الدولة -كما يحلو لنا تسميتها في لبنان- ولم يعد صاحب المولد الخاص قادر على تلبية حاجات الناس؛ فلجأ من يستطيع من المواطنين والمواطنات إلى الطاقة الشمسية. وهكذا بدأت قصة جديد للبنان مع الطاقة المتجددة.

في السابق كانت وزارة الطاقة اللبنانية تسعى إلى تحفيز الناس على استعمال الطاقات المتجددة، وخصوصا الطاقة الشمسية، لكنها لم تنجح في الدفع بزيادة استعمال الطاقة الشمسية في إنتاج واستعمال الكهرباء. بقيت محاولاتها خجولة، حيث كانت الأرقام تشير إلى 100 ميجا واط فقط. اليوم الأرقام المستعملة من وزارة الطاقة تشير إلى ما يقارب 1000 ميجا واط وأكثر، وكل هذا من خلال الاستعمال الشخصي وقدرات الناس الفردية. وبالتالي جاء تزايد الطلب على الطاقات المتجددة نتيجة الحاجة الملحة والمعاناة ولم تنتشر الطاقة الشمسية إيماناً من الناس بضرورة التحول الطاقي أو بسبب سياسات الوزارة أو الحكومة. ومن الضروري دائما التذكير بهذا السياق، ليس بهدف انتقاد الوزارة أو الحكومة، ولكن من أجل التذكير وتسليط الضوء على موضوع اللاعدل في انتشار واستعمال الطاقات المتجددة في لبنان، ومن ثم الحاجة الملحة إلى تصحيح هذا المسار. يُختصر الوضع في قطاع الكهرباء و الطاقات المتجددة اليوم كالتالي: عشوائية وفوضى من حيث الانتشار واستعمال الموارد، وفردية من حيث لجوء الناس إلى إمكانياتهم الخاصة لنشر اللوائح الشمسية وإنتاج الكهرباء، وأخيرا حس البقاء الذي دفع هؤلاء الناس إلى الاعتماد على الطاقات المتجددة. وهذا الأمر بعيد كل البعد عن مفهوم الاستدامة: قطاع الطاقات المتجددة في لبنان اليوم غير مستدام وغير عادل. وهذا أمر يجب تغييره.

الحوكمة الرشيدة ودافع البقاء والسباق بين الإصلاح وعدم التدخل

الصراع في لبنان اليوم هو بين الإصلاحيين المتشددين ومن يميل إلى سياسة عدم التدخل (laissez faire) على كل الأصعدة بما فيها قطاع الطاقة. سياسة عدم التدخل واللجوء إلى تصحيحات السوق لا شك أنها قد تزيد من توسيع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية وتعمق اللامساواة في الحصول على الطاقة مهما كان مصدرها. تنطلق نظرية المؤمنين بعدم التدخل من قراءة واقعية لما يحدث في البلد على سياسيا ومؤسساتيا حيث أن الجمود السياسي والمؤسساتي لا يجب أن ينتقل إلى المجتمع. وعلى المجتمع أن يتصرف -ولو بدافع البقاء- للاستمرار في توفير الخدمات بغض النظر عن وجود أو انعدام دور للدولة. بالنسبة لهم، إن اللامساواة واللاعدالة هما ثمن وديناميكيات الحركة المجتمعية واستمرارها.

في المقابل، يُؤمن الإصلاحيون بالمؤسسات وضرورة وجود أسس قوية لحوكمة تُؤمِّن الاستدامة والعدالة والرفاه لجميع المواطنين والمواطنات، ويعتبرون أن ما يُبنى على باطل فهو باطل ولن يدوم. ويسعى هؤلاء لتصحيح المسار ومطالبة المسؤولين بلعب دورهم لعودة المؤسسات ولخدمة الجميع بالتساوي. للأسف، لم ينجح الإصلاحيون في إقناع المسؤولين ولم ينجحوا في إيصال أفراد قادرين على إطلاق المسار التصحيحي الإصلاحي إلى سدة المسؤولية. ولكن يبقى وجود هؤلاء في الفضاء العام واستمرارهم في الكفاح من أجل الإصلاحات ضرورياً، ويجب تشجيعهم/ن من خلال إعطائهم/ن المنابر لإعادة التذكير دوماً بضرورة إرساء حكم القانون وتعزيز أسس الحوكمة، خصوصا في قطاع الطاقة.

المخاطر والشلل المؤسساتي والسياسي لا يقودان الى انتقال طاقي عادل

السؤال الكبير: كيف نجعل الانتقال الطاقي في لبنان عادلا ومستداما وكيف يمكن لأسس الحوكمة الرشيدة أن تساهم في هذه العدالة والاستدامة؟

لا شك أن المولدات الخاصة، وتحديداً بعد انهيار البلاد في 2019، أصبحت تشكل خطراً بيئياً وصحياً، لا سيما أن المولدات الخاصة هي المنتج الأساسي للطاقة في لبنان اليوم. لا شك أن مشاكل مؤسسة كهرباء لبنان ما زالت قائمة ولم تُحل بزيادة التعرفة؛ ولا شك أن عشوائية انتشار الألواح الشمسية ستسبب في مشاكل في المستقبل؛ ولا شك أيضاً أن قطاع النفط والغاز في لبنان في مهب الريح. وبالتالي أصبح من الضرورة إعادة النظر في سياسات قطاع الطاقة في لبنان. أصبح هذا الأمر ضروريا وملحا، وبالتالي يجب من وزارة الطاقة التعاون مع الوزارات المعنية، مثل البيئة والصحة والمال والاقتصاد وغيرها، وأن تعمل سويا من خلال خلايا عمل مشتركة لوضع سياسة طاقية شاملة. كما يجب عليها أن تسعى إلى التشاور والتعاون مع المختصين والبلديات والمجتمعات المحلية والجهات المانحة للتوافق على استراتيجية طاقوية جديدة تأخذ بعين الاعتبار كل التغيرات التي حدثت بعد الانهيار الكبير في لبنان. يجب أن يكون أساس الاستراتيجية هذه توفير الطاقة للجميع بأسعار تناسب المواطنين والمواطنات وتكون مستدامة للجميع. ويجب على الاستراتيجية أن تستفيد من دروس الأخطاء الماضية وتبني نظاماً طاقوياً حديثاً، وأن تحدد دور مؤسسة كهرباء لبنان بحيث يكون هنالك وضوح حول دور هذه المؤسسة في النظام الطاقي الجديد وما إذا ستبقى المؤسسة هي المنتج الوحيد أو الأساسي أو الثانوي.

تحتاج الاستراتيجية والسياسات لمن ينفذها. وبالتالي، من الضروري أن يكون هناك وضوح حول المسؤوليات والمؤسسات التي ستقوم بتنفيذ وتفعيل النظام الطاقوي الحديث الذي سينشأ. يساعد الوضوح في الأدوار على المحاسبة وتصحيح المسار؛ فهناك ضرورة اليوم إلى معرفة الجهة المسؤولة عن قطاع الطاقات المتجددة داخل وزارة الطاقة، وحاجة لتوضيح دور المركز اللبناني لحفظ الطاقة وعلاقته مع الوزارة ودوره مع الجهات المانحة والمؤسسات الدولية المعنية بالطاقات المتجددة. ويبقى الأهم في هذا إنشاء الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء. يوجد في لبنان قانون لا مركزية الطاقة المتجددة الذي أُقر في ديسمبر/كانون الأول 2023، لكنه غير قابل للتنفيذ لعدم وجود هيئة ناظمة تدير القطاع. يصبح دور هذه الهيئة ضرورياً عندما يدخل القطاع الخاص في إنتاج الطاقات المتجددة والنظيفة لتلبية حاجات المستخدمين، ومن أجل انتظام القطاع وإدارته بشكل يمنع الاحتكارات أو الفساد.

تُعتبر الشفافية والتشاركية أساسية وجوهرية في قطاع الطاقات المتجددة. من الضروري أن تكون دفاتر الشروط معلنة للجميع، وأن تكون المناقصات واضحة وتنشر نتائجها وعقودها. كما يجب أن يكون هناك إعلان عن الرابحين في المناقصات و أصحاب الشركات، و أي نوع من تضارب المصالح أو ملكية الانتفاع والقرب من سياسيين أو أحزاب في البلاد. ويجب الإعلان بدون تأخير عن أي تغيير في ملكية الشركات صاحبة العقد أو العقود. كما يجب إشراك المجتمعات المحلية في استشارات علنية لتتمكن من إبداء رأيها قبل أي تعاقد بين الوزارة أو الهيئة والشركات لتنفيذ مشاريع الطاقة النظيفة على المعنيين من الوزارة والشركات والبلديات. القبول المجتمعي لمشاريع الطاقات النظيفة أساسي وحق من حقوق المجتمعات وجزء لا يتجزأ من أي مشروع انتقال طاقي عادل.

لا يهم إذا تم الاعتماد على استراتيجية مركزية أو غير مركزية للانتقال الطاقي. ما يهم اليوم هو وجود رؤية واضحة وخطة قابلة للتنفيذ وقدرة على استقطاب الأموال والاستثمارات لفائدة هذا التحول الطاقي في لبنان سواء للمشاريع الحكومية أو المشاريع المنفذة من قبل القطاع الخاص. لا توجد محفزات كافية اليوم لجذب الاستثمارات إلى لبنان. المشاريع التي تنفذ بأموال أجنبية تدخل ضمن مشاريع المساعدات الإنسانية وليست استثمارات لتطوير وتوسيع الاقتصاد اللبناني. اليوم المخاطر الأمنية والعسكرية والمخاطر المؤسساتية والاقتصادية كبيرة جدا ولا تشجع على الاستثمارات. و لهذا لا نرى مشاريع طاقات جديدة كبيرة على صعيد وطني، بل تظل كل المشاريع فردية أو محلية ضيقة وتدخل ضمن مشاريع إنسانية. وبالتالي المماطلة في معالجة الانهيار الاقتصادي، والتمادي في الفراغ السياسي، وتقبل الوضع الأمني العسكري، كلها أمور قد تتسبب في ضياع فرصة الانتقال الطاقي العادل في لبنان.

عندما أعلنت الحكومة اللبنانية عن نيتها تطوير قطاع النفط والغاز في لبنان، أطلقت وعودا غير واقعية. في نفس الوقت، حفزت هذه الوعود الكثير من الشباب والشابات على دراسة هندسة البترول و اختصاصات أخرى مرتبطة بهذا القطاع. ودفعت الجامعات إلى الاستثمار في إنشاء وحدات دراسية في هذا الاختصاص. اليوم، نحتاج إلى رؤية واضحة حول موضوع الطاقات المتجددة وموضوع البنى الاقتصادية الخضراء التي يجب بناؤها ووضع أسسها لمواكبة التطورات العالمية. هذا يعنى الاقتصادات المستقبلية الخضراء. وهذا قد يحفز الشباب على بناء قدراتهم للعب دور أساسي في الاقتصاد والحصول على الوظائف الجديدة في لبنان وفي الخارج. يجب دفع الشباب نحو الأبحاث والتكنولوجيات الجديدة المطلوبة لبناء مجتمعات واقتصادات خضراء. تتحقق العدالة بإعطاء الشباب الفرص التي يحتاجونها للعب دور أساسي في بناء اقتصادهم المحلي والوطني والإقليمي.

فرصة أخيرة؟

في انتظار انتظام الحكم في لبنان لتفعيل مؤسسات حكومية لتكون فاعلة وتهتم بالمواطنين والمواطنات والمقيمين والمقيمات وتؤمن الخدمات بفعالة، يأخذ الناس الأمور على عاتقهم ويفعلون ما يرونه مناسباً. وبين ما يجب أن يحدث وما يتمناه الإصلاحيون وبين الواقع، يجب أن نوفر حلاً لا يهمش أي فئة من المجتمع. قد لا يكون الحل الأمثل، لكنه يمكن أن يخلق نوعاً من العدالة على الصعيد المحلي بين الأهالي في البلدات عبر إنشاء منظومات طاقية نظيفة لا مركزية وغير مرتبطة بالشبكة العامة. يمكن للأهالي بالتعاون مع الاغتراب (الشتات) اللبناني غي الخارج الاستثمار في هذه المنظومات لإنتاج الكهرباء، مما يساعد على تعزيز المسؤولية لدى المواطنين والمواطنات في بلداتهم للاستخدام الرشيد للكهرباء ويجعلهم أكثر إدراكاً للمسؤوليات وقابلين للمحاسبة في حال حدوث خلل.

في الختام يجب أن نعيد التذكير أن ما نشهده في لبنان من انتشار للألواح الشمسية وإنتاج الطاقة النظيفة لا يدخل من ضمن الخطة الوطنية للانتقال الطاقي أو الالتزامات الوطنية للحد من التغير المناخي، بل هو نتيجة فشل حكومي في توفير الكهرباء للناس. وبالتالي، هذا الانتقال ليس عادلاً ولا مستداماً، وهذه مشكلة يجب أن لا تهمل إذا أردنا بناء مجتمع عادل. اليوم، غياب الدولة يجعل الوضع صعباً، ولكن يجب الإبقاء على المساحات العامة للتحدث عما يجب أن يكون عليه الوضع السليم. وهذا يتطلب أيضاً أن نفكر في طرق لجلب العدالة على قدر المستطاع. وبالتالي قد تكون التعاون بين المواطنين و بلدياتهم هو الأفضل للوصول إلى الحد الأدنى من العدالة في الحصول على الكهرباء. واللجوء إلى بناء أنظمة طاقية لا مركزية وغير مرتبطة بالشبكة الأساسية قد يكون الحل الممكن لتحقيق انتقال طاقي عادل في لبنان.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.