مقدمة
تضعف نسب التحصيل الضريبي في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا (المعروفة أيضًا بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، وقد يُظَن للوهلة الأولى أن هذا الضعف بسبب البلدان النفطية ذات المعدلات الضريبية المنخفضة، ولكن حتى باستبعاد تلك البلدان، فالنسبة في البلدان المستوردة للنفط تصل إلى نحو 18%، وهي أقل من المتوسط العالمي ومن متوسطات البلدان والمناطق الشبيهة. تزداد الفجوة بين المنطقة والعالم عندما يقتصر الأمر على الضرائب المباشرة بسبب ارتفاع الضرائب غير المباشرة من إجمالي الحصيلة الضريبية في المنطقة. بين البلدان المستوردة للنفط، يبدو الوضع أفضل في بلدان المغرب عن المشرق، ففي بلدان المغرب وصلت نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي حوالي 26%. أما في بلدان المشرق فكانت النسبة 14.5%. أما في بلدان مجلس التعاون الخليجي الغنية بالنفط، فإن النسبة تنخفض إلى 1.48%. يوجد أيضًا أفضلية لبلدان المغرب في ما يخص نسبة الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات، فتشكل هناك نحو 45% من الحصيلة الضريبية، في حين شكلت في بلدان المشرق نسبة أعلى عند نحو 55% (انظر الجدول أدناه).
|
الإيرادات الضريبية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي |
الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات من إجمالي الحصيلة الضريبية |
بلدان المشرق المستوردة للنفط |
%14.5 |
%54.5 |
بلدان المغرب المستوردة للنفط |
%26.0 |
%44.87 |
البلدان المصدرة للنفط |
%1.5 |
%22.48 |
إجمالي المنطقة |
%10.9 |
%39.23 |
المصدر: https://theforum.erf.org.eg/2020/11/24/taxation-mena-composition-trends-policy-options/ |
برغم التباين الكبير بين فئات البلدان الثلاثة، يظل العامل المشترك بينها هو الغياب شبه الكامل للضرائب العقارية في أنظمتها الضريبية. في هذه الدراسة نركز على بلدان المنطقة المستوردة الصافية للنفط ونستكشف إمكانيات الضريبة العقارية الكامنة لتحسين حال الرفاه والحماية المتدهورة في تلك البلدان، ونأخذ نموذجين مختلفين من المشرق ونموذجًا من المغرب. نموذجا المشرق هما لبنان والأردن، والأول يتميز بانخفاض حاد في الحصيلة الضريبية نتيجة الأزمة السياسية والاقتصادية المتفجرة هناك، أما الأردن فهي تتميز باستقرار نسبي في حصيلتها الضريبية عند معدل 16-18%. أما المغرب فتعد من أعلى بلدان المنطقة من حيث الحصيلة الضريبية، متخطية الـ 20% من ناتجها المحلي الإجمالي.
في هذه الدراسة نركز على الفرص التي تتيحها الضرائب العقارية في تمويل برامج الحماية الاجتماعية الشاملة، وركزنا على الضرائب العقارية لعدة أسباب سنعدد أهمها في السطور التالية.
أولًا وكما أسلفنا الذكر، حصيلة كافة أنواع الضرائب العقارية منخفضة للغاية في المنطقة، وبالتالي يوجد مساحات كبيرة يمكن استغلالها.
ثانيًا، تمتاز الضرائب المرتبطة بالأصول غير المنقولة بالسهولة النسبية في تطبيقها في ظل تراجع الكفاءة والموارد الإدارية وانتشار الهشاشة الاقتصادية في المنطقة. فهناك على الأقل ثلاثة أنواع رئيسية من التحديات تواجهها أي سلطة عند فرض ضريبة جديدة، وهي التحديات الإدارية والاقتصادية والسياسية. التحديات الإدارية هي التي ترتبط بتوافر الخبرة والعناصر البشرية والتكنولوجية والموارد التي تتطلبها تطبيق الضريبة، فضلًا عن التأكد من الكفاءة التكاليفية cost efficiency بحيث لا تتخطى أو تقترب التكاليف الإدارية من حجم الحصيلة الضريبية. إداريًا، لا يمكن التهرب بسهولة من الضرائب العقارية كما هو الحال بالنسبة لضرائب الدخل والأرباح، فالعقار لا يمكن إخفاؤه، ولهذا الأمر أهمية كبرى خاصة في البلدان التي تعاني فيها السلطات الضريبية من نقص الموارد والمعرفة التقنية التي تستخدمها الشركات الكبرى متعددة الجنسيات لتخفيض فاتورتها الضريبية. من الممكن أيضًا تطبيقها فورًا حيث إنها لا تحتاج إلى الكثير من الاستعدادات الإدارية، إلا في ما يخص تحسين جودة قواعد البيانات العقارية.
هناك أيضًا التحديات الاقتصادية التي تنتج عن فرض الضريبة. هل ستؤثر على الاستهلاك والطلب العام كما هي الحال في ضرائب الاستهلاك؟ هل ستزيد أم ستقلل من تفاوتات الأجور والثروة؟ هل ستؤدي إلى هروب رؤوس الأموال؟ هل ستحفز بعض القطاعات على حساب الأخرى؟ اقتصاديًا، هي ضريبة عادلة لن تزيد العبء الضريبي على فئات الدخل الأدنى والمتوسط المضغوطين ضريبيًا بشدة بالفعل بسبب الاعتماد الكبير على ضرائب غير المباشرة وضرائب الأجور. هي أيضًا ضرائب لا يمكن التحجج بأنها طاردة للاستثمار الموفرّ فرص العمل، وبالتالي حتى بين الضرائب التي تطبق على الأغنياء فهي الضريبة التي لها الحد الأدنى من التأثيرات السلبية غير المباشرة negative spillover–سواء فعلية أو متصورة–على فئات الدخل الأدنى. تنظم الضرائب المرتبطة بالعقار أيضًا السوق العقاري وتحد من المضاربة المستشرية في العقارات والتي تعد الخيار الآمن لامتصاص فوائض رأس المال بشكل يحافظ على القيمة، خاصة في البلدان التي تعاني من التضخم والتي لا يوجد بها قطاع إنتاجي قوي يمكنه جذب رؤوس الأموال، وبالتالي يمكن لمثل هذه الضريبة توجيه بعض رؤوس الأموال لنشاطات غير ريعية موفّرة لفرص العمل.
أما التحديات السياسية فهي تلك المرتبطة بمقاومة فئات اجتماعية معينة للضريبة، والأمثلة على هذا لا تعد ولا تحصى، فرأينا في لبنان كيف أن فرض ضريبة شعبية على الواتساب في 2019 كانت شرارة البدء لإشعال ثورة 17 تشرين، وكانت بمثابة حصان طروادة الذي حمل كل التظلمات الاقتصادية والسياسة والاجتماعية المتراكمة في لبنان. أما على مستوى ضرائب النخبة الاقتصادية، فظلت مصر تؤجل لمدة عقد من الزمان ضريبة على الأرباح الرأسمالية الناتجة عن تداول الأسهم بسبب اعتراض مستثمري البورصة وهبوط مؤشرها كل مرة يطفو إلى السطح الحديث عن فرضها.
بالنسبة للضرائب العقارية، فلها تحديات سياسية بالطبع شأنها في ذلك شأن أي ضريبة، لكن يجادل هذا الكتيب أنها تكاد تكون من أسهل الضرائب على المستوى الإداري وأقلها تأثيرات سلبية على المستوى الاقتصادي، بل تجادل أوراق هذا الكتيب أن لمثل هذه الضريبة تأثيرات اقتصادية إيجابية للغالبية العظمى من المواطنين مثل خفض الإيجار وأسعار العقارات وتوجيه رأس المال لأنشطة إنتاجية موفّرة لفرص العمل. لذلك فأي تأخر في تفعيل الضرائب العقارية في المنطقة، لا يمكن تبريره إلا بالنفوذ الكبير للخاضعات والخاضعين للضريبة وعدم رغبتهم/نّ في تحمل تكلفتها برغم فوائدها الاجتماعية الكبيرة.
على الجانب الآخر من الفجوات الضريبية، يوجد أيضًا في بلداننا العديد من فجوات الحماية الاجتماعية في ما يخص السكن والصحة والتأمين الاجتماعي خاصة بالنسبة للعمالة غير المنظمة المنتشرة بشدة في منطقتنا. يحاول هذا الكتيب أن يظهر أن هناك فرصة كبيرة لتمويل برنامج حماية اجتماعية شاملة من خلال فرض ضرائب على الثروات العقارية. يشمل هذا الكتيب ثلاث دراسات حالة تستكشف كيف يمكن للضرائب العقارية تمويل برامج شاملة للسكن في لبنان، وتمويل جزء كبير من مخطط الحماية الاجتماعية الشاملة في المغرب، وتغطية نصف قيمة اشتراكات التأمين الاختياري للعمالة غير المنظمة وغير المؤمن عليها في الأردن.
تطرح ورقة الباحثة العمرانية في مؤسسة استوديو أشغال عامة كريستينا أبو روفايل كيف أن هناك مجالًا شاسعًا في لبنان لزيادة حصيلة الضرائب العقارية وتنظيم السوق العقاري الفوضوي، والتي تشتد فيه المضاربة على حساب الحق في السكن لدرجة وصول نسبة الشغور هناك إلى نحو 23%. للضريبة المقترحة هدف مزدوج: أولًا، تنظيم السوق العقاري بهدف توفير المسكن لأكبر قدر من السكان بتكلفة معقولة، وتحصيل ضرائب تستخدم في توفير الحق الشامل في السكن المنصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. توضح لنا أبو روفايل كيف أن لضريبة واحدة فقط من ضمن عدة ضرائب مرتبطة بالعقار أن توفر 100 مليون دولار سنويًا لو طبقت على المساكن المتوسطة والفاخرة الشاغرة، وكيف أن هذا المبلغ كافٍ لتقديم دعم إيجاري لـ 50 ألف أسرة سنويًا، وتقديم رأسمال أولي لإنشاء 25 تعاونية سكنية سنويًا يستفيد منها 350 أسرة، بالإضافة إلى بناء 1000 مسكن لألف أسرة سنويًا على الأراضي المملوكة للدولة. تتطرق أيضًا أبو روفايل إلى أنماط أخرى من الضرائب مثل الضريبة على الأرباح العقارية والتي قد تدر مليار دولار سنويًا، والتي إذا طبقت ستصل بالحق في السكن للشمولية المبتغاة والمنصوص عليها قانونيًّا بحيث يشمل كل الأسر الفقيرة في لبنان. هذا لا يشمل الأثر غير المباشر لهذا النوع من الدعم والذي قد يخفض من الإيجارات وأسعار العقارات كما توضح أبو روفايل في ورقتها. هذا النوع من الحماية أيضًا محوري وربما يكون الأهم في السياق اللبناني الذي تفاقمت فيه أزمة السكن وأسعاره لدرجة أن متوسط الإيجارات تخطى متوسط الأجور وهو الذي يجب أن يبقى عند حدود الـ30% من متوسط الأجور.
أما في الورقة الخاصة بالمغرب، فيخبرنا أستاذ الاقتصاد والتنمية عبد الحق كمال كيف أن استهداف العقارات الأعلى قيمة في المغرب من الممكن أن يوفر سدس التكلفة السنوية الإجمالية لجميع برامج الحماية الاجتماعية المخطط لها في المغرب أو ربع قيمة التمويل التضامني من غير المساهمين، مستلهمًا التجربة الفرنسية التي ذهبت لعدم الاكتفاء بمساهمات العمل لتمويل برامج الضمان الاجتماعي، واستخدمت الضرائب العقارية لتوفير مصدر مستدام ومستقر لتمويل هذه البرامج. بالإضافة إلى ذلك من شأن تلك الضريبة أن تخفض من تفاوت الأصول والمضاربة بدون أن تؤثر على مداخيل العمل أو الاستثمارات الإنتاجية كثيفة العمل، بسبب عدم زيادة التكلفة التأمينية على أصحاب العمل ومعاقبتهم بشكل غير مباشر على توفير الكثير من فرص العمل. في الأخير، توضح الورقة أن استهداف الثروات الكبرى ضريبيًا من خلال العقارات كمؤشر غير مباشر proxy للثروة يعد حلًا فعالًا في بلدان منطقتنا التي تفتقر إلى بيانات جيدة للدخل والثروة.
عودة إلى المشرق مرة أخرى، يدعونا مدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية أحمد عوض للتركيز على فرض ضريبة على الشقق السكنية الفارغة، والتي تصل إلى أكثر من 18% من إجمالي الوحدات السكنية في الأردن، مشكلة بذلك أكثر من 400 ألف وحدة سكنية، وترتفع تلك النسبة إلى 23% في العاصمة عمان، ما يعني أن فرض ضريبة متدرجة متوسطها 50 دينارًا فقط في الشهر على أقل من نصف الوحدات السكنية الشاغرة قد يوفر 116 مليون دينار سنويًا، وهو ما يكفي لتغطية نصف تكلفة أقساط اشتراكات الضمان الاجتماعي لأكثر من 300 ألف من العمالة غير المنظمة. يذكرنا أيضًا عوض أن 59% من العمالة في الأردن غير مشمولة في أي من نظم الحماية الاجتماعية، ما يجعل مثل هذا التطور الضريبي ضرورة اجتماعية ملحة، تتضاءل تكلفتها في مقابل أهميتها الاجتماعية البالغة.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.