الخطاب السياسي الحالي وتغيرات نظم الدعم في مصر

تنشر مبادرة الإصلاح العربي هذه الورقة بالتعاون مع الزملاء والزميلات في منظمة “نساء من أجل العدالة“.

سوق اسوان في مصر. © Vyacheslav Argenberg

مقدمة

خطاب استعادة هيبة الدولة المصرية هو أهم خطاب سياسي استخدمه نظام حزيران/يونيو 2013. لم يكن هذا الخطاب خاوياً من انعكسات على الموازنة العامة للدولة، وإنما استدعى تحرك الحكومة للدفع نحو تحقيق فائض أولي في الموازنة العامة، ومن ثم سياسة مالية إنكماشية لعدة سنوات متتالية وتستمر حتى الآن. تحالف مع هذه السياسة التقشفية تفاقم المديونية العامة للدولة والتي ارتفعت من 73.8% من الناتج المحلي الإجمالي في أوائل العام 2013 إلى %93.5 من الناتج في أواخر العام 2021 حسب البنك المركزي المصري. فتحوّل بذلك ما يقارب 35% من موازنة الدولة العامة لسداد فوائد القروض وحدها، ما أدى إلى تصاعد الضغط المعيشي على المواطن.1وزارة المالية، البيان المالي لموازنة العام 2021/ 2022

انطوى هذا الخيار السياسي على تغيّرات واضحة في السياسة الاجتماعية للدولة، ومن أهمها التحول من نظام الدعم المالي العام إلى نظام دعم أكثر استهدافاً تمثّل بإقرار برنامج "تكافل وكرامة" للمعاشات الاستهدافية أسوةً بتجربة دول أميركا اللاتينية. ورافق ذلك تدخل لتغيير أسعار السلع الموضوعة على البطاقة التموينية، فتم رفع أسعار العديد من السلع بشكل مستمر آخرها أول أكتوبر 2022 بعد قرار بعمل حقيبة سلع استثنائية لبعض الفئات الأكثر احتياجاً، وفق تصريح وزير التموين نفسه، بأنه تم حصر هذه الفئات ولم يوضح كيف تم ذلك.

واصطُحِب الخطاب السياسي السائر كذلك بتحوّل نحو تطوير نظم الإسكان الاجتماعي بشكلٍ تصبح فيه موجهة إلى الفئات الأكثر قدرة على الدفع، وبنقاش عام جدي على المستوى المحلي يدعو إلى الانتقال من النظام الصحي المجاني القائم إلى نظام يعتمد على المراكز والتأمينات الصحية الخاصة. واستثنت تبعات الخطاب السياسي الحديث عن تطوير خدمات التعليم والصحة كما هي عليه حالياً وتوسيع نطاقها. وبرز مع بداية العام 2021 مشروع تطوير القرية المصرية (وهو نسخة مطوّرة لبرنامج جمال مبارك "الألف قرية") وإعلان البرنامج القومي لتطوير الريف المصري لكن دون الاكتراث بما يتطلبه ذلك من معالجة لإشكاليتي "المركز والطرف" والتعامل مع الطرف على أنه وحدة متجانسة من دون تباينات، فضلاً عن غياب قواعد البيانات والمسوحات اللازمة وعن مركزية الجهود التنموية والخدمات الحكومية وغير الحكومية في المدن. فمن دون معالجة كل هذه المسائل قد يؤدي المشروع المنشود إلى اتساع الفجوة الجغرافية التنموية وتعميق الفجوات الاجتماعية على أنواعها في الأرياف.

يستدعي هذا التوجّه تحليلاً للأثر الاجتماعي للنظام السياسي الحاكم والذي تغيب عنه محددات اتخاذ القرار المتعلّقة بجودة حياة المواطن ومكافحة الفقر واللامساواة. فمن المهم فهم ما إذا كان هذا التوجّه السياساتي نابعاً من رؤية واضحة حول البرامج الأكثر فعالية وكفاءة لتحقيق الرفاه الاجتماعي، أم أنه نابع من الرغبة الملحّة فى استعادة الاستدامة المالية بعد تفاقم المديونية العامّة. ويتطلّب هذا التحليل نظرة تفصيلية حول محددات صنع القرار الخاصة بالإنفاق الاجتماعي فى مصر بالتزامن مع مراجعة الخطاب السياسي الموازي لهذه القرارات ولبيانات الموازنة العامة للدولة خلال الفترة الممتدة بين 2013 و2021. بالإضافة إلى ذلك، يتطلب هذا التحليل رصد الفاعلين الرئيسين في صناعة القرار وفهم خلفياتهم، كما والبحث في مدى استفادة الفئات المستهدفة بالفعل من البرامج التى وجهت إليها.

مراحل الانتقال إلى نظام الحماية الاجتماعية الجديد بعد تموز/يوليو 2013

مرّ نمط إدارة برامج الحماية الاجتماعية ونمط مراعاة البعد الاجتماعي في دولة يوليو 2013 بمراحل مختلفة عبر السنوات. في البداية، كان التمويل متاحاً من خلال المنح التي قدمتها دول الخليج للدولة المصرية، وكان التدخّل الأهم، مستنداً إلى هذه المنح، هو رفع الحد الأدنى للأجور لموظفي القطاع العام. إلّا أن هذا الرفع جاء في غالبيته صورياً، إذ ارتبط بمبالغ مقطوعة، أي أن كل فئة تحصل على زيادة مالية لا تتخطى مبلغاً معيناً من المال مهما كانت نسبته لدخلها تضع حدًّا أعلى للأجور لكل فئة من فئات الموظفين الحكوميين بحيث لا يزيد الراتب الجديد كثيراً عن السابق. كما أكّد قرار وزير المالية حينها أن هذا الرفع يسري لعام واحد فقط.

وسرعان ما انقلب الوضع في العام التالي لتشهد الموازنة العامة للدولة انكماشاً ملحوظاً في الإنفاق يتمثل بزيادة طفيفة للغاية عن العام السابق لا تعادل معدّل التضخم، حيث زاد الإنفاق العام في عام 2014/ 2015 عن العام السابق له بما لا يتعدى 5%. فجاءت موازنة 2015-2016 هادفة إلى إحداث تخفيض كبير في نسبة العجز للناتج المحلي الإجمالي بحيث لا يتعدى 8.9% فقط.2البيان المالي للموازنة العامة للدولة عامي 2014/ 2015 و2015/ 2016

وقد جاء هذا الخفض في المصروفات الحقيقية بالأساس من تثبيت كافة المكافآت والبدلات لموظفي الدولة وتخفيض مخصصات الدعم العينى بصورة كبيرة. وكان ذلك بمثابة الانتقال الحتمي إلى مرحلة توقف الدعم العام الشامل، حيث ارتبط بتوجيه زيادة في معاشات الضمان الاجتماعي عن العام 2014-2015 تساوي 6.6 مليارات جنيه في المجمل.

هنا بدأت المرحلة الجديدة وظهر برنامج تكافل وكرامة وهو معاش ضمان اجتماعي مستهدف بدأ في الصعيد وشمل تدريجياً كافة المحافظات فيما بعد. وهو عبارة عن تجربة منقولة حرفياً من دول أميركا اللاتينية، مع فصل البرنامج عن المظلة التنموية التي نشأ بها ليكون أكثر نجاحاً. بمعنى أنه لكي ينجح نظام المعاشات النقدية المشروطة في تحقيق عائد على المدى الطويل للمستفيدين، لا بد من وجود خدمات صحية وخدمات تعليمية قوية وتخضع لنظام صارم في الحوكمة.

شروط الحصول على معاش تكافل وكرامة في بداية البرنامج

 1ـ أن لا يكون الزوج/الزوجة أو المسن/العاجز يعمل في الحكومة أو القطاع العام أو في القطاع الخاص بأجر تأمينى أكثر من 400 جنيه أو أن يتقاضى معاشاً تأمينىًّا أو مساعدة ضمانية.

2ـ أن تكون الأسرة المتقدمة لبرنامج "تكافل" لديها أبناء من حديثي الولادة حتى سن الثمانية عشر عاماً، على أن يكون الأبناء من سن السادسة لسن الثمانية عشر بمراحل التعليم المختلفة.

3ـ تقديم كافة المستندات الداعمة واللازمة للتقدم، مثل صور بطاقات رقم قومي سارية، وصور شهادات ميلاد، وصور وثائق الزواج أو الطلاق أو الوفاة أو الهجر، وصور إيصالات استهلاك كهرباء، وشهادة قومسيون طبي رسمية تبين درجة إعاقة تبدأ من درجة 50، أو غيرها من الوثائق المطلوبة

4ـ أن يكون الأفراد المتقدمون لبرنامج "كرامة" من المسنين بعمر يبدأ من 65 عاماً أو من أصحاب عجز أو مرض مزمن يحول بينه وبين العمل أو ينقص من قدرته على العمل ويثبت المرض أو الإعاقة بالفحص الطبي، أو من الأيتام الذين لا ينالون الرعاية من الأب أو الأم بل من الأقارب من الدرجة الثانية أو أبعد من ذلك.

5ـ عدم وجود أي من موانع الصرف الآتية:

ـ ملكية أرض زراعية ( نصف فدان فأكثر)

ـ إيجار أرض زراعية ( فدان فأكثر)

ـ ملكية عقار أو أكثر بخلاف السكن

ـ ملكية محل تجاري أو أكثر (مسجلة أو غير مسجلة)

ـ ملكية رؤوس مواشي للتجارة ( ثلاثة أو أكثر)

ـ العمل بأجر منتظم في القطاع الخاص أو العام أو الحكومي (باشتراك تأمينى)

ـ العمل بأجر منتظم في القطاع الخاص أو العام أو الحكومي بدون اشتراك تأمينى بدخل شهري يعادل 1600 جنيه للأسرة الواحدة المكونة من أربعة أفراد

ـ إمتلاك أو الشراكة في مشروعات خاصة (مسجلة أو غير مسجلة مع ذكر قيمة المشروع )

ـ الحصول على معاش قطاع خاص / عام / جيش / شرطة عن ذاته

ـ الحصول على معاش كمستفيد بقيمة 500 جنيه أو أكثر

ـ السفر خارج البلاد بغرض العمل ( قبل أو بعد القبول بالبرنامج)

ـ ملكية سيارات أو جرارات أو توك توك أو أية مركبة

ـ مصروفات مدرسيه أكثر من 3000 جنيه للطفل الواحد سنويا

ـ إمتلاك معدات ثقيلة مثل ( لودر/ ماكينة طحين / خلاط بناء ... )

ـ تلقى دعم من جمعيات أهلية بشكل منتظم بقيمة 400 جنيه شهرياً

ـ عدم الإستدلال على الأسرة في نطاق الوحدة الإجتماعية ( تجميد لحين التحقق )

ـ مرور ثلاثة أشهر على خروج عائل الأسرة من السجن ( تجميد لحين التحقق )

المصدر: موقع وزارة التضامن الاجتماعي

على أن يشترط لاستمرارية الحصول على المعاش حضور التلاميذ في سن التعليم للدراسة بنسبة حضور 80% وحضور الأم لجلسات توعية صحية.

بيد أن نظام التحويلات النقدية المشروطة يجب أن يتزاوج معه نظام تنموي قوي يوفر، على الأقل، خدمتي الصحة والتعليم اللذين يرتبط بهما المعاش الممنوح بمستوى جيد. ولكن لم يكن هذا قائماً في الحالة المصرية مع تدهور قيمة الإنفاق المخصص للخدمات العامة وعلى الأخص لجانبي الاستثمار وتوفير مستلزمات تشغيل الخدمة. ومن ناحية أخرى، ووجه هذا النظام بانتقادات لكونه حثّ الكثير من الأسر على الهروب من أنظمة المعاش التساهمي القائم على العمل والاستمرار في أنظمة التشغيل غير الرسمي، وذلك وفق التقييم الذي أجرته مؤسسة IFPRI في عام 2016 والذي قام على مجموعة من اللقاءات مع المستفيدين، حيث شعر المستفيدون بالظلم من شرط عدم وجود تأمين، خاصة من يعملون في مهن فقيرة تتطلب التأمين للحصول على تصريح عمل من الأساس، مثل الصيادين في المزارع السمكية. كما أنه، في حالات أكثر مثالية، تأتي أنظمة التحويلات النقدية فقط كمكمّل لنموذج تنموي متين يحقق التوزيع العادل للثروة والمساواة والرفاه الاجتماعيين من خلال سياسات عامة (ضريبية، نقدية، عمّالية، بيئية، إلخ) حساسة اجتماعياً، ومتلائمة مع أهداف التنمية المستدامة، ومرفوقة بنظام حماية اجتماعية شامل وفعّال يقدم أرضية حماية اجتماعية وتغطية لدورة الحياة للجميع ومبني على سجل اجتماعي موحّد. فقد أثبتت أنظمة التحويلات النقدية المستهدفة عدم قدرتها على شمول كلّ الذين يجب استهدافهم وإقصائها لفئة "الوسط المفقود" الاجتماعية رغم حاجة الأخيرة الماسة للمساعدة. وبالتالي، فإن دورها يجب أن يقتصر على كونها مكمّلاً للنموذج الاقتصادي/الاجتماعي البديل الذي يجب أن نطمح إليه والذي يعتمد السياسة الاجتماعية الشاملة، بحيث تساعد برامج مثل تكافل وكرامة فقط على شمول أي فئات تبقى مستثناة، إن وجدت، لا سيما في حالات الأزمات الاقتصادية-الاجتماعية، حتى لا يتخلف أحد عن الركب.3IFPRI, Impact evaluation of Takaful and Karama program in Egypt,2016.

ولكن ذلك لا ينكر فضل برامج تكافل وكرامة في دفع الكثير من الفقراء في صعيد مصر خارج دائرة الفقر المدقع، حيث انخفض معدل الفقر القومي أي نسبة السكان تحت خط الفقر إلى 29.7% في عام 2019–2020 مقارنةً بنحو 32% في عام 2017–2018، وانخفض الفقر في محافظات الصعيد من %52 إلى 48% خلال الفترة نفسها وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن إحصاءات الفقر في مصر.

إلا أن اقتصار السياسة الاجتماعية على هذا البرنامج لم يكن كافياً، وخاصة في ما يتعلق بالصحة والتعليم، إذ لم تحترم الدولة التزاماتها الدستورية بالمخصصات المتعلقة بالإنفاق على هذين القطاعين وفق دستور 2014 حتى يومنا هذا. واعتمدت الصحة بصورة أكبر على المبادرات الرئاسية مثل مبادرة القضاء على فيروس سي ومبادرة صحة المرأة، وكلاهما قائم على المنح والشراكات مع شركات الأدوية.

ثم جاء التوجه في عام 2019 ليعلن عن مبادرة جديدة تركز فقط على الريف، وتستكمل نفس مسيرة وفكر الحزب الوطنى قبل عام 2011، وهي مبادرة "حياة كريمة" لتنمية جودة الحياة في القرية المصرية. وكانت هذه المبادرة قائمة على مبادئ عامة مبنية بالأساس على إسهام مجموعة من الجمعيات الخيرية وجمع التبرعات. وخُصّص 75 مليار جنيه لها في موازنة 2021-2022. ولعل أهم ما ورد في هذه المبادرة إحياء مستشفيات التكامل التي تعطلت في مصر لفترة طويلة، على الرغم من كونها المقدم الرئيسي للخدمات الطبية في الريف والتي كانت تُعرَف بمراكز طب الأسرة.

عوّل النظام إذاً على مجموعة من المبادرات المتفرقة لتوسيع القاعدة الاجتماعية وتحقيق أهداف التنمية، ولكن من دون إطار ورؤية تنموية متكاملة وموحدة. المشكلة لم تكن فقط في الاعتماد على المبادرات التى دعمت صورة النظام كثيراً، ولكن في عدم وجود برنامج اقتصادي واضح المعالم ومتكامل ويرتكز على التنمية الشاملة بمعناها الواسع، من توفير فرص عمل لائقة والضمان الاجتماعي الشامل والنهوض الحقيقي بالصحة والتعليم، إلخ، جعل الدولة عرضة للتأثر الكبير بمجموعة الأزمات التي شهدها العالم منذ بداية العام 2020 والمتمثلة في أزمة كوفيد-19 وتداعياتها الاقتصادية والتي تلتها أزمة الحرب الروسية-الأوكرانية التي سرعان ما تحولت إلى أزمة عالمية في السلع الاستراتيجية. هذا وارتفع معدل التضخم كثيراً وتخطى 14% رسمياً فى عام 2021، وتراجعت قيمة العملة المحلية من 15 جنيهاً للدولار عام 2016 إلى أكثر من 18.8 جنيهاً للدولار عام 2022، كما تفاقم معدل البطالة وتفاقم الدين العام للدولة.4وزارة المالية، النشرة الاقتصادية الشهرية

المبادئ المعلنة للحياة الكريمة

1.      التخفيف عن كاهل المواطنين بالتجمعات الأكثر احتياجاً في الريف والمناطق العشوائية في الحضر.

2.      التنمية الشاملة للتجمعيات الريفية الأكثر احتياجاً بهدف القضاء على الفقر متعدد الأبعاد لتوفير حياة كريمة مستدامة للمواطنين على مستوى الجمهورية.

3.      الارتقاء بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي والبيئي للأسر المستهدفة.

4.      توفير فرص عمل لتدعيم استقلالية المواطنين وتحفيزهم للنهوض بمستوى المعيشة لأسرهم وتجمعاتهم المحلية.

5.      إشعار المجتمع المحلي بفارق إيجابي في مستوى معيشتهم.

6.      تنظيم صفوف المجتمع المدني وتطوير الثقة في كافة مؤسسات الدولة.

7.      الاستثمار في تنمية الانسان المصري.

8.      سد الفجوات التنموية بين المراكز والقرى وتوابعها.

9.      إحياء قيم المسؤولية المشتركة بين كافة الجهات الشريكة لتوحيد التدخلات التنموية في المراكز والقرى وتوابعها.

المصدر: الموقع الرسمي لمبادرة حياة كريمة https://www.hayakarima.com/

نظم وبرامج مطلوبة للحماية الاجتماعية اختفت في دولة ما بعد تمّوز/يوليو 2013

منذ نهايات عهد مبارك برزت توجهات متعددة لتنظيم الدعم الشامل وفق آليات أكثر عدالة مثل ربط الدعم على البنزين بالاستهلاك من خلال البطاقة الممغنطة. وبالفعل أنفقت الدولة ملايين الجنيهات على إنتاج وطباعة وتوزيع هذه البطاقات على المواطنين، ووضع حكم مبارك ثم حكم محمد مرسي أطراً لتطبيقها بداية ً بمحافظة بورسعيد ثم اختفت تماماً في نظام يوليو.

الأهم هو اختفاء شبه كامل للحديث عن منظومة التأمين الصحي الشامل، على الرغم من نجاح التجربة بالفعل في محافظة بورسعيد التي طبقت فيها قبل أزمة كوفيد-19. المنظومة تعريفياً هي عبارة عن نظام تكافلي اجتماعي، تقدم من خلاله خدمات طبية ذات جودة عالية لجميع فئات المجتمع من دون تمييز، وتتكفل الدولة من خلال تلك المنظومة بغير القادرين، وتكون الأسرة هي وحدة التغطية. المنظومة تشمل حزمة متكاملة من الخدمات التشخيصية والعلاجية، كما تتيح للمنتفع الحرية في اختيار مقدمي الخدمة الصحية، ما يقلل من ممارسات الفساد والقصور في إتاحة الخدمة الصحية. المشكلة الأساسية الآن هي تداعي المنشآت الصحية وعجز موازنة الدولة عن النهوض بحالها من ناحية وصعوبة تحديد غير القادرين من ناحية أخرى.

كان من المفترض أن يطبق القانون رقم 2 لسنة 2018 للتأمين الصحي الشامل على 6 مراحل على مدار 15 عاماً بداية من 2018 حتى 2032، حيث تشمل:

المرحلة الأولى: محافظات «بورسعيد، والسويس، وجنوب سيناء، وشمال سيناء، والإسماعيلية».

فقد شهدت محافظة بورسعيد تسجيل 5 ملايين مواطن في منظومة التأمين الصحي الشامل بمحافظات المرحلة الأولى، موضحة أن المرحلة الأولى للتأمين الصحي الشامل شملت 52 مستشفى، واعتماد 90 منشأة صحية، خلال سنة ونصف السنة فقط.

وأوضحت وزيرة الصحة السابقة هالة زايد خلال كلمتها في مؤتمر افتتاح عدد من المشروعات بشمال سيناء، أن المنظومة اعتمدت على تطوير البنية التحتية الطبية، وتقديم أكثر من 6 ملايين ونصف المليون خدمة صحية و85 ألفاً و500 عملية جراحية لم يسبق إجراؤها من قبل في محافظات المرحلة الأولى للتأمين الصحي الشامل.

كان يفترض أن يُلغى العلاج المجاني تدريجياً، حيث يتم الإلغاء التدريجى للعلاج على نفقة الدولة في كل مرحلة يطبق التأمين الصحي الاجتماعى الشامل بها، وسيُلغى كلياً مع تعميم تطبيق النظام على الجمهورية، وتحال ميزانيته إلى التأمين.

وفي في 14 أكتوبر 2021، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي القرار رقم 190 لسنة 2021 بالموافقة على اتفاق قرض بين حكومة جمهورية مصر العربية والبنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية بشأن مشروع دعم نظام التأمين الصحي الشامل في مصر بمبلغ 400 مليون دولار، والموقّع بتاريخي 20 و21 يناير 2021.

المفاجأة أنه انخفض دعم التأمين الصحي الشامل لغير القادرين من 865 مليون جنيه في الموازنة المعدلة لعام 2020-2021 إلى 165 مليون جنيه فقط في العام 2021-2022. في حين تم تثبيت قسمة المبالغ المخصصة للعلاج على نفقة الدولة.

خلف الستار: من يرسم سياسة الحماية الاجتماعية في مصر؟

وضعت مصر في 2016 رؤية متوائمة مع تنفيذ أهداف التنمية المستدامة الموضوعة من قبل الأمم المتحدة وتمثلت هذه الرؤية في ما عرف باستراتيجية التنمية المستدامة 2030. أهم أهداف الامم المتحدة نص هو القضاء على الفقر حيث يأتي ذلك في الهدف الأول في أجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030 - التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2015 - متمثلاً في القضاء على الفقر بجميع أشكاله فى كل مكان. ويمتد الفقر هنا إلى أبعد من مجرد الافتقار إلى الدخل أو سبل العيش الكريم المستدامة، حيث إن مظاهره تشمل الجوع وسوء التغذية، وضعف إمكانية الحصول على التعليم والصحة وغيرهما من الخدمات الأساسية، والتهميش، والاستبعاد، وغياب معالم العمل اللائق...

وقد حرص المشرع في دولة يوليو 2013 على إضفاء القيمة الدستورية للحق في الحماية الاجتماعية، حيث نص دستور مصر 2014 صراحة على أن "تكفل الدولة توفير خدمات التأمين الاجتماعي. ولكل مواطن لا يتمتع بنظام التأمين الاجتماعي الحق في الضمان الاجتماعي، بما يضمن له حياة كريمة، إذا لم يكن قادراً على إعالة نفسه وأسرته، وفي حالات العجز عن العمل والشيخوخة والبطالة. وتعمل الدولة على توفير معاش مناسب لصغار الفلاحين والعمال الزراعيين والصيادين والعمالة غير المنتظمة، وفقاً للقانون.." (المادة17). ويلزم الدستور الدولة بتوفير الرعاية والحماية للأمومة والطفولة والمرأة المعيلة والمسنة والنساء الأشد احتياجاً (المادة 11/4)، كما يلزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحى شامل لجميع المصريين يغطى كل الأمراض. وينظم الدستور إسهام المواطنين في اشتراكاته أو إعفاءهم منها طبقاً لمعدلات دخولهم. ويجرّم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان في حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة (المادة 18/ 3،4). ونص كذلك على أن يهدف النظام الاقتصادي إلى تحقيق الرخاء فى البلاد من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، بما يكفل رفع معدل النمو الحقيقي للاقتصاد القومي، ورفع مستوى المعيشة، وزيادة فرص العمل وتقليل معدلات البطالة، والقضاء على الفقر. (المادة 27/ 1)

ونص الدستور على أن تكفل الدولة للمواطنين الحق في المسكن الملائم والآمن والصحي، بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية (المادة 78 /1) على أن لكل مواطن الحق فى غذاء صحي وكافٍ وماء نظيف، وأن تلتزم الدولة بتأمين الموارد الغذائية للمواطنين كافة... (المادة 79). كما أضاف أن لكل طفل الحق فى اسم وأوراق ثبوتية، وتطعيم إجباري مجاني، ورعاية صحية وأسرية أو بديلة، وتغذية أساسية، ومأوى آمن، وتربية دينية، وتنمية وجدانية ومعرفية. وأكد على أن تكفل الدولة حقوق الأطفال ذوي الإعاقة وتأهيلهم واندماجهم في المجتمع (المادة 80)، وأن تلتزم الدولة بضمان حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والأقزام، صحياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وترفيهياً ورياضياً وتعليمياً، وتوفير فرص العمل لهم، مع تخصيص نسبة منها لهم، وتهيئة المرافق العامة والبيئة المحيطة بهم، وممارستهم لجميع الحقوق السياسية، ودمجهم مع غيرهم من المواطنين، إعمالاً لمبادئ المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص (المادة 81). كما تضمن الدستور أن تلتزم الدولة بضمان حقوق المسنين صحياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وترفيهياً وتوفر معاشاً مناسباً يكفل لهم حياة كريمة وتمكنهم من المشاركة فى الحياة العامة، فضلاً عن أن تراعى في تخطيطها للمرافق العامة احتياجات المسنين، كما تشجع منظمات المجتمع المدني على المشاركة في رعاية المسنين (المادة 83).

ولكن متخذ القرار الحقيقي وراسم السياسات كانت جهات التمويل، إذ لا يوجد برنامج صممته الدولة وبدأت في تنفيذه بشكل جدي من مواردها إلا برنامج حياة كريمة.

وإلى جانب الأمم المتحدة، والتي لا تقوم بالتمويل، كان البنك الدولي شريكاً أساسياً في التحول من نظام الدعم السلعي الشامل لنظام تكافل وكرامة. فهو مشروع البنك الدولي في عدد من دول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية مسبقاً، وهو ما استكمل شروط قرض صندوق النقد الدولي في عام 2016 وشروطه المرتبطة بتخفيض قيمة العملة المحلية ورفع الدعم الشامل.

ويقول جاستن لن، رئيس الخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي "نزيد من دعمنا لبرامج التحويلات النقدية ‏المشروطة كونها تبرز كمثال على كيفية الاستفادة من الموارد بصورة فعالة - خاصة خلال الفترة الحالية التي ‏تتسم بالأزمات المتعددة والتي أصبحت فيها المعونات الأجنبية غير مؤكدة."

ذوو العلاقة لبرنامج تكافل وكرامة في مصر

تستند عمليات البرنامج إلى مشاركة البنك الدولي للإنشاء والتعمير على التعاون القائم مع وزارة التضامن الاجتماعي منذ أمد بعيد لدعم التحويلات النقدية في مصر، بما في ذلك مشروع تعزيز شبكات الضمان الاجتماعي البالغة قيمته 400 مليون دولار والموقَّع في 2015، فضلاً عن التمويل الإضافي لتعزيز شبكة الأمان بقيمة 500 مليون دولار والذي تم توقيعه عام 2019.

الشركاء

الشريك المنفذ الرئيسي للبرنامج هو وزارة التضامن الاجتماعي. وهناك تعاون مع وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني وكذلك مؤسسة الأزهر الشريف ووزارة الصحة لتنفيذ مجموعة الشروط.

كما تلقى البنك الدولي منحة سخية بقيمة 2.2 مليوني دولار من حكومة المملكة المتحدة، ونجح في جمع 180 ألف دولار من "الشراكة من أجل الإدماج الاقتصادي" و212,454 دولاراً من الصندوق الاستئماني لبلدان الشمال الأوروبي.

المُضيّ قُدُماً

بناء على نجاح البرنامج منذ إطلاقه عام 2015، تضع الحكومة نظامها القديم لمعاشات التضامن الاجتماعي تحت مظلة برنامج تكافل وكرامة لزيادة فعاليته بشكل عام. وهي تركز بشكل أكبر على تنفيذ ورصد مجموعة الشروط الموضوعة لتعليم الأطفال ومراعاة صحتهم بغرض ضمان تعزيز رأس المال البشري للأسر المشاركة. وثمة خطط أيضاً للتركيز على الانتقال من "الحماية" إلى "الإنتاج" بمعنى السعي للتعجيل بتخرُّج المستفيدين من البرنامج من خلال تمكينهم من إيجاد مصادر موارد الرزق المستدامة.

المستفيدون

"إذا رغبت في شراء شيء للمنزل، سأذهب لشرائه. أتخذ القرار لأن كل امرأة تعرف ما يحتاج إليه بيتها. واتخذ القرار أيضاً عندما أشتري شيئاً شخصياً لي. ولكن إذا كان الأمر عاماً، فإني استشير زوجي". ريهام، 25 سنة، محافظة المنوفية.

"أنوي شراء دواجن وبيعها، حتى نتمكن من شراء مروحة وأشياء أخرى نحتاج إليها. وأبحث عن مكان لتربية الدواجن". هذا ما قالته ريهام مضيفة أن التحويلات النقدية تحررها وأن ظروفها قد تحسنت.

موقع البنك الدولي، 2009

المصدر: البنك الدولي، تكافل وكرامة: مشروع لشبكة أمان اجتماعي يعزز من تمكين المرأة المصرية ورأس المال البشري

البنك الدولي كذلك أعطى دفعة لنظام التأمين الصحي الشامل وإن كانت ليست في صورة النظام الشامل الذي تحدث عنه القانون رقم 2 لسنة 2018، بل جاء القرض لرفع كفاءة عدد من المستشفيات في إطار مواجهة فيروس كوفيد-19. ما يبحث عنه البنك الدولي في تطوير نظام التأمين الصحي في مصر كان أكثر تركيزاً على دعم الشراكات مع القطاع الخاص.

أشاد ايدجر روميرو، بجهود الدولة المصرية في الإصلاح الصحي من كافة الجوانبوأشار إلى أن الاستثمار في القطاع الخاص يواجه حاليًا بعض التحديات في العديد من الدول المختلفة، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم، لافتًا إلى أنه يمكن صياغة أجندة عمل لتبني الدول لبعض الإصلاحات والتدخلات التي من خلالها يمكن تزويد مشاركة القطاع الخاص في الاستثمار بمجال الرعاية الصحية.

الخلاصة

جهود متعددة ولكنها مفتتة. هذا هو الوصف الأدق لنظم الحماية الاجتماعية في مصر. لعل أهم ما يتأرجح بهذه الجهود هو التمويل. فالتمويل ومؤسساته الدولية هي المتحكم الأهم في صياغة نمط الحماية الاجتماعية الذي يحل محل الدعم السلعي والمجانية المدعاة للتعليم والصحة في مصر.

لم تُصِغ الدولة شكلاً كاملاً لبرامج إصلاح نظام الحماية الاجتماعية بقدر ما فرضت عليها الضغوط التمويلية المتزايدة والمتجهة نحو الابتعاد عن الشمول نحو الاستهداف.

للتحول إلى نظام حماية اجتماعية شامل حقيقي في مصر، لا بد أولاً من التحول إلى موازنة عامة قائمة على البرامج والأداء. فهي الوسيلة الوحيدة لإعادة ترتيب مخصصات الإنفاق العام وفق أهداف تنموية قابلة للقياس وفق رؤية اقتصادية متكاملة وعادلة تهتم بالإنتاج الحقيقي في قطاعات الزراعة والصناعة وليس على قروض صندوق النقد والمسكنات محدودة الأثر.

لا بد من صياغة نظام متكامل لمنظومة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ووضع نظام متكامل لشبكات الحماية الاجتماعية تسمح حقيقة بالترقي في السلم الاجتماعي من خلال تخفيف آثار الصدمات على الأكثر فقراً ومنحهم فرصة لجودة أفضل للحياة وجعل الدولة المصرية مرنة وقادرة على التصدي لأي أزمات مشابهة في المستقبل.

لم يشمل الخطاب السياسي أبداً منذ تموز/يوليو 2013 وقبله هذا النوع من تناول التحول نحو منظومة حقيقية للحماية الاجتماعية تشمل صياغة برامج متكاملة لذوي الأجور المنخفضة والعمالة غير الرسمية والأطفال والنساء ومواجهة المخاطر وتخفيف آثارها.

Endnotes

Endnotes
1 وزارة المالية، البيان المالي لموازنة العام 2021/ 2022
2 البيان المالي للموازنة العامة للدولة عامي 2014/ 2015 و2015/ 2016
3 IFPRI, Impact evaluation of Takaful and Karama program in Egypt,2016.
4 وزارة المالية، النشرة الاقتصادية الشهرية

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.