إن الحرب التي تدور رحاها منذ 15 نيسان/أبريل في السودان تحركها في المقام الأول أجندة ذاتية تخص البرهان وحميدتي، أجندة الاستحواذ الكامل على السلطة ومحاولة كل منهما قطع الطريق على الآخر. فبعد سنين من قدرتهما المشتركة على معالجة الطموحات المتناقضة والمتعارضة بينهما بسلمية، وصلت اليوم طموحاتهما المتناقضة إلى نقطة اللاعودة والتي يبدو أنها لم تترك أمامهما أي خيار سوى إشعال حرب بقاء لا توجد فيها مساحة للمناورة أو الهدنة أو التراجع. ولكن على الرغم من هذه الأجندة الذاتية الواضحة والمباشرة للحرب، إلا أن انقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021 والتدخلات الخارجية من عدة دول وتربّص أعوان النظام البائد، كلها شكلت أسباباً أخرى رئيسية ساعدت على الحرب وسارعت في إمكانية حدوثها، وقد تشكِّل عائقاً أمام أي حلول مستقبلية لإنهائها.
انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر ومكوّناته
قاد الفريق عبد الفتاح البرهان في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 انقلاباً على الحكومة الانتقالية التي يرأسها الدكتور عبد الله حمدوك، الانقلاب الذي مزق عملياً الوثيقة الدستورية وأدخل البلاد في حكم عسكري جديد حاول ككل الديكتاتوريات إغلاق المجال العام والحكم بالحديد والنار. وخلافاً لما كان متوقعاً، فوجئ الانقلابيون ومن نفذوه بمقاومة باسلة ومرنة وممتدة لم تخمدها الاعتقالات والقتل والتخويف. فبعد اعتقال المئات واجه الانقلاب بواسطة مدرعات وآليات القوات المسلحة المدنيين العزّل، ووجّه إلى صدورهم الرصاص الحي في شوارع الخرطوم والولايات المختلفة، حيث قتل أكثر من 100 شهيد وشهيدة. ورغم ذلك، لم يتمكن الانقلاب من تثبيت أركان حكمه الجديد؛ بل فشل حتى في تشكيل حكومة لقرابة العام ونصف العام، لتصبح أول سابقة في تاريخ السودان، حيث يفشل انقلاب عسكري نتيجة لمقاومة شعبية جماهيرية.
كانت تركيبة انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر متناقضة المكوّنات ومتضادّة المصالح. فقد جمعت في الأساس بين جنرالين متصارعين على السلطة، قفزا فوق التزاماتهما المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية وفي مقدمتها التخلي عن قيادة المجلس السيادي لصالح المدنيين، بالإضافة إلى تخوف مشترك بينهما وبقايا النظام البائد من عملية "تفكيك التمكين" التي كانت قد بدأت بتحريك ملفات متعلقة بشبكات فساد ونهب ومصالح اقتصادية ضخمة كشفت التداخل العميق بين المؤسسة الأمنية والعسكرية والنظام البائد. كما ضمت تركيبة الانقلاب أيضاً حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، واللتين بحثتا عبره عن المزيد من النفوذ السياسي وربما الاقتصادي، وذلك على الرغم من أن مناوي كان قد عين حاكماً لإقليم دارفور وجبريل وزيراً للمالية، ولا يستبعد أيضاً تأثير النظام البائد على الحركتين، حيث شوهد العديد من قيادات النظام البائد وهم يصعدون سلالم القيادة في الحركتين. تضمنت مكونات الانقلاب أيضاً عدداً من الكيانات الأهلية والقبلية التي تبارى خلال الفترة الماضية كل من البرهان وحميدتي على استخدامها للضغط السياسي متى ما استدعت الحاجة. وضعت جميع هذه المكونات عبر قيادتها وتنسيقها للانقلاب الأساس للحرب الراهنة. وكان الانقلاب أيضاً مدعوماً من قبل رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، الناظر محمد الأمين ترك في شرق السودان، والذي أغلق الطريق القومي المؤدي إلى موانئ السودان لقرابة الشهر قبل الانقلاب.
جمعت كل هؤلاء دوافع متباينة، ولكنهم تواطؤوا جميعاً على دعم الانقلاب ووقف عملية الانتقال الديمقراطي في السودان، وإدخال البلاد في نفق مظلم. وكلها مجموعات يتغلغل في ثناياها النظام البائد وشبكة مصالحه الممتدة من المؤسسة العسكرية والأمنية الرسمية إلى تأثيره واستغلاله بعض الجماعات الأهلية والعشائرية.
مصر والإمارات والحرب
ساهم التدخل المصري والإماراتي المستمر في تأجيج الحرب واندلاعها، فبعد أن دعما سوياً انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر على حكومة عبد الله حمدوك، استمر كل منهما في البحث عن النفوذ والمصالح في رعاية ودعم قوى عسكرية متناقضة ضد بعضها البعض. دعمت الإمارات ولا تزال حميدتي والدعم السريع بالسلاح والمال والدعاية الإعلامية، بينما استضافت مصر بقايا النظام البائد التي ظلت تهدف إلى عرقلة مسار الانتقال وسعت الدولة المصرية بقوة في سبيل عرقلة مسار العملية السياسية التي كان من الممكن أن تجنب البلاد الحرب الدائرة الآن. صرح الجيش منذ اندلاع الحرب وفي عدد من المرات عن استعمال قوات حميدتي أسلحة ومعدات إماراتية، بينما اتهم حميدتي الجيش بالاستعانة بطائرات وطيارين مصريين. ويظهر ذلك التدخل السافر من كلا الطرفين في التغطيات الإخبارية لوسائل الإعلام المصرية والإماراتية والانحيازات الواضحة في الخطوط التحريرية لكل منها والتي ترقى في بعضها إلى حد البروباغاندا الحربية الإعلامية.
تدعم مصر بصورة متوقعة ومعتادة عبر تاريخ السودان ما بعد الاستقلال القوات المسلحة السودانية، ومن المؤكد أنها تريد صنع سيناريو يكون فيه الجيش وقائده أيا كان المسيطر الكامل على الأمور في البلاد، ولتحقيق ذلك مضت مصر في طريق عرقلة وإعاقة أي مسار يمكن أن يقود إلى استئناف عملية الانتقال الديمقراطي، بل ونسقت بصورة غير متوقعة مع الإخوان المسلمين السودانيين وبقايا نظامهم الذي أسقطته الثورة، حيث تستضيف ومنذ اندلاع الثورة العديد من قيادات النظام البائد، الذين ظلوا يخططون باستمرار ويدعمون جهود إجهاض الثورة السودانية. تريد مصر بهذا أن تحافظ على نفوذها بوجود سلطة داعمة ومطيعة لها على الدوام خاصة في ما يتعلق بالأجندة الإقليمية كسد النهضة وغيرها من الملفات، وتكسر بذور ديمقراطية ناجحة على حدودها، ديمقراطية يمكن أن تؤثر وتستثير نزعات الحرية والدمَقرطة لدى الشعب المصري.
أما الإمارات - اللاعب الجديد نسبياً في البلاد - فقد وجدت في حميدتي وقواته ضالتها، وهي الدولة التي لها تاريخ في دعم المليشيات في المنطقة على حساب المؤسسات الرسمية. دخلت الإمارات السودان وحاولت منذ اندلاع الثورة التأثير على المشهد بصورة فظة للغاية. ربما كان ذلك في البداية نوعاً من المنافسة مع قطر، خصمها اللدود في المنطقة والمقرب من نظام البشير حينها، إلا أن تلك الأجندة اليوم تتشكل من عدة عوامل تأتي في مقدمتها مصالح اقتصادية ضخمة تسعى الإمارات إلى الحفاظ عليها وزيادتها، من تدفق غير منقطع للذهب السوداني نحو أراضيها، إلى النفوذ على البحر الأحمر والمشاريع الزراعية (كمشروع الهواد) وصولاً إلى مشروع أصبح واضح المعالم لدولة الإمارات في شرق أفريقيا يستهدف السيطرة على حركة التجارة البحرية والموانئ. وجدت الإمارات في حميدتي ضالّتها كرجل يمتلك المال والنفوذ والسلاح، فلم تبخل عليه ومدته بالمزيد من السلاح والأموال في سبيل تحقيق أهدافها، حيث تتخوف من عودة السلطة كاملة إلى الجيش وحده، وهو المليء بكوادر الإخوان المسلمين والمؤتمر الوطني والذين تخوض الإمارات ضدهم منذ سنين حرباً أيديولوجية شاملة.
مصر والإمارات قامرتا بأمن وسلامة السودانيين وأمن بلدانهم وسلامتها والمنطقة بأسرها، وهما تخوضان صراعاً بلا سقوف أخلاقية في السودان. ذلك بالطبع لا ينفي الأجندة الذاتية السلطوية للحرب بين الجنرالات المتصارعين؛ فمصر والإمارات تصارعتا في سبيل مصالح خاصة بهكا واستغلتا في سبيل ذلك هشاشة داخلية بالغة، عسكرية ومؤسساتية ومدنية.
حميدتي، الدعم السريع والدخول في حرب مع الجيش
امتلك حميدتي والدعم السريع الجرأة على الدخول في حرب مع الجيش السوداني تبعاً لتاريخ طويل من الفوضى والعبث بدأه البشير ونظامه الذي أسس الدعم السريع ومكنه قانونياً وسياسياً واقتصادياً، وعبر حرب اليمن التي شرعنت الارتزاق في الجيش والدعم السريع ومدت الدعم السريع وجنرالات المؤسسة الأمنية بمصادر اقتصادية ضخمة خارج سلطة الدولة، واستكمله البرهان وجنرالات الجيش وهم يصيغون القرارات التي سمحت له بالتضخم على مدى السنين الأخيرة. أما القوى المدنية وحتى وهي في عز وحدتها وقدرتها إبان إقرار الوثيقة الدستورية لم تكن تملك الحق أو القدرة على عزل أي ضابط في أي من القوى العسكرية المختلفة.
وامتلك حميدتي تلك الجرأة بفضل دعم غير محدود من الإمارات وغيرها من الدول التي شكل معها شبكة علاقات ومصالح معقدة وذلك تحت نظر جنرالات الجيش الذين لم ينتبهوا سوى لكيفية الانقضاض على السلطة وعرقلة الانتقال الديمقراطي.
أما أطراف الحرب الأخرى فهي النظام البائد وبقاياه الذين ظلوا ينفخون في نيرانها يوماً تلو الآخر، تحركهم في ذلك مرارة وغضب وحسرة على ثورة مرغت تاريخهم في التراب ومصالح يريدون الحفاظ عليها وانتقال ديمقراطي يرون في نجاحه نهاية سيطرتهم على الدولة ومفاصلها ومقدراتها.
يتمثل الحضيض الأخلاقي والوطني في أولئك الذين يحاولون في خضم كل هذا لوي عنق الحقيقة وتحقيق كسب سياسي رخيص وهم يسعون إلى تحميل مسؤولية اندلاع الحرب للقوى المدنية المختلفة أو يجرّمون بعضها ويتهمونها بالانحياز للدعم السريع بجريرة الموقف الداعي لوقف الحرب؛ والتاريخ حاضر أن تلك القوى المدنية هي من نادت دوماً بضرورة حل الدعم السريع وغيره من القوى المسلحة في سبيل جيش قومي واحد وهتفت "مافي مليشيا بتحكم دولة". بينما كان أرباب النظام البائد وجنرالات الجيش يدافعون بقوة عن الدعم السريع و"حميدتي". ومثل ذلك الادعاء بأن الحرب حدثت بسبب الاتفاق الإطاري. هذا الأخير مثله مثل الوثيقة الدستورية، وعلى الرغم من النواقص الكثيرة التي شابت كلاهما، إلا أن الوثيقة الدستورية على سبيل المثال وضعت الأساس المتوافق عليه لإدارة السودان وإعادة هيكلة القطاع العسكري وغيرهما من قضايا الانتقال الديمقراطي. ورغم التحفظات الكبيرة حوله، إلا أن الحديث المكثف من قبل فلول النظام البائد عن أن الاتفاق الذي وقع عليه كل من البرهان وحميدتي تسبب في الحرب، ليس سوى محاولة لاستغلال الحرب في الهجوم على القوى السياسية والمدنية وتصفيتها.
الحرب الأهلية الشاملة تلوح في الأفق
تعيش البلاد نتيجة لهذا العبث تحت وطأة فوضى أمنية شاملة. مع الانتشار الكثيف للسلاح وتعدد الجهات المسلحة، تتزايد وتتصاعد الانتهاكات بشكل غير مسبوق: بين (دعم سريع) مرتبط بتاريخ طويل وموثق من كافة أشكال التعدي على الإنسان وحقوقه، ومن قوات مسلحة سقطت مراراً في امتحانات الحفاظ على حقوق وكرامة الإنسان، إلى عصابات النهب المسلح التي تستغل الفوضى الأمنية الشاملة في الخرطوم.
وها هي علامات الحرب الأهلية الشاملة تلوح في الأفق، مع تصاعد كثيف لخطاب الكراهية، ودلائل متعددة عن تصنيف القوتين المتحاربتين للمواطنين على أسس سحناتهم وقبائلهم؛ لا تحتاج الحرب الأهلية بعد هذا سوى التسليح والانحياز. ومع انتشار السلاح في كل مكان في السودان تقريباً، يكون الانحياز المباشر للمجموعات القبلية والعشائرية والمناطقية لأحد طرفي الحرب هو آخر خطوات الحرب الشاملة التي لن تبقي ولن تذر، حرب ليست كأي حرب أخرى، حرب وجود تحركها ضغائن وتراكمات لسنين طويلة لاسيما في مناطق دارفور والنيل الأزرق وكردفان، بين مكونات تعيش متجاورة ولا تفصلها حدود، حرب لا يملك زمام السيطرة عليها أحد ولا يستطيع أحد أو طرف إيقافها، حرب ستنهي عملياً دولة السودان كما ظللنا نعرفها.
أضف إلى هذه المشاحنات الداخلية التدخل الخارجي الذي يمكن أن يجعل في وقت قريب مسألة إيقاف الحرب خارج أيدي السودانيين أنفسهم. فمع مساهمة حفتر المدعوم إماراتياً الموثقة في دعم حميدتي، وإرهاصات تدخل مجموعة فاغنر لدعم حميدتي حليفه لاسيما في أفريقيا الوسطى والساحل الأفريقي. ومع استمرار الحرب، يكون تدخل أطراف أخرى لدعم أحد الأطراف المتحاربة مسألة وقت ليس إلا.
ما العمل؟
تستغل جهات كثيرة لا سيما الطرفين المتحاربين ظروف الحرب لمهاجمة القوى المدنية وتصفيتها. فمنذ بداية الحرب تتعرض قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة والنقابات لحملات متواصلة من التجريم بهدف تصفيتها وإضعاف تأثيرها على مسار الأوضاع العامة في السودان. تأتي في قيادة هذه الحملات شخصيات محسوبة على النظام البائد في المجال المدني والعسكري.
الموقف الصحيح هو ذلك الذي يدين بوضوح وبالصوت العالي مساعي التدخل المصري الإماراتي السافر وصراعهما الممتد والمفتوح في الساحة السودانية، الموقف الوطني والقومي الصميم والذي يحفظ السيادة هو الذي يدعو إلى الوقف الفوري لهذه الحرب العبثية والضغط في سبيل الحل السياسي لها. هذه ليست حرباً يمكن حسمها بسرعة كما يروج البعض، فها هي الآن تقارب الشهرين وحتى إن توقفت في الخرطوم فإنها ستستمر وتتصاعد في مناطق مختلفة في السودان لاسيما في دارفور، ويمكن أن تستمر لسنين طويلة وتتضخم عبر تعبئة غير مسؤولة قد بدأت، تعتمد على أسس قبلية وإثنية لتعذب ويلاتها الملايين من السودانيين.
الحل السياسي لهذه الحرب هو ما يجب أن تصطف في سبيله جميع القوى المدنية والوطنية المختلفة، حل سياسي مبني على أسس الجيش القومي والمهني الواحد وحل جميع المليشيات المسلحة عبر عملية للإصلاح وإعادة الهيكلة، والتسريح وإعادة الدمج متوافق عليها وتحت سلطة انتقالية مدنية وديمقراطية.
كما أنه من المهم أن يخاطب هذا الاصطفاف المجتمع الدولي بوضوح وشفافية في سبيل الضغط المكثف على مصر والإمارات وأي أطراف خارجية أخرى كي يرفعوا أيديهم عن دعم الأطراف المتحاربة، وأن يتوقف نهائياً أي تنسيق سياسي أو اقتصادي بين أي قوى خارجية وأي قوى عسكرية سودانية.
الموقف الصحيح هو الذي يؤكد أن القضية الوطنية بالأمس واليوم وغداً، هي قضية تأسيس الدولة الديمقراطية المدنية في السودان عبر عملية انتقال ديمقراطي بقاعدة مدنية واسعة لا بفوهة البنادق أو سلاح المليشيات، دولة ذات سيادة تخدم مصالح السودانيين لا غيرهم، وأن الحكم العسكري الجاثم على هذه البلاد لمعظم عمرها ما بعد الاستقلال لاسيما العقود الثلاثة الأخيرة منه تحت وطأة الأيديولوجيا الإسلاموية هو الذي أورثها الضعف وأضاع سيادتها، وهو الذي قامت في كنفه وتحت بصره المليشيات وهو الذي يجب أن ينتهي إلى الأبد.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.