ان هجوم السابع من أكتوبر 2023 حدثًا محوريًّا على الصعيد المحلي والدولي، وعنوانًا لحقبة جديدة في حياة الشعب الفلسطيني وعلاقة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، فهي المرة الأولى في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي التي تتعرض فيها إسرائيل لهجوم مباغت من قبل مسلحين ينتمون إلى منظمات مسلحة، وليس جيشًا منظمًا، حيث تخترق الحدود وتصل إلى نحو 14 بلدة صغيرة جنوب إسرائيل وتكبّدها عددًا من الضحايا المدنيين والعسكريين الإسرائيليين والأجانب، وتختطف عشرات المدنيين والعسكريين وأجانب غير الإسرائيليين وتحتفظ بهم كرهائن.
شكل الهجوم الحماسي ــ الجهادي مفاجأة صادمة للجميع، إسرائيل، العالم بشرقه وغربه والشعب الفلسطيني، وجزء كبير من قيادات وأعضاء حركة حماس ذاتها والمجتمع الفلسطيني عامة، لأنه لم تنذر أي مؤشرات بهكذا حدث. بُعيْد ساعات قليلة من الهجوم، شنت إسرائيل حربها على قطاع غزة عامة وعلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي خصوصًا. لا زالت هذه الحرب متواصلة لليوم 205 وحتى كتابة هذه السطور. حرب استخدمت فيها إسرائيل كل وسائل القتل والتدمير والموت والتجويع، وصلت إلى درجة الإبادة، حيث تم تقديم ملف إلى المحكمة الجنائية الدولية من قبل دولة جنوب أفريقيا .
وضعت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو ومجلس الحرب أهدافًا للحرب هي: أولاً، تحرير الرهائن المحتجزين في قطاع غزة، ثانيًا: القضاء على حركة حماس، خصوصًا في ما يتعلق بقدراتها العسكرية وتقويض نظام الحكم الذي تديره في قطاع غزة، وثالثًا: ضمان أن غزة لن تشكل تهديداً مستقبليًّا على أمن إسرائيل. ستنتج هذه الأهداف -في حال تحقُّقها- بالضرورة تغيُّرات جذرية في منظومة الحكم في قطاع غزة، وستتواصل آثارها على المدى الطويل. ما فتئت مراكز البحث وتحليل السياسات تدرس تصورات وسيناريوات نتائج هذه الحرب وما سيترتب عليها على المدى القريب والمتوسط والبعيد. لقد باتت إسرائيل تنظر إلى بقاء حكم حماس في غزة باعتباره تهديدًا وجوديًّا لها، وقد أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى أن المعركة في غزة هي أشبه بحرب الاستقلال الثانية لدولة إسرائيل مثلما كانت النكبة الفلسطينية حرب الاستقلال الأولى، وأصبح من المعتاد تداول مصطلح "اليوم التالي للحرب على قطاع غزة" من قبل الساسة الإسرائيليين كمصطلح يشير إلى تجاوز وجود حماس في مستقبل قطاع غزة. إلا أن الحكومة الإسرائيلية ممثلة بأقطابها، أو مجلس الحرب، عجزوا عن تقديم رؤية واضحة لهذا المستقبل، وإن كانوا قد عبروا عن بعض ملامح هذا المستقبل في سياق الحملة العسكرية مثل إعلان وزراء إسرائيليين أكثر من مرة عدم رغبتهم في مشاركة الأونروا أو السلطة الوطنية الفلسطينية أو حركة فتح في مستقبل غزة. تقاطعت هذه الأهداف الإسرائيلية جزئيًّا مع رؤية الولايات المتحدة في التعاطي مع الحرب على غزة والتي تمثلت في رؤية وزير الخارجية الأمريكي بلينكن : أولا هزيمة حماس وعدم رغبة الولايات المتحدة في أن تكون حماس جزءًا من مستقبل غزة، ثانيًا: رفض تهجير السكان، ثالثًا: رفض إعادة احتلال غزة بشكل دائم. وبالتالي أصبح الحديث عن اليوم التالي للحرب، هو إحدى أهم نتائج تلاقي هذه الرغبة في هزيمة حماس. مع الإقرار أن الإجابة عن سؤال "ماذا بعد اليوم التالي للحرب؟" حمل إجابات متباينة في وجهات النظر بين كل من الولايات المتحدة، التي تريد أن ترى سلطة وطنية فلسطينية مع إصلاحات جذرية في قطاع غزة، وإسرائيل التي تعارض وجود السلطة الفلسطينية في قطاع غزة ولا ترغب في توحيد النظام السياسي الفلسطيني.
اليوم التالي للحرب: السيناريوات المُحتملة
تحاول هذه الورقة استشراف المستقبل من خلال الوقوف على السيناريوات المحتملة لإدارة قطاع غزة عقب انتهاء الحرب، وتحليل ممكنات ومعيقات كل منها. قبل استعراض هذه السيناريوات، ينبغي الاشارة إلى أن مسألة اليوم التالي للحرب على غزة قد أصبحت سؤالاً مهمًّا ينبغي الإجابة عنه إسرائيليًّا بعد فشل خطة تهجير سكان قطاع غزة إلى مصر. لقد حاولت إسرائيل من خلال كسب التعاطف الغربي في الأيام الأولى من الحرب على تمرير مخطط التهجير لسكان قطاع غزة، إلا أن هذا المخطط أُفشل بسبب الموقف العربي والدولي الرافض له وخصوصًا الموقف المصري الذي رفض بحزم شديد فتح أراضيه أمام الترانسفير الإسرائيلي لسكان القطاع، إضافة إلى صمود سكان غزة، ورفضهم للتهجير مرة أخرى. ليذهب نتنياهو ومن خلفه مجلس الحرب الإسرائيلي إلى تدمير كافة أشكال الحياة في قطاع غزة، من خلال استهدافه كافة مقومات الحياة الأساسية من شبكات المياه والطاقة والصرف الصحي، وضرب المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد، هذا بالإضافة إلى تدمير كافة المؤسسات والمقارّ الحكومية، والأبراج السكنية ومئات الآلاف من الوحدات السكنية، ورفضه إدخال الوقود وتقنين إدخال المساعدات الغذائية والطبية. أي ما يمكن أن نطلق عليه إخضاع الحياة لقوة الموت في قطاع غزة. والمثير في الأمر أن الإدارة الأمريكية هي التي تبادر حتى اللحظة إلى وضع تصورات وسيناريوات لإدارة حكم القطاع، عقب انتهاء الحرب التي تشنها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023 في قطاع غزة، والتي تطورت في اليوم العشرين للحرب باتجاه إعادة الاحتلال والسيطرة على قطاع غزة.
لقد جاءت زيارات وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن المتعددة إلى المنطقة خلال شهور الحرب، في إطار تقديم تصورات لحكم قطاع غزة عقب انتهاء الحرب، حيث تتماهى الإدارة الأمريكية مع دولة الاحتلال في إنهاء حكم حماس لقطاع غزة، وتواصل بشكل واضح دعم إسرائيل في حربها ضد الشعب الفلسطيني في القطاع بكافة الوسائل. وتشير المعلومات إلى أن وزير الخارجية الأمريكي، كان قد طرح في اجتماعه مع وزراء الخارجية العرب في الأردن فكرة إدارة قطاع غزة من خلال قوة عربية مشتركة، إلا أن هذا التصور قوبل بالرفض من قبل وزراء الخارجية، الأمر الذي دفعه إلى زيارة رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية لعرض الأمر عليه لقبول إدارة وحكم قطاع غزة، إلا أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبدى موافقة مشروطة على قبول حكم وإدارة قطاع غزة ضمن مسار سياسي يفضي إلى دولة فلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية، الأمر الذي بالتأكيد ترفضه إسرائيل، وتحاول الابتعاد عنه. وإزاء هذه المتغيرات، فتحت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الباب على مصراعيه لكافة السيناريوات المحتملة لإدارة الحكم في القطاع، وقد باتت الكثير من السيناريوات المحتملة لإدارة قطاع غزة على النحو الآتي:
يفترض هذا السيناريو، أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لن تنجح قصدًا أو عجزًا في القضاء على حركة حماس، إلا أن الضغط الإسرائيلي المتواصل عليها باستخدام كل سبل الحرب من قتل وتدمير وتجويع وإذلال سوف يدفعها باتجاه تقديم تنازلات جوهرية تمس أسس وثوابت الحركة،. تتمثل هذه التنازلات في الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود ونبذ العنف والقبول بانتهاج النهج السياسي – التفاوضي. وقد تحظى الحركة حينها بفرص البقاء، والحفاظ على ما تبقى من قدراتها، والمشاركة في حكم قطاع غزة والانخراط في إعادة إعماره على أسس سياسية جديدة. إن نجحت إسرائيل في تحقيق ذلك، تكون قد تمكنت من تدجين الوضع الفلسطيني بالكامل.
ففي أحدث تصريح لقيادة حماس قال خليل الحية: إن حركة حماس على استعداد للتخلي عن النهج العسكري والتخلي عن السلاح في حال تمت الموافقة على دولة فلسطينية .
يمكن القول إن هذا الموقف لحركة حماس، وهو الأحدث، يمثل تغييرًا جذريًّا في مواقفها السابقة.
إن دفع حماس إلى التخلي عن برنامجها العسكري يمثل الهدف الاستراتيجي الذي تحاول إسرائيل تحقيقه في هذه الحرب، وإن تحقق لها تكون قد انتصرت فيها. وهذا يعني دخول حماس مسار التسوية والتخلي عن الكفاح المسلح، وهو سيناريو منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982 نفسه، عقب اجتياح إسرائيل بيروت، وخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها في ذلك الوقت ياسر عرفات منها. وتكون إسرائيل بذلك قد نجحت في الحفاظ على فصل القطاع عن الضفة الغربية، وإبقاء حالة الانقسام السياسي الفلسطيني قائماً، وبالتالي لا تضطر إلى التجاوب مع الدعوات الدولية والإقليمية لضرورة فتح مسار سياسي للصراع ينتهي بحل الدولتين. كذلك فإن هذا السيناريو يضمن لإسرائيل حرية العمل الأمني والعسكري في قطاع غزة من اقتحامات واعتقالات وقمع أي مقاومة فلسطينية، من دون أن يكون هناك تواجد عسكري فعلي على الأرض للقوات الإسرائيلية. هذا السيناريو لديه احتمالات قوية لأنه يتوافق مع سياسة إسرائيل التقليدية تجاه حماس منذ سيطرتها على قطاع غزة عام 2007، والمتمثلة في سياسة جزّ العشب وليس القضاء عليها. لوحظ التغيير في الهدف المعلن للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من القضاء على حركة حماس وإسقاط حكمها إلى تدمير القدرات العسكرية للحركة، وبما يمنعها من تكرار هجوم 7 أكتوير جديد. في تقرير نشره موقع الجزيرة بعنوان "محللون إسرائيليون: حماس باقية في غزة بعد الحرب" يسرد التقرير آراء بعض الخبراء الإسرائيليين حول أن حركة حماس باقية في اليوم التالي للحرب، وأن أي سلطة لا يمكنها ملء الفراغ، ولا بد لها أن تشارك هذه الحركة في الشؤون المدنية للغزيين. يعتمد تحقق هذا السيناريو على نتائج المعركة الدائرة على الأرض في قطاع غزة وكيفية انتهائها ومتى وهل ستتمكن حركة حماس من البقاء وتحقيق بعض الإنجازات التي تمكنها من امتلاك بعض أوراق القوة؟
قد تساهم أطراف مؤثرة على حركة حماس مثل قطر وتركيا على وجه التحديد في إقناع قيادة الحركة في الخارج للقبول به، لكن هذا السيناريو سيُفقد حركة حماس دعم وموالاة قوى الممانعة مثل سوريا وإيران وحزب الله. هذا التوجه سيؤثر بشكل كبير على مستقبل الحركة وخصوصًا أمام أنصارها، وموقفها العقائدي من إسرائيل، وقد يؤدي إلى انهيار جزئي وانقسام في الحركة، هذا بخلاف التصدع الكبير الذي قد يحدث للحركة مع بقية فصائل المقاومة مثل الجهاد الإسلامي، ومن خلفه محور المقاومة (حزب الله وايران). كذلك هذا السيناريو سيجد معارضة شديدة من بعض الأطراف العربية مثل مصر والسعودية والإمارات التي تفضل اختفاء حركة حماس عن المشهد ودخولها في منظومة العمل الفلسطيني، هذه الدول هي على خلاف مع حركة حماس وحركة الأخوان المسلمين.
- إشراف دولي إقليمي محلي مرحلي على قطاع غزة:
يفترض هذا السيناريو أنه بموجب انتهاء الحرب، وملئًا للفراغ الذي قد ينشأ نتيجة انهيار نظام الحكم في قطاع غزة، قد تضطر القوى المؤثرة (أمريكا والاتحاد الأوروبي والدول العربية المؤثرة في الحالة الفلسطينية ومصر والأردن خصوصًا إلى تشكيل قوة عربية ودولية وبمشاركة ممثلين محليين من قطاع غزة لإدارة القطاع، حيث تتولى هذه الهيئة إدارة عملية إعادة الإعمار، والإشراف على القطاعات مثل التعليم والصحة، وقد تؤازر هذه الهيئة قوة عسكرية خارجية للحفاظ على الأمن مثل القوات الأممية لحفظ السلام. ويتطلب هذا المسار تفويضاً من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية، تحت ذريعة أنه ترتيب موقت إلى حين استتباب الأوضاع، وبما يتيح للسلطة استلام زمام الأمور لاحقًا.
ومن الواضح أن هذا السيناريو مطروح بقوّة، حيث أُعلن عن استعداد دول عربية لإرسال قوات منها إلى قطاع غزة للمساهمة في تحقيق الأمن في قطاع غزة. إن تحقيق هذا السيناريو مرتبط بشكل رئيسي بنجاح إسرائيل في تحقيق كافة أهدافها والقضاء فعليًّا على حركة حماس وإضعافها إلى الحد الذي لا تستطيع مقاومته. إذ أعلنت فصائل المقاومة رفضها هذا المقترح، هذا السيناريو وإن كان مطروحًا، فإن القبول به يتطلب غطاءً شرعيًّا من جامعة الدول العربية، أو الأمم المتحدة، وقبولاً فلسطينيًّا من قبل السلطة الفلسطينية التي قد ترى في هذا السيناريو تجاوزًا لها، خصوصًا في ضوء شرعية التمثيل الفلسطيني لدى منظمة التحرير الفلسطينية، ومن الطبيعي التساؤل عن الأدوار التي يرغب العرب في أدائها في قطاع غزة، خصوصًا وأنهم قد لا يكونون متحمسين للانخراط في مستنقع قطاع غزة بدون حل سياسي دائم. وفق هذا السيناريو لن تستطيع السلطة بسط سيطرتها من الضفة على القطاع، حيث سيتم مع مرور الوقت وانسياب الأوضاع، إنهاء وجودها في الضفة، من خلال نقل مركزها إلى القطاع، أو باستبدالها كلياً بأخرى في القطاع. أما مآل هذا المسار فقد يكون تحقيق (حل الدولتين) بإقامة الدولة الفلسطينية في قطاع غزة، التي يمكن أن تتمتع بجوانب محددة من السيادة. أما ثمن ذلك فيكون إبقاء وضع القدس والضفة معلّقاً ومنفصلاً عن وضع القطاع، مع الحفاظ على شعلة أمل متّقدة، وفق سياسة الخطوة خطوة، على أن تتم معالجة مصير تلك المنطقة في قادم الأيام. وبالطبع، سيستمر قضم الأرض، والتهويد والاستيطان، إلى أن ينتهي الأمر بابتلاع إسرائيل كامل الضفة، بما فيها القدس.
- سيناريو إعادة السلطة إلى قطاع غزة:
هذا السيناريو يستوجب موافقة إسرائيل على تمكين السلطة الوطنية الفلسطينية من إعادة تنظيم نفسها في قطاع غزة، بما في ذلك السيطرة الأمنية على القطاع، وهو ما قد يتطلب تجنيد عناصر محلية أو استقدام قوات من الضفة الغربية أو مخيمات الشتات، أو احتواء قوى الأمن القائمة في قطاع غزة وفق أسس وعقيدة أمنية جديدة. من الواضح أن السلطة الفلسطينية تفضل هذا السيناريو، إذ إنها قد حضّرت نفسها مسبقًا له، بعد أن تقدم رئيس الوزراء محمد إشتيه باستقالته للرئيس عباس، ومن ثم تكليف السيد محمد مصطفى تشكيل حكومة جديدة، يغلب عليها طابع الخبراء والتكنوقراط، استجابة لنداءات متكررة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لأجل إصلاح السلطة الفلسطينية. هذا السيناريو يتطلب من الفلسطينيين بناء مصالحة فلسطينية حقيقية، وتشكيل حكومة تكنوقراط وطنية تكون مهمتها إعادة إعمار قطاع غزة، تحظى برعاية دولية، وتعمل على لجم السياسات العدوانية الإسرائيلية، وتؤسس لانتخابات فلسطينية وإحداث إصلاحات سياسية في بنية النظام السياسي، بما يضمن منع تأجيج الصراع، ويوحد القرار الفلسطيني في السلم والحرب، بما يمهد لشق مسار سياسي مستقبلاً.
أعلنت الحكومة الإسرائيلية في وقت سابق أنها لن تسمح بدولة (فتحستان) في قطاع غزة باعتبار هذا السيناريو يجبر إسرائيل على الذهاب إلى عملية سياسية شاملة تؤدي في نهاية المطاف إلى دولة فلسطينية في الضفة والقطاع. ولذلك فإن العقبة الإسرائيلية ستعيق بشكل كبير هذا السيناريو، إلا أن تغيراً في موقف إسرائيل من السلطة الوطنية قد بدا واضحاً مع اجتماعات سرية عقدت بين شخصيات أمنية فلسطينية متنفذة وإسرائيل، ونظير هذه التغيرات في التوجهات الإسرائيلية يجدر التفكير بالثمن الذي ستطلبه إسرائيل من السلطة الفلسطينية للسماح لها بإدارة قطاع غزة بعد الحرب، والذي سيكون في إطار استكمال مهمة إسرائيل في القضاء على جيوب المقاومة ومنع تسلّحها.
إلا أن بقاء حماس كجزء فاعل في النظام السياسي الفلسطيني في حال كان هذا السيناريو هو الأرجح يعتمد على ثلاثة عوامل، الأول قبول حركة حماس الاندماج الكامل داخل بنية النظام السياسي، والتخلي عن التبعية لمحور المقاومة، والالتزام باتفاقيات منظمة التحرير، دون أن يلزمها بالاعتراف الصريح بدولة إسرائيل، أما العامل الثاني فهو مدى حماسة المجتمع الدولي لقبول وجود حماس في النظام السياسي الفلسطيني في اليوم التالي للحرب، أما العامل الثالث فهو قبول حركة فتح بوجود حماس في النظام السياسي بعد هزيمتها وانحسار قوتها، فلا شك أن فتح تنظر إلى حماس كخصم سياسي، كان قد طرح نفسه أكثر من مرة كبديل لفتح في قيادة الشعب الفلسطيني، وقد ترى فتح أن اليوم التالي للحرب يمثل فرصة للتخلص من حماس، خصمها التقليدي، كقوة مؤثرة والإمعان في إضعافها سياسيًّا.
- سيناريو عودة الإدارة المدنية الإسرائيلية في قطاع غزة:
يفترض هذا السيناريو أن الجيش الإسرائيلي سوف يبقى موجودًا -بشكل دائم أو موقت- في قطاع غزة في اليوم التالي للحرب. ويفرض هذا السيناريو في أجزاء محددة من قطاع غزة مثل المنطقة الشمالية ومدينة غزة حتى وسط القطاع، من دون أن يتم تطبيقها في منطقة جنوب القطاع والتي تشمل محافظات دير البلح وخانيونس ورفح، ما يستدعي إعادة إنشاء الإدارة المدنية على النحو الذي كانت تدير به قوات الاحتلال قطاع غزة قبل الانسحاب منه عام 1994 بموجب اتفاق أوسلو. سوف تتولى قوات الاحتلال وفقا لهذا السيناريو تقديم الخدمات لسكان قطاع غزة، كما سيتولى الجيش والشاباك الإدارة الأمنية في قطاع غزة. يدفع هذا السيناريو لبروز الإجراءات التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي على الأرض بقوة، حيث أقام ما يعرف بالطريق اللوجستي الذي يربط بين إسرائيل ومدينة غزة، والذي بات أشبه بحدود المنطقة العازلة بين شمال غزة وجنوبها، خصوصًا وأن هذا الشارع مجهز بموقعين عسكريين على شاطئ غزة وبالقرب من شارع صلاح الدين، وكلا الموقعين العسكريين مجهز بغرف مُكيّفة ومنامات للجنود شبيهة بتلك التي أقامتها في الضفة الغربية، إلى جانب إقامة الميناء في منطقة جنوب مدينة غزة، والذي يشير إلى أن الإجراءات المتخذة ليست للمدى القريب، إنما قد تبقى فاعلة على المدى البعيد.
يتطلب هذا السيناريو قضاءً كاملًا على قوة حماس في قطاع غزة، خصوصًا في مدينة غزة وشمال القطاع. في كل الأحوال، لدى إسرائيل تجربة كبيرة في إدارة مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية مدنيًّا، وهي لن تبدأ من الصفر، خصوصًا مع اتجاهها في السنوات الأخيرة الى إطلاق عدد تطبيقات الهاتف الجوال التي تخاطب المواطنين الفلسطينيين مباشرة وتسهل التواصل معهم مثل "تطبيق المنسق"، إلا أن تكلفة هذا الخيار الباهظة على إسرائيل بشريًّا وماديًّا خصوصًا مع تردي الأوضاع المعيشية للمواطنين في قطاع غزة عقب الحرب، وتكلفة إعادة الإعمار، وتحمُّلها المسؤولية الكاملة في تقديم الخدمات للمواطنين باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، إضافة إلى المقاومة الشعبية والرفض الفلسطيني والإقليمي والدولي لإعادة الاحتلال، تُبقي هذا الخيار ضعيفًا للغاية. إن هذا الخيار سوف يجعل إسرائيل محتلة لكامل الأراضي الفلسطينية، وهو عودة إلى ما قبل أوسلو، ويعني انتهاء حل الدولتين. هذا السيناريو رفض من قبل الولايات المتحدة وأوروبا التي طالبت بشكل واضح من إسرائيل عدم البقاء في قطاع غزة وضرورة عودة السلطة الوطنية إليه. فقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في منتصف شباط/فبراير 2024 رفض الولايات المتحدة أي "احتلال جديد" لغزة بعد انتهاء الحرب، وذلك ردًّا على إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطة لملامح الوضع بعد انتهاء الحرب الدائرة في القطاع.
- استعادة روابط القرى مع حكم عسكري إسرائيلي:
يقوم هذا السيناريو على أساس تشكيل مجموعة من الإدارات المحلية الفلسطينية من شخصيات عائلية وعشائرية ومجتمعية تعمل على إدارة الشؤون الحياتية للمواطنين الفلسطينيين في مناطق نفوذ هذه الإدارات، والتعاون مع المجتمع الدولي في إعادة إعمار قطاع غزة، على أن تبقى مسألة حفظ الأمن بيد الجيش الإسرائيلي، على غرار التشكيلات الإدارية التي أَنشأتها إسرائيل في عام 1978 بهدف إدارة المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية وخلق قيادة بديلة عن منظمة التحرير مقبولة محليًّا. ينبغي الإشارة هنا إلى أنه ومنذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بدأت قوات الاحتلال بالتواصل مع شخصيات عشائرية لاستكشاف آفاق إدارة قطاع غزة من خلال متعاونين محليين يعملون في هذه المرحلة على إدارة ملف المساعدات الإنسانية، إلا أن قوات الاحتلال وحتى تاريخ إعداد هذه الورقة لم تحقق أي اختراق جدّي في هذه المسألة في ضوء رفض علني للتعاون مع الاحتلال في هذا الجانب. وقد أعلن تجمع مخاتير غزة رفضهم التعاون مع حكومة الحرب الإسرائيلية لإدارة شؤون قطاع غزة. وأعلنت عشائر وعائلات غزة موقفها الرافض للمقترح الإسرائيلي من خلال بيان رسمي بعنوان: نرفض أن نكون بديلًا عن أي نظام سياسي. كذلك رفضت حركة حماس هذا السيناريو، إذ وصفت محاولة إسرائيل التواصل مع المخاتير والعشائر في غزة "خيانة لن نسمح بها". إن هذا السيناريو صعب التحقيق لسببين؛ الأول أن إسرائيل لن تجد في قطاع غزة شخصيات عائلية أو محلية مقبولة وذات نفوذ واحترام عشائري وقبلي تقبل أن تؤدي هذا الدور، باعتباره خيانة وطنية، إضافة إلى رفض السلطة الفلسطينية والدول العربية في الإقليم له، هذا بخلاف أنه سيعمل على تأجيج المقاومة الشعبية في القطاع ضده. هذا السيناريو ثبت فشله في السابق عندما حاولت إسرائيل تشكيل روابط قرى في الضفة الغربية لتكون بديلًا عن القيادة الفلسطينية.
- سيناريو الإدارة المصرية لقطاع غزة:
يمثل قطاع غزة عمقًا استراتيجيًّا لجمهورية مصر العربية، وسبق أن قامت بإدارة القطاع منذ العام 1948 حتى حزيران/يونيو 1967 عندما احتلت إسرائيل قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء. قد تضطر مصر لتأدية هذا الدور لسد أي فراغ قد ينشأ نتيجة هزيمة حركة حماس العسكرية، والخشية من أن تملأ هذا الفراغ قوى إرهابية متطرفة، إذ إن لمصر تجربة مريرة في الحرب مع الإرهاب في سيناء التي ترتبط حدودها بجنوب قطاع غزة. وليس بالضرورة أن تقوم مصر بإدارة قطاع غزة بشكل مباشر، إنما قد تقوم بذلك عبر توسعة نفوذ جهاز المخابرات المصري في قطاع غزة كما تفعل حاليًّا في مناطق شرق ليبيا التي يسيطر عليها اللواء خليفة حفتر من دون وجود إدارة مصرية فعلية. وهذا يعني أن مصر قد تنظر إلى الحدود التي تحاول إسرائيل فرضها في منطقة شمال قطاع غزة عبر ما يعرف بطريق 749، أنها حدود منطقة أمنها القومي، وهو ما يشبه الخط الذي رسمته أيضًا في العام 2020 وأطلقت عليه خط سرت – الجفرة وأعلنت أنه منطقة نفوذها، وخطٌّ أحمر لأمنها القومي.
على الرغم من أن هذا الخيار ليس جذابًا من وجهة النظر المصرية في الوقت الحالي، إلا أن عوامل هامة مثل: (1) الأمن القومي المصري، (2) والرغبة في الاستفادة من حقول الغاز في قطاع غزة حيث وقّعت مصر سابقًا، ممثلة بالشركة المصرية القابضة للغاز (إيجاس)، مع السلطة الوطنية الفلسطينية اتفاقية لتطوير حقل غاز مارين غزة، (3) إضافة إلى رغبة مصر في إدارة عملية إعادة الإعمار والاستفادة من عقود عمليات إعادة تأهيل البنية التحتية واسعة النطاق التي يتوقع أن تنطلق بعد الحرب على غزة، قد تدفع مصر إلى التفكير بهذا السيناريو بشكل أو بآخر. فلسطينيًّا وبشكل خاص، قد تنظر حماس إلى إدارة مصر قطاع غزة على أنها بوابه للحفاظ على وجودها من الذوبان نتيجة احتلال القطاع. لكن هذا السيناريو لن يجد ترحيبًا من قبل السلطة الفلسطينية التي تعتبر قطاع غزة جزءًا أساسيًّا من أراضي الدولة الفلسطينية، ما يعطيها الحق الحصري للحكم في قطاع غزة.
منظور ما يطمح له الغزيون في اليوم التالي بعد الحرب
مع استعراض السيناريوات المتعددة والمتوقعة للوضع في قطاع غزة في اليوم التالي لانتهاء الحرب، يجب الأخذ في الحسبان ما يطمح ويتطلع إليه سكان قطاع غزة أنفسهم، وهم أصحاب المصلحة الأولى والأهم في هذا السياق. بعد انتهاء الحرب، يتطلع المدنيون في قطاع غزة إلى مستقبل ملؤه السلام والازدهار. كانت الحروب والتصعيدات التي استمرت خلال السبعة عشر عامًا الماضية تُلقي بظلالها الدامية على الحياة اليومية للسكان، ويتمسك الشعب الفلسطيني في غزة برغبته الجادة في إنهاء دورة العنف وبناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة. فقد خرجت العديد من التظاهرات في مناطق متعددة في قطاع غزة رغم القصف تطالب بوقف الحرب. يتلخص موقف سكان قطاع غزة الفلسطيني في وقف الحرب ووجود قيادة فلسطينية قادرة على تحقيق السلام والاستقرار للمدنيين، وتعزيز عمليات إعادة الإعمار وتنفيذ مشاريع التنمية التي تعيد إلى القطاع النظام الصحي والأمن الغذائي وفرص العمل وحرية السفر، وهي مطالب لم يتوقفوا عن المطالبة بها منذ فرض الحصار على القطاع في حزيران/يونيو 2007.
باتت الأزمات الانسانية التي يعاني منها السكان في قطاع غزة تنذر بكوارث صحية خطيرة وتهدد حياة المئات من المدنيين بالإضافة الى ويلات الحرب التي عاشها الناس في غزة والتي دمرت حياتهم الاقتصادية ومستقبل آلاف الشباب. يطمح السكان في قطاع غزة إلى استعادة الديموقراطية التي حُرموا منها منذ 2007 والتي تكفل إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية ومجالس الجامعات. بمناسبة مرور عشر سنوات على الانقسام وفي العام 2017، بادر بال ثينك للدراسات الاسترايتيجية بنشر مذكرة موقّعة من 52 مؤسسة أهلية تطالب الحكومة الفلسطينية بإجراء انتخابات للحكم المحلي في قطاع غزة.
ومن ثم الانتقال إلى مرحلة من الاستقرار والتطور مع وجود نظام سياسي فلسطيني موحد وشاب، يعمل بكل السبل والأدوات المتاحة لتحقيق الأهداف السياسية والتنموية وبناء مستقبل أفضل للجميع. وهذا ما أكدت عليه الورقة البحثية التي نشرتها مؤسسة مفتاح في العام 2021، إذ تضمنت ما يأتي: تؤكد مؤسسات المجتمع المدني على موقفها من وجوب إجراء انتخابات الهيئات المحلية وفق مقتضيات القانون، وترى أن الوقت ما زال متاحاً أمام الحكومة والقوى والأحزاب السياسية لوقف المرحلة الأولى وعدم تجزئة الانتخابات وإجرائها في يوم واحد وفي كافة المحافظات.
كما يطمح الغزيون إلى بدء عملية إعادة إعمار ما دمرته الحروب المتعددة والتي سببت تدهورًا كبيرًا في كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية. ويدرك مواطنو قطاع غزة أن سنوات الحصار والحروب المتعددة لم تحقق أي هدف سياسي للشعب الفلسطيني، بل كانت عبئًا ضخمًا عليهم وعلى حاضر ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني. وما يجدر ذكره هنا، أن التحضيرات للانتخابات التشريعية التي كانت مقررة في أيار/مايو 2021 شهدت تقديم 36 قائمة انتخابية للمشاركة في الانتخابات، 26 قائمة منها شكلها شباب ليسوا معروفين وليسوا من المنظومة السياسية التقليدية الفلسطينية. بما يؤكد رغبة غالبية الشعب الفلسطيني التي يشكل الشباب نحو 62 في المئة منه، في انتخاب قيادة فلسطينية شابة. إن سكان قطاع غزة هم جزء من الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس، ولم يتوقفوا منذ حدوث الانقسام وتوقف العملية الديموقراطية الوليدة عن المطالبة بإنهاء الانقسام وإجراء الانتخابات .
إن مواطني قطاع غزة يرون أن السيناريو الأفضل بل الوحيد لهم، أن يكونوا تحت قيادة وطنية فلسطينية منتخبة تمثلهم وتحقق أهدافهم.
خاتمة:
قد يكون من السهل بدء الحرب، لكن ليس من السهل انتهاؤها، والأصعب تقرير اليوم التالي لانتهائها. هذا ينطبق على الحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزة منذ سبعة شهور. في بداية الحرب كانت الأهداف واضحة، كما أعلن عنها مجلس الحرب الإسرائيلي، لكن مع مرور الوقت ودخول الحرب شهرها السابع، تبدو هذه الأهداف أقل وضوحًا وغير منجزة. فلا حماس هُزمت كليًّا، ولا الرهائن تم تحريرهم، ولا سكان قطاع غزة هجروا منه. إن الغموض في كيفية إنهاء الحرب وتقرير اليوم التالي نابع من أن معظم الطروحات بعيدة عن الواقع، وتندرج تحت ما يمكن تسميته "التمنيات". صحيح أن هجوم السابع من أكتوبر كان حدثًا مفصليًّا يمكن القول إن ما بعده هو عنوان لحقبة تاريخية جديدة في حياة الشعب الفلسطيني، هذه الحقبة التي يعبر عنها حاليًّا بمصطلح "اليوم التالي للحرب على غزة ". هذا المصطلح بات مرادفًا لمستقبل غزة المجهول، ليس من المنظور الفلسطيني فقط، بل من المنظور الإسرائيلي والإقليمي، إذ تباينت المواقف داخل الحكومة الإسرائيلية، وداخل مجلس الحرب أيضًا، تجاه مستقبل غزة. كذلك داخل كواليس السياسة الغربية والعربية. هذا يعني أن مناقشة قضية اليوم التالي للحرب على غزة، قد تأخذنا قليلاً للتفكير بمستقبل الحكومة الإسرائيلية الحالية التي سوف يمثل سقوطها المحتمل سقوطًا لقوى اليمين الإسرائيلي المتطرف، وسقوطًا للطروحات الإسرائيلية بتهجير سكان قطاع غزة. كذلك قد تشكل سقوطًا لطروحات التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل من دون حل القضية الفلسطينية. يمكن القول بكل ثقة إن الحرب على غزة لم تدمر قطاع غزة فقط، بل تمتد لتدمير أفكار سياسية وطروحات متطرفة ظن البعض في إسرائيل والإقليم أنها قابلة للتحقيق.
لذا يجب الذهاب إلى السيناريو الأكثر واقعية والأكثر اتساقًا مع مبادئ القانون والشرعية الدولية، وهو الذي يقوم على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتمكين الفلسطينيين من استعادة الوحدة وتقرير شكل النظام السياسي الذي يريدونه وطريقة تحقيقه بشكل حر وبدون تدخل خارجي، إن الحرب على قطاع غزة بكل ما سببته من قتل وتدمير، يجب أن توفر فرصة تاريخية لبدء طريق جديد نحو تسوية تاريخية تنهي الصراع القائم من مئة عام وتحقق الاستقرار والسلام في منطقة الشرق الأوسط.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.