بعد أن استتبّ أمر السياسة الجزائرية بعد 2020، وجدت الحركات النقابية نفسها أمام عملية تقييمية وتقويمية لأعمالها منذ نشأتها. وبرز مؤيدون يظهرون مناقبها ومنجزاتها التي لا تحصى، ومنتقدون يعددون إخفاقاتها، واصطفافها مع ما تقرره السلطة الجزائرية، بل ذهب بعضهم إلى اعتبار أغلب النقابات يدا تنفيذية لقرارات الحكومة، وانخراطها في سياستها، وأحد أجهزتها مفرغة من أي احتجاجات مشروعة. في حين ذهب طرف ثالث إلى مباحثة نجاحاتها من جهة، وإخفاقاتها من جهة أخرى، مع إعادة النظر في القوانين الناظمة للفعل النقابي، استدعت إعادة قراءة وضعية النقابات والفعل النقابي في الجزائر خصوصا منذ مسيرات الحراك الشعبي في 2019، إلى غاية سنّ قوانين جديدة في بداية 2023 من شأنها تنظيم العمل النقابي في الجزائر.
ولإضاءة هذا الوضع أجرت فتيحة زماموش، زميلة غير مقيمة بمبادرة الإصلاح العربي، حوارا مع الدكتور إلياس مرابط، رئيس النقابة الوطنية لمهنيي الصحة العمومية، وهي نقابة مستقلة اعتُمدت في أيار/مايو 1991. الدكتور إلياس مرابط هو طبيب عام وينشط في الميدان النّقابي منذ سنوات، وخاض معركة ميدانية من أجل الدفاع عن حقوق عمّال الصحة واعتماد القانون الأساسي للقطاع والنّظام التعويضي في مختلف الأسلاك الطبية، داعيا الحكومة إلى فتح باب الحوار مع الطرف النقابي لأنه يمثل الموظفين والعاملين ويشكل وسيطا مهما بين الدولة والمجتمع.
1-ماهي مساهمات النّقابات المستقلة في تعديل دستور 2020 وكيف تمّت صياغتها؟ وماهي أهم المرتكزات التي بُنيت عليها هذه الإسهامات؟
إلياس مرابط: فيما يتعلق بدستور 2020 لم نحظ بدعوة رسمية من أجل الإسهام في المشروع، وهو الأمر الذي لم يجعلنا نقدم مقترحات بخصوصه. لكن هذا لم يثنينا عن الاطلاع على المسودة وتحليل بنودها ومناقشتها وخاصة مناقشة الجوانب المنوطة بممارسة الحريات النقابية، المطلبية والحق في الإضراب.
2- تبعا لعدم إشراككم في عملية بناء الدستور، كيف ستكون طبيعة العلاقة بينكم وبين السلطة السياسية، خاصة ما بعد 2019؟
إلياس مرابط: في الحقيقة، الحديث عن علاقة الحكومة بالنقابات هو حديث عن واقع نعيشه اليوم، واقع لم تتغير فيه هذه العلاقة ولم تولد آليات جديدة للتعامل بيننا. بالرغم من وجود بعض التطمينات في الخطاب السياسي الرسمي، وهو خطاب موجه للاستهلاك الخارجي، قوامه أن السلطة الجزائرية تحترم التعددية السياسية والحقوق النقابية، بيد أن ذلك لا ينفي وجود فتور في هذه العلاقة التي تتعطل حينا وتزداد ارتباكا أحيانا أخرى. فغياب الحوار الاجتماعي والوطني بيّن وواضح، وذلك بسبب رفض الحكومة المستمر طلب النقابات المستقلة ذات التمثيلية العمالية الكبيرة خاصة في قطاعات الصحة والتعليم المشاركة في اجتماعات الثلاثية التقليدية (الحكومة- أرباب العمل- الاتحاد العام للعمال الجزائريين)، والتي كانت تعقد سنويا منذ التسعينيات حتى آخر اجتماع في 2018، باعتبارها إطارا رسميا للحوار اتّخذته الحكومة كفضاء للحوار المباشر في القضايا العمالية والمهنية والاجتماعية. ويعزز هذا الانفصال أزمة الحوار الاجتماعي داخل الوزارات. وإن توافرت في بعض الوزارات، مثل وزارة الصحة، صلاحيات تمنحها حرية التحاور مع الأطراف الاجتماعية، فقد تأثّر أداء الحوار بسبب الأزمات المتكررة كأزمة الصحة العالمية جرّاء جائحة كورونا.
3- هل كان لكم حضور في إعداد مسودة ترتبط بقانون ممارسة الحق النقابي، وهل تمت استشارتكم استباقيا في إعداد هذه المسودة قبل أن يتم عرضها من قِبل الحكومة؟
إلياس مرابط: يؤسفني كثيرا أن الحكومة لم تتقدم خطوة للدفع بفتح باب الحوار مع الطرف النقابي، إذ لازالت لا تحترم الشركاء الاجتماعيين ولا تعتد بما تقدمه هذه الأطراف النقابية من مقترحات، بل إنها لا تكترث أي اكتراث بما تقترحه النقابات ولا تناقشه، قبل دراستها لمشروع القانون على مستوى مجلس الوزراء وتحويله إلى مجلس النواب للمصادقة، ودون مراعاة للحراك الاجتماعي. وبالرغم من مساهمات هذه النقابات في التعديل الجزئي في القانون رقم 90-14 المؤرخ في 2 حزيران/يونيو 1990، المتعلق بكيفية ممارسة الحق النقابي، ومراعاة محتوى المعاهدات الدولية للمكتب الدولي للعمل، إلا أنه لم يؤخذ بعين الاعتبار، خاصة فيما تعلّق بالتعديل المتمّم لقانون 1990، وصدور القانون رقم 22 – 06 المؤرخ في 25 نيسان/أبريل 2022.
4- هل قدمت النقابات بعض المقترحات في القانون، ولو لم تشاركوا فعليا في طرح مقترحاتكم قبل صدوره، وما الذي ترونه ملائما للتقويم من حيث الحريات والفعل النقابي؟
إلياس مرابط: في الحقيقة، الحكومة لم تفتح الباب للمشاورات والتحاور الفعلي مع النقابة المستقلة، الحكومة لم تكلّف نفسها للنّظر في بعض مشاريع القوانين والمقترحات التي بلغناها (رسميا) إلى وزارة العمل وإلى اللجنة البرلمانية المختصة، ولم تأخذها بعين الاعتبار. وفيما يخض القوانين المقترحة من قبل الحكومة، لا سيما المتعلقة منها بالممارسة النقابية ومباحثة سبل لحلّ النزاعات الجماعية والحق في الإضراب، فهي متناقضة في جوهرها مع أهدافها التي يتضمّنها الدستور. ويتناقض هذا مع الخطاب السياسي الموجّه للاستهلاك الخارجي، وهذا جوهر القضية. فكيف لحكومة تدّعي احترام الحريات ومنها الحريات النقابية أن تتعمد إفراغ الدستور من أي منفذ لممارسة هذه الحريات المتحدّث عنها.
وبشكل أوضح هناك تعارض واضح مع الاتفاقات الدولية للمنظمة الدولية للعمل (الاتفاقيات 87 و98). وملخص كلامي في هذا الشّأن هو أن مشاريع القوانين المثارة موجهة أساسا لتكميم أفواه النقابيين وكبح جماح الفعل النقابي الحقيقي، ومنع حق ممارسة الإضراب في قطاعات واسعة سيحددها التنظيم لاحقا.
5- تشتكي الحكومة من التداخل بين ممارستكم النقابية والممارسات السياسية، فما رأيكم في سنّ قوانين تفصل بين الجانبين؟
إلياس مرابط: دعيني قبل كلّ شيء أن أؤكد على أمر مهم، وهو الإقرار بمشروعية الفصل بين النشاط السياسي والنشاط النقابي، وعلينا أيضا أن نضبط ونعرف المصطلحات التي تخص الحدود الفاصلة بين النشاطين، وذلك بالاستئناس بما ورد في قوانين الجمهورية لمواد دستور 2020 من جهة، وما أوردته أيضا بنود المعاهدات والاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف الجزائر، التي لا تمنع الجمع بين النشاطين. وهذا -حسب رأينا- تداخل في الشأن النقابي والأحزاب السياسية على حدّ سواء، والفضل بين النشاطين أمر متروك للبث فيه من قبل الهيئات التنظيمية والقواعد النقابية، دون توصيات أو ضغوطات من قبل السلطة.
والجدير بالذكر، ها هنا، ما قررته النقابات المستقلة المؤسسة لـ"كونفدرالية النقابات الجزائرية"، ونصه عدم المشاركة في مناقشة مشاريع القوانين وإثراءها، بمناسبة بعض ممثليها من قبل (اللجنة البرلمانية المختصة) ومراسلة رئيس الجمهورية للتنديد بتغييبها في مسار إعداد المشاريع ومطالبته بسحبها من أجل المراجعة.
6- ما تقويمكم للفعل النقابي خلال العشرية الأخيرة ودور النقابات في الاحتجاجات الاجتماعية قبل الحراك الشعبي 2019؟
إلياس مرابط: للإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من توطئة تتعلّق بالاحتجاجات التي عرفتها الجزائر قبل مسيرات حراك 2019، وهي احتجاجات مرتبطة أساسا بتدني مستوى المعيشة، وضعف القدرة الشرائية، فضلا عن التضييق على بعض المكاسب العمالية المادية والمعنوية، خاصة في الوظيف العمومي، يعززها إقصاء النقابات من قبل الحكومة من مسارات الاستشارة والحوار. وحتى لا يكون كلامنا مجانيا، لابدّ لنا من ذكر بعض الملفات التي غُيّبت فيها النقابات منها ملف التقاعد، وقرار الثلاثية (الحكومة- أرباب العمل- الاتحاد العام للعمال الجزائريين حزيران/ يونيو 2016)؛ الذي ينص على إلغاء الحقّ في التقاعد النسبي والتقاعد دون شرط السنّ، كحافز مباشر لجمع شمل عديد النقابات، من كل القطاعات.
وهذا الجمع قادر على النّضال المشترك مثل تقديم لائحة مطالب مشتركة تدعمها حركات اجتماعية محددة، لا سيما الإضرابات والتجمعات، وهذا ما حدث فعلا، وكان له صدى وطني بالرغم من التضييق والمنع وخنق صوت النقابات، هذا من جهة.
من جهة أخرى، لا يمكن الجمع بين مسببات الحراك النقابي والحراك الشعبي 22 فبراير 2019.، فالحراك النقابي قديم-حديث في آن واحد، والحراك الشعبي حديث لم نعهده بذلك الزخم في الشارع من قبل. فلقد بدأ الحراك النقابي منذ 2001-2002، منذ أن استتبّ الأمن والاستقرار وانتشال الجزائريين من نفق الإرهاب الذي ساد المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في تسعينيات القرن الماضي.
وقد رمى هذا الحراك إلى تحسين المستوى المعيشي للعائلات، وهذا جوهر دور النقابات المستقلة التي أدت دورا محوريا في إتمامه، على خلاف بعض النقابات الموالية للنظام، التي سلكت مسلكا ناعما وداعما لسياسات الحكومات المتعاقبة، ومباركة سياساتها وتبريرها. وهذا ما أدى إلى صدام بين النقابات المستقلة والحكومة وتحجيم دورها، بالرغم من قوة ممثليها وقوة هياكلها في مختلف القطاعات.
وما من تضييق على هذه النقابات إلا ووجه بمقاومة غير مسبوقة، أعد لها عدد غير قليل من النقابات المستقلة، الأمر الذي ضمن استمرارها على الصعيد الشعبي وعزز حضورها إعلاميا من خلال ظهورها في عدة وسائل إعلامية من أجل تغطية نشاطاتها، وهذا ما جعلها قوة ضغط على الحكومة، وقوة جمع بالنسبة للقاعدة الشعبية وللمواطنين، وخلق ميزان تعبئة عن طريق ضغط التنظيم.
7-أي دور للنقابات العمالية والمهنية في القضايا المرتبطة بالحريات والديمقراطية قبل 2019؟ وماهي أبعادها السياسية؟
إلياس مرابط: يمكن تلخيص أدوار النقابات المستقلة، فيما يلي:
- إرساء ممارسة نقابية تعددية مستقلة.
- تعديل القانون 90-14 وتأسيس فدراليات وكونفدراليات عمالية سنة 2022
- المساهمة في خلق وعي جماهيري بالحقوق والحريات داخل الأوساط العمالية والمهنية، وخارجهما، من أجل تكريس حرية التعبير وممارستها الفعلية.
- تغيير بعض الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية عبر أدوات الضغط الاحتجاجية.
المسألة المطلبية هي أساس العمل النقابي الفعلي، ولها سند قانوني، وهذا ما يميّزها عن المطالب الحزبية والسياسية، إضافة إلى استقلالية النقابات المستقلة عن الأحزاب السياسية. غير أنّ تركيبة النقابات المستقلة تألفها لوحة فسيفسائية من المنتمين لمشارب سياسية وإيديولوجية مختلفة، وهذا لا يمنع هؤلاء من احترام الخصوصية النّقابية، لتعزيز تماسك هياكلها ومطالب العمال.
8- ماذا قدّمت النّقابات العمالية خلال الحراك الشعبي ميدانيا؟
إلياس مرابط: دعمت النقابات المستقلة الحراك الشعبي منذ أولى مسيراته في الشوارع الجزائرية في 2019، ويظهر ذلك جليا في انخراطها رسميا من خلال اجتماع 28 فبراير 2019، الذي أسفر عن صدور بيان داعم لهذا الحراك عبر المسيرات، وفي المقابل أرجأت المطالب المهنية والاجتماعية، واضعة نصب أعينها الأولوية القصوى لمطلب الوطني الشعبي.
أما على الصعيد السياسي، أبدت النقابات المستقلة عدم اعترافها بشرعية رئيس الدولة والحكومة ودعت إلى مقاطعة كل النشاطات المرتبطة بممثليه في بعض القطاعات والوزارات، كما دعت عبر الكونفدرالية، إلى إضرابات في قطاعات واسعة كالتربية والصحة والتعليم العالي.، ولم تكتف بذلك، بل بادرت بحلّ للخروج من الأزمة عبر مسودة تمثل خارطة طريق قابلة للنقاش مع القوى السياسية الممثّلة للفاعلين في الحراك الشّعبي.، والدليل على ذلك، ما حدث في 15 حزيران/ يونيو 2019، في لقاء المجتمع المدني وفاعليته، إضافة إلى لقاء " عين البنيان" في 6 تموز/ يوليو 2019، واللقاءات المتكررة للمجتمع المدني ونقابات وأحزاب سياسية يوم 25 آب/ أغسطس 2019، بقصر المعارض "سافكس"، الذي كنت فيه رئيسا ومنسّقا باسم كونفدرالية النقابات المستقلة الجزائرية. وكان دور النقابات المستقلة مهمّا من حيث العمل الجيّد لتقريب وجهات النظر وكسر التناقضات بين الأحزاب " القطب الديمقراطي- قوى التّغيير وبعض الشخصيات" لإيجاد نقاط اتفاق لإنجاح الحراك الشّعبي.
وليس هذا فحسب، بل كان لنا الدور اللافت لانعقاد المنتدى الوطني للحوار، ومنه تشكلت لجنة حوار وطني من عدة أحزاب وشخصيات بعد لقاء "عين البنيان"، وهو اللقاء الذي استثنيت منه كونفدرالية النقابات الجزائرية بعد رفضها للمشاركة فيه، غير أن ذلك لا يمحو صفة النجاح الذي تميّز به هذا اللقاء، وهو لقاء نظمته النقابات المستقلة، جمعت فيه أهم الجمعيات الوطنية والأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية يوم 24 آب/ أغسطس 2019، وتوج بإعلان تاريخ الانتخابات الرئاسية.
9- في ظلّ الحراك النقابي السياسي قبل الحراك وبعده، نتساءل ما دور المرأة النقابية؟
إلياس مرابط: يظلّ دور المرأة في المجال النقابي وتحديدا على مستوى الهرم؛ أي فيما تعلق بتولي المناصب القيادية والمسؤوليات النقابية دون المطلوب، قياسا بحضورها كقاعدة عمالية كبرى ومهمة في عدة قطاعات. ورغم أن تفوق الحضور النسوي في السنوات الأخيرة في قطاعات الصحة والتربية، إلا أن ذلك لم ينعكس على الفعل النقابي وهذا ينسحب فعليا على تمثيلها في المجال السياسي. ومردّ هذا "الحضور الخافِت والباهِت" هو الواقع الاجتماعي الذكوري الذي يضع محدّدات لوجودها، إضافة إلى الصعوبات الكبيرة التي تتعرّض إليها بعض النساء اللائي يشغلن وظيفة المندوبات النقابيات في أداء مهامهن، كالتضييق الإداري والمتابعة القضائية، وهذا مدعاة لرفض الأسرة الجزائرية لتكبد مثل هذه المهام النقابية والصعوبات التي تحيط بها.
ويعزّز هذا الرّفض ما يشهده العمل النقابي والشخصيات النقابية من تشويهات، وهتك للسمعة، بيد أن ذلك لا يثنينا عن المطالبة بتمثيل المرأة سياسيا ونقابيا بشكل فعلي، لا سيما أننا لا نرى ضيرا في حضور المرأة في هرم كل القطاعات، إذ ترمي الفلسفة النقابية الحقيقية إلى الدفاع عن مختلف المكونات المهنية وفئاتها، وترفض رفضا قاطعا المعايير التّمييزية التي سادت العمل الحزبي والجمعياتي.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.