1. المقدمة
تبرز مُشكلة المناخ بشكلٍ متزايد في إنتاج المعرفة حول العراق. فالادّعاء بأن العراق هو خامس أكثر دول العالم تعرضاً للمُتغيرات المناخية، بات يتكرر في معظم منشورات مراكز الأبحاث والمنظمات الدولية، فيما المؤشرات العالمية التي تتنبأ بالاستجابة لتغير المناخ، صَنَّفت العراق عند درجةٍ منخفضةٍ من جهة الاستعداد لمواجهة تحديات الاضطرابات المناخية، المُتمثلة بارتفاع درجات الحرارة، وتراجع هطول الأمطار والملوحة، وارتفاع منسوب مياه البحر، فضلاً عن هبوب عواصف الغبار، على نحوٍ متصاعدٍ.
ومثل كثيرٍ من الأدبيات المناخية، تُركزُ معظم الدراسات على المستقبل، وترسمُ صورةً قاتمةً لما ينتظرنا. لكن في حاضر العراق، باتت آثار التغيّر المناخي محسوسةً، ويمكن استشعارها فعلياً، على نحو حادّ. وفي السنوات الأخيرة، عانى العراقيون من موجاتِ حَرٍ ّ شديدة، وموجات جفاف طويلة، وعواصف رملية أكثر تواتراً وشدة، ونقصٍ مستمرٍّ في المياه. في العام 2022، نُقل آلاف الأشخاص إلى المستشفيات لتلقي الاستشفاء العاجل من أمراض الجهاز التنفسي، عقب عواصف رملية اجتاحت مساحات شاسعة من مناطق البلاد الغربية والوسطى، تعطلت على إثرها الرحلات الجوية، فيما أغلقت المدارس والمكاتب العمومية. وكما تقول الباحثة في علم الاجتماع، زينب شكر، فإن تغيّر المناخ بالنسبة إلى العراق "ليس تهديداً مستقبلياً مجرداً، بل هو عملية قابلة للقياس، بدأت بالفعل في جرّ البلاد إلى الهاوية".
وعلى الرغم من تأثيره المباشر، إلا أن التغيّر المناخي لا يعدُّ المُسبب الرئيسي فقط للتدهور البيئي الذي يعاني منهُ العراقيون. إذ خلّفت عقودٌ من الحرب والعقوبات والاحتلال وراءها مشهداً سامّاً من الملوّثات المعدنية الثقيلة في التربة والمياه، تزامنت مع تدمير البنى التحتية المادية والبشرية التي كان يمكن أن يخفّف وجودها من شدة التدهور. هيمنة استخراج النفط على الاقتصاد السياسي تستنزف موارد المياه الحيوية للبلاد، إذ تُنتجُ العملية الاستخراجية مزيجاً من ملوثات البنزين وثاني أكسيد الكربون والميثان والسخام الأسود، ما يَعتبرهُ السكان والباحثون على حدٍّ سواء، مُسبّباً للأمراض المزمنة. فانهارت البنى التحتية الحيوية للكهرباء والمياه في أجزاءٍ كثيرةٍ من البلاد، خصوصاً في البصرة، إذ تَعَطلَ نظام الصرف الصحي، وتسبب في انتشار الأمراض المنقولة بالمياه. في المقابل، لم يبذل النظام السياسي ما بعد العام 2003 أي إصلاحات هيكلية لوقف انهيار البنى التحتية الذي يتحمل، من بين تأثيراتٍ أخرى، اللوم إلى حدٍّ كبير، عن التحدي الأكثر إلحاحاً: الوصول إلى المياه النظيفة. ففي غضون عقدين فقط، تَحوّل العراق من وِفرة المياه إلى الإجهاد المائي.
في ظل هذا التداعي، يُلفت الباحثون في شؤون العراق الانتباه، بشكلٍ متزايد، إلى كيفية تقاطع التدهور البيئي، مع تدهور البنى التحتية والسياسية والاجتماعية الذي بات يؤثر على أنشطة السُكان اليومية. إذ يُشير عمر الديوجي إلى "البقاء اليومي المسموم" عند فحصه كيفية تغلغل اليورانيوم المنضّب، الناجم عن الحروب الأميركية، في الواقع اليومي للحياة العراقية.
وتُجادل زهراء علي، بأنَّ تحليل "البنيوية المَسمومة" التي تُعرّفها على أنها الظروف الهيكلية للحياة اليومية، وسبل العيش، مثل البنى التحتية الصحية والظروف البيئية، أمر بالغ الأهمية لفهم "الاستقطاب بين النخبة [الطبقة الحاكمة] والشعب". وتلاحظ جولييت دوكلوس-فالوا أنَ الصيف الذي يمتد لسبعة أشهر في أنحاءٍ عديدة من البلاد، مع درجات حرارة تتجاوز الـ50 درجة مئوية، ليس مجرد حدثٍ يومي في الخلفية، بل يتعداه ليكون جانباً أساسياً من وجود السكان. إذ يُعيد تنظيم حياتهم الاجتماعية، ويُسيّس أوضاعهم اليومية.
وانطلاقاً من روح هذه الرؤى، تنتقل هذه الورقة البحثية إلى الكيفية التي يُحرك بها الضرر المناخي والتدهور البيئي التعبئة السياسية والتنازع في العراق. فمن ناحية، نرى أن القضايا البيئية باتت تشكل على نحوٍ متزايدٍ المطالب الشعبية. وفي بعض الحالات، تقود المطالب الوطنية بالتغيير، وتؤشر إلى أنماط المواجهة والمشاركة مع صانعي القرار في العراق؛ إذ أثارت المطالبات بالمياه النظيفة والكهرباء، موجات متعددة من الاحتجاجات العمومية على المستوى الوطني في العقد الماضي (2014 - 2024). حراكٌ تجدر مراقبته على نحوٍ مُعمق، بما أن مئات الآلاف من العراقيين يربطون صراحةً بين المطالبة بالمياه النظيفة، والمطالبة بالتغيير السياسي والاقتصادي. وبالتالي، أصبح التدهور البيئي رمزاً غرائزياً للعقد الاجتماعي الفاشل في العراق.
كما أن الورقة البحثية تُقيّم حركات التعبئة المحلية الأصغر حجماً التي عبّرت عن المظالم البيئية لفئاتٍ سكانيةٍ محددة، مثل عمال الفلاحة والمزارعين، والمجتمعات الريفية والسكان الأصليين في الأهوار، أو العاطلين عن العمل في المناطق المجاورة لحقول النفط. نجد أن التدهور البيئي له تداعيات خطيرة على سبل عيش وصحة المجتمعات الضعيفة والمهمّشة. لكن، في ظل المناخ القمعي الحالي، لم تُوجّه المظالم البيئية إلى التشكُّل كحركاتٍ سياسية واجتماعية. وبالمثل، على الرغم من أن القضايا البيئية كانت محورية في الحركات الاحتجاجية في العراق، إلا أن الأحزاب السياسية الجديدة التي انبثقت عنها، لم تعطِ الأولوية للقضايا البيئية.
وتنتقل الورقةُ البحثية أيضاً إلى جهود الجهات الفاعلة في المجتمع المدني التي تُعرّف نفسها على أنها فاعليات ناشطة بيئية ومناخية، مسلطةً الضوء على بعض الفجوات الخطابية والتنظيمية بين المساحات الشعبية التي عبّرت عن المظالم البيئية، والفضاء المهني للنشاط البيئي الذي تحفزّهُ شبكات من الناشطين الأفراد والمنظمات غير الحكومية.
تُؤشر الورقةُ البحثية أيضاً إلى استجابات صانعي القرار في العراق، وتضع المشهد البيئي المعاصر كنتيجة للاقتصاد السياسي للحرب وإنتاج النفط والمحسوبية. ونُجادل بأن النظام السياسي في العراق ما بعد العام 2003، لا يثبّط من قدرة صنّاع القرار على وقف التدهور البيئي فحسب، بل يُحفّزهم أيضاً على قمع التعبئة البيئية بعنف، كما نرى من أمثلة في قطاعات النفط والمياه وإنتاج المعرفة. وأخيراً، تُختم الورقة ببعض التأملات التي تضع التعبئة البيئية في العراق في سياقية النضال البيئي العالمي.
منهجية البحث المعتمدة في إنتاج هذه الورقة البحثية، تضمنت مراجعة مكتبية شاملة للأدبيات الأولية والثانوية المتمحورة حول التدهور البيئي في العراق، بالإضافة إلى تقارير وسائل الإعلام المحلية حول مواقع أضرار بيئية مُحددة. كما تستعرض النقاشات الحيوية على وسائل التواصل الاجتماعي للمجموعات المشاركة في ثلاث موجات احتجاجية مختلفة في العراق بين عامي 2015 و2020، بالإضافة إلى البرامج الانتخابية وسرديات الأحزاب السياسية الجديدة التي انبثقت عن الاحتجاجات العامة المعروفة بانتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 2019. كما أجرينا ثلاثين مقابلة مع باحثين يعملون في القضايا البيئية وفاعلين يعرّفون عن أنفسهم كناشطين بيئيين. وأخيراً، يتضمن العمل ملاحظاتنا على الاجتماعات والمناقشات غير الرسمية مع الباحثين والناشطين، ومشاركتنا في الاجتماعات الإقليمية للعدالة المناخية، مع نشطاء بيئيين عراقيين، وناشطين شباب.
2. من هو الناشط البيئي في العراق؟
عندما نفكر في البيئة والتعبئة البيئية، فإن الأفعال والهويات التي تتبادر إلى أذهاننا على نحوٍ طبيعي هي جهود النشاط والمناصرة التي يبذلها الفاعلون المدنيون الذين يعرّفون عن أنفسهم كنشطاء بيئيين، أو في مجال المناخ، أو نشطاء حقوق إنسان معنيين بالبيئة. في دراسةٍ سابقةٍ نشرتها مبادرة الإصلاح العربي، يتعمق صفاء خلف في تاريخ ومشهد هذا النوع من التعبئة البيئية، ويرسم خريطة لعمل الفاعلين المدنيين العراقيين الذين ينتظمون في شبكاتٍ مهنية ومنظماتٍ غير حكومية.
نطرح عبر هذه الدراسة فهماً أوسعَ للتعبئة البيئية.
أولاً: نُدرج أفعال ومخاوف الأفراد والجماعات الذين لا يحددون هويتهم على أنهم "دعاة حماية بيئة"، بينما عبروا عن مظالمهم بشأن السياسات التي تؤثر على البيئة كمصدرٍ لرزقهم. ويُجادل علماء البيئة السياسية والجغرافيون، بأن تضمين هذا النوع من التعبئة البيئية الذي يُشار إليه أحياناً بــــــ"العدالة البيئية للفقراء"، أمر بالغ الأهمية، للاعتراف بالأبعاد البيئية للنزاعات الاجتماعية والتوزيعية الحرجة، والسياق المادي للتعبئة البيئية.
ثانياً، نُدرج أفعال ومخاوف المجتمعات المحلية التي قد لا تُعرَّف أيضاً، على أنها مناصرة للبيئة، لكنها تعبّر عن مظالمها ومطالبها بشأن عواقب التدهور البيئي على الصحة العامة. تسمح لنا هذه المقاربة بدمج الحقائق التي نلاحظها على مجتمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فيركز النموذج السائد للحماية البيئية في الغالب على معالجة القضايا المتعلقة بالصحة، إذ يَحشدُ الناس جهودهم حول المشكلات البيئية التي لها تأثير مباشر على رفاهيتهم. علاوة على ذلك، على الرغم من أن البيئة لم تكن أولوية بالنسبة إلى حكومات المنطقة، إلا أنها عندما تَنَبّهت إليها، أدرجتها غالباً تحت عنوان "الصحة العامة". ففي العراق، يُعَدُّ وجود وزارة الصحة والبيئة حتى العام 2023، دليلاً على أن الساسة لم يعتبروا البيئة أولويةً تستحق وزارةً خاصةً بها، وعلى ربطهم الدائم ما بين البيئة والصحة. وحتى بعد تقسيم الحقيبتين وزارياً في العام 2023، لا تزال اللجنة البرلمانية ذات الصلة تُسمى بــــ"لجنة الصحة والبيئة".
إن الفهم الأوسع لما يشكل التعبئة البيئية، يوسّع نظرتنا إلى الكيفية التي كانت عليها المظالم البيئية في قلب العديد من الاحتجاجات الجماهيرية في العراق على مدى العقد الماضي، فضلاً عن كيفية تحريكها المجتمعات المهمشة في المناطق الحضرية والريفية على حد سواء، بالإضافة إلى ما كان يفعله دعاة حماية البيئة في الفهم الأكثر تقليدية للمصطلح. يقدم الجدول 1 ملخصاً للهويات والقضايا والأنشطة المختلفة المرتبطة بالتعبئة البيئية في العراق في العقد الماضي، وستُناقش بمزيدٍ من التفصيل في الأقسام اللاحقة.
الجدول 1. أصناف النزعة البيئية في العراق
المظالم والإجراءات الرئيسية |
هويات الجهات الفاعلة |
● المطالبة بالحصول على مياه نظيفة.
● المطالبة بالمساءلة عن أضرار الصحة العامة. |
المشاركون في الاحتجاج الجماهيري |
● المطالبة بالحصول على مياه نظيفة.
● الوصول إلى الأراضي وسبل العيش والحفاظ عليها.
● حماية الأراضي الصالحة للزراعة. |
سكان الريف
المزارعون
الرعاة |
● الحصول على المياه والكهرباء.
● تجنب الأضرار الناجمة عن صناعة النفط والغاز. |
الفئات المهمشة في المناطق الحضرية |
● حماية الأرض والثقافة والبيئة في المنطقة.
● تقييد التنقيب عن النفط واستخراجه في المنطقة.
● تجنب الأضرار الناجمة عن إنتاج النفط. |
السكان الأصليون في الأهوار |
● تسهيل الوصول إلى عمليات التفتيش عن التلوث.
● الإبلاغ عن الأضرار البيئية. |
العمال في حقول النفط
|
● إطلاق حملات مناصرة دولية لإنقاذ المواقع المعرضة للخطر البيئي (مثل الأهوار).
● رفع مستوى الوعي بين الجمهور وصناع السياسات وأصحاب المصلحة المحليين حول تغير المناخ من خلال الأدوات التعليمية والأدائية.
● خلق فرص التعليم البيئي للجمهور (على سبيل المثال، ورش عمل للأطفال حول التلوث البلاستيكي أو فقدان التنوع البيولوجي).
● العمل كجسر بين البرامج البيئية الدولية وصانعي السياسات في العراق.
● اقتراح حلول لصانعي السياسات، ويتعلق الأمر غالباً بقضايا المياه (على سبيل المثال، إعادة تأهيل الأنهار وبناء أحواض صغيرة شبه طبيعية بدلاً من بناء السدود والخزانات الجديدة).
● رصد وجمع البيانات حول التلوث (الهواء والماء والتربة) والنفايات وصحة الحيوان.
● تعزيز السياحة البيئية لتغيير المواقف عبر إعادة ربط الناس بالطبيعة.
● تنظيم حملات إعادة التشجير وزراعة الأشجار.
● إطلاق مبادرات ومرافق لإعادة التدوير على نطاقٍ صغير.
● تعزيز ثقافة ركوب الدراجات الهوائية. |
الناشطون المحترفون في مجال البيئة أو المناخ
المثقفون العامون والعلماء والمهندسون
الفنانون |
● نشر النتائج البيئية.
● التحقيق في الصناعات الملوثة مثل النفط.
● نشر تقارير عن القمع، وانتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض لها أنصار البيئة والحركات الاجتماعية. |
الصحافيون البيئيون والصحافيون المستقلون والمنظمات الإعلامية غير الحزبية |
3. الاحتجاج البيئي
3.1. البيئة في الاحتجاجات على المستوى الوطني
في تشرين الأول/أكتوبر 2019، اندلعت أكبر احتجاجات في تاريخ العراق. نزل مئات الآلاف إلى الشوارع والساحات في جميع أنحاء البلاد، استمروا لشهور في مواجهة العنف الشرس من جانب النظام الذي خلّف نحو 500 قتيل وأكثر من 20 ألف جريح في الأشهر الستة الأولى. وفي نهاية المطاف، تفرق المتظاهرون بسبب تكثيف القمع العنيف، والتنازلات الحكومية الجزئية التي أدت إلى إرضاء بعض المشاركين. بينما جاءت جائحة كوفيد-19، "ليس فقط كتهديد للصحة العامة، بل أيضاً كتحول مضاد للثورة". غالبية التحليلات التي تناولت "ثورة تشرين"، تضعها ضمن الإطار السياسي والاجتماعي والاقتصادي للانتفاضات العربية في العام 2011. وفقاً لهذا المنظور، فإن المحتجين رددوا المطلب المألوف للانتفاضات الإقليمية "الشعب يريد إسقاط النظام"، وطالبوا بإصلاحٍ شاملٍ لنظام التسوية العرقية الطائفية، المعروف بــــــ"المحاصصة"، المعمول به منذ غزو الولايات المتحدة في العام 2003. مع ذلك، يمكن رؤية "ثورة تشرين" من منظورٍ آخر. فبالإضافة إلى أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأكثر شيوعاً، يمكن أيضاً اعتبارها "تمرداً بيئياً"، وفقاً لريجين ساهاكيان. طالب الشبان المحتجون من مختلف المناطق والطوائف والأعراق بــ"مياه نظيفة"، ونظموا أنفسهم لتنظيف الشوارع، وأكدوا أنهم ينشئون "منطقةً خضراء" بديلةً في بغداد. في ساحة التحرير، أنشأ المتظاهرون "فضاءً مادياً وخطابياً وعاطفياً، يمكنهم من خلاله الالتقاء، والتعايش والتفاوض على عقدٍ اجتماعيٍ بديل، وقواعد سلوك جديدة، والتشارك في الموارد العامة، واختبروا نظاماً اجتماعياً مختلفاً". في البصرة، هددت الاحتجاجات بوقف إنتاج النفط، وتعطيل الموانئ، حتى إن مسؤولةً أمميةً أعربت عن "قلقها البالغ"، إزاء "التهديدات بإغلاق الطرق المؤدية إلى المنشآت النفطية والموانئ، ما يمكن أن يتسبب في خسائر بالمليارات". رَدَّ المحتجون برسمةٍ لمنصةٍ نفطيةٍ على الإصبع الأوسط المرفوع، مع عبارة "هنا نفطك يا عالم". وكما تقول ساهاكيان، "إن شعار الاحتجاجات "نريد وطناً"، يُعدُّ في المقام الأول مطلباً من شباب العراق، من أجل مستقبلٍ مستدام".
لم تكن احتجاجات العام 2019، المرة الأولى التي عبرت فيها الاحتجاجات العمومية على المستوى الوطني عن مظالم تتعلق جزئياً بالأوضاع البيئية. فبرز شعار انتفاضة 2019 "نريد وطناً" الشهير والمميز، للمرة الأولى في صيف العام 2018 في مدينة البصرة أثناء ما يُمكن اعتباره حتى اللحظة، أكبر احتجاج في تاريخ العراق، يركز صراحةً على القضايا البيئية. اندلعت احتجاجات البصرة حين قُتل اثنان من المحتجين السلميين، في تموز/يوليو 2018 أمام بوابة حقلٍ نفطي، بالقرب من قضاء القرنة، على بعد 75 كيلومتراً شمال غرب مدينة البصرة، مطالبين الحكومة، من بين أمورٍ أخرى، بأن تعالج معدل البطالة المرتفع في البصرة في قطاع النفط والصناعات الأخرى، وتحسين الوصول إلى المياه المُحلاّة (فمياه البصرة تتسم بالملوحة الشديدة)، فضلاً عن زيادة ساعات التغذية الكهربائية، خصوصاً خلال أشهر الصيف الحارة. وتصاعدت احتجاجات البصرة، مع وقوع أزمةٍ صحيةٍ عامة، بعد شهرٍ واحدٍ فقط، نُقل على إثرها 118,000 مصاب بالتسمم إلى المستشفيات نتيجةً لتلوث المياه. ربط المحتجون مطالبهم بالمياه النظيفة بمظالم أوسع نطاقاً تتعلق بانقطاع الكهرباء والبطالة والفساد. وجَّه المحتجون غضبهم وإحباطهم، ليس فقط تجاه مكاتب الحكومة المحلية والاتحادية، لكن أيضاً تجاه القنصلية الإيرانية، رداً على سياسات طهران المائية، وتأثيراتها على نُدْرَة المياه، وتلوث مجرى شط العرب المائي الحيوي الذي يُعدُّ مصدراً رئيساً لمياه شرب سكان البصرة. فَضَّت قوات الأمن والميليشيات المسلحة الاحتجاجات، عبر حملةٍ واسعة النطاق من المراقبة والاعتقالات والعنف، أدت إلى إصابة 190 متظاهراً، وقتل ما لا يقل عن 15 مُحتجاً، أطلق عليهم "شهداء المياه".
يُعرَف الصيف في البصرة بـ"موسم الاحتجاجات"، بعد موجات الاحتجاج المتكررة التي يطالب عبرها السكان بالمياه النظيفة والكهرباء والوظائف وإنهاء الفساد. عبّر المثقفون والنشطاء المهنيون المشاركون في الاحتجاجات، عن مطالب تتعلق بأزمة التلوث البيئي، وملوحة المياه، وانتشار أنواع مختلفة من السرطان.
في صيف العام 2015، ربط المتظاهرون في البصرة، للمرة الأولى، بين مطالبهم بالموارد والخدمات الأساسية، ورفضهم لتسييس الهوية الوطنية والطائفية، في ظل التسوية التي أعقبت العام 2003، فضلاً عن رفضهم التدخل الأجنبي في السياسة الداخلية والفساد والعنف. حينئذ، اندلعت الاحتجاجات حول قضايا توفير الكهرباء، لكن وتيرتها تصاعدت حين أطلقت الشرطة النار على منتظر علي غني الحلفي (18 عاماً) فقتلته.
احتجاجات العراق في العامين 2010 و2011، بدأت أيضاً من البصرة، قبل أن تنتشر إلى مناطق أخرى. مرة أخرى، شكّل توفير المياه والكهرباء، قضايا الاحتجاج الرئيسة، إلى جانب محاسبة السياسيين الفاسدين، وتوفير فرص العمل، وإعادة توزيع عائدات النفط بين المواطنين العراقيين، على نحوٍ متساوٍ.
3.2. الاحتجاج البيئي المحلي
الوصول إلى المياه من بين أبرز قضايا الاحتجاجات المحلية، والتظاهرات الشعبية التي نظمتها المجتمعات الريفية، وغالباً من طرف المزارعين الذين يعتمدون على الري السيحي الكثيف. في الفترة ما بين العامين 2021 و2023، شهدت محافظات عراقية جنوبية عدة تظاهراتٍ واسعة النطاق للمزارعين، استهدفت مكاتب محلية تابعة لوزارة الموارد المائية لفرضها حصصاً مائية. وفي محافظة ذي قار، في آذار/ مارس 2023، احتشد سكان قضاء الإصلاح ضد السلطات المحلية، احتجاجاً على ندرة مياه الشرب والري. وحين قوبل السُكان بالقوة، سيطروا على المؤسسات المدنية والأمنية، واحتجزوا ضباط الشرطة، وأغلقوا مبنى الإدارة المحلية، وأقاموا نقاط تفتيش. في شباط/ فبراير 2022، وفي ذي قار أيضاً، أغلق أهالي قريتي الأزريج وخفاجة المدخل الشمالي العام لمدينة الناصرية [مركز محافظة ذي قار]، مطالبين بإيجاد حلول لمشكلة شحّ المياه التي تهدد الموسم الزراعي. في تموز/يوليو 2021، اقتحم مزارعون في كربلاء دائرة الموارد المائية احتجاجاً على انقطاع المياه الذي يؤثر على محاصيلهم. كما تكررت احتجاجات المزارعين على نقص المياه في ميسان.
احتجاجات المزارعين تأتي رَدّاً على سياسات وزارتي الموارد المائية والزراعة التي تُلقي بعبء الحفاظ على المياه على عاتق المزارعين. وهي سياسات تهدف إلى فرض حصصٍ مائيةٍ صارمة، والتحول إلى تقنيات ري أكثر كفاءة، تحت التهديد بأنها "لن تدعم أي مزارع لا يستخدم تقنيات الري والزراعة الحديثة".
مثل هذه السياسات تُشكلُ عبئاً اقتصادياً ثقيلاً على المزارعين الغارقين فعلياً في الديون، ويحتاجون إلى استكمال دخلهم من أنشطةٍ أخرى خارج الزراعة. وفقاً لدراسة استقصائية أجريت العام 2021، من بين 22 في المئة من الأسر العاملة في الفلاحة حالياً، في محافظات البصرة وذي قار وميسان، فإن 8 في المئة فقط من الأسر، تحقق إيرادات من العمل الزراعي. وعزا المزارعون المتضررون، انخفاض الإنتاج إلى عدم كفاية إمدادات المياه ومشكلات التملّح.
ثَمةَ شعورٌ سائدٌ في المجتمع الزراعي العراقي ــ المزارعين ومربي الماشية ومزارعي الأسماك وسكان الريف ــ بأنهم "يتحملون اللوم، بشكلٍ غير عادل، على خسائر المياه التي تحدث عبر شبكة الري، قبل وصول المياه إلى مستوى المزرعة"، وأن "الوكالات الحكومية المعنية بحوكمة المياه غارقةٌ في الفساد، وتفشل في الحد من خسائر المياه، عبر نظام الري/الصرف الأوسع نطاقاً ــ سواء قبل أو بعد وصول المياه إلى المزرعة". ولإرضاء المحتجين على المياه في منطقةٍ ما، تحوِّل وزارة الموارد المائية أحياناً، مخصصات المياه من مناطق أخرى، وهو إجراء قصير الأجل، لا يُشكّل مساهمةً فعليةً لمعالجة المشكلة.
الأهواريون، أو عرب الأهوار، وهم السكان الأصليون للأهوار، الواقعة ضمن السهول الفيضية لنهري دجلة والفرات، يمثّلون جماعةً أخرى متأثرة على نحوٍ غير متناسبٍ بالتدهور البيئي. فالنظام البيئي للأهوار التي كانت تُعدّ يوماً ما واحدةً من أكبر الأراضي الرطبة في الشرق الأوسط وغرب أوراسيا، تعرّض مع السُكان إلى تدميرٍ واسع النطاق، خلال الحرب العراقية – الإيرانية، صُنّف كــــ"واحدة من أسوأ الكوارث البيئية في العالم"، حين جففت الحكومة العراقية بشكلٍ منهجي أكثر من 90 في المئة من الأهوار، في حملةٍ وحشيةٍ لمكافحة التمرد، تضمنت القتل الجماعي والتهجير القسري في أعقاب انتفاضة آذار/مارس 1991. وخلال الحرب والاحتلال الإنجلو-أميركي، أضحت إعادة إنعاش الأهوار، إحدى مبررات تلك الحرب، وكارثة تدميرها كانت واحدةً من الجرائم المنسوبة إلى صدام حسين.
في السنوات القليلة الماضية، وبسبب مزيجٍ من تغير المناخ، وبناء السدود على الروافد النهرية من قبل دول المنبع، وسياسات إدارة المياه الخاطئة، وعمليات إنتاج النفط، فقدت الأهوار نحو نصف مياهها السطحية. وبجفاف الأهوار، تتصاعد معاناة المجتمعات المحلية المُعتمدة على الثروة الحيوانية ومنتجات الألبان، خصوصاً جاموس الماء والماعز. فلم يعد النظام البيئي المائي المحلي يوفر لحيواناتهم الغذاء والماء اللذين يحتاجونهما، فيما يشكك النشطاء المحليون في قرارات تخصيص المياه، ويشجبون غياب التواصل من قبل السلطات.
من جانبٍ آخر، باتت عمليات التنقيب عن النفط، تُحفز معارضةً شعبيةً محليةً، ضد حقول النفط المُستحدثة في المناطق الجافة أو المستنزفة من الأهوار. وما زاد الوضع تفاقماً، أن السلطات العراقية بدعمٍ من الجماعات شبه العسكرية، تدفع إدارات المياه في المنطقة نحو هدف تجنّب غمر الأراضي المقترحة لتطوير النفط، خلال مواسم الفيضان. أي أن أجزاءً من الأهوار تُجفف، بينما تحصل أجزاءٌ أخرى على حصص مياهٍ أقل، وكل ذلك مدفوع باعتبارات إنتاج النفط.
واجه نشطاء الأهوار اعتقالات وتعذيباً عنيفاً. في شباط/ فبراير 2023، اختطفت جماعة مسلحة على صلةٍ وثيقة بالحكومة، جاسم الأسدي، وهو ناشط بيئي بارز، ومؤسس منظمة "طبيعة العراق" غير الحكومية التي تُركز على رفع مستوى الوعي بالتهديدات التي تواجه الأراضي الرطبة الجنوبية، في أثناء سفره على طريقٍ سريعٍ بالقرب من بغداد، واحتجزته قسراً في أماكن مختلفة لمدة 15 يوماً، تعرّض خلالها للتعذيب الجسدي العنيف.
أصبحت قضية الأهوار، جزءاً من طقوس العزاء العاشورائية السنوية، حين يتجمع ملايين الشيعة في مدينة كربلاء الجنوبية لإحياء ذكرى استشهاد الحسين، للإشارة إلى موضوعات الظلم السياسي والقمع والمقاومة والتضامن. في صيف العام 2023، حمل نشطاء بيئيون هياكل جواميس ميتة، احتجاجاً على الخسارة الناجمة عن الجفاف، وبسبب موت الحيوانات التي لا غنى عنها للاقتصاد، والنظام البيئي لعرب الأهوار، فضلاً عن الاحتجاج على انتهاكات حقوق الإنسان في هذه المناطق.
4. التنظيم من أجل البيئة
يتبيّن من مناقشة الاحتجاجات على مدى العقد الماضي، أن القضايا البيئية باتت تشكّل جوهر أشكال المطالبات التي عبّرت عنها التعبئة الشعبية في العراق. وإذا تحولنا إلى مسألة الأطر التنظيمية وبناء الحركات التي انبثقت عن حركات الاحتجاج المختلفة، فإن القضايا البيئية لم تحتل المكانة البارزة أو تحظى بالقدر الكافي من الأهمية.
شارك النشطاء البيئيون أفراداً في الحركات الاحتجاجية في الأعوام 2015 و2016 و2018 و2019. ومع ذلك، لا يمكننا الحديث عن مجموعة بيئية حين نصف تركيبة الحركات الاحتجاجية، بالطريقة نفسها التي يمكننا بها الحديث عن الأحزاب اليسارية والشيوعية، أو المنظمات النسائية والنسوية، أو النقابات العمالية، أو المجموعات الطلابية والشبابية، أو الصدريين.
كما لم تكن القضايا البيئية من السمات المركزية للتشكيلات السياسية الجديدة التي انبثقت عن احتجاجات 2019. فأفرزت حركة تشرين، كما باتت تُعرف، أحزاباً سياسية جديدة عدة قبل انتخابات العام 2021، وانتهى الأمر بأربعة منها إلى مقاطعة هذه الانتخابات وهي : البيت الوطني، البيت العراقي، تجمع قوى المعارضة، وحركة 25 أكتوبر. قدمت خمسة أحزاب مرشحين لها في محافظاتٍ عدة: هي حزب الامتداد، وحركة نازل آخذ حقي، وحركة الوعي الوطني، وتجمع الفاو زاخو، وتجمع أكتوبر الوطني. وجد حزبان فقط منها طريقهما إلى البرلمان: امتداد بـ16 مقعداً، وتجمع فاو زاخو بمقعدٍ واحد.
ولم تُعرّف أي من أحزاب تشرين الجديدة نفسها على أنها من "دعاة حماية البيئة"، ولم تبرُز لها أهدافٌ واضحة بشأن تغيّر المناخ. لكن، اتخذ انخراطها في مجال البيئة ثلاثة أشكال:
- أولاً، تضمن البرنامج الانتخابي لحركة امتداد الذي نُشر في آذار/مارس 2021، نقاطاً عمومية من ميثاق العمل، مثل البند 18 بشأن "الزراعة والري" الذي ركز على الإصلاح في هذا المجال بشكلٍ كبير، وعلى تحديث تقنيات الري لتحسين المحاصيل الزراعية، والحد من هدر المياه، والتعاقد مع شركات دولية للمساعدة في تحديث الزراعة، والاستثمار في مشاريع زراعية عملاقة، ورفع الرسوم الجمركية على الواردات الزراعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الأساسية، وتقييد صيد أنواع معينة، و"تحسين بيئة الأهوار".
- ثانياً، انضمام حزبي - امتداد وحركة نازل آخذ حقي - إلى حملة "الماي حقّنا" التي أطلقها نشطاء البصرة في آب/أغسطس 2021، لحث الحكومة الفيدرالية على إيجاد حلول نهائية لتدهور جودة المياه، وارتفاع الملوحة.
- ثالثاً: أعربت حركة امتداد أيضاً عن معارضتها للسياسة المائية التركية وتأثيراتها على العراق، مستخدمةً لغةً وإطاراً متّسقين مع تلك التي تتبناها الحكومة.
ألهم خطاب انتفاضة تشرين وتأثيرها وسلوكها، أحد المراقبين لاعتبارها "طليعة النشاط العالمي في مجال تغيّر المناخ". لكن لم يُترجم بَعد إلى حركة سياسية مُنظمة. وثمة عوامل عديدة لتفسير الضعف في بناء حركات تشرين في اللحظة الراهنة، من بينها أن هذه الحركات شهدت انقسامات وأزمات داخلية. فعجزت حركة امتداد عن تشكيل تحالفات معارضة ذات مغزى، فيما استُنزف أعضاؤها نتيجة النزاعات القيادية الداخلية، والجدل حول مبادئ الحزب، والاستقالات بسبب الاتهامات بالفساد.
الأهم من ذلك، هو السياق السياسي الأوسع منذ العام 2021 الذي شهد حملة قمعٍ واسعة النطاق، طالت الأصوات المعارضة والفضاء المدني، ما شكل خطورةً على نشطاء الأحزاب وتجمعات المعارضة. إذ ساعدت المخاطر والتهديدات من طرف الميليشيات التابعة للدولة والجماعات شبه العسكرية، في تفسير نأي النشطاء بأنفسهم عن السياسة الحزبية في العراق، فهم لا يرون في السياسة الحزبية مجرد أداةٍ فاسدة، وغير جذابة فحسبْ، بل خطرة أيضاً.
لم يُوجَّه السخط بين المجتمعات الريفية الذي أدى إلى اندلاع احتجاجات شعبية ضد سياسة الحكومة في توزيع المياه، إلى حركات أو نقابات قوية، تعبّر عن مطالب الفلاحين. ولم تنشأ أي حركة للتعبير عن وجهات النظر المشتركة للمزارعين، بأن "الحكومة العراقية مخطئة في التأكيد باستمرار على فقدان المياه بسبب ممارسات الري، بينما تفشل في الحفاظ على شبكة الري/الصرف الأوسع نطاقاً التي تتحمل الدولة مسؤوليتها". ومن المثير للاهتمام في هذا السياق، العودة إلى رؤية "امتداد" للإصلاح الزراعي والري في العراق، وملاحظة أنها أيضاً تضع العبء على المزارعين الذين يحتاجون إلى تحديث تقنياتهم، وتستبعد تحميل الدولة مسؤولية صيانة وتحسين البنية التحتية.
إضافة إلى الأحداث الاحتجاجية المحلية المنفصلة والموجهة إلى الوزارات التي ناقشناها أعلاه، فإن النمط السائد هو التنافس على الموارد بين المزارعين، والصراع المسلح بين المجتمعات الريفية على حصص المياه، والتخلي عن الأنشطة الزراعية، والنزوح إلى مناطق أخرى. ومن خلال وضع عبء سياسة المياه على المجتمعات الريفية - وإلزام المزارعين ومربي الماشية والصيادين وسكان الريف بتطبيق التقنيات الزراعية الفعّالة لتعزيز الإنتاج المقاوم للمناخ - والتهديد بحجب الدعم إذا لم يمتثلوا، تؤدي سياسات الحكومة إلى المنافسة والتوترات داخل الريف. إذ يعتقد المزارعون الذين يملكون قطعاً صغيرة من الأراضي، أن التكتلات الزراعية المرتبطة سياسياً، تحتكر المعدات الزراعية المدعومة، والاستثمارات الحكومية في البنية الأساسية للمياه. لذا تخلى الكثيرون عن الزراعة. وفي المقاطعات الجنوبية، تخلى عن الفلاحة ما يقرب من واحد من كل مزارعَين اثنين يبلّغان عن تعرضهما لتأثير يتعلق بالبيئة، خلال السنوات الخمس إلى الثماني الماضية، فيما تشهد مناطق الفرات الأوسط والجنوب صراعات مسلحة بين الحكومات المحلية والعشائر، على حصص المياه، فتُسجّل العشرات من الحوادث يومياً.
5. إضفاء الطابع المهني على البيئة
منذ العام 2004، شَهِدَ العراق أيضاً جهوداً مُناصرة لشبكةٍ صغيرةٍ من الجهات الفاعلة المدنية التي تُعرِّف عن نفسها بأنها "ناشطة بيئية" أو "ناشطة مناخية" أو "ناشطة حقوق إنسان معنية بالبيئة"، وتعمل في الغالب ضمن هيكل المنظمات غير الحكومية. في ورقةٍ سابقة، يُفصّل صفاء خلف معالم وتحديات هذا النوع المهني من النشاط في العراق. وهنا، نقتصر على استخلاص أربعة اتجاهاتٍ رئيسيةٍ نلاحظها في مسار العمل البيئي المهني في العراق:
- أولاً، بالمقارنة مع القضايا الأخرى التي تنشط بشأنها الجهات الفاعلة المدنية رسمياً، لا يزال النشاط البيئي يمثّل أقلية. فالمنظمات غير الحكومية المسجلة، وغيرها من المنظمات العاملة في مجال البيئة، لا تشكّل سوى 2 في المئة من إجمالي المنظمات المسجلة.
- ثانياً، تعتمد المنظمات غير الحكومية بشكلٍ كبير على التمويل الدولي، ما يخلق ديناميكيات تعيق العمل البيئي الفعّال. ومن بين العواقب الإشكالية لهذا الاتجاه، أن البرامج والأولويات تخضع للمساءلة أمام الجهات المانحة، وليس الجهات المحلية. وبالتالي، يمكن أن تركز البرامج على قضايا ليست بالضرورة الأكثر استجابةً للاحتياجات المحلية، لكن بإمكانها تحقيق نتائج قابلة للقياس الكمي على المدى القريب. وفي ديناميكية أكثر ضرراً، كان أحد التدخلات البيئية التي قادتها وكالات التنمية الدولية - إعادة إغراق الأهوار الجنوبية في العراق والحفاظ عليها - بمثابة فرصة لشركات النفط التي تسعى إلى التنقيب. ربط الأجندات البيئية في الأهوار بالتنقيب عن النفط، أمر ضار بشكلٍ خاص، بالنظر إلى الأضرار المباشرة لإنتاج النفط وتكريره على المنطقة. فتسبب حقل الرميلة النفطي في شمال الرميلة وحده، منذ خمسينيات القرن الماضي، في خسارة 800 كيلومتر مربع من أراضي الأهوار. علاوةً على ذلك، ووفقاً للنشطاء العاملين في منظمات غير حكومية مختلفة، فإن المنافسة على التمويل الأجنبي، تخلق حوافز للعمل الفردي والظهور الفردي، بدلاً من التعاون بين المنظمات. إذ لم تنجح المبادرات الرامية إلى إنشاء اتحادات للمنظمات غير الحكومية البيئية، أو شبكات شاملة يعمل أعضاؤها تحت أطر مؤسسية مشتركة، في تحقيق خطط عملٍ محددة. ومع ذلك، ظهرت شبكات لتبادل المعرفة، مثل منتدى البصرة للمناخ والبيئة والأمن، فتَشاركت سبعُ منظمات في مناقشات وورش العمل المفتوحة والمغلقة، والمنشورات حول موضوع أمن المناخ. مثالٌ آخر على التعاون المعرفي بين المؤسسات المتعددة، هو تقرير تقصّي الحقائق حول تلوّث المياه وتسمّمها في البصرة عام 2018.
- ثالثاً، نادراً ما يستخدم النشاط البيئي المهني في العراق الاحتجاجات أو الإضرابات أو غير ذلك من أشكال العمل التنازعي، لإثارة المخاوف البيئية أو للضغط على الحكومة للتحرك. وبدلاً من ذلك، تتخذ الإجراءات شكل مشاريع وحملات وأنشطة محلية صغيرة النطاق، تركز على رفع الوعي والتواصل بين المجتمعات والمسؤولين على حدٍ سواء (التي، باعتبارها أنشطة يسهل إدارتها والإبلاغ عنها، تكون قابلة بشكلٍ خاص للحوافز، وهياكل التمويل التي تقدمها المنظمات غير الحكومية). من النتائج الملحوظة لهذه الديناميكية، أن المنظمات غير الحكومية البيئية في العراق، لم تعد مرئية أو نشطة في حلقات الاحتجاج الشعبي على الظروف البيئية، مع بقاء هذه المساحات المختلفة من التعبئة منفصلة. وخلال أزمة المياه في البصرة، في صيف العام 2018، كانت المنظمات غير الحكومية البيئية غائبة بشكلٍ واضح عن مساحات التعبئة الشعبية. وامتنعت عن تقديم انتقادات مؤسسية حول أسباب الأزمة وحلولها.
- رابعاً، على الرغم من وجود استعداد من جانب الناشطين المحترفين للانخراط بشكلٍ أكبر مع ممثلي الدولة، كوسيلةٍ لتعزيز الحوكمة البيئية، وعلى الرغم من أن بعض المسؤولين، يتيحون أنفسهم للاجتماعات والتفاعلات مع النشطاء الذين يُقيّمون بشكلٍ روتيني نتائج صنع السياسات الفعلية على أنها غير مرضية. تفترض إحدى الاستجابات الأخيرة من جانب الأكاديميين والجهات الفاعلة المدنية، أنه يمكن تحقيق تقدم إذا تَمكن الناشطون أنفسهم من فهم تعقيدات صنع السياسات بشكلٍ أفضل. ونظم معهد الدراسات الإقليمية والدولية في الجامعة الأميركية في السليمانية، ورش عمل بين النشطاء الشباب وكبار المسؤولين الحكوميين، في محاولة لـ"سد الفجوة المعرفية حول ديناميكيات الحكومة بين الوكالات (أي الأدوار والمسؤوليات التي تتولاها وكالات الحكومة المختلفة المعنية بالمياه والبيئة)"، على افتراض أن هذا الأمر من شأنه أن يمكّن الناشطين الشباب من إشراك أصحاب المصلحة بشكلٍ فعال. في تموز/يوليو 2024، أطلقت IRIS و PAX مشروع علم المواطن للرصد البيئي، "لتعزيز التعاون بين الحكومة والمجتمعات المحلية، في الرصد البيئي وخلق التأييد اللازم من أصحاب المصلحة المعنيين، للمشاركة المجتمعية في العمل البيئي في العراق". وبما أن هذه المشاريع لا تزال في بدايتها، تبقى قدرتها على إحداث تغيير إيجابي في عملية صنع السياسات العراقية البيئية غير واضحة.
6. مواجهة السُلطة
تركزت مناقشاتنا حتى الآن على تحديد وتصنيف وتوثيق الأنواع المختلفة من التعبئة البيئية الشعبية في العراق، مع الإشارة إلى كيفية استجابة صُنّاع القرار. وفي هذا القسم، ننتقل إلى رصد الاستجابة من الأعلى، وإلى هيكل السلطة الذي يحكم التنافس في العراق.
من خلال الربط الصريح بين مطالبهم بتحسين الظروف البيئية وتطلعاتهم إلى نظامٍ سياسي - اقتصادي مُغاير تماماً، يكشف المحتجون العراقيون عن حقيقةٍ أساسية: التدهور البيئي بنيوي ومنهجي، ليس مجرد عارضٍ خارجي سلبي، بل هو شكل آخر من أعراض الفساد وشبكات المحسوبية والتدخل الأجنبي والعنف السياسي الذي يميز النظام السياسي العراقي في مرحلة ما بعد الحرب.
تعتمد البنية السياسية الحالية في العراق على قدرة كياناتها الحزبية المختلفة على انتزاع الأموال العامة لدعم أشكالٍ مختلفة من المحسوبية والزبائنية، والحفاظ على قواها المسلحة. وحين يُدين المحتجون العراقيون "الفساد"، لا يقصدون الرشى المباشرة أو العمولات التي يتقاضاها المسؤولون العموميون، بل يقصدون شكلاً منهجياً وهيكلياً من أشكال الاستيلاء على الدولة، إذ تتكدس مؤسسات الدولة بالمؤيدين الحزبيين، ويدير كل حزب عمليات احتيال لاستخراج الموارد من مؤسسات الدولة التي يسيطر عليها، وتتشارك جميع الأطراف في التواطؤ والعنف لحماية شبكة النهب. وعلى هذا النحو، وعلى عكس السياقات الأخرى، فإن الحديث عن الفساد في العراق، لا يهمّش النقاشات حول عدم المساواة والتوزيع. بحسب بعض التقديرات، ضاع 551 مليار دولار من المال العام بسبب الفساد منذ العام 2003. وكما أظهر علماء الاجتماع، فإن المنافسة على استخراج الأصول، للحفاظ على السلطة، ليس منظماً بدقة على أسس عرقية طائفية (على عكس الافتراضات حول السياسة بعد العام 2003 في العراق)، بل إنها تُظهر منافسة شرسة ضمن الطوائف أيضاً على المستوى دون الوطني.
يشكل العنف ضد المعارضة عنصراً أساسياً في تكوين هذا النظام. وكما نوقش في هذه الورقة، قوبلت المعارضة في العراق بمستوياتٍ عاليةٍ جداً من العنف، مع عمليات قتل ممنهجة وموجهة نحو مئات المحتجين في الشوارع، واختطاف وتعذيب أنصار البيئة البارزين. وجرى تطبيع الجماعات شبه العسكرية، بشكلٍ متزايد، كجزء من العملية السياسية. فمشاركة هذه الجماعات في الانتخابات البرلمانية العامة في أيار/مايو 2018، تعني أن القوات شبه العسكرية والميليشيات، أصبحت الآن جزءاً من البرلمان، على الرغم من مسؤوليتها عن تهديد واختطاف وقتل نشطاء المجتمع المدني. فمنذ العام 2021، وبسبب الائتلاف السياسي الجديد الذي تولى السلطة بعد الانتخابات المبكرة، برزت حملة قمع وتشديد هائلين على الحيّز المدني في العراق.
في ما تبقى من الورقة، سننتقل إلى ثلاثة قطاعات - النفط والمياه وإنتاج المعرفة - كدراسة حالة لكيفية تنظيم الاقتصاد السياسي في العراق، بحدود ما هو مسموح به وقابل للتطبيق لتعبئة الجهود من أجل الحفاظ على البيئة.
6.1. البيئة في دولة تعتمد على النفط
في الصراع الدائر بين الفصائل السياسية العراقية حول أصول الثروة اللازمة لتوزيع الحصص في ما بينها، تشكل مصادر الإيرادات القائمة على النفط أهمية بالغة. وباعتبار العراق رابع أكبر مصدّر للنفط في العالم، وثاني أكبر منتج للنفط الخام في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، فإن اقتصاده السياسي يعتمد كلياً على النفط. وعلى مدى العقد الماضي، مثّلت عائدات النفط أكثر من 99 في المئة من الصادرات، و85 في المئة من عائدات الحكومة، و42 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. توزع عائدات مبيعات النفط على الوزارات التي تسيطر عليها الأحزاب، والأجهزة الأمنية، والحكومات المحلية. كما يولّد إنتاج النفط مصادر ثانوية للإيرادات مثل: عقود الخدمة، التوظيف العام والخاص، التهريب الذي تسيطر عليه أيضاً الجماعات السياسية وميليشياتها. وتتعلق أكبر فضيحة فساد في تاريخ العراق بعائدات النفط، حين انتهت مليارات الدولارات من أرباح بيع النفط في حسابات خاصة لسياسيين عراقيين وشركات دولية.
تترك مركزية إنتاج النفط أثرين رئيسيين على التعبئة البيئية:
- الأثر الأول، نظراً لأهمية النفط في إعادة إنتاج السُلطة في العراق، فإن الخطوط الحمر المحيطة بالمناقشات حول الأضرار البيئية المحتمل أن يسببها النفط، تخضع لحراسةٍ مشددة. وعلى الرغم من أن وزارة البيئة مسؤولة عن رصد انتهاكات النفايات الصناعية وحدود الانبعاثات، فإنها تفتقر إلى الثقل السياسي، أو الإرادة اللازمة للمطالبة ببيانات حساسة عن الانبعاثات الجوية، واستخدام المياه العذبة من وزارة النفط الأكثر قوة. حتى العام 2023، لم تكن للبيئة وزارة خاصة بها، وكانت إدارة قطاعية تابعة لوزارة الصحة، تفتقر إلى مصدر تمويل خاص بها. وحين اتخذت وزارة البيئة خطوةً باتجاه توثيق الأثر البيئي الضار الناجم عن حرق الغاز، لم تتمكن من فرض غرامات على شركة نفط البصرة، فيما منع مكتب رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي (2014-2018)، المسؤولين الحكوميين من الكشف عن أي معلومات حول علاقة إنتاج النفط بالتلوث، بحسب بي بي سي. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2021، أعلنت الحكومة عن تشكيل لجنة عليا للحد من التلوث البيئي في العراق وعقدت اللجنة بضعة اجتماعات، ثم تبخرت وسط الاضطرابات السياسية التي اجتاحت البلاد، في أعقاب الانتخابات العامة المبكرة.
في الوقت نفسه، وعلى الرغم من تعهدات الحكومة بتحفيز شركات النفط على الإبلاغ عن الانبعاثات ضمن أطر شفافة وموثوقة ــ مثل المساهمة المحددة وطنياً بشأن تغير المناخ ــ أو إعلانها عن إطلاق حملات لقياس انبعاثات الميثان، تمكنت شركات النفط من تجنب الإبلاغ بشفافية عن انبعاثاتها الكاملة، بينما لم يُبلّغ عن الانسكابات النفطية رسمياً. ووفقاً لوليد حميد الموسوي، مدير البيئة في البصرة، جنوب العراق، فإن العديد من الغرامات المفروضة على الأضرار البيئية لم تُدفع قط.
واجه المسؤولون المحليون الذين سعوا إلى الحصول على معلومات تتعلق بحرق الغاز أعمالاً انتقامية. فاعتُقِل رئيس مديرية البيئة في البصرة راضي محمد راضي بتهمة الفساد في أيار/مايو 2024، بعد شهرٍ واحدٍ فقط من تعيينه، وبعد أيامٍ قليلة من رفعه دعوى قضائية ضد شركات النفط التي تدير حقل مجنون النفطي على الحدود مع إيران. وقبل اعتقاله، كان راضي يحاول تنظيم زيارات إلى مواقع إنتاج النفط، لكن شركات الأمن، وغيرها من المجموعات العاملة لصالح شركات النفط، منعت دخول فرق التفتيش البيئي.
ولإظهار الحساسيات المحيطة بإنتاج النفط، يمكن مقارنة قضية مدير البيئة في البصرة بقضية مسؤول محلي آخر: قائم مقام قضاء بعقوبة في محافظة ديالى الذي طالب بإزالة أبراج الهاتف الخليوي من المناطق السكنية التي يعزو إليها السكان ارتفاع حالات السرطان. ودفعت جهوده في توثيق معدلات الإصابة بالسرطان في منطقته، ومطالبته الحكومة بإجراء تقييم شامل وموضوعي لجميع أبراج الاتصالات في ديالى، شركة الاتصالات إلى رفع دعاوى قضائية ضده في تموز/ يوليو 2023 بتهمة التشهير والتحريض. لكن بعد شهرين، أزالت الشركة أحد أبراج الهاتف الخليوي، وبعد شهرٍ من ذلك، أعلنت الحكومة أنها ستنفذ برنامجاً لفحص ترددات أبراج الاتصالات في 18 وحدة إدارية، تديرها لجنةٌ مشتركة من وزارتي البيئة والاتصالات.
محاولة توثيق الروابط المحتملة بين التلوث الناجم عن إنتاج النفط وحرق الغاز المصاحب والعواقب الصحية العامة، خصوصاً معدلات الإصابة بالسرطان، تشكل موضوعاً حساساً، وجبهة معركة نشطة في العراق. ووفقاً لتقرير صادر عن البرلمان العراقي، فإن المجلس العراقي للسرطان، التابع لوزارة الصحة، يؤكد أن انتشار السرطان زاد بشكلٍ كبير بين عامي 2003 و2020. وتشهد البصرة، مركز إنتاج الوقود الأحفوري، ارتفاعاً سنوياً في معدل الإصابة بالسرطان، بنسبة 7.38 في المئة لكل 100 ألف شخص. وعلاوة على ذلك، سجلت المدينة أعلى معدل إصابة في البلاد بين الأطفال دون سن الـ15 عاماً، بنسبة 14.93 لكل 100 ألف طفل. وكشف مكتب مفوضية حقوق الإنسان في البصرة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، أن 9000 شخص يصابون بالسرطان سنوياً، بينما يقيم 60 في المئة منهم بالقرب من حقول النفط في المدينة. غير أن الباحثين يصرون على وجود حاجة إلى المزيد من الأبحاث لإثبات العلاقة السببية بين سموم معينة، وأنواع محددة من السرطان، في أجزاء مختلفة من العراق.
منذ احتجاجات العام 2019، يقول الباحثون والناشطون إن الوصول إلى البيانات التي تجمعها الهيئات الحكومية، أو الحصول على إذن للوصول إلى المواقع الملوثة، أو المؤسسات الحكومية التي تملك تلك البيانات، أصبح صعباً. وبسبب التضييق على حق الوصول إلى البيانات الحكومية، أو بسبب عدم الثقة بمعلومات الحكومة، يُجري الناشطون المدنيون والصحافيون الاستقصائيون تحقيقاتٍ مستقلة – وأشهرها، الفيلم الوثائقي المعنون "تحت سماء مسمومة"، لقناة بي بي سي في العام 2022 الذي يتتبع شكري الحسن، المتخصص البيئي في جامعة البصرة، وهو يقيس مستويات التلوث من حرق الغاز. وهي المرة الأولى التي تُسجّل فيها بيانات عامة عن مستويات التلوث في هذه المجتمعات. أصبح علماء البيئة والأوبئة، والصحافيون، والباحثون الذين تحدثوا عن التأثيرات النفطية، أهدافاً للترهيب والتهديد من قبل جماعاتٍ مسلحة مختلفة.
- الأثر الثاني لاعتماد العراق على النفط على ديناميكيات التعبئة البيئية، يتمثل في كيفية تحدي الأفكار التقليدية حول المدافعين عن البيئة. ففي العراق، لا يُنظَر إلى الوظائف المرتبطة بالنفط بالضرورة على أنها متناقضة مع الاهتمامات البيئية.
إن بعض العاملين في حقول النفط العراقية، هم أيضاً أعضاء في منظمات غير حكومية بيئية، مثل منظمة حماة دجلة، وينشرون الأضرار البيئية التي يشهدونها على وسائل التواصل الاجتماعي، أو يشاركون المعلومات مع المنظمات البيئية. ويكون هؤلاء العمال/ النشطاء الذين يعملون بصفتهم الفردية، غالباً متعاونين مع البيروقراطيين الحكوميين المكلفين بالتفتيش، وأولئك الذين يسمحون لهم بالدخول إلى الحقول.
خلال عملهم الميداني مع النشطاء البيئيين في إقليم كردستان، وجد فيكتور-ماخ وآخرون، أن المهن المرتبطة بالنفط جذابة للشباب والمهنيين الطموحين، ولا تتعارض، من وجهة نظرهم، مع اهتمامهم بالبيئة. تتفق هذه الملاحظات حول دور العاملين في قطاع الطاقة، مع الأبحاث التي تظهر أن المهندسين العاملين في قطاع الطاقة في البصرة، يتعرضون للتهميش من قبل الباحثين المحليين عن الريع، والشركات متعددة الجنسيات.
وبرزت المظالم البيئية في الاحتجاجات المنتظمة للعاطلين عن العمل الذين يطالبون بوظائف في قطاع النفط. فهو، على الرغم من كونه المساهم الأكبر في الناتج المحلي الإجمالي للعراق، لا يوظف سوى نحو 1 في المئة من القوة العاملة. وحين يتجمع المحتجون بشكلٍ روتيني خارج حقول النفط الرئيسية في البصرة، للمطالبة بوظائف في القطاع، ينطلقون، كما تلاحظ طيف الخضري، من أساس كونهم، كسكان المنطقة، معرضين للتلوث ومخاطر الصحة العامة لهذه الصناعة. وبالتالي، يستحقون بشكلٍ خاص، الحصول على وظائف. خلال هذه الأحداث التي تدور في المقام الأول حول الوظائف - يعيش 25 في المئة من العراقيين تحت خط الفقر، ونحو 20 في المئة عاطلون عن العمل (نحو 40 في المئة من الشباب) - يطالب المحتجون أيضاً بالوصول إلى المياه النظيفة، أو بتحسينات في البنية التحتية التي تؤثر على الرفاهية البيئية والصحة العامة.
في بعض الأحيان، يعطّل المحتجون المطالبون بوظائف في قطاع النفط، أو بظروفٍ أفضل كعمال، المشاريع النفطية. وكما ناقشنا في القسم الخاص بالاحتجاج، سعت التظاهرات الحاشدة، في عامي 2018 و2019، أيضاً إلى تعطيل إنتاج النفط. ومع ذلك، فإن أهداف مثل هذه الاضطرابات - الاحتجاج على شروط توزيع ريع النفط ومقاطعة الأعمال المعتادة - تختلف بطبيعة الحال عن المقاومة للمشاريع الاستخراجية التي نراها في العديد من أنحاء العالم. إذ تحاول المجتمعات تعطيل المشاريع للاحتفاظ بأكبر قدرٍ ممكن من النفط والفحم والغاز الطبيعي في الأرض - ما تشير إليه نعومي كلاين باسم "الحصار - blockadia". وفي حالة العراق، كانت المقاومة الشعبية ضد التنقيب عن النفط محدودة للغاية حتى الآن، وتركزت في مناطق الأهوار، كما هو موضح في القسم 4.
6.2. الجذور الهيكلية لأزمة المياه
أزمة المياه، وهي واحدة من أكثر القضايا السياسية المثيرة للجدل في العراق، توفر لنا منظوراً آخر يمكننا أن نرى عبره مسؤولية المكونات الأساسية للنظام السياسي، عن التدهور البيئي، وتشكل العقبة الرئيسية أمام الحلول الممكنة. كمية ونوعية الموارد المائية، معرضة بشدة للتأثيرات الناجمة عن تغير المناخ، كارتفاع درجات الحرارة، وتناقص هطول الأمطار، فضلاً عن السياسات المائية التي تنتهجها إيران، وسوريا، وتركيا، مثل بناء السدود للحفاظ على إمداداتها من المياه.
لكن اختيار صناع القرار العراقيين عدم صيانة وتوسيع البنية الأساسية للمياه والصرف الصحي، المتدهورة بشدة، بما في ذلك محطات المعالجة، وقنوات المياه العذبة وشبكات الأنابيب، يلعب دوراً هائلاً في أزمة المياه. ففي البصرة، على سبيل المثال، يضيع ما يصل إلى 40 في المئة من المياه في التسربات، والاستغلال غير القانوني، قبل أن تصل إلى محطات المياه. ويزعم الخبراء أن تحديث قناة البدعة، يمكن أن يُمثّل التغيير الأكثر أهمية لتحسين إمدادات المياه. في الواقع، تكمن وراء احتجاجات العمال الزراعيين في المناطق الزراعية، في جنوب العراق التي ناقشناها سابقاً، بنية أساسية للمياه بالغة الأهمية، أصبحت في حالةٍ يرثى لها. وفي مفاوضاتها مع العاملين في القطاع الزراعي، ركزت الحكومة على حظر محاصيل بعينها، وهددت بقطع حصص المياه، وفرض أساليب ري موفّرة للمياه، لكن من دون توفير الدعم المالي اللازم للمزارعين.
علاوةً على ذلك، فإن حقيقة أن الوزارات والهيئات المختلفة تخضع لنفوذ أحزاب سياسية مختلفة تعيق تبادل المعلومات والتعاون اللازمين للحوكمة الفعالة للمياه، وأحياناً مع عواقب وخيمة فورية على الصحة العامة. خلال أزمة المياه والصحة في البصرة عام 2018، على سبيل المثال، "أصدرت مختبرات إدارة المياه الإقليمية قراءات خاطئة، وفشلت في توصيل علامات التحذير إلى السلطات الصحية التي فشلت بدورها في العمل مع الحكومة المحلية، لتنبيه السكان ونصحهم لتجنّب المياه الملوثة".
وكما هي الحال في حالة النفط، وإن بدرجة أقل، فإن الوصول إلى المعلومات أمر صعب. وينص مشروع قانون الحق في الوصول إلى المعلومات الذي قُدِّم إلى البرلمان في شباط/فبراير 2024 على استثناءات تعمل ضد المساءلة عن حوكمة المياه. ولأنه يحظّر على المواطنين تحديداً الحصول على أي معلومات "تؤثر على المفاوضات مع بلدان أخرى"، يمكن أن يشمل المياه بالنظر إلى المفاوضات عبر الحدود مع البلدان المجاورة.
6.3. معركة إنتاج المعرفة
كما أوضحت المناقشة حول النفط والمياه حتى الآن، فإن أحد المكونات الأساسية لاستجابة الدولة العراقية للضغوط البيئية، هو السيطرة على المعلومات والمعرفة. وحين يُسأل الباحثون والنشطاء في العراق عن التحديات التي تواجه العمل البيئي، يذكرون بشكلٍ روتيني، الحاجة إلى جمع المعلومات الأساسية والرصد وتبادل المعرفة حول الظروف البيئية الحالية، كخطوة أولى أساسية وضرورية لمحاسبة الملوّثين والحكومة. يواجه إنتاج المعرفة في العراق تحديات هيكلية وسياسية وبنيوية تحتية ناجمة عن عقود من الحرب ونظام العقوبات الذي فكك المؤسسات التعليمية والعلمية (إلى جانب جميع البنى التحتية الرئيسية للصحة العامة والمرافق العامة)، وأدى إلى هجرة أكثر سكان البلاد تعليماً ومهارة.
أجرينا مقابلات مع عشرين باحثاً من أربع جامعاتٍ عراقية (في الأقسام الأكاديمية ومراكز البحوث التابعة لها)، حول الظروف التي ينتجون فيها أعمالهم. ومن بينهم، قال 17 (85 في المئة) إنهم لا يشعرون بالحرية في إنتاج المعرفة حول الظروف المناخية والبيئية، من دون تدخلٍ من الإداريين، أو هيئات صنع القرار العليا في الجامعة، أو في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، أو من دون خوفٍ من الخضوع للاستجواب من قبل الأجهزة الأمنية، أو الجماعات المسلحة. وقالوا أيضاً إنه في حالة ظهور التهديدات، لا يشعرون بالثقة في أن أقسامهم أو جامعاتهم ستدافع عنهم، أو توفر لهم الحماية المؤسسية، أو دعم مبدأ الحرية الأكاديمية. وأكد بعضهم أنهم تعرضوا للترهيب والتهديدات اللفظية من قبل الأجهزة الأمنية التي أجبرتهم على التوقف عن جمع ونشر المعلومات حول مستويات التلوث في البصرة المرتبطة بأنشطة استخراج الهيدروكربون.
"تلقيت اتصالات هاتفية عدة من جهاز الأمن الوطني وقوات الحشد الشعبي، تحذرني من عواقب الاستمرار في جمع المعلومات عن مستويات التلوث النفطي المتعلقة بمواقع إنتاج النفط الخام وحرق الغاز في البصرة. وقالوا إن نشاطي البحثي مشبوه بتمرير المعلومات إلى جهات خارجية، تعمل على تقويض استقرار الحكومة أو الإضرار باستثمارات الدولة. لذا طلبوا مني التوقف عن الأعمال التي تضر بالأمن الوطني".
وأشار باحثون آخرون، أجرينا معهم المقابلات، إلى القيود المفروضة عليهم داخل جامعاتهم ضمن سلسلة القيادة الإدارية. وتمثّلت في حجب التصاريح لبدء مشاريع بحثية ميدانية، تهدف إلى قياس مستويات التلوث، وتأثيرات تغير المناخ، وأسباب ندرة المياه الوطنية، أو الروابط المحتملة بين انتشار أبراج الهواتف الخليوية في المجتمعات السكنية، وظهور أنواع غير عادية من الأورام السرطانية. وأخبرنا أحد الباحثين في مرحلة الدكتوراه في جامعة بغداد، أنه تلقى توبيخاً من المشرف على أبحاثه والمديرين الإداريين في الجامعة، لمحاولته تتبع مستويات الإشعاع غير المؤيّن من موجات التردد اللاسلكي التي تنقلها أبراج الهواتف التي تُقام غالباً في الأحياء السكنية من دون موافقاتٍ بيئية. ورفضت هيئة الاتصالات والإعلام الوطنية العراقية، وهي الجهة الحكومية المسؤولة عن تنظيم قطاع الاتصالات، تزويد الباحث بنتائج قياساتها للترددات الراديوية، وما إذا كانت تنتهك المعايير الوطنية، على أساس أن هذه المعلومات "غير قابلة للمشاركة".
أما خارج الجامعات، فتعرض النشطاء في المجتمعات المحلية الذين حاولوا، في السنوات الأخيرة، نشر معلوماتهم الخاصة حول المؤشرات البيئية لخطر الترهيب والمضايقة والملاحقة القضائية، وحتى الاختطاف. وهي أيضاً من أعراض تقلّص الحيّز المدني بعد انتفاضة 2019. وحين أعرب رعد حبيب الأسدي، رئيس "منظمة الجبايش البيئية"، عن اعتراضه على وزارة الموارد المائية، لنشرها معلومات مضللة حول فيضانات الأهوار، رَدَّت الوزارة بمقاضاته في تشرين الأول/أكتوبر 2020. وعلى الرغم من تبرئته، واصل مسؤولو الوزارة ملاحقته قانونياً. وقال رئيس منظمة بيئية غير حكومية تنشط في شمال شرق العراق، إن منظمته مقيّدة في نشر معلومات وإحصائيات غير معتمدة من الدولة، بسبب مخاوف من تعليق ترخيصها وملاحقتها قضائياً، ما يمكن أن يحدّ من قدرتها على تأمين التمويل الخارجي. كما أن جهود الباحثين العمليين في المجتمعات المحلية، لاختبار مستويات التلوث في الأحياء السكنية بشكلٍ مستقل (لأنهم لا يثقون في اختبارات التلوث الرسمية التي تٌجرى)، تعرّضت معداتهم وبياناتهم للسرقة. وأعلنت منظمة أطباء بلا حدود - إحدى المنظمات الدولية الوحيدة العاملة في مجال مراقبة الصحة البيئية - في تموز/يوليو 2023، تعليق عملياتها في العراق بسبب "الإجراءات الرسمية الطويلة والمعقدة وغير الشفافة".
ونتيجة لهذه الديناميكيات، وُضعت المعرفة المستقلة بشأن البيئة التي ينتجها الباحثون والنشطاء، وحتى المسؤولون المحليون، في علاقةٍ عدائيةٍ ومحفوفةٍ بالمخاطر، بشكلٍ علني مع عملية صنع القرار في العراق. وأصبح غياب المؤشرات الأساسية والبحوث العلمية حول الضرر البيئي ورفاهيته، مصدر إحباط جماعي للمواطنين، بسبب ما يعتبرونه تراجعاً للدولة العراقية التي كانت تتمتع ذات يوم بمعايير علمية عالية (من الستينيات إلى الثمانينيات). وكما أصبح التدهور البيئي رمزاً لخلل الدولة العراقية واستيلائها عليه، أصبح إنتاج المعرفة بشأنه رمزاً للتدهور أيضاً.
7. الخاتمة: التعبئة البيئية العراقية في سياق عالمي
إن التدهور والضرر البيئي يحرك بشكلٍ متزايد التعبئة الشعبية في العراق. كما يُعبر عنها عبر الاحتجاج الجماعي، والأشكال الفردية والجماعية والمؤسسية للنشاط البيئي. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع حتى الآن التحدث عن حركة بيئية عراقية شبيهة بالحركات الأخرى في الفضاء التقدمي في العراق، مثل الحركة العمالية أو الحركة النسائية، إلا أن التعبئة البيئية أصبحت عنصراً أساسياً في التنافس على شروط الاقتصاد السياسي للبلاد. وكما هي الحال في بلدانٍ أخرى، أصبح مجال حماية البيئة ساحةً للصراع المستمر والناشئ والتنافس والتفاوض بين الدولة والمجتمع المدني.
أثارت حقيقة أن المظالم المتعلقة بالظروف البيئية موجات من الاحتجاجات على المستوى الوطني لها أهمية خاصة. ففي بلدٍ واحد فقط آخر في المنطقة - لبنان - تجاوزت المظالم البيئية المحلية، لتصبح نقطةً محوريةً للتعبئة الجماهيرية على المستوى الوطني، ضد سُمّية النظام السياسي الاقتصادي الحاكم. وكما هو الحال في لبنان، ربط المحتجون صراحةً بين الأزمات البيئية التي تؤثر على حياتهم اليومية والأزمات الاجتماعية والاقتصادية الأوسع نطاقاً. لكنهم لم يتمكنوا من تحويل العناصر الثورية للانتفاضات إلى تغيير طويل الأجل. ومع ذلك، وعلى الرغم من النتائج الفورية المخيبة للآمال، لا تزال هذه اللحظات مهمة من الناحية السياسية في حد ذاتها، بالنظر إلى كيفية تشكلها، وتغييرها للتصورات السياسية.
ديناميكيات النشاط البيئي في العراق يمكن أن تُناقش أيضاً مع سياقات أخرى للنضال البيئي. فيقوم نموذج التراكم على استخراج الموارد الطبيعية وتصديرها. وكما ناقشنا، مع بعض الاستثناءات، وبالتحديد المقاومة الشعبية، والدعوة إلى الحد من إنتاج النفط في الأهوار، فإن خطوط المعركة الحالية حول إنتاج النفط في العراق، تتمحور على التوزيع الاجتماعي الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، بدلاً من العدالة البيئية، أو الانتقال إلى مرحلة ما بعد الاستخراج. وفي سياقات أميركا اللاتينية، حين وصلت الحكومات التقدمية إلى السلطة، كان عليها التعامل مع تحديات وتناقضات تكثيف الاستخراج في الوقت الحاضر، لتمكين أشكال مهمة من الإدماج الاجتماعي والاقتصادي للجماهير. وفي الوقت نفسه، تقويض التحولات الأكثر جذرية بعيداً عن الاقتصاد الاستخراجي. ففي بلدان مثل الإكوادور أو السلفادور، يجادل الباحثون أن المقاومة المحلية للمشاريع الاستخراجية (في قطاعي التعدين والنفط، ورداً على مشاريع البنية التحتية ومشاريع الطاقة واسعة النطاق)، أمر حيوي في الدفع نحو "تحول اقتصادي أعمق على المستويين الوطني والإقليمي، من نموذج قائم على الاستخراج إلى نموذج يعطي الأولوية لإعادة الإنتاج الاجتماعي والبيئي". وفي ضوء ذلك، من المرجح أن تكون ملامح النضال البيئي في العراق حاسمة في أي تحول مستقبلي لاقتصاده السياسي.
أخيراً، تتشابه المساحة المقيدة والخطيرة التي يضطر دعاة البيئة العراقيون إلى العمل فيها مع أوضاع قمعية أخرى. فعلى عكس حالة العراق، في بعض السياقات القمعية للغاية، تمكنت الجهات الفاعلة في المجتمع المدني البيئي من العمل بدرجةٍ من الحرية والقدرة التي لم تُتح للجهات الفاعلة المماثلة في مجالاتٍ أخرى. ويرجع ذلك جزئياً إلى تميزها في قدرتها على بناء شبكاتٍ عابرة للمنظمات، وائتلافات واسعة النطاق. وستصدر مبادرة الإصلاح العربي سلسلةً من التقارير القطرية، ودراسات الحالة من جميع أنحاء المنطقة، لدراسة كيفية مقاومة الجهات الفاعلة المدنية لضغوط النخبة، والتنقل في مساحات العمل في علاقات القوة غير المتكافئة بشدة. في ورقة ستصدر قريباً في هذه السلسلة، تتناول طيف الخضري، المساحة المتاحة في العراق، مع التركيز على الاختلافات المكانية والزمانية والقضايا القائمة عليها، والقضايا القائمة على الاختلافات والقيود والفرص الائتلافية.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.