مقدّمة
يسيطر نظام الأسد على 70% تقريباً من الأراضي السوريّة بعد أكثر من 9 سنوات على الحرب، وذلك بفضل المساعدات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة المقدَّمة من حليفَيه: روسيا وإيران. لكنْ على الرغم من كلِّ هذا الدعم، ما تزال التحدّيات والمشاكل الاقتصاديّة-الاجتماعيّة التي تواجه دمشق تستعصي على الحلّ. فقد تراجع الناتج المحلّيّ الإجماليّ للبلاد من 60.2 مليار دولار أميركيّ في 2010 إلى 21.6 مليار دولار أميركيّ في 2019، بَينما تُقدَّر تكاليف إعادة الإعمار بنحو 500 مليار دولار أميركي. وقد فاقمت الأزمة الماليّة التي يشهدها لبنان منذ عام 2019 ووباء كورونا مشاكلَ البلاد الاجتماعيّة والاقتصاديّة بشدّة، مع تخطّي مستويات الفقر حاجز 85% حتّى قبل تفشّي فيروس كورونا في سوريا، وَفقاً للتقديرات.
في ظلّ هذا الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ المتردّي، وضعت السلطات السوريّة سياسات اقتصاديّة ترمي إلى توطيد سلطتها وتعزيز شبكات محسوبيّتها العديدة، بالتزامُن مع إتاحة أشكال جديدة من تراكم رأس المال. كان أحد العناصر الرئيسيّة في هذه الاستراتيجيّة هو الترويج لنموذج من التنمية الاقتصاديّة يعتمد على الشراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ وخصخصة المنافع والخدمات العامّة بوصفه حجرَ الأساس لإعادة إعمار البلاد والسبيلَ لإنعاش اقتصادها.
غالباً ما يُقدِّم نموذج "اقتصاد الحرب" -الذي طرحه كثيرٌ من المحلّلين لوصف الوضع الحاليّ في سوريا- باعتباره شكلاً جديداً يُفترض أنْ يُمثّل انفصالاً وانحرافاً عن الديناميّات الاقتصاديّة التي كانت قائمة في سوريا قبل عام 2011. لكنّ الواقع هو أنّ الصراع الحاليّ ساهم في تفاقُم تلك الديناميّات الاقتصاديّة الموجودة سلفاً. فقد أدّى الصراع إلى تعاظُم السياسات والتوجّهات النيوليبراليّة التي كانت تنتهجها الحكومة السوريّة في فترة ما قبل الحرب وعزّز جوانب النظام الاستبداديّة الموروثة. كلّ ما حدث هو تغيُّر في شبكات الجهات الفاعلة المحلّيّة والأجنبيّة التي كانت تدعم النظام وتستفيد منه. فقبل انتفاضة 2011، كانت السعوديّة ومعها قطر وتركيا من أبرز الجهات الفاعلة المستفيدة من الانفتاح الاقتصاديّ في سوريا، بَينما الآن صارت روسيا في المقام الأوّل ثمّ إيران، لكنْ بدرجة أقلّ، هما المستفيدتَين الرئيسيّتَين.
استراتيجيّة الحكومة السوريّة لإنعاش الاقتصاد و"إعادة الإعمار"
في شباط/فبراير من عام 2016، أعلنت الحكومة السوريّة عن خطّة "التشاركيّة الوطنيّة"، بوصفها استراتيجيّتها الجديدة للاقتصاد السياسيّ التي حلّت محلّ نموذج "اقتصاد السوق الاجتماعيّ" المُطوَّر في 2005، الذي كان بالفعل قد أعطى الأولويّة للتحرّر الاقتصاديّ وتراكم رأس المال الخاصّ. يتمثّل أحد الجوانب المحوريّة للاستراتيجيّة الجديدة في إصدار قانون حول "التشاركيّة بين القطاعَين العامّ والخاصّ" في كانون الثاني/يناير من عام 2016، بعد ستّ سنوات من صياغته. وقد سمح هذا القانون للقطاع الخاصّ بإدارة وتطوير الأصول الحكوميّة في جميع قطاعات الاقتصاد بوصفه الشريك أو المالك الرئيسيّ، باستثناء قطاع استخراج النفط. وقد صرّح همّام الجزائريّ، وزير الاقتصاد والتجارة الخارجيّة السابق، أنّ القانون يُشكّل "إطاراً تشريعيّاً ينظّم العلاقات بين القطاعَين العامّ والخاصّ، ويلبّي الاحتياجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة المتنامية التي تشهدها سوريا، وخاصّة في ترميم وإعادة تأهيل وتطوير وتوسيع البِنَى التحتيّة والمشاريع الحيويّة"، بَينما يتيح الفرصة أيضاً أمام القطاع الخاصّ من أجل "الإسهام في عمليّة التنمية الاقتصاديّة بوصفه شريكاً أساسيّاً وفاعلاً في عمليّة الإعمار والتنمية، ويهدف أيضاً إلى تعزيز تطوير القطاع العامّ من خلال التشاركيّة مع القطاع الخاصّ، التي ستأخذ شكلَ علاقة تعاقديّة مدّةً زمنيّة محدَّدة متّفق عليها بين الجهتين"، مضيفاً أنّ "من أهمّ متطلّبات التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي يحقّقها هذا القانون، هو زيادة التمويل المقدَّم من القطاع الخاصّ بما يتكامل مع الاستثمارات الحكوميّة".
لكنْ من المرجّح أنْ يواصل قانون التشاركيّة الجديد بين القطاعَين العامّ والخاصّ إحكام سيطرة شبكات المحسوبيّة الرأسماليّة على الأصول العامّة، دون مراعاة المصالح العامّة والحكوميّة. في الإطار نفسه، وفي اجتماع مع ممثّلي قطاع الأعمال المشاركين في معرض دمشق الدوليّ الذي انعقد في أيلول/سبتمبر 2018، أعلن عماد خميس، رئيس الوزراء السوريّ السابق، أنّ الحكومة قد تطرح 50 مشروعاً للبنية التحتيّة أمام المستثمرين من القطاع الخاصّ على هيئة مشاريع تشاركيّة بين القطاعَين العامّ والخاصّ. إضافةً إلى ذلك، وخلال جلسة برلمانيّة في تشرين الأوّل/أكتوبر عام 2018، دعا فارس شهابي، البرلمانيّ السابق ورئيس اتّحاد غرفة صناعة حلب، إلى طرح مزيدٍ من المشاريع التشاركيّة في قطاع الصناعات العامّة بهدف زيادة الفرص أمام استثمارات القطاع الخاصّ. قد يمهِّد هذا الطريق لإنشاء سوق استثماريّة جديدة تسمح لرجال الأعمال بالاستثمار في قطاعات عامّة صناعيّة ربحيّة، مع تخلّي الدولة تدريجيّاً عن الصناعات الحكوميّة التي تعاني العجز. علاوةً على ذلك، سعت الحكومة السوريّة إلى عقد صفقات مع مستثمرين من القطاع الخاصّ تتعلّق بشركات إنتاج غذائيّ مملوكة للدولة، في إطار مشروعات التشييد والتشغيل ونقل الملكيّة (Build-Operate-Transfer, BOT)، أو من خلال قانون التشاركيّة.
يجب أيضاً فهم قانون التشاركيّة هذا في سياق تنامي الديناميّة النيوليبراليّة على المستويَين الإقليميّ والعالميّ، التي بموجبها أصبحت القطاعات الاقتصاديّة التي كانت تديرها الدولة فقطّ في السابق منفتحةً على احتماليّة تراكم رأس المال فيها من قِبَل الجهات الفاعلة الخاصّة. في الوقت نفسه، اعتمدت بلدان مختلفة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قوانينَ شراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ لمضاعفة جهودها الرامية إلى إتمام عمليّات خصخصة الخدمات العامّة والبنية التحتيّة الحضريّة التابعة للدولة.
والآن تُعرض فرص هائلة أمام حلفاء سوريا الأجانب، خاصّة روسيا وإيران، إلى جانب رجال الأعمال التابعين للنظام، للاستثمار في الأصول العامّة وتحقيق أرباح طائلة من ورائها.
يُعَدّ العقد المُوقَّع في 2019 مع شركة "ستروي ترانس غاز" الروسيّة لإدارة وتشغيل ميناء طرطوس مدّةَ 49 عاماً مثالاً صارخاً على هذه العمليّة. وقد أوضح وزير النقل السوريّ أنّ شركة "ستروي ترانس غاز" ستستثمر خلال الفترة المنصوص عليها في العقد مبلغاً يقدَّر بنحو 500 مليون دولار أميركيّ، لا سِيَّما من أجل تطوير وتوسيع الميناء وذلك للسماح بدخول ورسوّ سفن ذات حجم وحمولات أكبر. سبَق أنْ وقّعت الشركة الروسيّة عقدَين مماثلَين في سوريا خلال السنوات الأخيرة:
- عقد تطوير مناجم فوسفات خنيفيس في ريف حماة.
- وعقد إدارة معامل إنتاج الأسمدة الواقعة قرب حمص وتشغيل الشركة العامّة للأسمدة.
ستُتيح هذه العقود الآن لشركة "ستروي ترانس غاز" إمكانيّة الإشراف على عمليّة إنتاج الفوسفات بالكامل، إلى جانب سلسلة النقل والتصدير من المناجم إلى الميناء.
وقد وقّعت وزارة النفط والثروة المعدنيّة السوريّة، في أيلول/سبتمبر من عام 2019، ثلاثة عقود أيضاً مع الشركات الروسيّة في مجال المسح والتنقيب والإنتاج بقطاعَي النفط والغاز في المناطق الوسطى والشرقيّة من سوريا.
في المقابل، وعلى الرغم من المساعدة الهائلة التي تقدِّمها للنظام السوريّ، لم تمنح الحكومةُ السوريّة الجمهوريّةَ الإيرانيّة عقوداً ضخمة؛ إذْ لم يتمكّن الإيرانيّون من توسيع نفوذهم الجيوسياسيّ والعسكريّ المتزايد باستمرار ليشمل اقتصاد البلاد، خاصّة مع استحواذ الاستثمارات الروسيّة الخاصّة على هذا المجال. ترتبط معظم العقود التي حصلت عليها طهران بالخطّ الائتمانيّ الإيرانيّ الممنوح لسوريا، مثل العقد المبرَم مع "مجموعة مابنا" الإيرانيّة لبناء محطّة توليد كهرباء في مدينة اللاذقيّة الساحليّة بتكلفة 400 مليون يورو (أيْ ما يعادل 460 مليون دولار أميركيّ).
تستفيد أيضاً الجهات الفاعلة الخاصّة السوريّة المقربة من النظام من تلك الديناميّات. ففي كانون الثاني/يناير عام 2020، صدَّق بشار الأسد على قوانين تمنح ثلاثة عقود لـ"مجموعة قاطرجي"، الأمر الذي يمنحهم دوراً استراتيجيّاً في قطاع توزيع النفط في سوريا. وقد حصلت "مجموعة قاطرجي" على حقّ إنشاء مصفاتَي نفط، وتطوير وتوسيع مصب النفط في ميناء طرطوس. ظلّ قطاع التكرير حكراً على الدولة حتّى ذلك الحين، على الرغم من أنّ الحكومة كانت تسعى قبل عام 2011 إلى اجتذاب الاستثمارات الخاصّة إلى هذا القطاع. فيما مضى، استفاد رجل الأعمال وسيم القطّان، الذي كان يمثّل على الأرجح واجهةً لماهر الأسد، من عقود حكوميّة متعدّدة للاستثمار في الفنادق والمجمّعات التجاريّة ومراكز التسوق.
على نحو مماثل، وفي ضوء عمليّة إعادة الإعمار، وافقت الحكومة في تمّوز/يوليو عام 2015 على قانون يسمح للمجالس البلديّة وغيرها من الوحدات الإداريّة المحلّيّة بإنشاء الشركات القابضة من أجل إدارة الأصول والخدمات العامّة. وفي خريف عام 2016، أُنشِئت "شركة دمشق الشام القابضة" برأس مال قدره 60 مليار ليرة سوريّة، أو ما يقرب من 120 مليون دولار أميركيّ آنذاك (وَفقاً لسعر الصرف عام 2016) وكانت محافظة دمشق تمتلكها بالكامل. وهذه الشركة هي المسؤولة عن تنفيذ إعادة إعمار مشروع "ماروتا سيتي" لتطوير العقارات الفاخرة، فضلاً عن أنّها تُسند العقود وَفقاً لاستثمارات الجهات الفاعلة التابعة للقطاع الخاصّ.
لا يسعى النظام إلى الاستفادة من عمليّة إعادة الإعمار على الصعيدَين السياسيّ والاقتصاديّ فحسب، بل يسعى أيضاً إلى ترسيخ أمنه المفترض. فمنذ عام 2011، سنّ نظام الأسد ما يقرب من خمسين قانوناً تتعلّق بمسائل "الإسكان والأراضي والممتلكات"، الأمر الذي سمح للدولة في نهاية المطاف بهدم المناطق التي خضعت لسيطرة المعارضة في السابق. وقد وضعت الدولة أيضاً قوانين ومراسيم لمصادرة الممتلكات، ومن ثَمّ الاستفادة من تنمية وتطوير العقارات. ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد "المرسوم التشريعيّ رقم 66" الذي دخل حيّز النفاذ في أيلول/سبتمبر عام 2012.
سمح هذا المرسوم لمحافظة دمشق بطرد السكان من منطقتين كبيرتين في العاصمة، هما بساتين الرازي في المنطقة العقاريّة المزّة وكفر سوسة، من أجل تطوير مشروع عقاريّ فاخر يُسمى "ماروتا سيتي". يتمثّل أحد العناصر الرئيسيّة للمرسوم رقم 66 في نهج التمويل، الذي يعتمد على قيام السلطات المحلّيّة بتأسيس شركات استثمار بين القطاعَين العامّ والخاصّ. وقد استند المرسوم على بعض جوانب "الخطّة الرئيسيّة للتخطيط العمرانيّ والإسكان في دمشق لعام 2007" التي لم تُنفّذ بسبب اندلاع انتفاضة عام 2011. وفي نيسان/أبريل 2018، أصدرت الحكومة السوريّة المرسوم رقم 10، الذي وضع على غرار المرسوم رقم 66، ووسّع نطاق تنفيذ هذه السياسات على المستوى الوطنيّ.
علاوةً على ذلك، أصدرت الحكومة عام 2012 المرسوم رقم 63، الذي يخوِّل وزارة الماليّة بمصادرة الأصول والممتلكات من الأشخاص الذين يخضعون للقانون رقم 19، وهو قانون لمكافحة الإرهاب صدر في العام نفسه. وقد سُلِّط الضوء على تأثير هذا القانون في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2018، عندما وثّقت وزارة الماليّة ما يزيد على 30 ألف عمليّة مصادرة للممتلكات عام 2016 نتيجة لاتهامات تتضمن ارتكاب أعمال إرهابيّة مزعومة، و40 ألف عمليّة مصادرة عام 2017. فضلاً عن ذلك، منح القانون رقم 3 لعام 2018 الحكومة مجالاً كبيراً لتحديد ما ينبغي تعريفه بوصفه مباني متضرّرة. وقد سمح هذا القانون بإغلاق الأحياء السكنيّة وهدمها، الأمر الذي منع المدنيّين من العودة.
العقبات التي تحول دون انتعاش الاقتصاد
تعيَّن على النظام السوريّ أنْ يتعامل مع التحدّيات الماليّة والاقتصاديّة المتزايدة باضطراد والتي تسبّبت في إبطاء الجهود الرامية إلى التعافي.
لم يُنفَّذ حتّى الآن عدد كبير من المشروعات القائمة على الشراكة بين القطاعَين العامّ والخاصّ وبناء أو إعادة إعمار مشروعات العقارات الفاخرة في سوريا بواسطة الجهات الفاعلة الخاصّة السوريّة أو تعديلها وإعادة تقييمها. فقد ظلّت أغلب هذه المشروعات حتّى الآن مجرّد تصريحات، الأمر الذي أظهر قدرة الحكومة المحدودة على تنفيذ هذه المخطّطات والقيود المتأصّلة في خططها الرامية إلى إعادة التنمية الاقتصاديّة. على سبيل المثال، فشلت الشركات القابضة التي أنشأتها محافظات حمص (2018) وحلب (2019) ودمشق (2019) في بدء تنفيذ أيّ عمليّة إعادة إعمار منذ تأسيسها.
يُعزَى السبب الرئيسيّ وراء الفشل في إطلاق هذه المشاريع إلى نقص التمويل سواء العامّ أو الخاصّ. ففي نهاية عام 2019، بلغ إجماليّ الودائع لدى البنوك الخاصّة 1.134 مليار ليرة سوريّة فقط (حوالي 2.6 مليار دولار أميركيّ، وَفقاً لسعر الصرف الرسميّ في مصرف سوريا المركزيّ في كانون الأوّل/ديسمبر 2019 (434 ليرة لكل دولار). وعلى سبيل المقارنة، بلغت هذه القيمة عام 2010، 13.8 مليار دولار أمريكيّ. في حين تمتلك المصارف الحكوميّة، وخاصّة "المصرف التجاريّ السوريّ"، احتياطيّات أكبر بكثير، قُدِّرت قيمتها في 2019 بنحو 3.207 مليار ليرة سوريّة (ما يقرب من 7.4 مليار دولار أميركيّ)، على الرغم من أنّ لديها أيضاً حوافظ ديون معدومة كبيرة.
علاوةً على ذلك، تواجه الحكومة تحدّيات متزايدة في التمويل ترتبط بالنقص في احتياطيّات النقد الأجنبيّ والانخفاض المستمرّ في قيمة الليرة السوريّة. فمنذ مطلع عام 2020، واجهت الدولة السوريّة، على سبيل المثال، مشاكل عند استيراد سلع غذائيّة معيّنة. وقد أدّى ذلك إلى عدم توفّر العديد من السلع الغذائيّة المدعومة في منافذ بيع "المؤسّسة السوريّة للتجارة"، على الرغم من أنّ بعض هذه المنتجات ما تزال موجودة في السوق من خلال مستوردين من القطاع الخاصّ، يبيعونها مقابل أسعاراً أعلى.
في نفس الوقت، اتّبعت الحكومة تدابير تقشّفيّة من خلال خفض الدعم على بعض المنتجات الأساسيّة. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2020، ضاعفت الحكومة السوريّة سعر زيت الوقود وزادت سعر البنزين بنسبة 80%. فقد ارتفع سعر زيت الوقود غير المدعوم الذي يُباع للمؤسّسات التجاريّة على سبيل المثال إلى 650 ليرة سوريّة بعد أنْ كان 450 ليرة للتر الواحد، بَينما وصل سعر زيت الوقود المدعوم إلى 450 ليرة سوريّة، مقارنةً بما كان عليه في السابق، 250 ليرة سوريّة. من شأن هذا القرار أنْ يزيد الأسعار بشكل كبير في مختلف قطاعات الاقتصاد وأنْ يقلّل من القدرة التنافسيّة للمصنِّعين السوريّين والقوة الشرائيّة للسكان.
يتمثّل التحدّي الثاني في عدم الاستقرار والانخفاض المستمرّ في قيمة العملة الوطنيّة، وخاصّة منذ كانون الثاني/يناير عام 2020، ممّا أدّى إلى إعاقة الاستثمار في البلاد. الواقع أنّ عجز الحكومة السوريّة ومصرف سوريا المركزيّ عن تحقيق الاستقرار في سعر الليرة السوريّة، على الرغم من الوعود المتكرّرة بالقيام بذلك، يُثير المخاوف بين المستثمرين الأجانب بشأن احتمال تكبُّد خسائر في سعر الصرف بسبب انخفاض قيمة العملة.
في نفس الوقت، تحوم شكوك كبيرة حول إمكانيّة تنفيذ المشروعات الاقتصاديّة بين سوريا وحلفائها بنجاح، لا سِيَّما فيما يتعلّق ببعض خطط إعادة الإعمار المحددة في مذكرات التفاهم المختلفة التي تمّ الاتّفاق عليها بين الحلفاء في السنوات الأخيرة. على سبيل المثال، فشلت الحكومة السوريّة في تأمين الأموال اللازمة لإسهامها في اتّفاقيّات التعاون في قطاع الكهرباء مع إيران وروسيا، الأمر الذي دفعهما إلى الانسحاب.
ما تزال المخطّطات الرامية إلى تمويل مشروعات إعادة الإعمار أو غيرها من الاستثمارات في البنية التحتيّة، عن طريق رأس المال الأجنبيّ غير واضحة وغير كافية، خاصّةً في ظلّ مواجهة روسيا وإيران لمشاكلهما الاقتصاديّة العميقة بَينما يواصلان في نفس الوقت تقديم الدعم الماليّ والمادّيّ للنظام السوريّ على أعلى المستويات.
إضافةً إلى هذا، تشكّل العقوبات الأميركيّة والأوروبّيّة على سوريا عقبةً تصدّ الشركات والمستثمرين الأجانب عن الساحة السوريّة. فالمخاوف من السقوط تحت طائلة العقوبات الأميركيّة تصرِف أيضاً الشركات متعدّدة الجنسيّات، وخاصّة مع إعلان الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب مؤخّراً عن "قانون قيصر لحماية المدنيّين السوريّين". وقد وضعت الضغوط الأميركيّة حدّاً لمزيد من التقارُب بين بعض الأنظمة العربيّة وسوريا؛ فمع أنّ العلاقات الإماراتيّة-السوريّة قد استُؤنِفت، لم تضخّ أيّة استثمارات في سوريا إلى الآن.
شبكات رجال الأعمال الجديدة: تعميق السياسات الاقتصاديّة التي سبقت عام 2011
أتاح الصراع ظهور فاعلين اقتصاديّين جُدد، عادةً ما يرتبطون بالأجهزة الأمنيّة وينخرطون في القطاعات المختلفة لاقتصاد الحرب، ويسعون بشكلٍ متزايد إلى تحقيق عائدات سريعة ومرتفعة لاستثماراتهم. فهم يعملون كمهرِّبين ووسطاء تجاريّين لاستيراد بضائع معيّنة تحتاج إليها البلاد، أو يعملون كواجهة للشخصيّات المؤثّرة في النظام السوريّ. وفي نهاية المطاف يستثمر رجال الأعمال هؤلاء في الاقتصاد الرسميّ، وبعضهم يعزّز نفوذه وسطوته من خلال شَغْل المناصب الرسميّة في مؤسّسات الدولة، كالبرلمان والغرف الاقتصاديّة المختلِفة ومنها غرف التجارة.
عادةً ما تتعارض المصالح الاقتصاديّة والتجاريّة لهؤلاء اللاعبين الجُدد مع إمكانيّة تنشيط القطاعات الإنتاجيّة في الاقتصاد السوريّ، وتحديداً قطاعَي الزراعة والتصنيع اللذين عانَيا بشدّة من آثار الحروب والدمار. أمّا قطاع التجارة -وخصوصاً الوارِدات- فقد أصبح مصدراً رئيسيّاً للأعمال التجاريّة المربِحة في البلاد، بسبب الإنتاج الاقتصاديّ المنخفض للغاية وافتقار النظام إلى الاستثمارات والحوافز الاستثماريّة في القطاعات الإنتاجيّة، وبسبب الحاجة إلى منتجات معيّنة كالموادّ الغذائيّة والأدوية والمشتقّات البتروليّة. وقد شكَّل التجّار التابعون للنظام شبكات احتكار لبعض المنتَجات من تجارة الاستيراد، فيما قاموا أيضاً بتطوير أسواق للتهريب.
يأتي هذا على الرغم من أنّه منذ بدء الانتفاضة الشعبيّة في آذار/مارس 2011 والحكومات السوريّة المتعاقِبة تُعلِن عن العديد من التدابير لتقليص الوارِدات من منتجات معيّنة ولإعادة تركيز جهودها على الإنتاج المحلّيّ. غير أنّ تلك السياسات أثارت الانتقادات في أوساط فئات من التجّار الذين رأوا في تقليص الوارِدات تهديداً لهم، ولم يرغبوا في أنْ تتراجَع مصالحهم ومنافعهم. في نهاية المطاف تغلّبت مصالح التجّار، ولم تفعل الحكومة سوى القليل. وبالفعل في العام 2012 سرعان ما أُلغِيَ قرار حظر جميع الوارِدات التي لها معدّل تعريفة جمركيّة يزيد عن 5%، وذلك إثر ضجّة وسط مجتمع الأعمال المحلّيّ. في آذار/مارس 2019، وبدعمٍ من مجموعة كبيرة من التجّار ورجال الأعمال، استطاع محمّد حمشو إقناعَ رئيس الوزراء بإلغاء مرسوم حكوميّ يحتّم على المستورِدين دفعَ رسوم قنصليّة لوزارة الخارجيّة والمغتربين بدلاً من وكلاء الجمارك التابعين لوزارة الماليّة. وكانت وزارة الخارجيّة حينها ستُطالِب المستورِدين بتقديم وثائق دفع الرسوم القنصليّة، أيْ فاتورة وشهادة مَنشأ مصدَّقة من السفارة السوريّة في البلد المصدِّر للمنتجات. كان هذا الإجراء يمثّل مشكلة لمعظم التجّار، نظراً لأنّ الغالبيّة العظمى منهم يستورِدون بضائعهم إلى سوريا من مصادر غير معروفة أو من بلد ليست هي بلد المَنشأ لتلك السلع والمنتجَات، وإنّما عبر لبنان وبلدان عربيّة أخرى.
تسارعَت وتيرة الدور الصاعد لتلك الجهات الفاعلة الجديدة بفضل قرار الحكومة السوريّة القيام بالمزيد من أجل تخفيف القيود على الوارِدات، الأمر الذي أدّى إلى زيادة إسناد مسؤوليّة الاستيراد إلى القطاع الخاصّ. وفي آذار/مارس 2020، قامت الحكومة بالمزيد من تخفيف القيود على استيراد الغاز الطبيعيّ للسماح للمزيد من الجهات الفاعلة في القطاع الخاصّ باستيراد الوقود والديزل مدَّةَ ثلاثة أشهر، فيما سمحت في الوقت ذاته لجميع المستورِدين -بما فيهم الشركات الخاصّة- باستيراد الدقيق، بغضّ النظر عن بلد المَنشأ. ومع ذلك، فإنّ هذه التدابير لم تُلَبِّ النقص في احتياجات البلاد من القمح والوقود، لعدّة أسباب منها العقوبات والفساد وأعمال الاحتكار التي يقوم بها التجّار.
أثارت هذه التدابير مشاعر الإحباط والخَيبة في أوساط المصنِّعين الذين كانوا ينادون بسياسات تدعم الإنتاج الوطنيّ. على سبيل المثال، في أيلول/سبتمبر 2020، قدّمَت غرفة صناعة حلب قائمة مطالبها إلى الحكومة، بهدف الحفاظ على قطاع التصنيع الوطنيّ ودعم الإنتاج. كان أحد أبرز المطالب إيقاف دعم جميع الوارِدات (وتركيزه بدلاً من ذلك على المنتجات الضروريّة فقطّ)؛ الذي يُعتبر إجراءً يُفاقِم كلّاً من الفساد واستغلال فرق الأسعار وتهريب الأموال. في حين صرحت غرفة صناعة حلب أيضاً أنّ عمليّات تمويل الوارِدات لم تُؤدِّ إلى خفض الأسعار في الأسواق. وهكذا أكّدت هذه المطالب بصورة عامّة على المطالبَ السابقة التي عبَّر عنها كبار المصنِّعين للحكومات السوريّة المتعاقبة.
بدأ هذا التوجّه السياسيّ -في تفضيل الاستهلاك على الاستثمار في الإنتاج- بالفعل في بدايات العِقد الأوّل من الألفيّة، مع عمليّة تحرير وخصخصة الاقتصاد السوريّ؛ ولكنّ التجّارَ ورجالَ الأعمال الجُدد التابعين للنظام قد ضاعَفوا بشكلٍ كبير هيمنتَهم على الاقتصاد السوريّ في السنوات الأخيرة وعمّقوها. بالتالي، لا يجدُر بنا اعتبار التدابير السياسيّة المختلفة التي نفّذتها الحكومات السوريّة المتعاقبة ضروريّةً و"تكنوقراطيّة" كما تزعم دمشق، وإنّما وسائل لتغيير الظروف العامّة لتراكُم رأس المال وتمكين الشبكات الاقتصاديّة المرتبطة بالنظام. غالباً ما استغلّت الدول في جميع أنحاء العالم الأزماتِ باعتبارها فرصةً لإعادة الهيكلة وتعزيز التغييرات بطرقٍ لم تكن في السابق متصوَّرة، من أجل توسيع نطاق وصول السوق في مجموعة واسعة من القطاعات الاقتصاديّة التي كانت في السابق تهيمن عليها الدولة إلى حدٍّ كبير.
خاتمة
ترتبط السياسة الاقتصاديّة للحكومة السوريّة بالطبيعة الميراثيّة للنظام السوريّ، ولتلك السياسة عواقب واضحة على البِنَى الاقتصاديّة-الاجتماعيّة والمجتمعيّة في البلاد. ففي السنوات الأخيرة عزّز هذا النهج من زيادة تطوير التجارة والقطاع الخدميّ، وغذّى أشكالاً مختلفة من الاستثمار القائم على المضارَبة، وخصوصاً في قطاع العقارات، مصحوباً بالفساد وإدارة ريعيّة للموارِد (بما فيها الموارد غير الطبيعيّة). حدث كلّ هذا مع مزيدٍ من إضعاف القطاعات الإنتاجيّة وتقليصها، الأمر الذي يؤدّي إلى زيادة إفقار قطاعات واسعة من المجتمع ويقود إلى معدّلات ضخمة من البطالة ونقص العمالة، مصحوبةً بمعدّلات عالية للغاية من هجرة شباب الخرّيجين.
أدّى هذا إلى زيادة مشاعر الإحباط والخيبة في أوساط الشعب السوريّ، وهي التي ظهرت من خلال الانتقادات التي تمّ التعبير عنها على وسائل التواصل الاجتماعيّ وفي صورة احتجاجات صغيرة ضدّ التدهور المتواصل في اقتصاد البلاد وسياسات الحكومة.
مع ذلك، لا تتحوّل تلك الانتقادات والمؤشّرات على وجود معارضة تلقائيّاً إلى فرص سياسيّة، وخاصّة بعد أكثر من تسع سنوات من الحرب الوحشيّة الدائرة في البلاد. إضافةً إلى ذلك، تظلّ محصورةً في مناطق محلّيّة محدودة، دون أدنى روابط أو صلات فيما بينها. وذلك لأنّ غياب معارض سوريّة منظّمة ومستقلّة وديمقراطيّة وشاملة، بإمكانها جذب الطبقات الشعبيّة من المجتمع، يُصعّب عمليّة توحيد قطاعات متنوّعة من الشعب لتحدّي النظام من جديد على نطاق وطنيّ.
ختاماً، بَينما ضمِن النظام إلى حدٍّ ما بقاءه، نتيجة دعم حلفائه الأجانب بشكلٍ أساسيّ، لم يضمن الحفاظ على شكل من الهيمنة المستترة على قطاعات كبيرة من الشعب. وقد أدّى هذا إلى إثارة حالة من عدم الاستقرار المتواصل، وهي الحالة التي من المحتمل أنْ تستمرّ في المستقبل القريب.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.