تصاعدت وتيرة تنظيم التحركات الاحتجاجية في تونس بشكل مطّرد بعد الثورة، كشكل جديد من أشكال الفعل السياسي، فظهرت مجموعة من الحملات الشبابية ذات الطابع الاحتجاجي، التي قادتها مجموعة من الناشطين الشباب حول العديد من القضايا التي حركت الشارع السياسي في عشرية الانتقال الديمقراطي، نذكر من بينها حملة "مانيش مسامح"، "تعلّم عوم"، "فاش تستناو"، "باسطا"، "جعنا من ظلمكم"... تمثل هذه الحملات جزءاً من التعبيرات السياسية التي اكتسحت الفضاء السياسي طيلة العشرية الفارطة، وفرضت أنماطاً جديدة من الاحتجاج والتعبئة والتعبير.
المفارقة التي ينطلق منها بحثنا هي أن الفضاء العام في تونس، وبعد أن كان مكبلاً لعقود طويلة بقيود الاستبداد، وبعد أن ساهمت الثورة في كسر حاجز الخوف وفتحته أمام مختلف الفاعلين السياسيين لكي يتنافسوا داخله بكل حرية، لم تتمكن طبقته السياسية من إدارة العملية السياسية بسلاسة. تمثل مغادرة أعداد كبيرة من الناشطين الشباب للأحزاب ونفورهم من العمل السياسي المنظم، أحد أبرز ملامح هذه الأزمة، حيث تحولت الأحزاب في عشرية الانتقال الديمقراطي إلى فضاءات عاجزة عن استيعاب الشباب داخل أطرها.
مثلت الحملات الاحتجاجية بالنسبة للشباب بديلاً سياسياً تم اللجوء إليه من أجل الدفاع عن استحقاقات الثورة التي اعتبروها مهددة. فتم التعامل مع عدة قضايا مثل قضية شهداء وجرحى الثورة وقانون المصالحة مثلاً باعتبارها قضايا عاجلة تحتاج إلى أن يدافعوا عنها من خلال أطر غير هرمية وتمتاز في هيكليتها بمرونة أكبر من الأحزاب.
تشير بعض الأدبيات التي تُعنى بقضايا الالتزام السياسي والحركات الاجتماعية، إلى أن الأطر التقليدية للفعل السياسي الكلاسيكي كالأحزاب والنقابات أصبحت تمثل أطراً مقيدة بالنسبة للشباب، حيث تفرض هذه الهياكل قيوداً كبيرة على المنخرطين فيها وتحدُّ من إمكانات الفعل السياسي ومن حرية المبادرة لديهم.
تمثل الأحزاب تنظيمات سياسية تتميز بهيكلية ذات تراتبية عالية، حيث تتألف الهياكل الحزبية في العادة من المكتب السياسي أو التنفيذي للحزب، والذي يحتكر في أغلب الأحيان أعضاؤه سلطة اتخاذ القرارات سواء المتعلقة بشؤون التسيير العادي لشؤون الحزب أو في ما يتعلق بالقرارات المهمة. بينما يلعب الأعضاء العاديون، والذين يمثل الشباب جزءاً كبيراً منهم، أدواراً هامشية في أغلب الأحيان.
كان لبعض هذه الحملات تأثير كبير على مجريات الحياة السياسية داخل البلاد في تلك المرحلة، حيث دفعت حملة" مانيش مسامح" مثلاً بالحكومة إلى التخلي عن ثلثي مبادرة قانون المصالحة الاقتصادية والاجتماعية، بعدما جعلتها قضية رأي عام وحركت الشارع ضدها بقوة طيلة ثلاث سنوات.
برزت حملة "مانيش مسامح" في شهر آب/ أغسطس من سنة 2015، كشكل من أشكال الاحتجاج ضد مشروع قانون المصالحة الذي أعلن عنه رئيس الجمهورية السابق الباجي قائد السبسي خلال كلمة ألقاها بمناسبة عيد الاستقلال بتاريخ 20 آذار/مارس 2015. عبر مشروع هذا الإعلان عن رغبة السلطة القائمة حينها في العفو عن رجال الأعمال وكبار موظفي الدولة الذين ارتكبوا جرائم مالية واقتصادية في فترة حكم بن علي، أي قبل الثورة.
اعتبر الشباب الناشط في حملة "مانيش مسامح" أن هذه المبادرة تمثل محاولة من السلطة لتبييض صفحة الفاسدين الذين قاموا باستغلال مناصبهم ونفوذهم من أجل خدمة مصالحهم الضيقة. واعتبروا أن من واجبهم الأخلاقي الدفاع عن المسار الثوري من خلال الانتصار لمسار العدالة الانتقالية ورفض الالتفاف عليه بمثل هذه المبادرات من قبل السلطة القائمة.
يمثل الجنوح إلى اختيار الأفقية كشكل تنظيمي، إحدى أبرز سمات هذه الحملات الاحتجاجية. حيث تمثل حملة "مانيش مسامح" هيكلاً ذا بنية أفقية، نظراً لاحتكامه إلى خيار الأفقية في تسيير شؤون الحملة واتخاذ القرارات. تعرّف "مانيش مسامح" نفسها باعتبارها مبادرة مواطنية مستقلة مفتوحة على كل من يريد الانضمام إليها.
نسعى من خلال هذه الورقة إلى محاولة فهم تمثّلات بعض الناشطين، الذين خاضوا تجربة نضالية داخل حملة "مانيش مسامح"، لخيار الأفقية الذي اعتمدته الحملة كشكل تنظيمي من أجل النضال ضد تمرير قانون المصالحة الاقتصادية والاجتماعية.
ممارسات أفقية: عودة إلى تجربة ميدانية
الأفقية كمفهوم نظري
تمثل الحملات الأفقية أطراً نضالية غير خاضعة للطابع الهرمي الذي يحكم العلاقات وينظمها داخل الأطر السياسية الكلاسيكية. حيث تتميز العلاقات داخل هذه الحملات بطابعها غير العمودي، ما يفسح المجال لفاعليها للنضال بحرية أكثر وقيود أقل، وبابتداع أساليب نضالية تتوافق مع طبيعة القضية التي يناضلون من أجلها ومع خصوصية الفضاء السياسي الذي يتحركون داخله. منح هذا الحيز من الحرية للفاعلين السياسيين القدرة على ابتكار أساليب نضالية جديدة ساهمت في مزيد من انتشار حملة "مانيش مسامح"، وفي مزيد من تطوير قدرتها على الحشد والاستقطاب.
تتميز هذه الحملات على صعيد آخر بأنها أشكال تنظيمية محدودة في الزمن ومرتبطة بقضية محددة ودقيقة، ولا تتطلب من الفاعل السياسي التزاماً طويل المدى، على عكس أشكال الالتزام التقليدي، التي تفرض على المنتمين إليها أن يتبنوا رؤاها الأيديولوجية والفكرية، وأن يكون التزامهم داخل هياكلها التزاماً طويل المدى.
تمثل الأفقية كخيار تنظيمي، ملاذاً يلجأ إليه المناضلون السياسيون، الذين ضاقوا ذرعاً بالقيود التي تفرضها أشكال الانتظام العمودي. حيث توفر الأفقية إيجابيات عديدة، من بينها المرونة التي تتميز بها والتي تسمح بتواجد مستويات متفاوتة لالتزام الناشطين وأشكال متعددة لنشاطهم، ما يمنح لهذه الهياكل إمكانية الخلق والتجديد بشكل مستمر.
لا بد من الانتباه إلى أن الأفقية لا تعني بالضرورة التضادّ مع كل شكل تنظيمي عمودي. فتحت عنوان الأفقية نستطيع أن نجمع قائمة واسعة من الأشكال التنظيمية، من بينها طريقة الانتظام التي تتميز بغياب الهياكل وبالارتجال وباللامركزية في اتخاذ القرارات، ومن بينها كذلك تمثل الأفقية باعتبارها تنظيماً يحتوي على هيكلة واضحة ومحددة وتخضع لنظام يرتب المهام والأدوار، وينظم العلاقات داخل هذا الهيكل، ولكنه يتميز باعتماد مجموعة من الآليات التي تمنع تركّز السلطة واحتكارها، وبالتالي تضمن إرساء ديمقراطية داخل التنظيم. غير أن العامل المشترك بالنسبة لكلا التوجّهين هو رفض مبدأ التراتبية والتبعية والحرص على ضمان الديمقراطية والتشاركية كخيار تنظيمي.
تمثل مسألة القيادة أحد أبرز الرهانات التي تواجه التنظيمات الأفقية، فمنح سلطة التسيير والإدارة لشخص ما أو لمجموعة من الأشخاص، حتى وإن كانت مقيدة بمجموعة من الآليات التي تمنع الهيمنة والتسلّط، ليست أمراً مرحباً به في أغلب الأحيان. فرغم أهمية دور القيادة داخل الأطر النضالية، باعتبارها وظيفة تقوم بتحديد المهام وضبط سبل النضال وبترتيب العلاقات داخل المجموعة، إلا أن هنالك رفضاً إيديولوجياً لمبدأ القيادة داخل بعض الدوائر الأناركية واللاسلطوية. حيث تعتبر هذه المجموعات أنه لا يحق لشخص ما أن تتاح له إمكانية ممارسة أي شكل من أشكال السلطة في علاقة بتحديد مستقبل أي تحرك نضالي.
تم التعرض لإشكالية العلاقة العمودية بالتمثيل السياسي والديمقراطي من قبل حركات عديدة في عدة بقاع من العالم. مثلت الأفقية خياراً تنظيمياً اعتمدته عدة حركات وتنظيمات في العقود الأخيرة، حيث تقدم الحركة الزاباتستية في المكسيك نفسها باعتبارها تنظيماً لامركزياً، بدون قائد، تتم داخله مناقشة جميع القرارات السياسية، ويتم اتخاذ القرارات بالإجماع. حيث قام الزاباتستيون في تسعينايت القرن الماضي من خلال التحركات النضالية التي قاموا بها ضد السلطة في المكسيك بالمطالبة بلامركزة شاملة للسلطة، فبالنسبة لهم جوهر الديمقراطية يتمثل في أن تتاح إمكانية ممارسة السلطة للجميع في كل وقت وفي كل مكان.
يعتقد بعض الباحثين أن اعتماد خيار الانتظام السياسي والعسكري بطريقة أفقية يمثل السبب الرئيسي لنجاح الحركة الزاباتستية في السيطرة على عدة أراضٍ وفي ضمان الاستمرارية.
عودة إلى تجربة ميدانية
وأنا أعدّ نفسي لكتابة هذا المقال، شاءت الصدفة أن تلوح لي على صفحات التواصل الاجتماعي دعوة مفتوحة لحضور اجتماع واسع لتقديم مقترحات الإعداد للذكرى الأولى لعملية طوفان الأقصى من قبل "تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين" في حديقة عمومية بالعاصمة التونسية. بدت لي الدعوة فرصة ملائمة لمواكبة هذه الفعالية ذات الطبيعة الأفقية. فلا يوجد ما هو أفضل حسب اعتقادي من افتتاح هذه الورقة بعرض وصفي لنشاط أتاح لي إمكانية المعاينة الميدانية لنشاط تم تجسيد الأفقية فيه أمام ناظري.
فبعد مرور أشهر طويلة على قيامي بتجميع شهادات لناشطين خاضوا تجربة "الأفقية" من خلال حملة "مانيش مسامح"، وبعد عدم توفر الفرصة سابقاً للكتابة عنها، حفزتني هذه المعاينة الميدانية على استخراج الدفاتر القديمة واستئناف الكتابة حول المسألة.
بدت لي فكرة الدعوة المفتوحة والمتاحة للجميع لحضور هذا الاجتماع التحضيري من أجل تنظيم تحرك احتجاجي في حد ذاتها مثيرة ومهمة، حيث دأبت العادة على أن تتم دعوة المحتجين إلى التظاهر فقط بعد أن يتم ضبط وتحديد كل التفاصيل من قبل الجهة المنظمة. أما أن تتم دعوة الجميع وبشكل مفتوح على وسائل التواصل الاجتماعي، ودون الحرص على القيام بأي نوع من أنواع "الانتقاء السياسي" أو "الفرز الأيديولوجي"، فهذا لعمري جوهر الأفقية وروحها.
عُقد الاجتماع في ساحة عامة وسط العاصمة التونسية، في مساء يوم أحد وتحت الظلال الوارفة لشجرة ضخمة. كان الحاضرون والذين يقدر عددهم بالعشرات يفترشون الأرض ويستظلون بأغصان الشجرة وأوراقها في يوم قائظ وشديد الحرارة.
كان التنوع هو السمة الغالبة على جُلّ الحاضرين في الاجتماع يومها، ولم يكن هنالك أي تعمد لإقصاء طرف أو لمنح حيز أكبر للتعبير أو الهيمنة على النقاش على حساب طرف آخر.
لم يكن على أي من الحاضرين، سوى إبداء الرغبة في المساهمة في النقاش، حتى يتم منح الكلمة له بعد أن يقوم بتقديم نفسه للبقية. سهولة الحصول على الكلمة، لا تعني غياب القواعد التنظيمية عن الاجتماع. فالجلسة لم تكن عبارة عن فضاء للدردشة والبوح الحر، بل تم ضبطها بمنهجية محددة. حيث عرضت مختلف النقاط التي سيتم التعرض لها خلال الاجتماع على الحاضرين قبل إعلان انطلاقه، وتم ترتيب هذه النقاط بطريقة تشاركية. وتولى أعضاء الحملة الذين قاموا بالدعوة للاجتماع إدارة النقاش وحرصوا على الخروج بورقة عمل دقيقة.
تنتمي أغلبية الحاضرين إلى فئة الشباب، حسب ما عاينته بالعين المجردة. لا أستطيع تحديد مختلف الأعمار بدقة، ولكن أستطيع أن أجزم بأن جُلّهم تتراوح أعمارهم بين منتصف العشرينات وبداية الثلاثينات. شخصان فقط كان يوحي مظهرهما الخارجي بأنهما في أواخر الخمسينات من العمر. أما المنظمون، ويبلغ عدد الحاضرين منهم في الاجتماع ثلاثة، فيبدو أنهم في منتصف الثلاثينات من العمر.
حسب معرفتي السابقة بالمنظمين، نستطيع أن نقول إنهم ينتمون سياسياً إلى الجيل اليساري الجديد، الذي خاض تعميده السياسي، حسب عبارة محمد سليم بن يوسف، في الفعل الثوري أو سبق ذلك بقليل . أي شباب اليسار في تونس، بمختلف تياراته السياسية، الذين عرفوا تناقضات جيلية مع قدامى مناضلي التنظيمات اليسارية، أفضت إلى انقسامات وصراعات حادة داخل مختلف التنظيمات .
خلال النقاش، لاحظت بأن الشباب الحاضر كان له دور محوري ومؤثر في الحسم في عدة خيارات وفي اتخاذ القرارات. ولم تكن هنالك هيمنة من قبل المنظمين، باعتبار أنهم يحملون رصيداً نضالياً وخبرة ميدانية تتيح لهم ممارسة بعض أشكال الهيمنة في عدة مواضع. فحتى عند توزيع الأدوار لم يكن هنالك حرص من قبل المنظمين على ترؤس مختلف اللجان التنظيمية، بل كانت المسألة خاضعة للتطوع وللمبادرة الحرة من قبل الحاضرين. ولكن يبدو أن هنالك معرفة سابقة بجزء هام من الحاضرين في الاجتماع، جعلت المسألة تتم بكثير من السلاسة. فمن تطوعوا لعضوية اللجان أو لترؤسها يبدو أنهم أصحاب خبرة تنظيمية وتعاملوا سابقاً مع التنسيقية في تحركات نضالية سابقة، ما سمح في ما يبدو بمراكمة رصيد من الثقة جعل الأمور تتم بكل تلك السلاسة.
إثر انتهاء النقاش، وبعد المرور على مختلف النقاط التي تم طرحها في بداية الجلسة، قسّم الحاضرون الذين أبدوا استعدادهم للمساهمة في تنظيم التحرك إلى مجموعات. مجموعة أولى كلّفت بالجانب التواصلي، من بين مهامها ضبط استراتيجية للتواصل مع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة. مجموعة ثانية كلّفت بالجانب اللوجستي، كشراء الأعلام التي سترفع في المظاهرة وجمع التبرعات وكتابة البيانات والشعارات، حيث اتُّفق على تنظيم ورشة لكتابة الشعارات. ولجنة ثالثة كلّفت بالبحث عن السبل الممكنة لإسناد المقاومة في لبنان عبر مساندة جهود الإغاثة مثلاً.
نستطيع من خلال هذه المعاينة الميدانية لطريقة تسيير اجتماع تنظيمي لتحرك احتجاجي سُيّر بطريقة أفقية، أن نقول إن الأفقية في هذا النشاط تتمثل في الطريقة التشاركية التي اتّخذت مختلف القرارات فيها وفي الدعوة المفتوحة للاجتماع على وسائل التواصل الاجتماعي. حيث حرص المنظمون على تشريك مختلف الناشطين الذين أبدوا رغبتهم في المساهمة بالتحرك. يبدو أن هذا الحرص على تنظيم التحرك بطريقة تشاركية ينبع من رغبة المنظمين في أن يكون الحاضرون جزءاً فاعلاً من التحرك، ولا يقتصر دورهم على اعتبارهم مجرد حشود جماهيرية يحتاجونها لإثبات قدراتهم التحشيدية.
بالإضافة الى أن الطبيعة المفتوحة للاجتماع تعبر عن تمثّل المنظمين للفعل السياسي، باعتباره فعلاً مفتوحاً تشاركياً. وهنا يكمن جوهر اختلافهم مع الفهم الكلاسيكي للسياسة التي يتمثلها باعتبارها مرادفاً للإيديولوجيا والانضباط.
عودٌ على التجارب: رؤى نقدية
بدأت مجموعة "مانيش مسامح" النضال ضد قانون المصالحة "دون أن تكون لها بالضرورة خطة تحرك مفصّل أو مبادئ سياسية أو حتى أهداف استراتيجية". كان الانتماء إلى طيف اليسار بمختلف تنويعاته وتشكيلاته هو السمة الغالبة على أغلب أعضاء الحملة، "لكنه مرفق بنقد جذري لأحزاب اليسار التقليدي". اختارت الحملة، كما سبق وأشرنا أعلاه، أن تنتظم وفق شكل أفقي، بحيث يكون لجميع أعضائها مساهمة متقاربة في إدارتها.
يشير بعض الباحثين إلى أن بروز هذه الحملات الأفقية والعفوية منذ 2014 في تونس بقياداتها الجديدة وآليات عملها المبتكرة، هي نتيجة "للمأزق المزدوج لليسار "الحركي/ التنظيمي" و"الأيديولوجي/ السياسي""، حيث تعبر عن "الإحراج الذي صار عليه البراديغم التنظيمي التقليدي القائم على حزب الطبقة والمركزية الديمقراطية والولاء والالتزام التنظيميين داخل تنظيمات غير ديمقراطية، وهو ما صار يرفضه الشباب بقوة". أفرزت هذه الديناميكية الاحتجاجية "بعض أشكال التنظم المبدعة، وكانت الحملة الشبابية أبرز هذه الأشكال". حيث "تم ابتكار الحملة لكي تلتقط الطاقة النضالية لليسار الشبابي بشكل يضمن في الآن نفسه تباين الهويات السياسية ووحدة المجموعة والأهداف التي ترمي لتحقيقها. فكان للحملة شكل أفقي، يتسم بانعدام مركزة أخذ القرار".
إثر مجموع المقابلات التي أجريناها مع الشباب الناشط بحملة "مانيش مسامح"، لاحظنا أن تمثّلاتهم لأشكال الفعل السياسي تختلف من فاعل إلى آخر، نظراً لتنوع تجاربهم واختلاف مساراتهم. ومع ذلك، يتفق جميعهم على نقد الأطر التقليدية للفعل السياسي وينظرون بكثير من الارتياب والتوجس إلى العمل الحزبي.
ينتمي الشباب الناشط سياسياً اليوم إلى جيل جديد منفتح وفي تواصل دائم مع ما يدور حوله في العالم بفضل الثورة الرقمية. نعني بمفهوم "الجيل" مجموعة من الأفراد المتجانسين الذين يتقاسمون نفس الرؤى والتمثلات والممارسات والقيم، والذين يتواجدون تاريخياً في موقع يمكنهم من معايشة نفس الأحداث ومواجهة نفس التحديات. يميل بعض المختصين إلى تفسير التوترات التي تُميز العلاقات بين مجموعات الأعمار المختلفة بصراع الأجيال، وهو صراع يكون ناجماً في العادة عن اضطراب المعايير وتطورها من جيل إلى جيل.
لا بد من الإشارة إلى أنه في تونس، ورغم أن الشباب يُمثلون أحد العناصر الرئيسية في التركيبة الديموغرافية للبلاد، حيث تمثل الشريحة العمرية للذين تتراوح أعمارهم بين 15 و39 سنة نسبة 38،09 بالمئة من مجموع عدد السكان ، إلا أنهم لم يتمكنوا من لعب دور اجتماعي واقتصادي بنفس أهمية الدور الذي أدّته الأجيال السابقة في نفس مرحلتهم العمرية. حيث ساهم ارتفاع أمل الحياة بين التونسيين وتمتعهم بقدرات صحية وذهنية جيدة حتى بعد تجاوز سن التقاعد، إلى جعل "الشيوخ" لا يغادرون المشهد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي إلا في مرحلة متأخرة جداً من حياتهم، لأنهم يشعرون بأنهم مازالوا قادرين على العطاء، ما يعيق وصول الشباب إلى مناصب متقدمة في مختلف هذه المجالات.
لا يختلف المجال السياسي كثيراً عن بقية المجالات الأخرى، حيث احتكر سياسيو الجيل السابق العملية السياسية بعد الثورة، ولم تُمنح الفرصة الكافية للشباب للعب الدور المناط بهم.
أدى تهميش الشباب ومنحهم أدواراً ثانوية وإقصاؤهم عن المشاركة في صنع القرار داخل تنظيماتهم الحزبية، إلى جعلهم يغادرون التجربة التنظيمية من أجل البحث عن سبل أخرى للفعل السياسي.
لعبت أساليب العمل التسلطية وعدم الاحتكام إلى ممارسات ديمقراطية داخل الأحزاب دوراً جوهرياً في جعل الحزب فضاء منفراً بالنسبة للشباب. حيث يبدي الشباب اليوم حساسية تجاه السرديات الكبرى التي ترغب في صهر ذواتهم داخلها باعتبار انتمائهم إلى سياق تاريخي وسياسي واجتماعي مختلف يعلي من قيم الحرية والاستقلالية والفردانية. هذه الخصوصية الثقافية جعلت من الأحزاب بالنسبة لهم هياكل جامدة تكبح من حريتهم وتحد من رغبتهم الجامحة في إحداث تغييرات سياسية.
لعبت الثورة التكنولوجية دوراً حاسماً في إذكاء الصراع الجيلي بين المنتسبين إلى الجيل السابق من المتقدمين في السن والمنتسبين إلى الجيل الحالي من الشباب. ونعني بالمتقدمين في السن الأشخاص الذين يبلغون أو تتجاوز أعمارهم الستين عاماً . حيث أدى التمكن من التكنولوجيات الرقمية من قبل الشباب وسرعة تبادل المعلومات والمعارف في ما بينهم إلى هز السلطة المعرفية لمن يكبرونهم سناً.
يقول "زكرياء" (31 عاماً، ناشط سياسي ومحام) في هذا الصدد، إن من نشأ وهو يملك قدرة النفاذ إلى أي معلومة في ثوان معدودة لا يمكن السيطرة عليه بمنطق الهيمنة الإيديولوجية، تستطيع أن تقول ما تشاء وتدّعي ما تريد، ولكن الشاب يستطيع أن يتثبت من مدى صحة ما تقوله في ثوان معدودات. فعملية المكافحة الفكرية أصبحت لصالح الشباب اليوم على عكس ما عرفته الأجيال السابقة. يضيف محدثنا أنه في الماضي، كانت التربية السياسية للأحزاب الكلاسيكية قائمة على التلقين لا على الاجتهاد الشخصي والبحث الفردي والتنقيب عن المعلومة. ويعود هذا بالأساس إلى صعوبة النفاذ إلى مصادر المعرفة. فحسب قوله أغلب الكتب السياسية كانت محظورة في عهدَي الرئيسين السابقين بن علي وبورقيبة. أدى ذلك إلى جعل الثقافة السياسية تنتقل بشكل شفوي، أي أنها ثقافة غير قائمة على البحث والتنقيب، وإنما على الحفظ وعلى ترديد أفكار وشعارات الزعماء. منحت هذه الوضعية نوعاً من الهيبة والسلطة الرمزية لمن يمتلكون المعرفة.
يقول محدثونا، وهم مجموعة من الناشطين الذين خاضوا تجربة النضال داخل حملة "مانيش مسامح"، تراوحت أعمارهم عندما أجرينا معهم المقابلات بين 25 و35 عاماً. وهم طلبة وباحثون في جامعات تونسية وجامعات أجنبية، ينحدرون في أغلبهم من عائلات تنتمي إلى الطبقة المتوسطة. ينتمي جميعهم إلى العائلة اليسارية التونسية بمختلف تياراتها وتنويعاتها.
يقول محدثونا، إن حملة "مانيش مسامح" مثلت بالنسبة لهم ملاذاً وفرصة لممارسة السياسة بشكل مختلف ومتجدد. فقد ضاقوا ذرعاً بأساليب العمل غير الديمقراطية داخل الأحزاب والتنظيمات الكلاسيكية. يعتقد محدثونا أن الشكل العمودي الذي ينظم العلاقات داخل الأحزاب والأبوية التي يتعامل بها قادة الصف الأول مع الشباب مثلت عائقاً حقيقياً بالنسبة إليهم.
يقول "أنيس" (35 عاماً، ناشط سياسي وباحث بمرحلة الدكتوراه في إحدى الجامعات الكندية) في هذا الصدد بأن حملة "مانيش مسامح"، هي أكثر حملة كرست مبدأ الأفقية حسب تقديراته الشخصية. كما أنه يعتقد أن طبيعتها الأفقية جعلت منها حملة ناجحة وحققت العديد من المكاسب السياسية.
تقول "آلاء" (27 عاماً، ناشطة سياسية وأستاذة تعليم ثانوي) في نفس هذا الإطار إن الحملة، ورغم مرور قانون المصالحة، إلا أنها أسقطت ثلثيه. كما أن الحملة برزت في مرحلة سياسية حساسة، حيث نجحت في إعادة الزخم إلى الشارع بعد أشهر طويلة من الركود الذي عم الساحة إثر عقد التوافق السياسي بين حركة النهضة وحركة نداء تونس وتكوين حكومة مشتركة بعد انتخابات سنة 2014.
ساهم اعتماد خيار الأفقية واللجوء إلى الوسائط الاجتماعية في جعل الحملة تنتشر بشكل كبير وتنجح في استقطاب عدد كبير من التونسيين، وتجسد ذلك بالأساس في المظاهرات الحاشدة التي قامت بها الحملة في أكثر من مناسبة. حيث نجحت الحملة في حشد الآلاف من المتظاهرين في ظرف عجز فيه كبار الأحزاب عن تحريك الشارع حسب قول محدثنا "زكرياء".
رغم النجاح منقطع النظير الذي حظيت به الحملة، إلا أنها واجهت تحديات كبرى حسب تعبير محدثنا "أنيس"، والسبب في ذلك يعود إلى اعتماد خيار الأفقية.
"المحاسبة مثلا تضحى أصعب بكثير. اتخاذ القرارات الهامة والعاجلة تضحى معضلة حقيقية في بعض الأحيان، فاستراتيجية العمل الأفقي تقتضي أن يتم فتح نقاش بين جميع أعضاء الحملة حول كل المسائل مهما كانت عجلتها. في بعض الأحيان يتطلب الحسم في تفصيل بسيط ساعات طويلة جداً من النقاشات المنهكة، وهذا مستنزف وغير عملي".
يقول "زكرياء" في معرض رده على سؤالنا حول رأيه في الأفقية بعد تجربة "مانيش مسامح" إنه يملك مقاربة نقدية للمسألة. فهو يدافع عن المنزلة بين المنزلتين، حسب تعبيره. أي أنه يرفض حالة الأفقية العامة التي يستوي فيها من يعلمون مع من لا يعلمون، ويرفض كذلك حالة المركزة المبالغ فيها، والتي تتيح لطغمة صغيرة إمكانية التحكم في باقي أعضاء المجموعة.
"علاقة الشيخ بالمريد هي علاقة غير سليمة وأنا أعارضها. انا مع تنظيم يحتوي على أقل ما يمكن من المركزة وأكثر ما يمكن من الديمقراطية. ولكن المركزة تظل في رأيي عنصراً مهماً وحيوياً في تنظيم العمل السياسي. وأعني بالمركزة أولاً مركزة المعلومات، أي أن أي تنظيم سياسي يجب أن يتوفر على نقطة موحدة لتجميع المعلومات وإعادة بثها. ثانياً مركزة اتخاذ القرار. "
على المستوى العملي، يبدو تطبيق الأفقية كعملية صعبة ومعقدة جداً حسب رأي الناشط "محمد" (32 عاماً، ناشط سياسي وباحث في مرحلة الدكتوراه بجامعة تونس). فمن أجل إدارة حملة أفقية على مستوى وطني، لا بد للحملة من امتلاك تنسيقيات جهوية ومحلية في عدة جهات داخل تونس. الأفقية تقتضي أن يجتمع جميع أعضاء هذه التنسيقيات في مكان واحد وفي كل مرة يحتاجون فيها إلى اتخاذ قرار يجب أن يجتمع الجميع من أجل ذلك، وهذا أمر من الصعب جداً تحقيقه إن لم نقل من المستحيل. صحيح أنه كان يتم اللجوء إلى الإنترنت من أجل تنظيم مثل هذه الاجتماعات، ولكن في جُلّ هذه الاجتماعات لم يكن الجميع حاضرين ولا يساهمون في النقاش بنفس الحماس.
يضيف محدثنا أن الأفقية هي خيار تنظيمي له إيجابيات ومساوئ. ولا بد من الانتباه إلى أن ادّعاء الأفقية لا يعني بالضرورة اعتماد الأفقية. فعندما يدّعي تنظيم ما أنه أفقي، فهذا لا يعني أنه لا توجد في داخله هرمية. إيجابيات الأفقية أن يشعر الناشط داخل الحملة بأنه جزء من الحملة وبأن كل القرارات التي يتم اتخاذها تمثله، وبأنه قادر على المبادرة والفعل وبأن يشعر بالانتماء فعلا إلى المجموعة. من غير الضروري أن يكون موافقاً بشكل تام على كل القرارات التي يتم اتخاذها، ولكن المهم أن تكون إمكانية المساهمة في اتخاذ تلك القرارات قد أتيحت له. بينما تتمثل السلبيات في أنه في كل التجارب الأفقية، تستطيع أن تحتكر مجموعة ما داخل التنظيم إدارة شؤونه، فتنفرد مثلاً بالدعوة إلى الاجتماعات واتخاذ القرارات. وبعد ذلك، وباعتبار أن هذه المجموعة زئبقية وباسم الأفقية، لا تستطيع أن تحاسب أحداً على اتخاذ قرارات خاطئة مثلاً.
ويضيف "محمد"، "أنا شخصياً لا أحبّذ المحادثات والنقاشات الإلكترونية ولا استسيغها. كذلك لا بد من الانتباه إلى أن هنالك نوعين من المركزة في هذه الحالة، مركزة على مستوى المجموعة، وهذا ماكنت أحدثك عنه قبل قليل، ومركزة ثانية على مستوى وطني. يعني المجموعة الناشطة باسم "مانيش مسامح" في تونس العاصمة كان لديها نوع من الهيمنة ونوع من الإشراف السياسي والإعلامي على الحملة بحكم تركز النشاط بأغلبه في تونس العاصمة. فعندما تتصل وسيلة إعلامية ما بالحملة، سيذهب لتمثيل الحملة الناشطون المقيمون بالعاصمة وهكذا دواليك... ".
يشير الباحث مطاع أمين الواعر في هذا الصدد إلى أن المعاينة الدقيقة لحملة "مانيش مسامح" تسمح بملاحظة "وجود شكل ما من القيادة المجلسية والملقاة بداية على عاتق المناضلات/المناضلين ذوي السمعة الأفضل والأكثر أقدمية". غير أن وعي مناضلي الحملة بضرورة تواجد ديمقراطية داخلية وبضرورة تجنب هيمنة القادة الكاريزميين على الحملة، "عرفت المجموعة جهداً فكرياً من أجل تخفيف وطأة هذا العامل". وحصل ذلك عن طريق الحرص على القطع مع أشكال التنظم المهيمنة في تونس، حيث جرى "تركيز نظام قيادة تداولية. يتعلق الأمر بتغيير الأشخاص الذين يتكلمون باسم الحملة في العلن والذين يظهرون في وسائل الإعلام وكذلك المكلفين بتمثيل المجموعة في النقاشات مع الأحزاب والمنظمات، وأيضاً تغيير المهام الموكلة إلى كل عضو(ة) أثناء التحركات".
في نفس هذا الصدد، يعتقد "محمد" أنه لم تُخض تجربة أفقية حقيقية في تونس.
"هنالك تراتبية ما يتم خلقها بحكم العرف. بمعنى أن هنالك ناشطين يكونون فاعلين أكثر من غيرهم، فيمتلكون آلياً بعض الصلاحيات التي لا يمتلكها غيرهم ومن دون أن يتم إيكالهم رسمياً بها. كذلك هنالك ناشطون يمتلكون مهارات أكثر من غيرهم، مثل الفصاحة والقدرة على النقاش والتعبير عن آرائهم ومواقفهم بسلاسة أكثر من غيرهم، هؤلاء تتحول إليهم آلياً صلاحيات إدارة النقاشات...".
يقول الناشط "زكرياء" إنه وعلى عكس العديد من رفاقه المتحمسين لخيار الانتظام الأفقي، فإنه يحمل مآخذ جوهرية عليه. فصحيح أن التنظيمات الهرمية اثبتت فشلها في تونس بعد الثورة، وعجزت عن إدارة المرحلة، ويعود هذا حسب رأيه إلى عدة أسباب من أهمها: عدم مراعاة خصوصية الواقع السياسي التونسي. يقول محدثنا إن جميع التيارات السياسية في تونس لم تحرص على فهم واقعها، وقامت بعمليات إسقاط تجارب هجينة ومختلفة عنه.
"مثلاً قمنا نحن كيساريين باستدعاء التجربة الماركسية اللينينية على الطريقة السوفياتية، ورغبنا في تطبيقها بحذافيرها في تونس. الإسلاميون كذلك قاموا باستيراد تجربة الجماعة الإسلامية ورغبوا في تطبيقها في تونس. ونحن كشباب يساري، ما الذي قمنا به لنحتج على هذه الإسقاطات؟ قمنا باستدعاء شكل تنظيمي ابتُدع في سياقات مختلفة وقمنا بإسقاطه على الحالة التونسية...".
يقول محدثنا إن الناشطين في تونس قاموا باستدعاء نموذج الحملات الأفقية من الحركات الاحتجاجية في وول ستريت وإسبانيا واليونان.
"المركزية ليست شيئاً سلبياً لا بد من محاربته من أجل الخلاص. المركزية فكرة تم التنظير لها منذ قرون طويلة ولها وجاهتها، فالانتظام البشري قائم منذ الأزل على فكرة المركزة، حتى في مجتمعات ما قبل الدولة. بينما اللامركزية والأفقية، من كتب حولها؟ لا توجد تنظيرات كافية حول المسألة. فمثلاً لو تطلبين الآن من عشرة ناشطين من داخل نفس الحملة أن يعرّفوا لك الأفقية، سيقوم ربما خمسة من بينهم بتعريف الأفقية باعتبارها نقيضاً للمركزية، والخمسة المتبقون كل واحد سيقوم بتعريفها بطريقته الخاصة. لا أنكر أن هنالك بعض المحاولات الجادة للكتابة حول مسألة الأفقية، ولكني شخصياً أعتبرها غير كافية".
استنتاج وخلاصة
نستطيع أن نستخلص من خلال مختلف هذه الشهادات أن الشكل التنظيمي الأفقي الذي اعتُمد في عدة حملات شبابية في تونس بعد الثورة، والذي تمثل حملة "مانيش مسامح" أبرز مثال له، لا يمكن أن يتم التعامل معه باعتباره تجربة مكتملة وناضجة. بل يبدو أنه يمثل محاولة من محاولات الناشطين في تونس لإيجاد سبيلهم ولإنتاج توليفة سياسية تتوافق ومقتضيات شروط واقعهم السياسي. فالشروط الموضوعية التي يتم داخل حيزها إنتاج تجارب المجتمعات الغربية، تختلف كثيراً عن نظيراتها في المجتمعات العربية. كما أن سياقات الاحتجاج في المجتمعات الغربية عموماً تختلف عن سياقات الاحتجاج داخل الدول العربية. فرهانات الاحتجاج داخل فضاء سياسي ذي طبيعة ديمقراطية راسخة منذ عقود، تختلف بشكل كبير عن رهانات الاحتجاج داخل فضاء سياسي ظل مكبلاً لعقود طويلة بقيود الاستبداد.
ولكن لا بد من الانتباه الى أن التحديات التي تواجهها التجارب الأفقية في تونس والعالم العربي، ليست بمعزل عن التحديات والصعوبات التي تواجهها هذه البنى التنظيمية في سياقات أخرى. فهنالك تفاعل حقيقي بين ما يعتمل داخل مجتمعاتنا وبين ما يحدث في السياقات الدولية. حيث تأثرت حركة "15 إم" في إسبانيا وحركة "احتلوا وول ستريت" في الولايات المتحدة الأمريكية بطبيعة الاحتجاجات في العام العربي منذ 2011 والتي أدت إلى إسقاط بعض الأنظمة العربية في ما يعرف اختصاراً بأحداث الربيع العربي.
تواجه جميع التجارب الأفقية، على اختلاف السياقات التي أنتجتها، مجموعة من التحديات المشتركة. فرغم نجاح بعض الحركات الأفقية نسبياً في تحقيق الأهداف المرسومة، "إلا أنها بقيت محاصرة استراتيجياً بالأفق الضيق المنحسر في رد الفعل ورسم أهداف مرحلية فقط دون أي بعد استراتيجي أو مشروع سياسي طويل المدى". أي أن الأفقية وكأي فكرة أو تصور نظري، عندما يتم تطبيقها بشكل دوغمائي ومنفصل عن تصورات استراتيجية على المدى الطويل، تنتهي مع مرور الوقت إلى خطر الركود. كما أن بعض الديناميكيات الداخلية التي تميز الحركات الأفقية والمتمثلة في تجنب إرساء هياكل تسيير ثابتة أو منح مناصب قيادية، تجعل من هذه الحركات عرضة لخطر الجمود، فحركات عديدة تكون ناشطة جداً في مرحلة معينة، ولكنها تتوقف فجأة وتدخل في حالة من الجمود، فقط لأن لا يوجد أحد قادراً على قول "هيا بنا".
ولكن لا بد من تثمين هذه التجارب، فرغم التحديات والصعوبات وأحياناً الإخفاقات التي تعرفها الحركات الأفقية، إلا أنها وباعتبارها تجارب قائمة بالأساس على نقد التجارب السياسية الكلاسيكية، فهي تمثل فرصة متجددة للتجريب والخلق المستمر. وهذا ما يضفي حيوية على المشهد السياسي، وهذه الديناميكية هي التي تسمح بالتجديد في المشهد السياسي .
يبدو لنا أنه لا بد من الحذر من الفكرة الداعية إلى ضرورة الانكفاء على أنفسنا من أجل إنتاج نموذج نضالي يستجيب لشروط واقعنا العربي، فهي حمّالة أوجه، وربما تؤدي بنا إلى الوقوع في مطبّات ليس من اليسير الخروج منها. من بينها الغرق في خصوصيتنا وعدم الانتباه إلى ما يحدث حولنا في العالم من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. حيث إن العديد من التحديات التي نواجهها مرتبطة بهذه التحولات. ولا بد للوعي السياسي العربي أن لا ينغلق على نفسه وأن يحرص على استيعاب ما يحدث حوله.
فصحيح أن هنالك خصوصية لمجتمعات المنطقة العربية تتمثل في الطبيعة التسلطية للأنظمة السياسية التي تحكمها وغياب الديمقراطية، بالإضافة إلى التقهقر المتواصل للطبقة المتوسطة وتآكلها وتردي جودة الخدمات العمومية التي تقدمها المؤسسات العمومية، ولكن رفض التفاعل مع ما يحدث في بقية دول العالم بدعوى الحرص على إنتاج أشكال تنظيم سياسية تراعي خصوصية المجتمعات العربية، ربما يجعلنا نقع في المطب الذي نبه إليه عدة مفكرين من بينهم، على سبيل الذكر لا الحصر، آصف بايات، والذي حذر من الأفكار السائدة والمهيمنة في دوائر التفكير والبحث في العالم الغربي " والتي تقرّ باستثنائية منطقة الشرق الأوسط عن العالم حيث ينزع دائماً إلى الحكم الأحادي ومجتمعاته خاضعة لصيرورة تاريخية(ديمومة) غير قابلة لفكرة التغيير". غير أن الحقيقة التاريخية تثبت أن الشارع العربي هو شارع سياسي شهد وما زال يشهد على امتداد تاريخه السياسي المعاصر انتفاضات وممارسات احتجاجية متنوعة، وينشد التغيير ويواكب التحولات التي تحدث في العالم ويتأثر بها ويؤثر فيها.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.