الأزمات الاقتصادية المتعاقبة في مصر: تأثير صندوق النقد الدولي وسبل الوصول إلى سياسات نقدية وغذائية واجتماعية عادلة

انقر هنا لتحميل التقرير الكامل.

الأزمات الاقتصادية المتعاقبة في مصر: تأثير صندوق النقد الدولي وسبل الوصول إلى سياسات نقدية وغذائية واجتماعية عادلة
 (c) Ahmed78 - شاترستوك 

المقدمة

هذا عصر جديد. عصر الأزمات المتعددة المركبة. عصر تملصت فيه مؤسسات التمويل الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، من كثيرٍ من معتقداتها السابقة، المبنية على المبادئ النيوليبرالية. تلك المبادئ التي طالما انتقدها اقتصاديون قلائل ساروا عكس التيار. أزمات متتابعة منذ بداية الألفية الثالثة مهّدت لهذا العصر الذي قام خلاله صندوق النقد بمراجعات هامة على المستوى الفكري، وعلى مستوى الخطاب. بدءاً بالأزمة الاقتصادية العالمية في عامي 2007-2008، مروراً بالانتفاضات العربية منذ عام 2011، ثم تحت وطأة تصاعد خطاب اللامساواة في الفكر الاقتصادي على يد توماس بيكيتي وفريقه، وأخيراً، عام 2015، مع تبني أجندة أهداف التنمية المستدامة 2030.

هكذا، حين صدم وباء كوفيد العالم عام 2020، بدت مؤسسات التمويل الدولية أكثر وعياً بأهمية الحماية الاجتماعية والإنفاق الاجتماعي، وأكثر اهتماماً بمحاربة الآثار الاجتماعية الضارة لبرامجها، ويتعاون من أجل ذلك بشكل لصيق صندوق النقد مع البنك الدولي ويحرص هؤلاء الطرفان بالتالي على ألا يتأثر الإنفاق الاجتماعي سلباً بسبب أي برامج تقشف موصوفة. هو عصر الأزمات المتعددة المركبة، لأن العالم لم يبرأ بعد من الآثار الاقتصادية والاجتماعية لكوفيد، حتى تلقّى ضربة جديدة جراء اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، وتلاها تضخم عالمي عنيد، في عالمٍ شديد الاستدانة، وشبه راكد.

وفي هذا العصر الجديد، أصبحت مصر ثاني أكبر عميل لصندوق النقد الدولي. سمح لها الصندوق بالاقتراض بقرارات استثنائية بما يفوق القدر المتاح لها. استدانت منذ عام 2017 حتى الآن 20 مليار دولار على ثلاثة قروض، بالإضافة إلى قرضٍ جديد ستحصل بموجبه على 8 مليارات دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة. كما بات الصندوق عرّاب سياسة الاقتراض الخارجي المصرية، يحث مصر عليها، مشجعاً المقرضين في أسواق المال الدولية على الاستثمار في ديونها الحكومية. لذا، يمكن القول بارتياح إن صندوق النقد الدولي (ومن ورائه البنك الدولي) هو أحد أهم راسمي السياسة الاقتصادية في مصر خلال الأعوام السبعة الماضية، وأحد أهم اللاعبين الذين يمكن توجيه أصابع الاتهام إليهم في حال أي إخفاقات.

يقول صندوق النقد في تقاريره إن وصفته الأولى في مصر نجحت في تعزيز قدرتها على الصمود (من خلال إجراءات برنامج التمويل الائتماني الممدد 2017-2019). وإن ما أعقب ذلك البرنامج من مشاكل اقتصادية هو من تبعات صدمات خارجية، مثل كوفيد والحرب الروسية في أوكرانيا ثم التضخم العالمي وارتفاع أسعار الفائدة العالمية، وأخيراً الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وجميعها صدمات خارجية عنيفة. لكن السؤال الذي يُطرح هنا هو: لماذا كان أثر تلك الصدمات أكبر في مصر وعلى مواطنيها من معظم الدول ذات مستوى الدخل الشبيه؟ لماذا انفلت مؤشر التضخم في مصر أكثر من غيرها؟ لماذا تدهورت قيمة العملة المحلية؟ لماذا تدهور مؤشر الأمن الغذائي؟ ولماذا لم تترجم إصلاحات التعليم والصحة إلى المزيد من المساواة في الفرص؟

توضح البيانات التالية تأثر مصر الكبير بالأزمات الاقتصادية المتتابعة، أو بمعنى آخر عدم قدرة اقتصادها على الصمود في وجه الأزمات مقارنةً باقتصادات أخرى.
فاق التضخم في مصر متوسط التضخم في الدول الصاعدة والنامية، كما اتخذ مساراً تصاعدياً خلال عام 2023 مقابل مسار تنازلي في المتوسط في الدول محل المقارنة، ليصل إلى 8.1 في المئة، بينما بلغ معدل التضخم في مصر في المتوسط خلال عام 2023 نسبة 28.1 في المئة.

كانت مصر خامس دولة ذات أعلى معدل تضخم للغذاء عام 2023، (56.32 في المئة)، على الرغم من تراجع معدل تضخم الغذاء العالمي الذي تصدره منظمة الفاو خلال العام نفسه.

ارتفعت نسب الفقر والجوع (الفقر المدقع) على إثر تطبيقٍ كاملٍ للإجراءات التي طالب بها صندوق النقد الدولي عام 2017 إلى أعلى مستوى، وهما 32.5 في المئة و6.2 في المئة عام 2018، بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء. وعلى الرغم من عدم نشر بيانات الفقر والجوع لعام 2020 و2022 حتى الآن، إلا أن المرجح هو تجاوز نسبة الفقر 35 في المئة، وفق بعض التوقعات (ولا توجد أي توقعات عن الجوع).تقدر منظمة الفاو أن 28.5 في المئة من السكان في مصر عانوا من درجة شديدة إلى متوسطة من درجات انعدام الأمن الغذائي خلال الفترة من عام 2020 إلى عام 2022. كما تقدر نسبة انتشار نقص التغذية (prevalence of undernourishment) بـ7.2 في المئة خلال الفترة نفسها، وهي أعلى نسبة مقارنة بالفترة التي سبقت التعاون مع صندوق النقد الدولي.

تضاعف الدين الخارجي خلال الفترة من عام 2016 إلى عام 2023 ليصل إلى 164.5 مقابل 55.8 مليار دولار وتدهور هيكل آجاله. إذ بلغت المبالغ الواجب سدادها إلى الخارج خلال عام في أيلول/سبتمبر 2023 51 مليار دولار، أي ما يعادل نحو مرة ونصف الاحتياطات الدولية في نهاية عام 2023. وهذا ما دفع العالم المتقدم إلى مشاركة صندوق النقد الدولي في حزمة إنقاذ لمصر عام 2024، لتفادي تعثرها في سداد تلك الالتزامات.في الربع الأول من عام 2023، كان الجنيه المصري بالفعل سادس أسوأ أداء بين العملات أمام الدولار. وكان ذلك استمراراً للأداء الضعيف الذي ساد طيلة عام 2022.

في ضوء تلك المؤشرات، يحاول هذا المشروع البحثي تقديم سردية مختلفة. تروي كل واحدة من الأوراق البحثية جانباً هاماً من قصة "النجاح" المصرية. جانب غير مروي، أو غير مرئي بما يكفي. جانب يكشف الهشاشة وانعدام القدرة على الصمود، جانب الثمن الاجتماعي الباهظ لتلك السياسات المطبّقة. ويعتبر المشروع إضافة إلى الأدبيات الناقدة للسردية الصندوقية التي ظهرت خلال السنوات الماضية، تكشفت جوانب جديدة، أو تضيف إلى جوانب كُشف عنها من قبل في تقييم التجربة الاقتصادية الحديثة في مصر. والأهم أنها تستلهم من إعادة تشكيل صورة أكثر تركيباً من تلك التي تقدمها الحكومة المصرية (ومؤسسات التمويل الدولية)، لتصف علاجات أكثر عمقاً من تلك المتمحورة حول تحسين المؤشرات. علاجات تدور حول تحسين حيوات المصريين وغيرهم من الشعوب.

اختار هذا المشروع البحثي أن يتتبع ثلاثة أوجه تتصل بزيادة القدرة على مواجهة أزمات الاقتصاد المصري. الأوجه الثلاثة محل الدراسة هي:

السياسة النقدية التي تتبعها مصر خلال السنوات الأخيرة، والآثار السلبية الناتجة عنها سواء على مستوى السياسة المالية أو على مستوى الفقر وتوزيع الدخل.
أثر السياسات الخاصة بالغذاء والسياسات الزراعية على الجوع والأمن الغذائي.
الإنفاق الاجتماعي خصوصاً على التعليم والصحة، هل هو كافٍ؟ هل هو عادل؟ كيف تأثر بالأزمات المركبة؟ وإلى أي مدى نجح كل من مبدأ الحد الأدنى من الإنفاق الاجتماعي لدى الصندوق، وخطط البنك الدولي الحديثة في تطوير القطاعين؟

لماذا اخترنا تلك المحاور؟

تشكل أهداف التنمية المستدامة الـ17 مرجعية مشتركة يمكن الاستناد إليها لتقييم السياسات. وإن كانت الورقات الثلاث لا تتعرض بشكلٍ مباشرٍ لتلك الأهداف، إلا أنها تقدم تحليلات تشير إلى مواضع ابتعاد السياسات الحكومية عن بعض أهمها.

هكذا تستلهم الورقة الأولى الأهداف1، 8، 9، 10، 12، 16. عند الحديث عن الاستجابات الحكومية لأي معضلة اقتصادية، تتجه الأنظار غالباً إلى تحليل السياسات المالية، وهو أمر هام وضروري ولا غنى عنه. لكن نادراً ما يحلّل الاقتصاديون السياسات النقدية وتتبع أثرها الكبير على السياسات المالية، وعلى رفاه عموم المواطنين في نهاية الأمر، تحت الاعتقاد بأن السياسة النقدية أمر فني بالدرجة الأولى، يترك شأنه للبنوك المركزية. وأن لا مجال للاجتهاد أو الاختلاف في عالم إدارة النقود. تناقش الورقة الأولى خطأ هذه الفرضيات، محاولة إلقاء الضوء على أهم عيوب تلك السياسة النقدية السائدة في مصر.

وتستلهم الورقة الثانية الأهداف 1، 2، 12، 15. فتسببت الأزمات التي ألمّت بالاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة، إلى تنامي ظاهرة الجوع وتنامي انعدام الأمن الغذائي. وتناقش الورقة الثانية بالتحليل كيف أدت السياسات الزراعية والتجارية في مصر إلى انكشافها تجاه الأزمات الخارجية والداخلية. وتحاول الإجابة عن سؤال: هل كانت استجابة الحكومة سليمة وكافية لمحاصرة تينك الظاهرتين؟
وتتناول الورقة الثالثة سياسات متعلقة بالأهداف 3، 4، 10. إذ يشترك كل من الحكومة والصندوق والبنك الدوليين في التأكيد على مراعاة الإنفاق الاجتماعي خصوصاً على كل من التعليم والصحة، كأحد أهم ركائز الحماية الاجتماعية. فإلى أي مدى انعكس هذا الالتزام بالتعليم والصحة على الإنفاق الحكومي حجماً وكفاءةً وتوزيعاً؟ تقدم الورقة قراءة تحليلية في أوراق البنك والصندوق لتقييم الإصلاحات الأخيرة في مصر في هذين القطاعين.

وأخيراً، وبشكلٍ عام، في ضوء الهدف السابع عشر، وهو إعادة إحياء الشراكة العالمية للتنمية المستدامة وتعزيز وسائل تنفيذها، يأتي نقاش دور المؤسسات الدولية ومحاسبتها في هذا الإطار، وهو أمر ضروري لاستخلاص الدروس.

التوصيات

بشكلٍ عام، هناك اتجاه عام يمكن تمييزه من الورقات الثلاث هو أن الدواء نفسه يعاد تقديمه في زجاجات جديدة. فإذا فشل التعويم في تحقيق أهدافه، وهو استقرار سوق الصرف، فالمزيد من التعويم سيفلح في ما فشلت فيه تجارب التعويم السابقة. وبالمثل، في سياسات الغذاء والزراعة، لعل المزيد من تصدير المنتجات الزراعية عبر دعم الشركات الكبرى يمحق الجوع. وأخيراً، لنستمر في تكرار التشديد على أهمية الإنفاق على التعليم والصحة، مع الاستمرار في تخفيض حجمهما، فضلاً عن خصخصتهما، لعل التكرار يحقق المعجزة، فيزيد عدد المعلمين والأطباء وعدد الفصول في المدارس والأسرّة في المستشفيات.

وبما أن كل من الورقات الثلاث تسعى إلى تقديم تشخيصٍ أفضل لبيت الداء، فإنها تفتح النقاش حول علاجات أفضل عبر حزمة من التوصيات. على سبيل المثال، في ما يتعلق بالسياسة النقدية، تتدرج التوصيات بين علاج التضخم، عبر مزيج من السياسات المالية والنقدية، بعيداً عن العلاج التقليدي عبر رفع سعر الفائدة، وتغيير نظام "المتعاملون الرئيسيون" الذي نتج عنه احتكار قلة من البنوك والمستثمرين أرباحاً باهظة من فوائد الدين العام، إذ ينقل بالكامل أسعار الفائدة التأشيرية إلى أدوات الدين الحكومي. وفي ملف الغذاء، تنتهي إلى توصيات عاجلة مثل تجميد زيادات أسعار الطاقة بكل أنواعها، وزيادة برامج الدعم الغذائي العيني، وعلى رأسها وجبات الغذاء المدرسية، وزيادة الدعم العيني، وخفض الضرائب على المنتجات الغذائية وبرامج دعم صغار المزارعين، وإلى توصيات أخرى تتعلق بإعادة النظر في نمط الإنتاج الغذائي الموجه إلى التصدير، والعمل على تطوير سياسات زراعية –غذائية – صحية، من قبل هيئة مستقلة، بدلاً من نمط التخطيط المستقل لكل ملف. وأخيراً، في ما يتعلق بملفي التعليم والصحة، المطلوب أن تصل نسب الإنفاق عليهما إلى النسب السائدة في الدول الشبيهة، مع زيادة الأجور للعاملين في القطاعين، والقضاء على نقص عدد العاملين، وإعادة توزيع الدخل خصوصاً عبر إصلاحات ضريبية تصاعدية، لصالح توفير مصادر لتمويل تلك الإجراءات. والسماح بدرجة أعلى من الاستقلالية واللامركزية بتوزيع مخصصات التعليم، ليصل المزيد من المخصصات إلى المديريات والمدارس في الأقاليم. ومن المهم أيضاً زيادة دعم الصحة في المناطق الجغرافية الأكثر فقراً عبر توفير خدمات الرعاية الأولية المجانية.

وإجمالاً، إذا قرئت الورقات الثلاث معاً بالترتيب، فتوفر نظرة على أهم جوانب الأزمة الاقتصادية الحالية. وتقترح الورقة الأولى (السياسة النقدية) سياسات من شأنها إفساح البراح المالي لتستطيع الحكومة تمويل تلك الإجراءات الموصى بها في الورقتين التاليتين. لكن من الممكن تماماً أيضاً قراءة كل ورقة بشكلٍ منفصل لفهم معمق حول الأبعاد المختلفة للأزمة.

وفي النهاية، تأتي تلك الأوراق في وقتٍ بدأت فيه مصر في تنفيذ حزمة جديدة من برامج الصندوق تستمر لمدة أربعة أعوام (مر منها عام بالفعل). ثم تقدم تلك الأوراق منهجاً يصلح لتقييم الإجراءات الخاصة بتلك الحزمة، سواء عبر تقديم تحليل نقدي للبرامج والعلاجات السابقة، أو عبر مقارنة التوصيات المطروحة بالسياسات الحكومية الحالية.

المصادر

  • International Monetary Fund (IMF). World Economic Outlook. 2024. Accessed in 2024. https://www.imf.org/en/Publications/WEO
  • Jagran Josh. (2024, April 11). List of Countries with Highest Food Inflation Rate. Retrieved from https://www.jagranjosh.com/general-knowledge/list-of-countries-with-highest-food-inflation-rate-1699274028-1
  • Food and Agriculture Organization of the United Nations. World Food Situation. Food Price Index 2024. Accessed in 2024. https://www.fao.org/worldfoodsituation/FoodPricesIndex/en/
  • Food and Agriculture Organization of the United Nations (FAO). (2023). The FAO World Hunger Map. Retrieved in 2024. https://www.fao.org/interactive/hunger-map-2023-embed-dark/en
  • Lee Ying Shan. "Egypt’s pound is among the worst performing currencies in 2023. And it’s expected to plummet further.” CNBC, April 5, 2023, https://www.cnbc.com/2023/04/05/the-egyptian-pound-is-amongst-the-worst-performing-currencies-in-2023.html
  • بيانات البنك المركزي المصري، متاح على https://www.cbe.org.eg/en/economic-research/statistics/inflation-rates/historical-data
  • الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أهم مؤشرات بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك 2020/2019، كانون الأول/ديسمبر 2020، متاح على https://www.capmas.gov.eg/Pages/Publications.aspx?page_id=5109&YearID=23629
  • د. هبة الليثي، في ندوة "أين وصلت أرقام الفقر في مصر؟"، حلول للسياسات البديلة، 2023، متاح على https://aps.aucegypt.edu/ar/events/110/open-panel-discussion-at-aps-on-poverty-figures-in-egypt-an-inflation-driven-increase
  • البنك المركزي المصري، النشرة الإحصائية الشهرية عدد 321، كانون الأول/ديسمبر 2023، متاح على https://www.cbe.org.eg/-/media/project/cbe/listing/monthly-statistical-bulletin/bulletin/dec/monthly-statistical-bulletin-321.pdf

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.