Summary
عانت العلاقة بين الإسلاميين والمنظمات الحقوقية من المكايدة لفترات طويلة بعد ثورة يناير 2011. فقد تجاهل الإسلاميون كثيرًا من جرائم النظام وأجهزته بعد الثورة وحتى منتصف 2013 بينما ساهم بعض من رموز الحقوقيين في الحشد باتجاه مظاهرات 30 يونيو/حزيران والتي اعقبها إستيلاء القوات المسلحة على السلطة.
وبعدها تغير موقف الجماعات الحقوقية سريعا تحت تأثير مشاهد القتل والإعدامات والانتهاكات ثم المواجهة المباشرة مع النظام وصولاً لصدور قانون قمعي لتنظيم عمل الجمعيات الأهلية دفع الحقوقيين للمزيد من الإدانة للنظام والرصد والتوثيق لانتهاكاته. ومن المتوقع أن يدفع ذلك المزيد من الإسلاميين للالتفات لأهمية العمل الحقوقي، وفي المقابل مزيد من قبول التعاون مع الجماعات الحقوقية القائمة خاصة في مجالات رصد وتوثيق الانتهاكات والتشبيك بين الدوائر والمبادرات والمؤسسات المتنوعة التي نشأت بعد 2013 في ظل ظروف متحررة من التنازع الإيديولوجي وبروز أجيال جديدة من الفاعلين. وتطمح هذه الورقة إلى استعراض الخطوط العامة والمنعطفات الهامة للعلاقة بين المساحتين ثم تستشرف تطورات العلاقة المحتملة.
اقرأ المزيدتستدعي محاولة فهم العلاقة بين الإسلاميين والحركة الحقوقية ضبطاً مبدئياً للمفاهيم، فللحركة الحقوقية في كثير من البلدان الغربية جناح اجتماعي وجناح قانوني تنظيمي له أحياناً ظهير حزبي/سياسي، بما يشكل كياناً متكاملاً يوظف أدواته ويُفَعل ممثليه للضغط وتحصيل المكاسب، في حين أن النضال الحقوقي العربي ينقسم في نظرنا على الخريطة الأيديولوجية، وتمارسه كل الأطراف، بما فيها الإسلاميون، لكن انصرف التوصيف قصراً وقسراً للمنظمات الحقوقية ذات الطابع غير الإسلامي منذ نشأتها بخلفيات أصحابها اليسارية والناصرية بالأساس، والتي يصعب اعتبارها "حركة"، لا من حيث الحجم فقط، بل أيضاً من حيث التنوع في القضايا التي تتعامل معها بدون رابط فكري واضح، والاختلاف بشأن قضايا التمويل وتفاوت شبكات العلاقات الداخلية والخارجية، وتفاوت الموقف من النظام السياسي، والتعدد في أسلوب العمل الذي ينقسم بين الرصد والتضامن والمساعدة القانونية والتوعية وغيرها من الوسائل. كما سيلحظ المتابع هذا الالتباس في تحليل المشهد المصري نتيجة سياسات "الاستعاضة" أو "الإحلال" التي تلجأ لها بعض الأطراف، ونعني بذلك أن الباحث في أداء النقابات مثلاً سيجد أنه يتعامل مع أداء سياسي يشبه الأداء الحزبي، وأن الأطر التحليلية للسياسات الحزبية أكثر تفسيرية للظاهرة من تحليل الكيانات التمثيلية المهنية، وهكذا.
وترى بعض الدراسات أن دوائر حقوقية "لعبت دوراً، ولو كان صغيرً، من موقعها الضيق في انتفاضة 2011"، أي مهدت للمناخ الذي أثمر الثورة، كما أنها بعد الثورة اعتبرت أن مهمتها الرقابة على أداء الإسلاميين وتحجيمهم بعد صعودهم السياسي، مع تراوح موقفها من الدولة بالتوازي، وصولاً لدعم التمرد على رئيس منتخب وترحيبها بالتدخل العسكري في المسار الديمقراطي، رغم عصف النظم العسكرية، المعلوم تاريخياً، بحقوق الإنسان. ولم تفلح تلك المنظمات لا قبل 25 يناير 2011 ولا في لحظة الزخم عاميّ 2011 و2012 في أن تتجذر شعبياً، ولم تلتقط الإشارات المعادية التي أرسلتها الدولة قبل 25 يناير وبعدهامباشرة وبشكل منظم ومتكرر للمنظمات الحقوقية، ووضوح الاتجاه لتصفية المؤسسات المستقلة في المجتمع المدني برمتها، وهو ما جرى مع موافقة مجلس الشعب على قانون الجمعيات الأهلية في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 وصدوره كقانون رقم 70 لسنة 2017، وكذلك تعديلات قانون تأسيس المجلس القومي لحقوق الإنسان 2003 التي جرت في مطلع يوليو/تمّوز 2017 أيضاً.
ولا يسع هذه الورقة الإحاطة بمصفوفة العلاقات المعقدة بين كل أطياف الإسلاميين وكافة المنظمات الحقوقية في كل قطاع وكل قضية، ولكنها تطمح إلى أن تستعرض الخطوط العامة والمنعطفات الهامة للعلاقة بين المساحتين.
أولاً: الإسلاميون والمنظمات الحقوقية: إشكاليات وفجوات
تتنوع مداخل ومستويات فهم العلاقة بين الفاعلين على الساحة المدنية والسياسية، ويمكن فهم العلاقة بين المساحة الإسلامية والمنظمات الحقوقية على خلفية عدة إشكاليات تقدم بدورها عدداً من الأدوات التحليلية، لعل أهمها ما يلي:
- الإشكال الإيديولوجي
لا يمكن فهم مسار التفاعل بين منظمات حقوق الإنسان والحركات الإسلامية دون النظر للحظة التأسيس لتلك المنظمات، فقد جاءت غالبية القيادات التي أسست المنظمة العربية لحقوق الإنسان – والتي ما لبثت أن انبثقت عنها المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ثم تفرق الجمع بعد خلاف بين منصات مختلفة – من خلفية ماركسية وناصرية في لحظة انكسار لتلك الإيديولوجيات، وتم التحول لحقوق الإنسان باعتبارها رؤية "عالمية" وإطار أيدولوجي بديل أكثر ’حياداً‘ من ناحية، وأكثر ‘موضوعية‘ و’تخصصية‘ و’مهنية‘ من ناحية أخرى. وتزامن ذلك مع دخول الإخوان المسلمين تحديداً للمشهد الوليد للديمقراطية النيابية في بداية الثمانينيات.
وقد وُضع هذا طول الوقت في مواجهة مع التصورات الدينية السائدة فقهياً وحركياً ومؤسسياً (بما في ذلك المؤسسات الدينية الرسمية). وتبلورت رؤية واضحة؛ أن المفاهيم الدينية والتراث الفقهي محملة بالتهديد لحقوق الإنسان ولا تصلح إلا لمن يعتنقها، وتحمل إمكانات للتطرف والتغول على حقوق الآخرين. وكانت الخلافات الأولى في صف ذلك الفصيل الحقوقي الصاعد حول ضم الإسلاميين للإطار التنظيمي للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، ورفضت الغالبية وانحازت لتماسك "مدني/علماني" للمنظمة، في الوقت الذي اختلفت فيه أجنحتها حول مسألة التمويل الأجنبي، وهي مفارقة ستترك آثارها على مسيرة العلاقة بين الطرفين حتى اليوم.
وبعد انقسام الجيل الأول بين منظمات مختلفة بعد 1993، انشغلت معظم المنظمات بالنشاطية والدفاعية في حين حظي البُعد الفكري بنصيب أكبر من اهتمام مركز القاهرة لحقوق الإنسان تحديداً، وسيكون هو الذراع الذي سيقدم كتابات بشأن القضايا المُثارة على أجندة حقوق الإنسان. فلو أخذنا على سبيل المثال اقتراب الباحث معتز الفجيري في دراساته عن الإخوان المسلمين وحقوق الإنسان، حيث يتكرر الربط بين الإخوان والشريعة،نجد الإحالة إلى الشريعة والفقه باعتبارهما يمثلان تهديداً لمنظومة حقوق الإنسان إذا تم تقنينهما، فضلاً عن الخط المستمر في مركز القاهرة منذ التأسيس للتركيز على تجربة السودان وخاصة الإحالة المستمرة لكتابات عبد الله النعيم، أحد أتباع محمود محمد طه الذي تم إعدامه بعد اتّهامه بالردة في عام 1983 تحت حكم جعفر النميري بعد الإعلان عن تطبيق الشريعة في السودان. وترى كتابات النعيم حاجة للخروج من أسر الفقه وتأسيس رؤية تتبنى خطاً قيمياً أخلاقياً وليس تشريعياً في العودة للمرجعية الإسلامية.
هناك في الإجمال خلط بين حركات معاصرة، من ناحية، وتراث قرون كاملة من النظريات الأخلاقية والتشريعية والسوابق القضائية والنماذج المؤسسية يمتد من سواحل الأطلسي إلى الصين، وذلك أيضاً رغم النقد الذي وجهه البعض – بمن فيهم كاتبة هذه السطور – لجماعة الإخوان المسلمين تحديدا منذ منتصف العقد الأول من الألفية، أن حصيلتهم من الفقه الشرعي، للطرافة والغرابة، قليلة، ودرجة إحاطتهم بمُستجدات الاجتهاد المعاصر خارج مصر – بل داخل مصر نفسها – فقيرة، ورؤيتهم بشأن تجديد منضبط للفقه شبه منعدمة رغم ضجيج الشعارات عبر عقود بشأن تطبيق الشريعة. هذا الغياب لرؤية تستند لجهد تجديدي من قبل الإخوان تجلى في أداءهم المرتبك في هذا الباب بعد 2011، حيث لم يكن لديهم تصور واضح لمسار إسلامي حقيقي للحكم، من تحجيم دور الأجهزة الأمنية، وتعظيم آليات الشورى الشعبية، وإعادة بناء دوائر الاجتهاد الشرعي، وتحرير الاقتصاد من الأدوات الرأسمالية للاستثمار. وبدلاً من تجنيد المؤسسات الدينية للدعم الفكري والقانوني والتربوي – كالأزهر ودار العلوم مثلاً – ساد الرهان على حشد الشباب في تلك الدوائر.
ساد هذا الخلط بين درجة "الإسلامية " الحقيقية للإخوان وآفاق التجديد الفقهي المُمكنة، وبالتالي استمر نقد المنظمات الحقوقية على محور التفتيش في التراث عن فلسفات إنسانية يتم تسليط الضوء عليها، وتجنيب للفقه باعتباره مرجعية غير قابلة للتجديد. ولم يخرج من المنظمات الحقوقية، التي حملت على عاتقها المهمة الفكرية بجانب المتابعة الحقوقية العامة لملف حقوق الإنسان، أي اجتهاد فعلي بشأن رؤية ’عربية‘ متميزة في نقد رؤية حقوق الإنسان الحداثية، كتلك التي قدمتها أقلام غربية نقدية في مجالها الحضاري. وربما يرجع ذلك في تقديرنا لأمرين: فقر الفقه عند الحقوقيين أنفسهم نظراً للخلفية اليسارية والناصرية، ودورانهم في استعارة الخطاب الفلسفي من التراث دون غيره كمحاولة لبناء علاقة "علمانية" بالماضي؛ والأمر الثاني هو الانطلاق الفلسفي من الحداثة ذاتها كأساس فكري للمنظمات الحقوقية منذ النشأة بعد أزمة النماذج الاشتراكية والتزام المسار القانوني الذي هو بالضرورة يتقبل سيادة الدولة ويندرج تحت "مخيّال القومية المنهاجية"، كما أن أداته الرئيسية هي القانون الدولي إضافة الى تقنيات الضغط والرصد والمحاسبة الدولية – خاصة تحت مظلة الأمم المتحدة – وهذا كله خاضع لإطار الدولة القومية.
وقد أسس لهذا التوجه منذ البداية محمد السيد سعيد، ويمكن اعتبار أفكاره أهم رافد لذلك المسار، وقد نجح مع مجموعة من الباحثين –خاصة في مجال الفلسفة –في أن يكون مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بأنشطته ومطبوعاته مساحة للتفكير، وسمحت شخصيته المنفتحة كمفكر وحركي بإدارة حوارات واستقبال أطياف مختلفة في اللقاءات التي كان يعقدها المركز. ومن الجدير بالذكر أن السيد سعيد اهتمّ منذ بداية كتاباته في التسعينيات بالعلاقة بين ’الإسلام وحقوق الإنسان‘، فكتب في منتصف ذلك العقد دراسة في الموضوع نُشرت في العدد الأول من دورية رواق عربي، وساهم في البحث والنقاش بشأن تلك العلاقة سنوات طويلة، وقبل وفاته نشر دارسة عن مشروع إسلامي ينطلق من القضية الفلسطينية للسلام العالمي، ولكنه لم يُحصِّل من المعرفة الدينية ما كان ضرورياً للاشتباك مع الإشكاليات التي تراها منظمات حقوق الإنسان في منهج الإسلاميين؛ فبقي جهده ’حول‘ الموضوع وليس في الموضوع، ولم يتمخض عن ذلك تحول فكري لدى الأطراف المساهمة فيه أو الوصول إلى اتفاق على الجوامع والمشتركات، أو صيغ توافق حول إمكانية العمل المشترك بين التيارات المتنازعة على مدار السنوات. بل بقي كل فريق على رقعته السياسية والفكرية، ربما لأن التحرك من اليسار لمنظومة حقوق الإنسان كان أقصى مسافة يمكن لغالبية المؤسسين لمنظمات حقوق الإنسان قطعها في تلك المرحلة السياسية، والعمرية.
اللافت هنا في المساحة الإيديولوجية كما ذكرنا هو الفجوة النقدية عند المنصات الفكرية لمنظمات حقوق الإنسان؛ فما تم توجيهه للخطاب والفقه الإسلامي من انتقادات لا يُقارَن بما كان يمكنهم تقديمه من نقد لمنظومة حقوق الإنسان الغربية. واختار هذا الخطاب ألّا يعتبر الإسلام رؤية عالمية حقوقية موازية لا رؤية مناهضة لحقوق الإنسان – بعكس ما ذهب إليهأنطوني تشايز من وجهة نظر غربية، وعبد العزيز ساشيدينا من منظور إسلامي بالمقابل، أو استكشف كما فعل طلال أسد خصوصية المنطلق الغربي للحقوق، الذي يدور حول سيادة الفرد بموازاة سيادة الدولة التي هي السيادة الأعلى التي يعمل تحت سقفها منطق حقوق الإنسان فعلياً رغم أطروحات ’عالميته‘، وهو ما يتيح للدولة إعلان حالة الاستثناء في أي وقت تستقل بتقديره (نظرية أعمال السيادة). فتتلاشى في ظله الضماناتالحقوقية في حدها الأدني.
ويلاحظ أن أنصار منظومة حقوق الإنسان الذين يتبنون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد حولوه إلى نص مرجعي، ويرون أن تطبيق الشريعة كما يريد الإسلاميون تنتقص بالضرورة من المواطنة وأن الوصول للحكم هو هدف الإسلاميين الأهم وأنهم ليسوا حريصين على حقوق الإنسان. وفي الوقت الذي يُعاب فيه على الاسلاميين أنهم إيديولوجيون يوصف أغلب المنخرطين في منظمات حقوق الإنسان الإسلاميين بالـ’متأسلمين‘ ويتم التحذير طوال الوقت من "طغيان الأغلبية" مصحوباً بالتذكير بخطر الاسلاميين وأنهم ضد حرية التعبير وحقوق المرأة والأقليات والحقوق الشخصية.، وكأن خطر الإيديولوجية الإسلامية هو التحدي الرئيس.
وقد لاحظ روبرت مايستر في كتابه "ما بعد الشر" أن منظومة حقوق الإنسان باتت "إيديولوجية" بذاتها، وبذلك نحن لسنا بصدد منظمات حقوقية مقابل حركة اجتماعية وسياسية بل بصدد تصارع إيديولوجيات لا يمكن تصنيف المنظمات الحقوقية فيها تحت مظلة ليبرالية مثلا، وبذلك فهي تقف في مساحة إيديولوجية خاصة بها.
وفي تقديرنا أن هذه النقطة في غاية الأهمية في فهم ’جينيولوجيا‘ حركة حقوق الإنسان بانتقال المؤسسين لها في مصر من مربع إيديولوجي لإيديولوجيا حقوق الإنسان، ومواقفها السياسية وتوقعاتها من المشهد السياسي وسقف رغبتها في تغييره جذرياً، خاصة حين تشتبك مع الإسلاميين، ودرجة استعدادها للتكيف مع الواقع القائم، بل وتوظيف قنوات الأنظمة الاستبدادية والشمولية لدعم أجندات حقوقية بعينها، خاصةً حقوق المرأة – كما سنرى لاحقًا في هذه الدراسة. وأثار مايستر أيضاً الإشكال الأخلاقي الكامن في تصور حقوق إنسان "ما بعد ديني" إذا جاز لنا أن نسميه، ورأى أن محض تنحية الدين لا يجيب عن الأسئلة الإشكالية المتعلقة بالأساس الأخلاقي للحقوق.
أما صامويل مُوين فيرى أن حركة حقوق الإنسان قامت على وعد أخلاقي قدمته في ظل الإخفاق السياسي للإيديولوجيات، وعلى منصة مشروع الدولة القُطرية الحديثة التي استندت لتصورات مشروع التنوير عن العالمية وزعمت أنها تؤسس باجتماع إرادات الدول "مجتمعاً دولياً". هذه الدولة هي ذاتها التي تكرر انتهاكها لحقوق المواطنين، وهي التي وظفت أدوات السيادة بتكرار حروب الإبادة على مدار العقود الماضية وحتى لحظة كتابة هذه السطور، وبالتالي لم تستطع الحركة عالمياً الإفلات من حسابات السياسة ولم تستطع تجاوزها. ويرى موين عبر تحليل طويل أن السعي للعالمية والاشتباك مع الإبادات المتكررة أسهم في تطوير وصعود مفهوم العدالة الانتقالية، هذا المفهوم الذي وجدت فيه حركة حقوق الانسان عالمياً مدخلاً للجمع بين الجوهر الأخلاقي والاشتباك مع العدالة في إطار تفاوضي – وليس راديكالي.
وأدّى الإصرار على عالمية "مُستعارة" بدون إسهام متجدد في نقدها وتجديد مفاهيمها من قبل المنظمات المصرية والعربية لحقوق الإنسان، إلى وضعها في موقع جعلها تناقش خطر الشريعة بدلا من نقد فلسفة الدولة، ولا تُعطي الشريعة منزلة باعتبارها جزء من الثقافة التي تصوغ تصورات ’القانوني‘. وباختيارها كما ذكرنا سابقاً النخبوية والانغلاق على الشعبوية، فإنها لم تنجح حتى في ظل حركة الشارع بعد 2011 ولا بعد إقصاء واستئصال الإخوان بشراسة في تأصيل نفسها والانتقال من دائرة المنظمات إلى ساحة الحركات. وبدورها عجزت الحركات الإسلامية عن مأسسة عملها الحقوقي الحركي الذي كان مُنصبّاً على قضايا أعضاءها فقط في أغلب الأحيان، فضلاً عن عجزها الأصلي عن تصور معنى ’السياسي‘ الذي ظل طوال الوقت مرتبكاً ومتراوحاً بين تصور طوباوي مُبهم وفعل براجماتي محض.
- الإشكال البنيوي
برزت في مجال دراسة الحركات الاجتماعية منذ الثمانينات تفرقة بين الحركات الاجتماعية القديمة والجديدة، حيث تم اعتبار الحركات العمالية مثالاً كلاسيكياً للحركات القديمة التي تقوم على التجنيد الواسع ذي الطبيعة الصارمة في الانضمام، مع تضييق سُبل الخروج من الحركة، وتبني استراتيجيات التعبئة والحشد، وترتكز على رؤية إيديولوجية وبنية هرمية وديمومة زمنية طويلة (ويقاس عليها الحركات الإسلامية لاشتراكهما في الخصائص). أما الحركات الجديدة فهي التي تدور حول مطالب محددة تنشأ لأجلها وتستخدم طرقاً مرنة في الحشد لا تعتمد على العضوية، بل تعتمد أحياناً على محض الدعم والدفاعية، وتغير أهدافها بشكل أكثر مرونة، ولا تقوم على إيديولوجية صلبة، ويسهل دخولها في تحالفات واندماجها وتحولها.
وقدظهرت كتابات تنتقد هذا التقسيم الحاد،حيث اعتبرت أن الانقسامات الطبقية والاجتماعية التي قامت الحركات الاجتماعية لمواجهتها تبدلت نتيجة تطور مشروع التحديث وتنامي معدلات العولمة، وبالتالي أصبحت الحركات القديمة والجديدة تواجه واقعاً جديداً جعلها تميل إلى تكتيكات الاحتجاج الجديدة، بما جعل الحدود الفاصلة بينها تتغير، وفتحها على أفق جديد من أدوات الحشد وصيغ المعارضة وتمدد التحالفات ما وراء الحدود. كما أن الحركات الجديدة والقديمة بدأت في استقطاب أطياف متنوعة من الطبقات؛ فلم تعد قاصرة كما كانت من قبل على قطاع أو فصيل أو طبقة.
وما لبث تقسيم ثالث أن ظهر هو "اللاحركات"، وأبرز من طبقهُ على مشهد الاحتجاجات الشبابية في مصر وإيران هو آصف بيات، حيث تتسم الفعاليات بالتلقائية وتجديد صيغ التجمع، والضغط المنظم من أجل إحداث أثر، ثم الزوال، لتتشكل عبر الخبرة صيغ جديدة لاحقة بدون تكرار النمط بالضرورة، وهو ما أسماه أيضاً: سياسات الشارع أو سياسات الحياة اليومية.
وما يهمنا هنا هو تلمُس طبيعة بنية كلاً من منظمات حقوق الإنسان والحركات الإسلامية الاجتماعية/السياسية؛ فالكيانات المختلفة التي تأسست للدفاع عن حقوق الإنسان ظهرت في منتصف الثمانينيات، وأولها المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، في حين تأسس مركز القاهرة لحقوق الإنسان في عام 1993، والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان في عام 2004. وتعددت المنظمات والجمعيات، وانصرف بعضها لملفات بعينها كحقوق المرأة أو الحقوق العمالية. ويصعب القول أن هناك حركة منظمة لحقوق الإنسان، ولكن يمكن الإشارة إلى اقتراب المنظمات هذه مجتمعة من مفهوم الحركات الاجتماعية الجديدة "محدودة الحجم"، حيث تفتقر إلى زخم مجتمعي مُعتبر مقارنة بالحركة الإسلامية (الإخوان المسلمين تحديداً)، ولا يمكن مقارنة حجم الانخراط والقدرة على التعبئة بين الطرفين، فضلاً عن الامتداد السياسي للحركة الإسلامية في العمل الحزبي منذ منتصف الثمانينيات وتسييس المنصات المدنية والنقابية، في حين بقيت منظمات حقوق الإنسان تتحرك في إطار المجتمع المدني فحسب، مع نشاط بعضها على الساحة الدولية في المؤتمرات، وفي الروابط الحقوقية.
هذا الاختلاف في البنية رتّب طوال الوقت توتراً في العلاقة، حتى حين تقارب الطرفان لتنسيق الاحتجاجات والمظاهرات في مرحلة ما بعد غزو العراق في آذار/مارس 2003، التي حركت بعض الماء الراكد في الشارع وظهرت حركة "كفاية ". ظلّ ثِقل وحجم حركة الإخوان مدعاة لاتخاذهم قرارات مستقلة بحسابات خارج اتفاقات الشارع، مبررين ذلك بأنهم الأكثر دفعاً للأثمان في المواجهات بما يعطيهم الحق في تغيير الاتفاقات في اللحظات الأخيرة في بعض المواقف. هذا التفاوت – وأحيانا التناقض – بين طبيعة البنية والحجم بين الطرفين كان له أثره على طبيعة العلاقة، وعلى درجة الاستفادة المشتركة من الفرص السياسية المتاحة. فكما ذهب تارو فإن الحركات عادة تسعى لدفع مطالبها عندما تلوح فرصة على الساحة السياسية، ولا يوجد بالطبع وسيلة لرسم خريطة تلك الفرص أو توقعها أو أفق النجاح أو الفشل في حالة الأنظمة الاستبدادية، إذ لاحظ كلاً من تارو وتيلي أن من شروط استفادة الحركات الاجتماعية من الفرص السياسية تنوع مراكز القوة في النظام وعدم استقرار التحالفات السياسية وانفتاح النظام للاعبين جدد، وهي كلها شروط لا تتوفر في الأنظمة الشمولية، وبالتالي فبدلاً من "انتهاز الفرص"، غلبت "الانتهازية" على الأطراف، وسعت إلى طرح نفسها كبديل عن الطرف الآخر عند السلطة رغم تفاوت الحجم، وهو ما أجهض طوال العقود الثلاثة الماضية فرص بناء تحالفات أوسع، وأضعف الثقة بين الأطياف المدنية والسياسية، بخلاف افتقاد أسس ثقافة التفاوض والحوار طويل النفس، سواء عند الأطراف المختلفة في الساحة المدنية أو السياسية.
- الإشكال الحياتي-الذاتي-الشخصي
ربما يدرك من عاصر العمل الحقوقي واقترب من الفاعلين الإسلاميين في المجال العام بشكل مباشر في الحياة اليومية هذا الاختلاف على الجانبين في السلوك اليومي وطرق العيش، وهو أمر لا تذكره الأدبيات التي تناقش توترات العلاقة بين الإسلاميين والمنظمات الحقوقية من منطلق كُلي وعمومي، وهو تباين لم يتغير رغم الفرصة الذهبية التي مثلتها لحظة 25 يناير 2011 عبر الـ 18 يوماً في ميدان التحرير وما تلاها من حيث عبور الحدود والمساحات والتشارك في الحلم والنضال.
لم تكن المشاركة في الميدان رهينة تقسيم إيديولوجي، وكانت مناسبة لبناء خريطة جديدة للعلاقات والتحالفات، لكن سرعان ما انقسمت الأطراف على محاور الخلاف بشأن التعديلات الدستورية ولم ترجع لنقطة الميدان بعدها أبداً. وإذا كنا لا نرى أن المنظمات الحقوقية قد تواجدت بلافتتها في الميدان، بل بأشخاصها، فإن تلك اللحظة الاستثنائية كان ينبغي أن تكون كذلك، إذ أن من سمات المهنية في المنظمات الحقوقية الحيادية، لكن كثير من رموز تلك المنظمات اتّخذت مواقف علنية ضد الإسلاميين منذ البداية وجبَّهت في المواقف السياسية المختلفة، وعبرت الخط الفاصل بين المهنية والانخراط المباشر. جعل هذا بعض المنظمات والمدافعين الحقوقيين يبدون وكأنهم يلعبون دور الرقيب والخصم في آن واحد. وإضافة لهذا استمرار الاشتباك اللفظي اليومي بين النشطاء الإسلاميين والفاعلين الحقوقيين طوال الفترة 2011-2013، وهو ما جعل القاعدة الحركية الإسلامية تُناصب الدائرة الحقوقية العداء، باستثناء الشخصيات التي حرصت على حسن إدارة العلاقات والقيام بدورها الحقوقي دون الدخول في الصراع السياسي، ويمكن اعتبار أحمد سيف الإسلام أبرز نموذج لذلك. ولم يدخر الإسلاميون جهداً في تشويه الرموز الحقوقية خاصة بعد صدامات الاتحادية، بل وصل الأمر لتتبع فيديوهات شخصية لرؤساء منظمات حقوقية في مناسبات اجتماعية ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي والانتقاص من مصداقيتهم والطعن في أخلاقهم (مثل مشاركة شباب الإسلاميين فيديوهات شخصية لجمال عيد والهجوم عليه على تويتر على سبيل المثال).
بل وصلت درجة العداء والتربص إلى أرشفة مواقف الفاعلين الحقوقيين الشخصية على تويتر وفيسبوك بدءاً من كانون الثاني/يناير 2013، ورفعها في وجه من يدين رابعة وما بعدها من مذابح لتذكيرهم بأنهم وقفوا مع مظاهرات 30 حزيران/يونيو ضد الرئيس السابق محمد مرسي و"خذلوا التجربة الديمقراطية بعدها في مشهد 3 تمّوز/يوليو، وبالتالي هم المسئولون عن كل ما بعد ذلك من دماء". وبالمقابل يتم تذكير الإخوان باحداث قصر الاتحادية الرئاسي في منتصف ولاية مرسي التي استمرت عاما واحدا، وبالحشد الغفير الذي استخدم عنفاً لفظياً مع خصومه في الشارع وأحيانا اشتبك معهم، مما أسفر عن إصابات في المحافظات المختلفة خاصة الاسكندرية. ويتم الإصرار على أن خيانة الإخوان واختطافهم للثورة بدأت منذ مشهد الميدان نفسه بتواصلهم مع الرئيس السابق لجهاز المخابرات عمر سليمان، ثم الاستئثار بالمشهد، ثم الحشد والرهان على استعراض القوة في الانتخابات ثم الخيانة في محمد محمود ثم احتكار القرار في البرلمان، ثم دستور 2012 ثم الاعلان الدستوري لمرسي ثم الاتحادية وما بعدها. بل يصر البعض في لحظة إدانة مجزرة رابعة كمأساة مركزية ورمزية لدى الإخوان على التلميح بأن الاعتصام كان به مسلحون وأن الإخوان يتاجرون بالدم. وفي حين يحيي شباب الإخوان ذكرى المذبحة، يحيي شباب الحقوقيون ذكرى محمد محمود والاتحادية. وهكذا دواليك في حلقة مفرغة.
وقد حاولت الباحثة ’لينا موستونين‘ تناول أبعاد ’نمط العيش‘ وأثرها على الخصومة السياسية ومعاداة الطبقة العليا الكوزموبوليتانية لثورة 25 يناير، خاصة بعد صعود الإسلاميين نظراً لاختلاف السلوك اليومي، وتصويرهم بأنهم الآخر ولا يمثلون مصر ’الحقيقية‘. ويمكن إجراء مُقارنة مماثلة في دراسة مستقلة حول أثر اختلاف أنماط العيش على النزاع بين فريق المنظمات الحقوقية والاسلاميين.
ولا يوجد رصد منظم وعلمي لتلك الخصومة المتجددة في الوعي الفردي للطرفين، لكن الباحثة بحكم انخراطها في متابعة وسائل التواصل الاجتماعي منذ سنوات طويلة لديها الكثير من الأمثلة التي تدخل في باب المساحة الافتراضية/ الشخصية، والتي ترى أنها ستكون إحدى المساحات التي تحتاج ضبطًا وستكون أصعب المصالحات من حيث الإدارة والتحجيم في لحظة تآلف مدني مستقبلية.
ثانياً: ثورة 25 يناير وما بعدها- تراكم التنازعات وتجدد الصراعات
لم تكن الحركة الإسلامية وعلى رأسها الإخوان تحديدا كفصيل سياسي مُنشغلة بالعمل الحقوقي المنظم والمُمأسس، رغم أنها كانت منذ عقود طويلة هدفاً للانتهاكات والتنكيل المنظم، خاصة منذ اغتيال مؤسسها حسن البنا في 1949 ثم صراع عبد الناصر مع الجماعة بعد ثورة 1952. وانصبّ الجهد الحقوقي للحركة الإسلامية، مع ظهور العمل الحقوقي في الثمانينيات، بالأساس في العمل النقابي، خاصة نقابة المحامين وتضامن النقابات الأخرى كالمهندسين والأطباء مع أعضائها من المعتقلين. وكان هناك تواصل مستمر بين الإخوان ومنظمات حقوق الإنسان للتوثيق والإعلام بالانتهاكات والاعتقالات وفي الحملات المختلفة ضد المحاكمات العسكرية وضد التعذيب قبل 2011.
وينبغي الحديث قليلًا عن ثلاث منظمات نشأت على يد إسلاميين أو مقربين للتيار الإسلامي بعد مطلع الألفية الثالثة للعمل على ملف حقوق الإنسان. وكان أولها مركز سواسية، الذي تأسس عام 2004 وظل ناشطا حتى 2013، عندما أُعتقل مؤسسه ومديره عبد المنعم عبد المقصود، وهو محام ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين. وأصدر سواسية العديد من التقارير الحقوقية، التي رصدت انتهاكات عديدة متنوعة تعرض لها المواطنون داخل مصر وخارجها، مثل الانتهاكات الطلابية وتزوير الانتخابات التشريعية والنقابية، والانتهاكات اليومية من قبل ضباط الشرطة، والانتهاكات للمصريين في الخارج، وانتهاكات حقوق الشعب الفلسطيني أو حقوق المسلمين في دول الغرب. وشارك سواسية في دعم والدفاع عن المعتقلين، ولكن نشاطه ظل منفصلا عن المنظمات الحقوقية الأخرى بحكم التنازع الإيديولوجي ومن ناحية أخرى منصرفاً لقضايا المعتقلين والتعذيب، ولم يقدم مفهوماً واسعاً لحقوق الإنسان يمثل تحدياً للأجندة المهيمنة على العمل الحقوقي أو يمثل إضافة لها خاصة في المساحتين العمالية والحقوق الأساسية للمواطن.
وكانت المنظمة الثانية مركز ضحايا لحقوق الإنسان بالإسكندرية، الذي تم تأسيسه في 2009 بمبادرة فردية من هيثم أبو خليل وبشراكة إبراهيم الزعفراني الذي أعلن بوضوح أن المركز مبادرة خارج إطار جماعة الإخوان. وقام المركز بأنشطة وشارك مع أطراف الطيف الحقوقي بشكل منفتح خلال العامين 2009 و2010 وقام بالتشبيك مع الكثير من المنظمات الحقوقية بشكل أكثر انفتاحاً من مركز سواسية، ثم توقف نهاية 2010، وإنّ استمر مؤسِسه في الانخراط في المشهد المدني من موقف ناقد للأداء السياسي للإخوان بعد 2011 ثم استقال لاحقا من الجماعة علناً. وبعيدا عن التقييم الإعلامي المهني لمنصات المعارضة الإسلامية في الخارج بعد 2013 يمكن اعتبار برنامج هيثم أبو خليل، حقنا كلنا، على قناة الشرق والمتخصص في متابعة انتهاكات حقوق الإنسان فريداً في المشهد الإعلامي العربي من حيث الموضوع.
وكانت المنظمة الثالثة مركز الشهاب بالإسكندرية الذي تأسس عام 2006 وكان مؤسسه خلف بيومي، وهو محام كان من قبل مسؤولًا للجنة المعتقلين للإخوان بالإسكندرية. وتابع الشهاب ملف انتهاكات حقوق الإنسان والمعتقلين والتعذيب وقدم دعماً قانونياً لأسر المعتقلين. ومع انفتاح المجال العام في 2011 تأسست الجمعية المصرية للدراسات القانونية والتنمية (الشهاب) 2012، ثم غادر بيومي مصر بعد استيلاء القوات المسلحة على السلطة، ومازال المركزيواصل نشاطه من المنفى في إسطنبول. ويُلاحظ على عمل الشهاب إجمالاً افتقاد المهارات المتعلقة بالتوثيق المحترف للانتهاكات وغياب توظيف الآليات الدولية في العمل والتواصل مع المنظمات العالمية ذات الثِقل في المجال. ويفيدنا هنا رصد مسار التنازع بين الحقوقيين والإسلاميين (وعلى رأسهم الإخوان) بعد ثورة يناير 2011؛ لأن الأزمات تكررت، وتعكس تفاصيلها ديناميكيات العلاقة الشائكة.
ثار أول خلاف بين القوى السياسية والحقوقية في مصر حول التعديلات الدستورية، إذ رأت بعض التيارات الليبرالية واليسارية الحاجة لدستور جديد، واختارت القوى الإسلامية وبعض القوى الأخرى الاكتفاء بتعديل الدستور والعمل على دستور جديد لاحقاً. ورغم أن المجلس العسكري أصدر الإعلان الدستوري المُكمِل وأضاف إليه بنوداً لم تكن مطروحة في الأصل الذي كان محل تصويت الناخبين، معطياً بذلك إشارة أولى واضحة على سلطته فوق الناخب وفوق الدستور، إلا أن توالي الأحداث وتنازع الفرقاء في الشارع لم يسمح بالاصطفاف والاشتباك مع المجلس العسكري.
وما لبثت أن ثارت قضية التمويل الأجنبي للمنظمات الحقوقية والجمعيات الأهلية، حيث أُحيل 43 متهماً إلى محكمة الجنايات، من بينهم 19 أمريكياً، على خلفية اتهامات منها تلقي تمويلات من جهات أجنبية دون ترخيص. ورغم صدور قرار قضائي بمنع سفر المتهمين في هذه القضية، عاد المتهمون الأجانب إلى بلادهم على متن طائرة عسكرية أمريكية في آذار/مارس 2012 وسط غموض قانوني مريب. ورغم الموقف الرسمي للإخوان في بيان أصدره محمود غزلان المتحدث باسمها منددًا بكلمات صريحة طريقة سفر المتهمين الأجانب، فقد أعاد الإعلام الرسمي صياغة الرواية – مع إعادة فتح التحقيقات في القضية في آذار/مارس 2016 – لتصبح الطائرة التي أقلت الأمريكان خارج البلاد "خاصة "، لا عسكرية، ويُتهم الإخوان بتسهيل سفر الأمريكان وتهديد الأمن القومي.
وتوالت الأحداث السياسية بوتيرة سريعة ومكثفة على مدار عاميّ 2011 و2012 وصولاً لحزيران/يونيو 2013 ثم استيلاء القوات المسلحة على السلطة بدعم فصائل مدنية وشيخ الأزهر وبابا الكنيسة القبطية. ولم تكن كل الأحداث موضعاً للخلاف والاشتباك بين المنظمات الحقوقية والتيار الإسلامي، وان كان هناك تباين وتراشق خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي بين المنتمين للطرفين حول مواقعهم في الشارع في التظاهرات والاشتباكات المشتركة أو المنفردة المتنازعة. ولم تكن هناك أحداث كبرى فاصلة قبل مواجهات محمد محمود إلا مذبحة ماسبيرو التي مررتها الكنيسة دون مواجهة مباشرة مع المجلس العسكري.
لكن يهمنا الإشارة إلى أنه بدأ في تلك المرحلة - ومبكراً – مسار لجان تقصي الحقائق، وهو مسار هام في طريق العدالة الانتقالية المتعثر. وسنرى كيف كانت تلك من أكثر الأدوات التي تم إهمالها من جانب الإخوان، فلم تكن هناك استراتيجية واضحة للموقف، هل هو القصاص أم العفو (لا عند الإخوان ولا غيرهم)، ونتيجة هذا الارتباك لم يصدر حكم إعدام واحد على من شاركوا في قتل المتظاهرين وتمت إدانتهم في محاكمات عادلة.
ويعود أول تقرير في هذا المضمار إلى لجنة تقصي الحقائق حول أحداث العنف التي صاحبت ثورة 25 يناير، برئاسة المستشار عادل قورة في آذار/مارس 2011. وأكد التقرير تورط ضباط وبرلمانيين وقيادات بالحزب الوطني في موقعة الجمل. وسلمت اللجنة تقريرها الذي جاء في 400 صفحة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وللحكومة برئاسة عصام شرف، والنائب العام المستشار عبد المجيد محمود، لاتخاذ اللازم من إجراءات فيما جاء بالتقرير.وأكد التقرير الذي وزعت اللجنة نسخة مختصرة منه جاءت في 45 صفحة، أن الشرطة المصرية استخدمت "الرصاص الحي" ضد المتظاهرين في أحداث 28 و29 كانون الثاني/يناير. وقد تم القبض على بعض المتهمين لكن النتيجة النهائية بعد مرور عدة سنوات أنه لم يتم القصاص لشهداء الثورة والأحداث التالية. وإذا كان هذا ليس بمستغرب من المجلس العسكري الذي لا يمكن إهمال احتمالية تواطؤه مع الشرطة والفلول منذ بداية الثورة، فإن تجاهل الإخوان لنتائج اللجان التالية لتقصي الحقائق في ظل حكم الرئيس مرسي وموقفهم حين صاروا في البرلمان وفي كرسي الرئاسة تجاه ملف حقوق الإنسان لا يمكن تبريره ولا تجاهله ليس فقط سياسياً وحقوقياً، بل وبالمعايير الإسلامية التي يتخذونها مرجعية علنية لهم.
ويمكننا التوقف أمام أحداث محمد محمود في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 وأحداث الاتحادية في 2012 بعد بداية ولاية الرئيس مرسي بعدة أشهر، ثم 30 حزيران/يونيو و3 تمّوز/يوليو 2013 ثم مجزرة رابعة، وما بعدها من أزماتلاختبار العلاقة محل البحث في غمار بعض الأزمات والنزاعات والمواجهات.
بدأت أحداث محمد محمود قبل تشرين الثاني/نوفمبر 2011، على أثر تظاهرات إندلعت منذ 28 تشرين الأول/أكتوبر وشاركت فيها قوى مختلفة مطالبة بسرعة نقل السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلي رئيس وحكومة مدنية منتخبة في موعد أقصاه نيسان/أبريل من عام 2012، واحتجاجا على وثيقة علي السلمي للمبادىء فوق الدستورية. وأعقب المظاهرات اجتماع هام في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2011 وتم الإعلان عن عزم القوى المشاركة، وعلى رأسها حزب الوسط وجماعة الإخوان، على التظاهر يوم 18 تشرين الثاني/نوفمبر، وأعاد محمود غزلان في 17 تشرين الثاني/نوفمبر التأكيد على مشاركة الأخوان. وأعلنت حركة 6 أبريل النزول وكذلك فصائل ثورية أخرى. وبدأ الخلاف حول ما حدث في شارع محمد محمود بسبب انصراف القوى السياسية الإسلامية في نهاية يوم المظاهرات خشية ان يؤدي استمرارها إلى تعطيل انتخابات مجلس الشعب المقررة في الأسبوع التالي، إلا أن بعض أسر شهداء الثورة والحركات الشبابية أصرت على الاعتصام في ميدان التحرير. واستمرت الأحداث والكر والفر والاشتباكات في ذلك المساء وطوال الليل بين مقر الداخلية والميدان وحتي صباح الجمعة 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2011. واستخدمت الشرطة رصاص مطاطي وحي وطلقات خرطوش، وقنابل مسيلة للدموع. وأدت المواجهات إلى مقتل العشرات واصابة المئات بين المتظاهرين، واختفاء عديد من المحتجين قسريًا. ووقعت إصابات عديدة في العيون والوجه والصدر نتيجة استخدام الخرطوش بالإضافة إلى حالات الاختناق نتيجة استخدام الغاز، وطالبت منظمة العفو الدولية بوقف تصدير الأسلحة والقنابل المسيلة للدموع للداخلية المصرية حتى إعادة هيكلة الشرطة.
اللافت في سياق أحداث محمد محمود هو تنازع فصائل الشارع السياسي حول المشاركين فيها وسعي فصائل مختلفة لإقصاء الإخوان وتصويرهم بأنهم غابوا وتخلوا عن الثوار. ولدى الباحثة شهادة مباشرة لرصدها الأحداث آنذاك ميدانياً، حيث شهدت تنوع الأطراف المشاركة التي كانت تضم بجانب شباب التيارات المختلفة – بمن فيهم الإخوان والسلفيين – مجموعات شعبية من الأطفال من المناطق الفقيرة والعشوائية الذين كان بينهم وبين الداخلية ثأر شخصي، وطلاب المدارس، بل والجنائيين الذين رأوا في اللحظة الثورية لحظة تطهر وكرامة واندماج. أي أنها كانت أقرب للانتفاضة التي تحركت بعد تنادي ودعوة التيارات السياسية للنزول. موقف الإخوان الذي ردد البعض أنه موقف خيانة للثورة ولحقوق المتظاهرين كان موقفا واضحاً، وهو المشاركة في التظاهرة التي سبقت الأحداث ثم إصدار بيانين خلال الأحداث فيهما إدانة واضحة وشديدة اللهجة لوزارة الداخلية، مع الإصرار على إجراء الانتخابات. والقي بيان بمسئولية التصعيد على جهات لم يسمها، هدفها تأجيل الاستحقاق الانتخابي، وداعياً المجلس العسكري لضبط الأمن وإنفاذ الاتفاقات والوعود الانتخابية. وغني عن البيان بعد تواتر الكثير من الشهادات أن قواعد الجماعة الشبابية في الفترة من 2011-2013 لم تكن تخضع خضوعا تاما لقرارات الجماعة وكان العديد من شبابها يتواجدون في مناطق الأحداث مدفوعين بانتماءهم الجيلي.
وقد تم "تقصي الحقائق" في أحداث محمد محمود ضمن أعمال اللجنة التي شكلها الرئيس مرسي للتحقيق في الأحداث من كانون الثاني/يناير 2011 حتى حزيران/يونيو 2012 وهو تاريخ توليه السلطة. وقال الناشط الحقوقي وعضو اللجنة أحمد راغب أن تقرير اللجنة الذي كان سيتم عرضه على الرئيس في مطلع كانون الثاني/يناير 2013 احتوى على عدد كبير من الأدلة الجديدة التي من شأنها إعادة المحاكمات "بشرط توافر الإرادة السياسية"، وذكر أن التقرير، الذي استغرق إعداده نحو ستة أشهر وشارك فيه 17 فريق لجمع وتقصي المعلومات، أثبت تورط الداخلية والجيش في إطلاق رصاص حي وخرطوش على المتظاهرين. ورفضت بعض الجهات السيادية والتليفزيون تقديم ما لديهم من أدلة حول قتل متظاهرين، وتسبب الغاز الذي أطلقته الداخلية في أحداث محمد محمود في مقتل البعض بالاختناق لإطلاقه بشكل مخالف للقواعد المعمول بها.
ورفض راغب ذكر أسماء بعض المتهمين أو وظائفهم، حفاظًا على سرية المعلومات، وخوفًا من هروب بعضهم ( خاصة أن التقرير لم يكن قد أُعلِن عند إدلائه بهذا التصريح بشكل رسمي). ومن أبرز التوصيات التي وردت في التقرير المطالبة بتوحيد جهة التحقيق والمحاكمة في جميع القضايا وحتى لا تحدث أي تفرقة بين المتهمين على أساس نوع القضاء، سواء كان قضاءً عسكرياً أو مدنياً والتوصية بإرسال جميع الوقائع والأدلة لجهات التحقيق المختصة. كما طالبت اللجنة بمراجعة قانون الشرطة والقرار الوزاري الخاص بقواعد استخدام الأسلحة النارية، لتتوافق مع المواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وطالبت بإعادة التحقيقات في قضية كشف العذرية (وهي أكثر النقاط التي لاقت تحفظاً من مندوبي الشرطة والجيش في اللجنة).
سنتحدث لاحقاً عن ظروف تشكيل اللجنة، عند تناول بعض مواقف الرئاسة في سنة تولي مرسي الحكم، لكن اللافت في هذا السياق أن اللجنة أدانت الجيش والشرطة معاً وطالبت بالمحاسبة. هذا التقرير لم يُنشَر ولم يخرج في حينه للنور. واستلم الرئيس مرسي التقرير في 2 كانون الثاني/يناير من اللجنة و"كلف... المستشار محمد عزت شرباس رئيس اللجنة والسيد المستشار عمر مروان الأمين العام للجنة بتسليم التقرير ومرفقاته إلي النيابة العامة لاتخاذ شئونها". وقال نشطاء وحقوقيون لبعض أعضاء اللجنة حين تكرر سؤالهم لفريق الرئاسة أن الرئيس يثق في قيادات الجيش ولن ينشر التقرير، وقبل نهاية شهر تسليمه طالبت منظمة هيومن رايتس ووتش بنشر التقرير لضمان حق الضحايا. ولم ينشر التقرير آنذاك بيد أن أجزاءً منه وصلت من جانب الإخوان لقناة الجزيرة وأُذيعت بعد مذبحة رابعة في خضم صراع التنظيم الإسلامي مع نظام3 يوليو الآخذ في التشكل.
كان مسعى التيار الإسلامي بأحزابه وفصائله هو الوصول إلى محطة انتخابات البرلمان، وقد تم ذلك بالفعل لكن هذا البرلمان لم يتسن له الاستمرار طويلا، وثارت النزاعات بشأن الجمعية التأسيسية التي تم اختيارها أول مرة فتم حلها والتوافق على جمعية تأسيسية ثانية لم تلق هي الأخرى رضا كل الأطراف. وسنُركز هنا على أداء ما يُسمى "برلمان الإخوان" في الملف الحقوقي في ثلاث قضايا مهمة: أحداث بورسعيد، وقانون الجمعيات الأهلية، وتفعيل الأليات الدولية لحقوق الإنسان.
في أحداث بورسعيد اكتفت لجنة تقصي حقائق شكلها البرلمان بإذاعة تقرير أوّلي هزيل أثار استياء الجميع، ليُعلن بعدها ان تقريرًا ثانيًا سيصدر لتوضيح حقائق وأبعاد الجريمة البشعة. إلا أن هذا التقرير النهائي لم يخرج للنور. وحمّلت لجنة تقصي الحقائق لأحداث بورسعيد في تقريرها الذي ناقشه البرلمان في شباط/فبراير 2012 مديرية أمن بورسعيد وقطاع الأمن المركزي بالقناة المسؤولية الكاملة واتهمهما بالتقصير والإهمال الجسيم.لكن المسار القانوني للقضية سار في اتجاه اتهام مشجعي نادي المصري وذلك في محكمة جنايات بورسعيد، التي قضت في حزيران/يونيو 2015 بإعدام 11 متهماً، وعاقبت 10 متهمين بالسجن المؤبد، كما أصدرت بحق 10 متهمين آخرين حكماً بالسجن المشدد، والسجن لمدة 5 سنوات على 12 متهماً من بينهم مدير أمن بورسعيد ورجال أمن. وفي 20 شباط/فبراير2017 أيدت محكمة النقض إعدام 11 شخصاً ليسدل الستار القضائي على قضية مذبحة بورسعيد.
القضية الثانية التي كان يمكن لبرلمان الإخوان أن يلعب فيها دورًا كانت قانون الجمعيات الأهلية. وكانت المفاوضات في لجان المجلس شديدة الصعوبة مع ممثلي وزارة التضامن الاجتماعي الذي يشكلون في الحقيقة كتلة بيروقراطية مؤثرة، بينما ضغطت أجهزة أمنية وسيادية للحفاظ على سلطتها في هذا المجال ومن أجل تحجيم التمويل الأجنبي لتسهيل التحكم في الجمعيات عن طريق السيطرة على تدفق الدعم الخارجي إليها. وقد تمكن الإخوان هذه المرة من الوصول لصيغة مقبولة للقانون وكان أداء المجلس متناغما مع مطالب الجمعيات الأهلية، وذلك بشهادة جمعيات حقوقية، لكن جرى حل المجلس قبل صدوره.[47]
القضية الثالثة هي موقف برلمان 2012 من انضمام مصر لمعاهدة روما للمحكمة الجنائية الدولية. فرغم توقيع مصر على الاتفاقية في 26 كانون الأول/ديسمبر2000، فإنها لم تصدق عليها حتى الآن، وبالتالي لم تدخل تلك الاتفاقية حيز التنفيذ بالنسبة لمصر، وهذا يعني انعدام الولاية القضائية للمحكمة على مصر. وقد ثار موضوع التصديق حين بدأت التساؤلات عن مصير من ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية بعد تكرار الانتهاكات على يد قوات الجيش والشرطة في الشارع والاختفاء القسري منذ اليوم الأول للثورة وعبر سنوات تالية. وفي 3 حزيران/يونيو 2012 رفض "برلمان الإخوان" طلباً من تحالف حقوقي بالتوقيع على اتفاقية روما، ثم حين تولى مجلس الشورى بعد ذلك سلطة التشريع وفق تفويض من الرئيس مرسي، ثارت المسألة مرة أخرى، فقيل إن المحكمة الجنائية الدولية مُسيسة ولم يتم التصديق. وسنرى لاحقاً كيف توجه الإخوان بعد رابعة في 2013 لهذه المحكمة فرفضت قبول دعواهم مطلع 2014. وقد أعاد المستشار هشام البسطويسي طرح المسألة في منتصف 2017 وكرر المطالبة بتصديق مصر على معاهدة روما.
وقد مضت هذه الأحداث المختلفة في مشاهد متكررة لم تزد القوى المختلفة إلا تمزقاً، وتم حل البرلمان قبل أن يتولى مرسي الرئاسة، وفور توليه قام بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق كما ذكرنا، ولجنة أخرى لبحث ملف المعتقلين، وهو الملف المُعلق منذ كانون الثاني/يناير 2011 ويشمل المختفين قسرياً، حيث توقعت القوى السياسية الثورية أن عدداً منهم تحتجزهم الشرطة أو الجيش. ولم تحقق لجنة المعتقلين ما كانت ترجوه من رصد شامل وإطلاق سراح تام للمعتقلين، ولم ينشر الرئيس مرسي تقرير لجنة تقصي الحقائق في احداث العنف في العام والنصف السابقين على توليه السلطة. وفي نيسان/أبريل 2013 نشرت صحيفتا "الشروق" المصرية و"الجارديان" البريطانية مسودات لفصول مسربة من التقرير تتعلق باستخدام الشرطة غير المشروع للذخيرة الحية، وتعذيب متظاهرين محتجزين على أيدي أفراد من الجيش.
وقد تعرضت الرئاسة ولا شك لضغوطات ودخلت في توازنات ليست في صالحها مع الأجهزة السيادية، ووصلت محاولات تعديل تشكيل الجمعية التأسيسية لطريق مسدود خشية حلها وتربص القضاة والمحكمة الدستوية العليا. وكان المخرج هو تشكيل لجنة استشارية للجمعية التأسيسية تضم عشرة أعضاء منهم أبرز أساتذة القانون الدستوري (كان في اللجنة د.ثروت بدوي ود. سعاد الشرقاوي ود. أحمد كمال أبو المجد وكان الأولى وجودهم في الجمعية التأسيسية أصلاً) وأساتذة علوم سياسية ورموز ثقافية. وقد تم اختيار الباحثة ضمن هذه اللجنة التي سعت لتوسعة مساحة الحريات في مسودة الدستور. وعاني عمل اللجنة من عدة معوقات منها مراوغات الإخوان، وخاصة التغيير المتكرر للمسودة المُتاحة للتعديل، وعزوف أعضاء الجمعية التأسيسية عن التواصل المباشر مع اللجنة الاستشارية، ورفض رئيس الجمعية التأسيسية المستشار حسام الغرياني أن تقوم اللجنة بعد ستة أسابيع من العمل بعرض نحو ستين تعديلًا مقترحًا مباشرة على الجمعية. وأدى هذا كله إلى أن ثمانية من أعضاء اللجنة، منهم الباحثة، قرروا الانسحاب ونشر بيان حول الأمر. وتعرض أعضاء اللجنة للكثير من الهجوم من أنصار الإخوان بعد التغطية الصحفية الواسعة لهذا البيان.
لم يمهل الحقوقيون مرسي فترة كافية لتوطيد سلطاته في ظل أجهزة دولة عميقة تحكمها المصالح ويسيطر عليها إما بقايا النظام السابق أو أذرع الدولة السيادية ومصالح اقتصادية ضخمة، وبعد مائة فقط من بداية حكمه انتقدته منظمات حقوقية في بيان (ربما رداً على مزاعم أنصار مرسي أن هناك خطة لأول مائة يوم من حكمه وهو في حد ذاته تصور يعكس ضحالة سياسية بالغة).
في تلك الأثناء دعت باكينام الشرقاوي مساعدة الرئيس مجموعة من الحقوقيين لمناقشة ممتدة على جولات لسبل إصلاح الداخلية وخاصة أعضاء مبادرة شرطة لشعب مصر (المبادرة الوطنية لإصلاح الشرطة) التي انطلقت في 2011، لكن إصدار مرسي الإعلان الدستوري المفاجئ دفع الأطراف للاحتجاج على مسلك الرئاسة، ثم جاءت أحداث قصر الاتحادية لينسحب الحقوقيون من الحوار مع الرئاسة.
وفي أحداث الاتحادية هجم أنصار الإخوان على خيام معتصمين سلميين أمام القصر الرئاسي، وبعد عدة ساعات تداعى معارضو الإخوان للتظاهر عند قصر الرئاسة وكذلك توافد أنصار الإخوان، وحدثت اشتباكات دخلت فيها عناصر من البلطجية أشعلت الأحداث وحاولت اقتحام قصر الرئاسة فيما يصفه الإخوان بمحاولة أولى للانقلاب على الرئيس، وقد سقط في الاشتباكات 8 قتلى من الإخوان وعلى جانب المعارضين الحسيني أبو ضيف الذي أُتهم الإخوان بقتله.
وكانت أحداث الاتحادية محطة مهمة في تأجيج العداوة بين الحقوقيين والإخوان، حيث تم رصد حالات تعذيب لعل أشهرها الناشطة علا شهبة التي تم ضربها واحتجازها عدة ساعات على يد الإخوان حتى تدخل الناشط محمد القصاص وأفلح في إنقاذها، وضرب لأحد الأقباط تم توثيقه. وقد ثارت ثائرة المنظمات الحقوقية وأصدرت العديد من البيانات وطالبت (مجدداً) بتقصي الحقائق، بل وهددت مرسي بالتصعيد دولياً، إلا أن مجريات الأحداث المتسارعة قادت إلى 30 حزيران/يونيو.
ورغم أن الصلة بين 30 حزيران/يونيو و3 تمّوز/يوليو 2013 لم تكن مستهدفة بالضرورة من قبل البعض ممن شاركوا في المظاهرات، إلا أنتسلسلالوقائع لا يعفي منظمات ومدافعين عن حقوق الانسان من المشاركة في الأحداث التي قادت لاستيلاء القوات المسلحة على السلطة. فقد شاركت بعض الرموز الحقوقية في دعم حركة تمرد بشكل علني (في ما نراه خلطاً بين العمل الحقوقي والمشهد السياسي ويحتاج مراجعات بشأن حدود الانخراط السياسي من قبل الحقوقيين وأولوية الحياد الإيجابي بعيداً عن التحزبات والانحيازات)، وقبل 30 حزيران/يونيو وفي قمة الحشد لها، أصدرت 20 منظمة حقوقية بياناً صحفياً يوم 27 حزيران/يونيو 2013 يتهمون حكم مرسي بأنه شهد انتهاكاً غير مسبوق لحقوق الإنسان، وبما لهم من خبرة في التعامل مع الأجهزة الأمنية كان يمكنهم الإحاطة بآليات كثير من الانتهاكات التي كانت على يد الشرطة والجيش، ورغم أنه لا يمكن تبرئة الإخوان كلية من استخدام العنف في بعض المواجهات في الشارع بين القوى الثورية فانه لا ينبغي ان يكون هناك قبولًا مطلقًا لكل تهمة تم إطلاقها ضد الاخوان دون بينة أو الاعتماد فيها فقط على روايات خصومهم.
وكانت رابعة خطاً فاصلاً في استعادة المنظمات الحقوقية المستقلة لمواقفها المعادية للنظام بعد تراوح مواقفها بعد 3 تمّوز/يوليو مع تكرر المذابح، من أحداث الحرس الجمهوري والمنصة، التي سقط فيها قتلى على يد قوات الحرس الجمهوري ثم الشرطة، قبل ان تصل البلاد لمحطة رابعة الدموية ووقائع مسجد الفتح الدامية وما بعدها.
واصرت بعض المنظمات على اعتبار أوضاع ما بعد 3 تمّوز/يوليو أوضاعاً شرعية مستمدة من تحركات 30 حزيران/يونيو 2013، ومن المؤسف أن منظمات نسوية وضعت أمالها على رئيس مؤقت جاء بدعم عسكري، وطالبت هذه المنظمات الرئيس المؤقت عدلي منصور بالعمل على زيادة تمثيل النساء ومحاكمة "كل من أجرم في حق الوطن في ظل نظام مبارك والمجلس العسكري ومرسي، وهيكلة مؤسسة الشرطة، وإن حذرت "في ظل مخاوفنا من تزايد الدور السياسي للمؤسسة العسكرية على حساب الأمن القومي والمسار الديمقراطي." وكان من "السذاجة" أن تتوقع هذه المنظمات أن الرئيس المؤقت سيحجم تغول الجيش. وتعرضت تلك المنظمات وفاعلات فيها بعد أشهر قليلة للتنكيل من قبل النظام (مثال ما تواجهه عزة سليمان من تهم، ومنع مُزن حسن من السفر)، وهو النظام الذي قتل واعتقل نساء التيار الإسلامي بوحشية غير مسبوقة، وفعل الشيء نفسه بالناشطات الثوريات أمثال ماهينور المصري وغيرها.
جاء بيان المنظمات النسوية بعد أسبوع من أحداث الحرس الجمهوري التي أطلق فيها الجيش والشرطة النار على متظاهرين مما أسفر عن مقتل 51 وإصابة 400 وفق بيان وزارة الصحة. وكان هذا أول ناقوس خطر تسمعه المنظمات الحقيقة عن سفك الدماء المقبل، فوقعت 15 منظمة على بيان يوم 9 تموز/يوليو عنوانه: "قبل أن تنزلق البلاد إلى دائرة عنف لا تنتهي يتعين إجراء تحقيقات محايدة بمشاركة منظمات حقوق الإنسان المستقلة". وتلت ذلك أحداث المنصة التي ارتفع فيها عدد القتلى لقرابة المائة، ثم جاءت مذبحة رابعة الأعلى في عدد الضحايا حيث بلغ 932 قتيلاً وفق حصر منظمة حقوقية وأضعافهم من المصابين وما يزيد عن الـ800 معتقل. وصدر بيان فوري عن المنظمات الحقوقية يدين مذبحة رابعة – وإن أدان في عنوانه إرهاب الإخوان في سوء تقدير واضح للموقف وتوازن القوى في حينه. وبعد أربعة أشهر في 10 كانون الأول/ديسمبر 2013 صدر بيان شارك في التوقيع عليه منظمة هيومن رايتس ووتش بعنوان "لا إقرار بما حدث ولا عدالة بعد 4 شهور ينبغي التحقيق في عمليات القتل الجماعي للمتظاهرين وملاحقة الجناة يجب إنشاء لجنة تقصي حقائق كخطوة أولى"، والذي دعا مجددا لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، لكنه أيضاً أورد بعضاً من جرائم سابقة منذ 2011. واستمرت مطالبات منظمات حقوقية، وكان هذا أحد محفزات التوحش في التعامل مع منظمات حقوق الإنسان، حيث يخشى النظام المحاسبة الدولية التي يمكن أن تعتبر رابعة جريمة ضد الإنسانية.
ومن ناحيته قام المجلس القومي لحقوق الانسان بلعب دور داعم للدولة كما هو متوقع منه، ففي 5 آذار/مارس 2014 أصدر تقريراً مختصراً حول مهمة تقصي حقائق قام بها عن مجزرة فض رابعة، وهو تقرير شاب صياغته الكثير من الارتباك وتعرض لعدد كبير من الانتقادات، حيث لم يستند لمعلومات ولا بيانات موثقة، بل أقر عضو المجلس ناصر أمين أنهم لم يطلعوا على خطة الداخلية للفض (حيث لم تتعاون الداخلية في تزويدهم بها) واعتمدوا على شهادات أفراد تقدموا للجنة (وكانمحمد عبد القدوس قد زودهم بأسماء 12 من الإخوان كانوا معتصمين شهدوا الفضّ لكنهم لم يتعاونوا مع فريق التقرير). ونظراً للارتجالية والتعجل في إصداره فلم يتوافق عليه كل الأعضاء. واستعرض أمين الذي رأس لجنة تقصى الحقائق نتائج أعمالها في مؤتمر صحفي، وصدرت في غير الصورة المعتمدة للتقارير المماثلة، ودون توافق كامل بين الأعضاء. وربما تعود العجلة إلى أن رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان محمد فائق كان مقرراً له يوم السبت التالي أن يلقي كلمة مصر أمام مجلس الأمم المتحدة لحقوق الانسان في جنيف حيث سيتعرض لنتائج عمل اللجنة. وكان ينبغي ترجمة تقرير اللجنة إلى اللغة الإنجليزية وتقديمه إلى المنظمات الحقوقية الدولية. وأعترف التقرير بالكثير من الانتهاكات التي جرت ومقتل مدنيين لكنه اتهم الإخوان بتسليح الاعتصام، وزعم أن عدداً من المسلحين داخل الاعتصام بادروا بإطلاق النار على قوات الشرطة، وأن قوات شرطة فقط هي من قامت بفض الاعتصام (وأغفل مشاركة الجيش).
وأصدرت منظمة هيومن رايتس واوتش الدولية تقريراً وافياً بعد عام من مذبحة رابعة، وهو ما أثار النظام ضد المنظمة وجعله يدأب على تكذيب ما تتضمنه تقاريرها، فضلاً عن منع نشاطها في مصر ثم حجب موقعها الإلكتروني في 2017.
ومن جانب آخر سعى النظام لوضع منظمات حقوق الأنسان تحت السيطرة الكاملة منذ تموز/يوليو 2013، بحيث تكون جميع التقارير من المنظمات المحلية موافقة للتصريحات الرسمية، ولا تتسرب أي معلومات عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان لسفراء دول الاتحاد الأوروبي والمنظمات الحقوقية الدولية. وسعى النظام لتوسعة سلطات القضاء العسكري. وتكررت مضايقات النظام للمؤسسات الحقوقية، وفي آذار/مارس 2016 أُعيد فتح التحقيق في قضية التمويل الأجنبي للمنظمات الأهلية والحقوقية بزعم ورود معلومات جديدة بشأن تورط عدة منظمات حقوقية ومدنية وأفراد في تلقي تمويل من الخارج. وأكدت 14 منظمة حقوقية أن الهدف من هذه الاجراءات هو الانتقام من منظمات المجتمع المدني والحقوقي عن طريق إعادة فتح التحقيقات خاصة مع قيام قضاة التحقيق باتخاذ إجراءات ضد قيادات وعاملين بعدة منظمات شملت تجميد أموال وحل جمعيات ومنع من السفر.[66] ووواصلت منظمات حقوقية متابعة حالات التعذيب والاختفا القسري ولكن مع ارتفاع العدد وتنوع الانتهاكات بدأت تقارير نوعية تصدر عن المنظمات في كل ملف، سعيا للتوثيق والتعريف بالمجريات، دون قدرة على إحداث أثر أو تغيير يذكر.
ثالثاً: التوافقات المُمكنة وهدر الفرص
عودة إلى نظرية هيكل الفرص السياسية،فإنه من الملاحظ أن أبرز عوائق انتهاز الفرص هو هيكل الثقافة السياسة السائدة، وغالباً يما يكون هذا عجزاً عن تشريح الفرصة إلى مستويات وعناصر والميل لرؤيتها في صيغة مباراة صفرية. ويغيب البعد الزمني وتقسيمه والوعي بمساراته وسرعتها، فبعض الأطراف يمكنها الاستفادة قصيرة الأجل دون أن تضيع بالضرورة فرص متوسطة وطويلة الأجل، لكن ذلك لا يحدث نتيجة العَجلة وغياب التفكير الاستراتيجي بالنظر للمصلحة الجماعية للأطراف المدنية (علمانية أو إسلامية) باعتبار أصل العلاقة بينهما تنافسي لا صراعي.
ويبين مسار الأحداث خلال الأعوام الماضية – وعلى خلفية علاقة طويلة من التنازع بين دائرة الجيل الذي أسس المنظمة المصرية لحقوق الإنسانمن جهة والدائرة الإسلامية وبالأساس الإخوان المسلمين من جهة أخرى – أن جميع الآطراف استغلت الفرص السياسية بدرجة عالية من البراجماتية وقصر النظر والرهان على المكاسب قصيرة الأجل، رغم وضوح التبعات على المدى الأطول، وأن عقلية الصراع غلبت على الرشد المطلوب للبناء على المشتركات وتقاسم المكاسب والسعي لتوسعة رقعة المنافع المشتركة، وأن الرابح الوحيد كان القوات المسلحة التي سيطرت على السلطة حتى حين كان مرسي في قصر الاتحادية عاجزاً عن إنفاذ قراراته محاصراً بأجهزة أعلنت بعد 2013 بلا مواربة عدم تعاونها معه إبان حكمه (ربما يستحق إصرار الإخوان على الاستمرار في الحكم رغم ذلك، وأسبابه النفسية والفكرية والسياسية، بحثاً مستقلاً). لم تكن الفرص السياسية المتاحة في نظر الأطراف فرصاً للجميع يمكن التفاوض بشأنها، وفشلت كل القوى السياسية في الوصول للحد الأدنى المشترك وقواعد واضحة للإدارة السياسية.
ولا شك أن أمهر الفاعلين على الساحة السياسية عبر العقود الماضية كان الدولة – مع تبدل الأنظمة – قبل وبعد ثورة 25 يناير، وكان الرهان طوال الوقت على السرعة والمباغتة، واستخدام أدوات القانون في إهدار معاني العدالة. تدير الدولة صراع الوجود هذا ’إدارة حرب‘، فتوظف أدواتها في تشتيت التحالفات واستمالة الفاعلين المدنيين والانفراد بالأطراف وتفريق الجموع. ’إدارة السرعة‘ تلك تغولت بها الدولة عبر أدوات السيادة على المساحة المدنية طوال الوقت، وصاغت المجتمع على صورتها، وبدلاً من "الحق في الدولة" والرهان عليه كحق أصيل شغلت أجهزة الدولة وأذرعها السيادية والثقافية والإعلامية الفاعلين بمعارك صغيرة ذات آجال زمنية محدودة، فأفقدتهم القدرة على الاصطفاف حول الأجل الطويل والحق الأصيل، وأخرجتهم من الشارع للمساحات المغلقة في كل مرة استعاد فيها الناس الشارع، إلى سجون القمع أو قاعات الاستمالة.
وفي الحروب تكون المساحات فارقة، والكرّ والفرّ فن ومهارة، والساحة في حروب التحرير المدني هي المدينة، تلك المساحات التي ملأتها السلطة أسواراً، ووزعت عليها عسكرها، وسلحت شرطتها، وأنزلت قواتها الخاصة في ميادينها، ونصبت وسائل المراقبة في جغرافيتها المادية والافتراضية.
يثور إذن التساؤل:
كيف يمكن عبور تلك الفجوات وتجاوز تلك الخصومات من أجل توزيع أدوار أفضل لإدارة المرحلة القادمة في المشهد المدني والسياسي، بعد أن جمع كل الفرقاء بالفعل حال الشتات وقرارات مصادرة الأموال والتنكيل في السجون والأحكام القضائية الجائرة؟ وما الملفات التي يمكن العمل عليها وتجميع الخبرات مع جهود التوثيق للانتهاكات وضمان المحاسبة والعدالة في المستقبل؟
من المهم أن ندرك أن "قومية المخيال" التي انصرفت للانشغال بالدولة كإطار، أو الحكم كغاية، أهملت المقوم المركزي في الدولة القُطرية وهو الأرض. وأنه لا ’أرضية مشتركة‘ في المجال المدني دون أرض في المكان الجغرافي، ليس فقط بمعنى المجال العام بل بمعنى وحدة الأرض والدفاع عن سيادة الشعب عليها، أي بالخروج من منظور الحق المدني والسياسي إلى الحق في الشارع للحق في المدينة والحق في الدولة.
كانت محنة تيران وصنافير مناسَبة فريدة لبناء توافق وطني في قضية لا خلاف عليها، بعيداً عن جدوى ذلك أو إمكانية وقف الصفقة، لكن الذاكرة المحملة بالضغائن منعت خلق جبهة واسعة. وكالعادة كانت السلطة أسبق في إصدار قانون منع التظاهر بشكل استباقي لتستوعب حركة الشارع المحتملة، وسارعت بالزجّ برموز شبابية من صف الثورة في السجون لتجتمع أطياف التوجهات المختلفة حتى التي ساندت 30 حزيران/يونيو بل و3 تمّوز/يوليو في السجون. وسيظل الدفاع عن الوطن و’أرضه‘ هو أحد أهم الملفات التي ينبغي بدء تنسيق الجهود حولها في المستقبل لبناء ’أرضية مشتركة‘.
الملف الثاني الممكن للتعاون والاصطفاف هو الحق في المدينة، وفي الأرض التي يقف عليها المواطن ويملكها، وحقه في الخدمات وفي المكان العام في الحياة اليومية، فالإشكال الذي تواجهه الأطراف المختلفة هو ’الحرب‘ الجارية على المساحة المدنية وعلى الفقراء في المدينة، حيث يتم حالياً تكريس ما يشبه الفصل العنصري في كل المحافظات وتمييز المساحات بناء على عاملين: الثروة والسلاح. وأوضح مثال هو العاصمة الإدارية الجديدة التي يجري إعدادها الآن كـ "منطقة خضراء"، لتجمع الثروة والسلاح في بقعة واحدة، مع تحديد مساحات الحيز في ’المدينة القديمة‘ و’الأحياء المسورة‘ للفصل الواضح بين الأغنياء، وبين البقية.
وهنا نرصد صعود جيل جديد مختلف في التخصص المهني والخلفية الإيديولوجية عن مسار المنظمات الحقوقية الأقدم وجيل السبعينيات، ويقوم على نشطاء التنمية والمشاركة المجتمعية والمعماريين والباحثين القادمين من خلفية العلوم الاجتماعية الذين يولون الحق في المكان والمدينة والأرض أهمية قصوى. )نعم، كان ملف السكن بالفعل مطروحاً على الساحة من خلال جهود ’شبكة الموئل- مصر‘ وكان يبرز إعلاميا عند مناقشة قانون الإيجار القديم أو قضايا الفقر، لكن بدأت مبادرات محددة تنشأ للعناية بالملف بشكل منظم، فقد تأسست مبادرة التضامن الحضريكمشروع تعاون بين شركة ’تكوين لتنمية المجتمعات المحلية‘، والجامعة الأمريكية بالقاهرة بدعم من مؤسسة فورد والصندوق النرويجي للتنمية في 2009. وتسعى هذه المبادرة لرصد التحولات العمرانية وتكريس الوعي بالحق في المكان في المجال الحضري. وبالتزامن نشأت مبادرة معمل الدراسات العمرانية والبيئيةللاهتمام بتطوير منطقة وسط البلد ثم اتسع مجال الاهتمام ليشمل المبادرات المحلية للتطوير الحضري وخلق دوائر عابرة للتخصصات لدراسة النمو الحضري والحقوق المتعلقة به، ومنها مبادرة 10 طوبة للدراسات والتطبيقات العمرانيةوهي مجموعة متخصصة تعمل وتهتم بقضايا العمران مع ربطها بمجالات العمارة والتخطيط. وكونت هذه المجموعة خبراتها في مجالات علوم الإنسان العمرانية والتخطيط بالمشاركة والحقوق والسياسات في العمران من خلال مشاريع مع مجتمعات عمرانية في مصر، وتأسست بعد 2013 من فريق معماريين ونشطاء وأسست مرصداً للتحول العمران. وكذلك تم التشبيك لتأسيس "وزارة إسكان الظل" لمتابعة السياسات والتوعية بالحق في السكن. والملاحظ أن كل هذه الجهود تتناول الحق في الأرض والسكن والمكان وترصد التحولات في محافظات مختلفة. واضافة لجهود الجيل الجديد برز ملف الحق في السكن في نشاط المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والمفوضية المصرية للحقوق والحريات ومنظمات حقوقية أخرى قائمة، وتخصيص جهد إعلامي استقصائي ورصدي في موقع ’مدى مصر‘ ومواقع متفرقة على شبكة التواصل الاجتماعي.
نرصد أيضاً بجوار ذلك نمواً لدوائر شبابية حقوقية من خارج الدوائر المعروفة لمنظمات حقوق الإنسان بعد ثورة يناير وخاصة بعد يوليو 2013، والتي انبثقت من حركة الشارع ومتابعة الانتهاكات وملفات المعتقلين والتعذيب، فبخلاف نشطاء ’لا للمحاكمات العسكرية‘ صعد نشاط مؤسسة حرية الفكر والتعبيروانضم لها العديد من الكوادر الشبابية النشطة، وتأسست المؤسسة العربية للحقوق المدنية والسياسية (نضال) في 2013، ثم التنسيقية المصرية للحقوق والحريات2014، والمفوضية المصرية للحقوق والحريات،ومركز عدالةللحقوق والحريات، وخارج مصر هيومان رايتس مونيتورالتي تأسست في لندن عام 2014 وتُعنى بالحالة المصرية بشكل واضح، ولجنة العدالة، ومقرها جنيف، وتأسست في 2015 وتتسع اهتماماتها لنطاق أوسع من متابعة انتهاكات حقوق الإنسان بالمعايير المُحايدة المتعلقة أساساً بسلامة الإجراءات وعدالة القوانين، خلاف صفحات عديدة على الفيسبوك ضد المحاكمات العسكرية والاختفاء القسري والإعدامات والتعذيب أقدمها بالطبع لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين، مروراً بـ ’اكسر كلابش‘ وغيرها.
كل هذه التحولات التي بدأت حول ثورة 25 يناير وما بعدها دفعت بأجندة جديدة وأجيال جديدة على مسارات للحقوق أكثر اتساعاً أو أكثر متابعة للانتهاكات اليومية، وخلقت جيلاً جديداً ولوناً جديداً من منظمات حقوقية تتناغم مع التهديدات والانتهاكات الجارية وتتفاوت في درجة تسييسها ومواجهتها المباشرة مع النظام، وهذه فرصة تاريخية في تقديرنا لتجاوز صراعات الاسلاميين والمنظمات الحقوقية التي تأسست على تنازعات شخصية لجيل السبعينيات، وعلى تضاد الإيديولوجيات.
ولدينا مثال واضح لإمكانية التعاون بين المنظمات في الداخل والخارج والتكتل والتنسيق، هو تلك التعبئة التي تمت حول القبض على المحامي إبراهيم حجازي، والذي ساهم في تأسيس مجموعة أُسر المختفين قسريًا عقب اختفاء ابنه الشاب في غمار أحداث الحرس الجمهوري في شهر تمّوز/يوليو 2013. وأسفر تحريك الحالة دولياً عن إصدار سفراء بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وهولندا بيانا يعرب عن القلق البالغ بشأن اعتقال حجازي الذي اختفى عقب توقيفه بمطار القاهرة أثناء توجهه إلى جنيف تلبية لدعوة من فريق العمل على حالات الاختفاء القسري التابع للأمم المتحدة. وكان حجازي من المحامين المتعاونين مع أسرة الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، الذي تعرّض للتعذيب قبل أن تُكتشف جثته في شباط/فبراير 2016.وظهر حجازي، بعد يومين من الاختفاء، في نيابة أمن الدولة بمنطقة التجمع الخامس، تواجهه تهمتا "تأسيس جماعة على خلاف القانون ... ونشر أخبار كاذبة"، وتمّ حبسه لمدة 15 يوماً على ذمة التحقيقات، واستمر تجديد حبسه منذ ذلك الحين. وكما هو متوقع استدعى مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية سفراء ثلاث دول بالقاهرة لتقديم "احتجاج رسمي شديد اللهجة" على بيان مشترك صدر عن دولهم، في استمرار لسياسة الخارجية في الإنكار المنهجي لأي وقائع انتهاكات أو قتل خارج القانون، والإدانة المستمرة لتقارير حقوق الإنسان عن مصر بعد 2013. وبعيداً عمّا حدث في حالة حجازي والحالات الأخرى لاحقًا، فإن اعتبار تلك ’الفرص‘ إمكانية ملائمة لتطوير قواعد واعراف للتعاون المتكرر والمنتظم قد يفتح مجالاً أكبر للتنسيق والتشبيك ويكون مصدراً لمزيد من احترافية التركيز على العمل الحقوقي وآلياته الداخلية والدولية بعيدا عن تنازعات المواقف السياسية للأفراد في المجال.
ويُحتِّم هذا التعاون اليوم – أكثر من أي وقت مضى – توجه النظام المصري حاليا ليس فقط لإنكار تقارير المنظمات الدولية عن انتهاكات الحقوق في مصر (بالاشتباك المتكرر لوزارة الخارجية مع منظمات حقوق الإنسان الدولية وإنكار مصداقية تقاريرها بل ومنع بعضها من العمل في مصر)، بل الانقلاب على مؤسسات النظام المصنوعة من قِبله كأدوات سياسية وتقاريرها، وذلك حين شعر أنها يمكن أن تكون دليلاً يدينه في المستقبل أو يعرض المسئولين للمحاسبة الدولية. وعلى سبيل المثال أصدر المجلس القومي لحقوق الإنسان - تحت ضغط زيادة الانتهاكات وتصاعد حالات الاختفاء القسري -تقرير عام 2016 الذي لا يعبر بحال عن حقيقة الظاهرة لكنه على أقل تقدير يعترف بوجودها، وربما كان هذا التقرير تحديداً ثم أزمة ريجيني وما سببته من توتر في العلاقات المصرية الإيطالية هو ما دفع النظام للشعور بخطورة مثل تلك التقارير. وبعد أن كان تقرير مجزرة رابعة الصادر عن المجلس القومي وسبقت الإشارة إليه وسيلة لدفع الاتهامات دولياً وتبرير القتل للمدنيين وتمرير اتهام الإخوان في اعتصام رابعة بحمل السلاح، بات هناك تقرير من نفس المجلس يشير ولو على استحياء لظاهرة الاختفاء القسري وهي ممارسة تقوم بها الدول وتنتهك حقوق الانسان. وجاء رد فعل النظام في صورة تصريحات متكررة على لسان نواب برلمانيين أن المجلس سيتم إعادة تشكيله ليضم وجوهاً "شابة" - في تلويح بإقصاء الحقوقيين الذين اضطر النظام للاستعانة بهم في تشكيل المجلس القومي بعد هيمنة الجيش في 2013 لإكساب بعض المصداقية لمجلس يقوده محمد فائق صاحب التاريخ الطويل في خدمة أجهزة الدولة المصرية، وطُرح اسم مفيد شهاب كبديل. لم يمر تقرير الاختفاء القسري غير مَرضي عنه فحسب، ولا تم تعديل قانون المجلس القومي لحقوق الإنسان ليتم إخضاعه للبرلمان وتقييد سلطاته فقط، بل قام محام يدعى طارق محمود برفع دعوى تطالب بحل المجلس القومي (ولهذا الشخص سوابق في المطالبة بالتوسع في المحاكمات العسكرية وإسقاط أوسمة الرئيس السابق مرسي وإدراج المحاكم المصرية حماس كمنظمة إرهابية، وغيرها)، ودفع بأن الرئيس السابق عدلى منصور أصدر قراراً بقانون فى آب/أغسطس 2013 بشأن إعادة تشكيل المجلس للقومى لحقوق الإنسان وأن القرار نصّ على أن يستمر المجلس بتشكيله الجديد لحين انتخاب البرلمان، وحدد مدة بقاء المجلس القومى لحقوق الإنسان، وحيث أن الانتخابات البرلمانية انعقدت يصبح تشكيل المجلس باطلًا بما يعنيه ذلك من بطلان جميع القرارات الصادرة عن المجلس منذ تاريخ انعقاد أولى جلسات مجلس النواب في 14 كانون الثاني/يناير 2016. وقررت هيئة المفوضين بالدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإدارى، بمجلس الدولة، حجز هذه الدعوى لكتابة تقريرها، ولو تم ذلك فسيعني ببساطة البطلان الاجرائي للتقارير التي أصدرها المجلس وعدم الاحتجاج بها من قبل المفوضيات والهيئات الدولية. وكما خلق النظام المجلس القومي لحقوق الإنسان لسحب البساط عبر السنوات من تحت المنظمات الحقوقية فقد يقوم بتوظيفه – في ظل إغلاق البعض والتربص بالبعض الآخر – للإفلات من المحاسبة، إذ أن نظاماً يأتي بكل هذه الجرائم في حق العُزل والأبرياء ثم يحيل قضاة للمحاكمة لأنهم شاركوا في وضع مسودة قانون للمعاقبة على التعذيب لن يتورع عن خلق المزيد من الكيانات الهشة للدفاع عن سياساته.
وفي ظل أولوية الحياة – حفظاً ونوعيةً – في نضالات حقوق الإنسان عند كل الأطرافوالمَعنِي بها كل مواطن، فإن أجندة وقف الإعدامات والسعي لتجريم المحاكمات العسكرية للمدنيين والتعذيب والاختفاء القسري يمكن أن تكون رباعية قاطرة للتعاون بين التيارات المختلفة والمنظمات المتنوعة، ويمكن التحالف بشأن مثل هذه القضايا مع اختلاف دوافع الأطراف كل تأسيساً على منهجه؛ الحقوقيون من الإطار العلماني الأوسع لأسباب تتعلق برفض عقوبة الإعدام ابتداءً، والإسلاميون لافتقار النظام لأدنى أسس المحاكمة العادلة وهو ما يسري على الدولة القومية ونظامها القضائي إجمالاً عند التدقيق – وذلك في الدول كلها، بدرجات متفاوتة. وقد أثمر جهد الضغط والتنسيق في هذا الملف على مدار شهور طويلة صدور بيان في مطلع عام 2018 عن مفوض حقوق الإنسان بالأمم المتحدة يطالب بوقف الإعدامات في مصر، وأصدرت مجموعة منظمات بياناً يدين الإعدامات، كماصدر حديثاً في نهاية شهر كانون الثاني/يناير 2018 تقرير "باسم الشعب: عن عقوبة الإعدام في مصر" بالتعاون بين مركز عدالة للحريات وحقوق الإنسان والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية في تعاون يدل على ما توقعناه من التقليل من الخلافات الإيديولوجية أو بمعنى أصحّ عدم البناء على الاتفاق الإيديولوجي، بل التركيز على الاهتمام الحقوقي المشترك.
خاتمة
كانت المكايدة هي سِمة العلاقة بين الإسلاميين والمنظمات الحقوقية في لحظة المشهد الثوري. تجاهل الإسلاميون كثيرًا من جرائم النظام وأجهزته السيادية منذ 25 كانون الثاني/يناير 2011 وصولا إلى 2013، بينما ساهم بعض من رموز الحقوقيين في حشد تمرد باتجاه 30 حزيران/يونيو 2013، بل ودعم استيلاء القوات المسلحة على السلطة. ولكن مشاهد القتل والإعدامات والانتهاكات ثم المواجهة المباشرة بين النظام والمنظمات والجمعيات الحقوقية وصولاً لصدور قانون الجمعيات الأهلية دفع الحقوقيين للمزيد من الإدانة للنظام والرصد والتوثيق لانتهاكاته واستخدام الآليات الدولية للحشد بدرجات متفاوتة بحسب قدرة المؤسسات سواء في الداخل، أو التي انتقلت خارج البلاد أو نشأت بالخارج.
ومن المتوقع أن يدفع ذلك المزيد من الإسلاميين – بالمعنى الواسع غير التنظيمي – للالتفات لأهمية العمل الحقوقي، وفي المقابل مزيد من قبول التعاون خاصة في الرصد والتوثيق بين الدوائر والمبادرات والمؤسسات المتنوعة التي نشأت بعد 2013 في ظل ظروف متحررة من التنازع الإيديولوجي وبروز أجيال جديدة من الفاعلين.
وعليه فإنه من المتوقع أن العلاقة بين الحركة الإسلامية من ناحية – بالمعنى الواسع والرخو بعد أزمة الجماعات والأحزاب مع النظام – والمنظمات الحقوقية بعد ما سبق من تحولات في بنيتها وأجيالها من ناحية أخرى، ستشهد تحولاً نوعياً تعاونياً في الفترة القادمة على محك النضال الحقوقي داخليا وخارجيا بعد موت السياسة والأحزاب، وستبرز أولويات العمل المشترك تحت مظلة الدفاع عن حقوق أو فضح انتهاكات معينة مثل الاختفاء القسري والتعذيب والإعدامات، وربما أيضاً حق العودة للمهجرين من أهل سيناء والمحاسبة على الجرائم التي تمت في حق المدنيين تحت شعارات مكافحة الإرهاب هناك خاصة مع العملية الحربية التي دشنتها القوات المسلحة منذ مطلع شباط/فبراير 2018. وسيكون الحفاظ على الحياة – بقاءً ونوعيةً – على قائمة أولويات التعاون عبر فجوة التصورات والمرجعيات على المدى المتوسط والبعيد، وأيضا العنصر الجامع للجهود الذي سيخلق من ناحية جمهوراً أوسع للمنظومة الحقوقية ويمنح الإسلاميين فرصة لتطبيق رؤية إسلامية عن حقوق الإنسان التي نظّروا لها طويلا لينشأ عمل احترافي في هذا المضمار يسمح لهم بحضور أكثر مصداقية وفاعلية على الساحة الوطنية.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.