تتسم منطقة المشرق العربي، وخاصة كل من سوريا ولبنان ومصر والأردن وفلسطين والعراق، بتنوعها الديني الشديد، الأمر الذي ألقى بظلاله على مختلف مناحي الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية وأيضاً القانونية. حيث يؤثّر الانتماء الديني للقاطنين في هذه المنطقة على وضعهم القانوني، فيحتكم المسيحيون إلى شرائعهم الكنسية في مجال الأحوال الشخصية، بينما يطبق المسلمون التشريعات المستقاة من الشريعة الإسلامية، أمّا أتباع الطائفة الدرزية فيحتكمون أيضا إلى تشريعاتهم الدينية الخاصة بمذهبهم. بالإضافة إلى هذه التشريعات، تتنوع المحاكم الدينية في دول المشرق العربي بحسب تبعية المواطنين الدينية والطائفية، فتوجد المحاكم الروحية للمسيحيين والمذهبية للدروز والشرعية للمسلمين، عدا مصر التي ألغت المحاكم الدينية لغير المسلمين عام 1955 ولكنها أبقت على التشريعات الكنسية التي تطبق بتوفر شروط معينة كما سنبينه في هذه الورقة.
تقتضي إدارة التنوع الديني في مجال الأحوال الشخصية، كغيرها من المجالات، ضمان الحرية الدينية والمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وأيضاً أمام القانون والقضاء. وعلى الرغم من ذلك لاتزال التشريعات الدينية والاجتهادات القضائية المطبقة في مجال الأحوال الشخصية متسمة بسوء إدارة التنوع كما سنبرزه في إطار هذه الورقة. هذه الأخيرة تتضمن استعراضا تحليلياً ونقدياً لكيفية تعامل المشرع وكذلك الجهاز القضائي في دول المشرق العربي مع مسألة إدارة التنوع في مجال الأحوال الشخصية، مع التركيز على المواد القانونية المنتهكة للحق بالحرية الدينية وبالمساواة أمام القانون والقضاء. وبذلك تنطلق الدراسة من استعراض الآثار الناجمة على التطبيقات المختلفة لهذه القوانين على حياة المواطنين مع التركيز على اجتهادات المحاكم الدينية في هذا المجال، وصولاً إلى تقديم بعض التوصيات المنسجمة مع مبدأ الحرية الشخصية والدينية والمساواة بين المواطنين.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.