منذ الثاني والعشرون شباط/فبراير 2019، خرج الجزائريون بالآلاف إلى الشوارع كل يوم جمعة مطالبين بتغيير جذري للنظام السياسي وبناء دولة القانون. لم يوقفهم لا برد الشتاء، ولا مشقة الصيام، ولا حرّ الصيف، ولم تنطو عليهم لا مناورات السّلطة، ولا أقنَعتهم مختلف العروض التي قدمتها، بما في ذلك الرئاسيات التي دفعت السلطة بتنظيمها في ديسمبر العام الماضي.
ولكن، منذ أن بدأ وباء كورونا (الكوفيد 19) يجتاح مُختلف دول العالم نهاية ديسمبر، وتحذير الخبراء من سرعة انتقاله بين البشر بمجرد الاحتكاك بينهم، ودعوتهم إلى ضرورة تجنب التجمعات وأماكن التجمهر، بدأ نقاش في وسائل التواصل الاجتماعي حول مُستقبل الحراك الشعبي في حالة وصول الفيروس إلى الجزائر. ازداد هذا النقاش حدّة وانقساما عندما اعلنت الحكومة الجزائرية عن تسجيل أولى حالات الإصابة في الجزائر يوم 25 شباط/فبراير 2020. استخفّ البعض في البداية من حقيقة وصول الفيروس إلى الجزائر، مُعتبرين الاعلان مجرّد تهويل من طرف السّلطة لإخافة الجزائريين ليتوقفوا عن المشاركة في المسيرات الأسبوعية. لكن سرعان ما ساد الاقتناع بضرورة تعليق المسيرات مؤقتا، ودعت شخصيات فاعلة في الحراك إلى ذلك، بما فيهم سجناء الرأي، وسجناء سابقون ومحامون معروفون بدفاعهم عن الحريات العامة.
في نفس الوقت، اتّجه خطاب السّلطة إلى نفي أية نيّة لديها في استغلال تفشي الوباء لأغراض سياسية. فقد قال رئيس الجمهورية في خطاب وجهه للأمة يوم 17 آذار/مارس أن الوباء "مسألة أمن وطني، وأمن صحي تهم الجميع" يفرض على الحكومة تقييد الحريات بشكل مؤقت فقط حفاظا على الصحة العامة من خلال اتخاذ قرار بــ"منع كافة التجمعات والمسيرات كيفما كان شكلها وتحت أي عنوان كانت ". وقبل ذلك، كان الوزير الأول عبد العزيز جراد قد قال خلال زيارة له إلى مدينة البليدة يوم 14 آذار/مارس بأنّ الدولة "ليست هنا تبحث عن الاستعمال السياسي مثلما يقوم به البعض، ولكن أقول لهم عليكم أن تكونوا حذرين لأن الأمر يتعلق بصحتكم وحياتكم"، ودعا الجميع إلى "توخي الحذر واتخاذ كل الاحتياطات اللازمة"، وأضاف "أنّه يحق للجزائريين التظاهر شريطة احترام توصيات الأطباء بضرورة التباعد وعدم الاحتكاك".
جاءت جمعة 20 آذار/مارس 2020 كأول جمعة دون مسيرات شعبية في شوارع المدن الجزائرية منذ بدء الحراك في شباط/فبراير 2019، وبدا كما لو أن الجميع اقتنع بضرورة تحمل مسؤوليته أمام أزمة صحية غير مسبوقة. في حين خرج بعض الطلبة الثلاثاء الذي سبق الجمعة هذه لتحسيس المواطنين بضرورة تعليق المسيرات.
في المقابل، انتظر المتظاهرون من السّلطة أن تعامل الحراك الشّعبي بنفس المسؤولية التي تعاملوا هم بها مع المسيرات الشّعبية. مناخ انتشار الوباء يفرض على الدولة تقديم إجراءات تهدئة ومدّ جسور الثّقة بين المؤسسات والشّعب من أجل التعاون لمكافحة انتشار الوباء. انتظر المتظاهرون إطلاق سراح المسجونين، وإلغاء، أو على الأقل تعليق، المتابعات القضائية في حق الناشطين.
ولكن الأحداث التي أعقبت جُمعة تعليق المسيرات الشعبية أعادت بعث مخاوف الكثير بشأن جدّية اعلان السلطة أن لا نية لديها في استغلال ظرف انساني كهذا لتحقيق مكاسب سياسية على حساب الحراك. إن إعادة محاكمة الناشط السياسي كريم طابو بل وتشديد العقوبة عليه، وسجن الصحفي خالد درارني بعد أن كان فقط تحت الرقابة القضائية، واعتقال بعض الناشطين، واستمرار عملية استدعاء آخرين في مختلف الولايات للحضور إلى مراكز الأمن وتقديمهم أمام العدالة رغم تعليمة وزارة العدل بوقف معظم الأنشطة القضائية – كلها مؤشرات زرعت الشكوك في أوساط الجزائريين حول مستقبل الحراك الشعبي.
تسعى هذه الورقة إلى مناقشة تأثيرات تفشي وباء كوفيد 19 على الحراك الشعبي الجزائري، باعتبار أن هذا الحراك يتّخذ من التظاهر السلمي في الشارع وسيلته الأساسية – وربما الوحيدة – للضّغط على السّلطة من أجل تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي، في حين أن المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه محاربة تفشي الوباء هو الالتزام بالتباعد الاجتماعي، وتجنب التجمع، والمكوث في المنازل. وسنحاول أن نناقش التساؤلات التالية:
- ما هي التأثيرات الآنية والمستقبلية لتفشي وباء كورونا على الحراك الشعبي الجزائري؟
- كيف ستستغل السلطة تعليق المسيرات للتعامل مع حركة شعبية أصبحت منغرسة في الزمان والمكان، وأصبح موقفها الأخلاقي والسياسي يتقوى أكثر فأكثر بمرور الوقت؟
- كيف تعامل الحراك الشّعبي مع الوباء؟ وما هي الموارد التي سوف يتغذى منها الحراك الشعبي بعد انقضاء الجائحة؟
فشل السلطة في وقف الحراك الشّعبي
على غرار أيّ نظام سياسي يواجه ثورة شعبية، عمل النّظام الجزائري كل ما بوسعه لإيقاف الحراك الشّعبي أو على الأقل الاستفادة منه لإعادة تدعيم ركائزه بعد أن زعزعتها العهدة الرّابعة ومحاولة فرض عهدة خامسة لبوتفليقة. إن هذا الإصرار لا يمكن تفسيره بنوايا مكيافيلية فحسب، بل يعود بالدّرجة الأولى إلى عدم امتلاك هذا النظام (اللا ديمقراطي) لأدوات التعامل مع حركة ثورية تحتل الشّارع بطريقة سلمية. وحتى وإن كان الدستور الجزائري تعدديا، ويكرّس الحد الأدنى من الحريات، فالنظام الجزائري القائم تعوّد على ممارسة السلطة والحكم من دون قيود (سلطات مضادة، عدالة مستقلة، صحافة حرة)، ومن دون حضور الجزائريين في الشارع. على مدار 30 سنة من التعددية الشّكلية، كان رهان السلطة الأساسي يكمن في عدم السماح للجزائريين باحتلال الشّارع، وعدم تشكل رأي عام في وسائل الإعلام الثقيلة؛ أي افراغ التعددية السياسية من مضمونها وإبطال مفعولها في إنتاج بديل آخر في السّلطة. ويضع النظام نفسه ممثلا لكل الشعب، والمتحدث الوحيد باسمه، ولهذا يمنع كافة أشكال التعبير السياسي والاجتماعي الجماهيري خارج الأطر السياسية والجمعوية التي يراقبها والتي من شأنها أن تدحض هذه الحقيقة. من هنا كسب الحراك الشعبي تفوقا أخلاقيا سيتحول مع مرور الوقت إلى مأزق أمام سُلطة كانت تأمل فقط أن تتوقف مطالب الجزائريين عند إزاحة بوتفليقة دون المطالبة بإعادة النظر في الأسس التي يقوم عليها نظام الحكم.
بعد إزاحة بوتفليقة، انصبّت كل اهتمامات السّلطة في ترميم شرعيتها وصورتها، وهذا سيمرّ أولا على إعادة الفضاء العام إلى ما كان عليه قبل 22 شباط/فبراير 2019. لهذا السبب، فإنه لا يمكن لنظام سياسي يعيش مأزقا كهذا أن يترك فرصة تعليق الجزائريين للمسيرات الشّعبية دون الاستفادة منها لتدعيم ركائزه، وإعادة بعث شبكاته الزّبونية، وتحسين صورته أمام الجزائريين، مع السعي إلى اسكات بعض الأصوات التي يعتقد أنها مسموعة ومؤثرة في أوساط الحراكيين. لكن هل هذا ممكنا في ظلّ تفشي الوباء وصعوبة السيطرة عليه، وفي ظل عجز هيكلي للنظام الصّحي، وفي ظل انهيار أسعار النفط التي تشكل المورد الوحيد لخزينة الدولة؟ أليست صورة الحكومة هي من سيكون على المحك بعد أن وعدت الجزائريين بجزائر جديدة منقطعة جذريا عن ممارسات النظام السابق؟
وباء الكوفيد 19: تحدي من نوع جديد
يتساءل الكثير من الجزائريين: هل سيخمد الكوفيد 19 الحراك الشعبي مثلما شلّ الحياة بشكل كامل في بلدان عُظمى؟ وهل هنالك إمكانية لعودة المسيرات مجددا إلى شوارع المدن الجزائرية؟ فالتّحدي الذي يطرحه وباء كورونا على الحراك الجزائري يكمن في كونه يمسّ بجوهر وجوده وبالمبدأ الذي يستمدّ منه قوته: التجمع والتظاهر. كان الجزائريون المنخرطون في الحراك الشعبي مدركين أنّه في حالة ما إذا انتشر الوباء في الجزائر، فإن المسيرات الشعبية ستتوقف من تلقاء نفسها، لأنه ما من أحد سيكون مُستعد للمخاطرة بصحته وصحة عائلته. فالحراك هو نضال سلمي لبناء دولة القانون حيث الفرد غاية في حدّ ذاته ولا يمكن أن يكون وسيلة لأي مشروع كان. منذ أن بدأت أولى حالات الكورونا تسجل في الجزائر، اتجه الجزائريون نحو سماع صوت الخبراء والأطباء أكثر من اهتمامهم بسماع أي صوت آخر. حتى وإن لم يكن للحراك الشعبي قيادة وهيكلة، إلا أنه في لحظة تفشي الوباء يتحول صوت الأطباء (الصوت العلمي الموضوعي) إلى '' صوت قائد '' يسمو على الخلافات الأيديولوجية، السياسية، ويفصل بين وجهات النظر المختلفة. ومثلما كان متوقعا، عمل الأطباء عبر وسائل التواصل الاجتماعي على إقناع المشككين في خطورة الوباء وفي خطاب السلطة، وجدّية المسألة، وأن الأمر ليس مجرد تهويل من طرف الحكومة بغرض إيقاف الحراك. منذ اللّحظة التي سجلت فيها أولى الضحايا، اقتنع الجميع بجدية المسألة والتزموا بعدم الخروج للتظاهر. وأدى تزايد عدد الإصابات وعدد الوفيات إلى اقناع الأقلية التي خرجت في الجمعة 13 آذار/مارس 2020 بعدم جدوى الخروج، وتجنب تحميل الحراك مسؤولية تفشي الوباء في ظل ترصد وسائل الدعاية التابعة للسلطة لكل خطأ يصدر من داخل الحراك.
الحراك في ظل الوباء:
جاءت الجمعة 20 آذار/مارس 2020 أول جمعة دون مسيرات شعبية في شوارع المدن الجزائرية. رغم عدم امتلاك الحراك لقيادة مركزية ومحلية، إلا أن قضايا الساعة بقيت دائما بوصلته الأساسية. تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة منصة فيسبوك، لبناء رأي عام وموقف مشترك حول قضية، شعار، قرار أو مبادرة ما. ثم بعد ذلك، يتجسد النقاش في شكل شعارات ومواقف في الشارع أيام الجمعة والثلاثاء. خلال عام كامل، ساير الحراك بالشعارات والمواقف المناسبات الوطنية، ذكرى الأحداث التاريخية الثورية، مواقف السلطة ومبادراتها ومشاريعها. وبالقدر نفسه الذي عمل فيه على إعادة امتلاك التاريخ والذاكرة الوطنية واستخدامها لتدعيم موقفه الأخلاقي والوطني، عمل أيضا على تقديم مبادرات واقتراح حلول وتصورات لجزائر الغد.
يرى الكثير من الجزائريين، أن الحراك يعبر عن الضمير الأخلاقي للأمة الجزائرية، وأن مهمته هي إنقاذ الدولة والحفاظ على الوحدة الوطنية و بناء مؤسسات سياسية منتخبة و تمثيلية، لهذا تصدت المظاهرات الأسبوعية للشعارات الجهوية، والعنصرية، والحزبية، والأيديولوجية، والفئوية، ووقفت ضدّ كافة أشكال الإساءة إلى مؤسسات الدولة. ورغم محاولة الكثير من التيارات الحزبية والأيديولوجية والفئوية إيجاد مكان لها داخل الحراك إلا أنه سرعان ما يرفضها بتأكيده على هدفه الأساسي المتمثل في توفير شروط الممارسة السياسية لجميع الجزائريين، وعلى أن الحراك ليس فضاءا لممارسة السياسة، بل أداة الجزائريين في بناء الحقل السياسي.
لهدا السبب، يعرف الحراك سلاسة كبيرة في اتخاذ قراراته، تعود أساسا إلى تفاديه للقضايا الخلافية، وتأسسه على القضايا التي تعرف إجماعا أخلاقيا، وسياسيا، وأيديولوجيا بين الجزائريين .
علّق الجزائريون مسيراتهم لأن الأطباء أوصوا بذلك، ولأنهم حريصون على الصحة العمومية قبل أي شيء آخر. وفي نفس الوقت، اتجه النشطاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى الدعوة إلى التضامن مع العائلات التي فقدت دخلها بسبب الحجر الصحي، وإلى المساهمة في حملات التنظيف والتعقيم للأحياء والمستشفيات والفضاءات العامة، والانخراط بشكل عام في كل مجهود رسمي أو غير رسمي يساعد على محاربة تفشي الوباء.
واستُخدمت وسائل التواصل لانتقاد كافة مظاهر استغلال السّلطة للجائحة لمحاكمة الناشطين، واعتقال بعضهم، واستدعاء آخرين للمثول أمام القضاء في وقت انشغل فيه العالم بمحاربة الوباء. كما استمر الحراك أيضا في رصد أداء الحكومة خلال هذه الأزمة، خاصة فيما يتعلق بتأخرها في إقرار الحجر الصحي الشامل، وعدم استعداد المنظومة الصحية للتعامل مع هكذا أزمة. عموما استغل الجزائريون هذه الجائحة لاظهار تفوق الموقف الأخلاقي للحراك، وشرعية مطالبه بضرورة الذهاب إلى اصلاحات تتجاوز الإصلاحات الشكلية التي تحاول السلطة إقناعه بها. رغم غلق كل وسائل الإعلام العمومية والخاصة أمام الجزائريين المنخرطين في الحراك الشعبي، إلا أن هذا الأخير، وبالاعتماد فقط على وسائل التواصل الاجتماعي، نجح إلى غاية الآن في إظهار تحليه بالمسؤولية، والقدرة على تحديد الأولويات، ومتى يجب التمييز بين الدولة والنظام السياسي ومتى يجب ممارسة المعارضة والاحتجاج، ومتى يجب التضامن والوقوف مع الحكومة.
مستقبل الحراك بعد الوباء:
بعد أكثر من عام، يتجلى أن الحراك الشعبي الجزائري ليس حركة احتجاجية ظرفية، ولا قطاعية ولا هو بحركة نقابية يمكن التعامل معها بنفس الطرق التي تعودت السلطة التعامل بها مع هكذا حركات. ولا يعتمد الحراك على قيادات محددة لكي يتم اخماده عبر بعض الاعتقالات. لم يسبق أن عرفت الجزائر المعاصرة حركة احتجاجية مُنغرسة في الزمان والمكان بهذا الشّكل، عابرة للأيديولوجيات، والجهات، والتيارات السياسية. إن هذا الحراك هو تعبير عن تحولات اجتماعية عميقة لم يستطع نظام الحكم مواكبتها، أو الاستجابة لها، أو فهمها والتعامل معها. يعبر الحراك عن رفض عميق لنمط اشتغال السّلطة، وتسيير الدولة وطريقة تجديد النّخب السياسية في المجتمع. إنه ثورة على الفشل والفساد الذي طال الدولة على كافة المستويات، وللأزمة الهيكلية التي يُعاني منها النظام السياسي منذ الاستقلال، ويجسّد القطيعة بين الحاكم والمحكوم في كل المجالات. وقد يُخمد الكوفيد 19 الحراك لفترة ما، ولكن مقومات الحراك تسمح له بتجديد نفسه في حالة استمرت مظاهر الفشل ومسبباته الأولى. إن عودته مرتبطة أساس بأداء الحكومة خلال هذه الأزمة الصحية، وطريقة إدارة السلطة للحقل السياسي خلال فترة تعليق المسيرات.
ولكن في كل الأحوال، فإن الكوفيد 19 سيكون امتحان وتحدّي للحكومة أكثر من كونه تحدّي للحراك، ومن الواضح أنه لن يكون امتحانا سهلا في ظلّ عجز حكومات قوية بإمكانيات ضخمة على مواجهة وباء قاتل وسريع الانتشار أقصى ما يمكن فعله أمامه هو تعطيل الحياة العامة بشكل مطلق. ولكن تعطيل الحياة الاقتصادية في دولة يمثل فيها الاقتصاد غير الرسمي أكثر من 50 %، ثمن لا تستطيع الحكومة الجزائرية الحالية تحمله، لا اقتصاديا ولا سياسيا ولا اجتماعيا.
تشير ردود الفعل الأولية للجزائريين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى عدم رضى عن طريقة تعامل الحكومة مع الكوفيد 19، ويحملها البعض مسؤولية تفشيه لأسباب عدّة، بدأ بتأخرها في غلق الأجواء والحدود الجزائرية أمام حركة الملاحة، وصولا إلى عدم تشديد الرقابة على الأشخاص العائدين إلى الجزائر، خاصة بعد تأكيد الإحصاءات المقدمة على أن معظم المصابين في الأسبوع الأول والثاني هم جزائريون قادمون من فرنسا.
ازداد غضب الكثيرين خلال الأسبوع الثاني بعدما بدأت الحكومة في إقرار أولى إجراءات الحجر الصحي الجزئي والشامل (بالنسبة للبليدة) دون وضع خطة متكاملة لضمان تموين السّوق بالمواد الغذائية الأساسية وتموين المستشفيات بالأجهزة الطبية والصيدلانية الكافية. اختفت في الأسواق مادة السميد الأساسية وخلقت طوابير طويلة في مختلف المدن يمكن أن تتحول مع الأسابيع القادمة إلى بؤر أخرى لتفشي الوباء.
صحيح أن الأزمة أكبر من أن تتحكم فيها أقوى الحكومات في العالم، لكن مشكلة الحكومة الجزائرية هو التناقض بين الخطاب الذي يصر على أن الوضع تحت السيطرة، والواقع الذي لم يتوقف النشطاء في إظهار حقيقته عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
خلاصة:
نظريا، يشكل تفشي وباء الكوفيد 19 فرصة أمام السلطة للتخلص من عبأ الحراك الشعبي، وهذا من خلال تعليق المسيرات الأسبوعية بعد أكثر من عام من انطلاقها. ولكن، لم تكد المسيرات تعلّق من طرف الجزائريين، إلا لتجد السلطة نفسها أمام أزمة صحية عالمية لم تتجهز لمواجهتها بعد، وتتجاوز بكثير قدراتها المادية والبشرية، مما وضعها في اختبار صعب حتى أمام الفئات الاجتماعية التي اختارت مساندة الخيار الانتخابي والتوقف عن المشاركة في المسيرات الأسبوعية.
استفادت السلطة من '' هدنة '' من طرف شارع متفوق أخلاقيا يعرف جيدا كيف يحدد الأولويات، وأظهر حسّا عال من المسؤولية ومن الخوف على مستقبل الدولة. وبدل أن تستثمر السلطة هذه الهدنة في إعادة بناء جسور الثقة بيننها وبين الجزائريين لتجنيد كافة الطاقات الوطنية لمواجهة الوباء في الوقت الراهن، وتهيئة الأرضية السياسية لمعالجة الملفات القادمة من تعديل للدستور وتحضير للانتخابات التشريعية، إلخ استمرت في نفس الممارسات المتناقضة لفترة ما قبل الوباء، من انكار للحراك نفسه تارة والتبرك به تارة أخرى، تقديم نشطاء أمام المحاكم.
يستمد الحراك الجزائري طاقته، وحجته من تناقضات خطاب السلطة مع ممارساتها، ومن فشلها وعدم قدرتها على الاستجابة لطموحات الجزائريين. ستكون الأشهر القادمة عسيرة على السلطة، وحتى ولو استطاعت تسيير أزمة الكوفيد 19 (وهذا صعب)، إلا أن الأزمة المالية والاقتصادية التي تلوح في الأفق بسبب تهاوي أسعار النفط والتأثير الاقتصادي على المستوى العالمي لجائحة الكورونا، سوف تجعلها عاجزة عن الوفاء بالوعود التي قطعتها على الجزائريين، وفي الاستمرار في سياستها الاجتماعية السخية، وقد نكون أمام موجة ثانية من الحراك الشعبي أقوى من الموجة الأولى تضع الاستحقاقات السياسية القادمة في مأزق.
فهل ستراجع السلطة استراتيجيتها في التعامل مع الحراك بمدّ جسور الثقة وتخفيف الاحتقان تحضيرا للمواعيد السياسية القادمة؟ أم أن السلطة سوف تنشغل بما هو آني وتُضيع على نفسها فرصة تضامن الجزائريين وتوحدهم في هذه الجائحة لإعادة ترميم العلاقة مع الشارع وتحسين شعبية حكومة السيد عبد العزيز جراد؟
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.