الشباب التونسي والحياة السياسية: صحوة من ركود؟

مناصرو المرشح المستقل في الانتخابات الرئاسية قيس سعيد يحضرون مسيرة حملة انتخابية في تونس، تونس، 11 تشرين الأول/أكتوبر 2019. تُجرى جولة الإعادة يوم 13 تشرين الأول/أكتوبر. أتى القروي في المرت الثانية في الولة الأولى مع 15.58% من الأصوات وسبقه قيس سعيد مع 18.4% من الأصوات. © EPA-EFE/MOHAMED MESSARA

مقدمة

لا يختلف الشباب التونسي عن غيره من شباب العالم في عزوفه عن الحياة العامة؛ ولم تكن مقاطعته الحياة السياسية وليدة الساعة، بل تعود إلى فترة ما قبل ثورة 14 يناير/كانون الثاني. فقد أثبتت الاستشارة الوطنية حول الشباب لسنة 2008، أن ما يناهز 83 بالمئة من الشباب التونسي لم يكونوا مهتمين بالحياة السياسية، وأن 64 بالمئة لم تكن تعنيهم الانتخابات، ولا يستهويهم الانخراط في الجمعيات الوطنية.

على الرغم من ذلك، فاجأ الشباب التونسي المراقبين، وأدى دوراً أساسياً في الثورة التي أطاحت النظام البائد، لكنّه سرعان ما عاد إلى مربع الاستنكاف السياسي. فالتشنجات السياسية والاضطرابات التي رافقت مرحلة الانتقال الديمقراطي، أصابت الشباب التونسي بخيبة أمل واسعة جعلتهم يقاطعون الحياة السياسية بجميع أشكالها. وقد شكلت المحطات الانتخابية المتعاقبة أبرز مثال على هذه البطالة السياسية، فهجر الشباب صناديق الاقتراع، وتخلوا عن زمام المبادرة في العمل السياسي سواء من بوابة الترشّح أو الانتخاب.

ببروز قيس سعيد على الساحة السياسية كمرشح للانتخابات الرئاسية، بدا الشباب التونسي متحمسين له، والتفوا حوله في كل مراحل الانتخابات، فقادوا له حملة انتخابية غير مألوفة وبأبسط التكاليف. كما تصدوا لكل الهجمات الإعلامية التي شُنّت ضده، مؤمّنين له فضاءً إعلامياً جديداً، لمعت فيه صورته، وبرز من خلاله التقارب بينه وبينهم. فقد أبدى قيس سعيد تفهماً لمطالبهم الاقتصادية والاجتماعية، وأعطاها الأولوية، وشاركهم نقمتهم على المنظومة السياسية القائمة، فاختاروا مساندته لمعاقبة هذه المنظومة السياسية التي يعتبرونها مصدر خيباتهم المتتالية.

ولّدت نتائج الانتخابات الرئاسية، التي حصد فيها مرشح وحيد جُلّ أصوات الشباب المشاركين في الانتخابات، مقارنة ببقية المرشحين، كمّاً هائلاً من التساؤلات حول أسباب مساندة الشباب لقيس سعيد، والآمال التي علّقوها عليه. فما الذي يمكن استخلاصه من هذه التجربة لمصلحة المشاركة الشبابية بصفة عامة؟ وكيف تساعد هذه التجربة فهم احتياجات الشباب الفعلية التي تشجعهم على المشاركة في الحياة العامة؟

منهجية البحث

للإجابة عن كل هذه التساؤلات، تعتمد هذه الورقة البحثية منهجية تتكون من ثلاث مراحل أساسية: جزء توثيقي، وجزء ميداني، واستبيان نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصاً الصفحات المساندة لشخصية قيس سعيد.

الجزء التوثيقي:

يتمثل هذا الجزء في جمع معلومات متاحة على مواقع التواصل الاجتماعي والاطلاع على عدد كبير من التقارير الصحفية الخاصة بتغطية الانتخابات الرئاسية التونسية، لرصد مختلف الانطباعات، والعودة إلى السياق الانتخابي وما حمله من أحداث. ويشمل كذلك تحليل عدد كبير من تصريحات الرئيس قيس سعيد منذ الثورة التونسية إلى اليوم من أجل الخروج بتحديد واضح الملامح لمواقفه في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وفهم مشروعه السياسي إجمالاً. وتعتبر هذه المرحلة ضرورية نظراً لخصوصية الحملة الانتخابية لقيس سعيد الذي لم يقدم فيها مشروعاً واضح المعالم، وإنما أفكارا مشتتة، سواء في مداخلات مختلفة في الإذاعات، أو في المداخلات التلفازية، وحتى في الحوارات الصحفية. وهو ما يجعل جمعها ضرورة لفهم سبب رواج خطابه السياسي لدى الشباب.

الجزء الميداني:

يشمل هذا الجزء إجراء مقابلات مع أشخاص ساهموا في قيادة الحملة الانتخابية لقيس سعيد خلال الانتخابات الرئاسية السابقة وبعض ناخبيه خلال الدور الأول. وأتبعت المقابلات أسئلة حول أسباب دعمهم المرشح قيس سعيد وماهية الأفكار التي يتشاركونها معه وتقييمهم لفترة ما بعد توليه الرئاسة.

استندت المقابلات مع الأشخاص الذين ساهموا في الحملة الانتخابية على منهجية دقيقة تقوم على جملة من الأسئلة التوجيهية تهدف إلى الاطلاع على تجربة بعض الشباب في قيادة الحملة الانتخابية لقيس سعيد، والاستماع إلى شهادات حية لناشطين شبان انخرطوا طوعاً في العمل السياسي. كما سعت المقابلات إلى البحث عن الأسباب التي دفعت فئة من الشباب إلى الخروج من حالة الاستنكاف السياسي والانخراط في العمل السياسي من بوابة الانتخابات الرئيسية وفهم تجليات دور الشباب في حملة "يقال" إنها حملة شبابية بامتياز.

الاستبيان:

قام فريق العمل بإعداد استبيان موجّه شمل 400 شاب وشابة من ناخبي قيس سعيد في الدور الأول. ورغم أن الاستبيان لم يستند إلى  القواعد العلمية نفسها التي تحكم علم الإحصاء وسبر الآراء، فهو تميز بطابعه الموجّه، وحاول استهداف فئة محددة من بين فئات ناخبي قيس سعيد، وهي فئة الشباب. وضم الاستبيان عدداً من الأسئلة تمحورت في الأساس حول المحاور الآتية:

  • أسباب توجّه الناخبين الشبان إلى قيس سعيد في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، وماهية النقاط المشتركة بينهم وبينه، وإلى أي مدى يتشاركون معه المبادئ نفسها التي يؤمن بها. كما حاولت مجمل هذه الأسئلة رصد الأفكار التي طرحها قيس سعيد، ولاقت رواجاً لدى فئة الشباب؛ الأمر الذي يسمح في المقابل بفهم حاجات هذه الفئة من المجتمع التونسي.
  • تمثل الشباب التونسي المصوِّت لقيس سعيد للواقع التونسي، وليس فقط ما يطرحه من آمال وفرص، ولكن أيضا ما يثيره من مخاوف وتحديات، وما إذا كانت هذه العوامل مؤثرة في اختياره لقيس سعيد أم لا.
  • تقييم الشباب التونسي لأداء مؤسسات الدولة وأثر هذا التقييم في اختياره في الانتخابات الرئاسية.
  • رصد انطباعات الشباب التونسي حول مسار الانتقال الديمقراطي، ومدى تأثير الاضطرابات التي رافقته، على مشاركة الشباب التونسي في الحياة السياسية، وعلى انتخابهم الرئيس قيس سعيد.

مشاركة سياسية متردّدة

أثبتت دراسة أجرتها شبكة مراقبون وone to one بالتعاون مع منظمة Heinrich BOLL STIFTUNG سنة 2018، أن 47 بالمئة من الشباب التونسي غير مهتمين مطلقاً بالحياة السياسية والشؤون المحلية، إثر الانتخابات البلدية في أيّار/مايو 2018.1- تونس في 19 كانون الأول / ديسمبر 2018 Heinrich BOLL STIFTUNG مشاركة النساء والشباب في الحياة العامة والشأن المحلي- شبكة مراقبون-

يتأكد هذا العزوف في تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2019 المعنون "الشباب والمشاركة الانتخابية في تونس ثنائية الاقبال والنفور"، وقد جاء في التقرير أن:

" النقــاش الدائــر حـول المشـاركة الشـبابية فـي الانتخابات متجه في الأساس نحــو عزوفــه عــن هــذه المشاركة. وهــو مــا تؤكــده الأرقام التي تطرحهــا الهيئــة المستقلة للانتخابات بعــد انتهــاء كل اســتحقاق انتخابــي، في مــا يتعلــق بالتســجيل فــي الانتخابات وفي الاقتراع. إذ تفيــد أرقــام الهيئـة العليـا المستقلة للانتخابات أنـه مثـلاً مــن الفتــرة الممتدة بــين 10 نيسان/أبريل 2019 و22 مــايو/أيار 2019، بلــغ عــدد المسجلين مــن الفئــة العمريــة 18 - 35 ســنة 631 ألــف شخص، أي مـا يعـادل 56 بالمئـة مـن المسجلين فـي نفـس الفترة ولكن التسجيل لا يعني بالضرورة الذهـاب إلى صناديـق الاقتراع. ففـي الـدور الثانــي مثــلاً مــن الانتخابات الرئاســية، لــم يشـارك سـوى 6.11 بالمئة مـن الفئـة العمريـة 18-25 سنة. وهــذا مــن جملــة 3820825 ناخــباً وناخبــة يشــكلون الجســم الانتخابــي".

يبدو هذا العزوف مفسَّراً قبل ثورة 2011، نظراً لطبيعة النظام السياسي القائم آنذاك، والذي قيّد الحريات السياسية. إلا أن فترة ما بعد الثورة لم تأتِ بالجديد. فنسبة مشاركة الشباب في انتخابات المجلس التأسيسي لم تتجاوز عتبة العشرة بالمئة، 2"في أسباب عزوف الشباب عن المشاركة السياسية"، الاسعد بوعزي، صحيفة تونس للانباء، 29 نيسان / أبريل 2019 وهو رقم ضعيف جداً مقارنة بالنفس التحرّري الذي أضفته الثورة على الحريات السياسية.

وبدت حالة البطالة السياسية هذه جلية في نسب المشاركة الضعيفة في الاقتراع، سواء في انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية أو البلدية في 2018، أو الرئاسية والشريعية في 2019. ورغم أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة لم تشهد ارتفاعاً كبيراً في المشاركة الشبابية في الانتخابات، يبقى اللافت للانتباه هو نجاح مرشح واحد في حصد أكبر عدد من أصوات الناخبين الشبان المشاركين في الدور الأول من الانتخابات مقارنة ببقية المرشحين، في سابقة سياسية في تونس. وهو أمر لم يصدف أن حظي به مرشح معين في الانتخابات بهذا الوضوح.

فوفق نتائج تقديرية أعلنتها مؤسسة "سيغما كونساي" (مؤسسة خاصة لاستطلاع الرأي)، صوّت أكثر من 37 بالمائة من الشباب المشاركين في الانتخابات، بين 18 و25 سنة، لصالح المرشح المستقل، قيس سعيد، فيما صوت 11 بالمائة للمرشح المستقل، الصافي سعيد، و8.7 بالمائة لمرشح حزب "قلب تونس"، نبيل القروي، و5.4 بالمائة لرئيس الحكومة آنذاك، مرشح حركة "تحيا تونس"، يوسف الشاهد.

وبحسب النتائج نفسها، فإن أكثر من 20 بالمائة من الشباب المشاركين في الانتخابات، بين 26 و45 سنة، صوتوا لمصلحة سعيد، فيما صوت 13.3 بالمائة لمصلحة القروي، و10 بالمائة لمرشح حركة "النهضة"، عبد الفتّاح مورو.

وتعكس الأرقام السابقة استئثار قيس سعيد بالنصيب الأكبر من أصوات الشباب، بل تمكنه من تحريك قاعدة انتخابية لم يسبق لها أن صوتت في أي انتخابات. فحسب إحصائيات نفس المؤسسة، 62 بالمئة من ناخبي قيس سعيد في الدور الأول لم يسبق لهم أن شاركوا في انتخابات من قبل.

قيس سعيد والاستثمار في سياق المقاطعة

حملت الثورة التونسية أمالاً كبيرة للشباب الذي كان يتوق إلى انتعاش اقتصادي يسمح له بالانتقال من وضعية البطالة والهشاشة الاقتصادية إلى مربع الاستقرار الاجتماعي. لكن سرعان ما اصطدم هذا الزخم الثوري بواقع مغاير، حيث تلاشت بسرعة موجة التفاؤل، وساد جو من التشنّج السياسي المرحلة الانتقالية، مرحلة غلبت عليها الاضطرابات السياسية والصراعات الحزبية وتدهور المؤشرات الاقتصادية وتفاقم الهشاشة الاجتماعية. ووُجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى الفاعلين السياسيين الذين أصبحوا متهمين بخدمة المصالح الذاتية، وبإغفال المطالب الحقيقية للشباب التائق إلى الحرية والمطالب بالحق في العمل والكرامة والعدالة الاجتماعية.

كل ما سبق ساهم في خلق رأي عام مناهض لكل الطبقة السياسية، خصوصاً بعد توالي الإخفاقات، وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على تلبية جزء هام مما ينتظره الشباب. ويبدو أن هذه الخيبة التي أصابت الشباب، سرّعت في عودتهم إلى العزوف السياسي، وهجرهم مراكز الاقتراع، وتخلّيهم عن الساحة السياسية، معتبرين أن كل الوعود زائفة، ورافضين لأن يكونوا مجرد أداة تُستعمل عند الانتخابات ويجري التنكر لها فيما بعد. فالانتخابات البلدية لسنة 2018 بدت فيها مراكز الاقتراع شبه خالية من الناخبين الشبان، وكذا الحال بالنسبة للانتخابات التشريعية لسنة 2019. وخير دليل على حجم المقاطعة الشبابية للحياة السياسية بعد الثورة، هو إحجام الشباب حتى عن التسجيل في سجلات الناخبين.

و هذا ما أكده لنا عالم الاجتماع السيد جهاد الحاج سالم " في مقابلة معه حيث قال: "تحديد أسباب انتخاب الشباب لقيس سعيد هو سؤال عام جداً. لكن يبقى هناك عنصر واضح هو انعدام الثقة بين الشباب والطبقة السياسية، ليبرز في هذه المرحلة رجل مثقف يستعمل خطاباً أخلاقياً قائماً على تذكير متواصل بالمبادئ، فبرز كأنه الشخص المناسب في الوقت المناسب".3مقابلات بتاريخ 28 و29 نيسان/أبريل 2020.

في خضم السياق السياسي التونسي المتأزّم، برز قيس سعيد بشكل تدريجي للعلن، معتمداً خطاباً مناوئاً لكل الطبقة السياسية. فقد بدا كافراً بالتنظيمات السياسية الحالية، ومتمرداً على الهياكل الحزبية التقليدية. وإذا كان قيس سعيد شخصية مجهولة قبل 2011، فقد كان منذ بزوغ فجر الثورة رفقة بعض الشخصيات الوطنية يجوب اعتصامات القصبة 1 والقصبة 2، ويحتك مباشرة بالشباب المعتصم. وهو ما أكده لنا طارق الرحالي، عضو فريق الحملة الانتخابية لقيس سعيد في الانتخابات الرئاسية عن ولاية بن عروس: "على عكس غالبية فريق الحملة، لم أتعرف إلى قيس سعيد في مدارج أحد كليات الحقوق. لقد تعرفت إليه في القصبة حيث كان يجول بين المعتصمين ويخاطبهم. ولقد كنت أسترق السمع من دون مخاطبته وشدني كلامه كثيراً".4مقابلة بتاريخ 28 نيسان/أبريل 2020.

كما اعتبر قيس سعيد خلال هذه الفترة أن النموذج السياسي المعتمد في المرحلة الانتقالية لا يعبر عن الإرادة الحقيقية للشعب ،بل ويلتف عليها، ونبه إلى ضرورة اعتماد مقاربة جديدة تقطع مع الماضي وتنطلق من المحلي إلى المركزي. وقد ركز قيس سعيد خلال هذه الفترة خطابه على الشباب معتبراً إياهم "مالكي الثورة". فهي على حد تعبيره "ثورتهم" ودافع عن المطالب التي رفعها الشباب خاصة منها الاقتصادية والاجتماعية.

هاجم قيس سعيد في عديد من المرات الطبقة السياسية التي سيطرت على المشهد السياسي. وتوعد "باعة الأوطان" متهماً إياهم بالالتفاف على مكتسبات الشعب، ودخل في سياق من المقاطعة للطبقة السياسية، فامتنع عن الانتخاب أو الترشح حيث أورد في أحد تصريحاته قبيل انتخابات سنة 2014 "لم أنتخِب ولن أُنتخَب لأن القضية هي قضية بناء نظام جديد يحقق إرادة التونسيين والتونسيات ". كما رفض تقلُّد مناصب عليا في أي حكومة من الحكومات المتعاقبة، كما اقتُرح عليه تولي حقيبة العدل في مناسبتين، وكان مرشحاً لرئاسة حكومة التكنوقراط التي خلفت حكومة علي العريض سنة 2013، كما امتنع عن قبول عضوية المجلس الأعلى الإسلامي بعد تعيينه من قبل رئيس الحكومة الأسبق علي العريض. فمقاطعة قيس سعيد الطبقة السياسية السائدة هي عنصر تقاطع مع الرأي العام الشبابي الذي خذلته الأحزاب في أكثر من مناسبة؛ وبالتالي يعتبر التفاف الناخبين الشبان حول قيس سعيد هو ضرب من معاقبة الطبقة السياسية واستئناف للحرب على النظم التقليدية في التنظيم السياسي.

شكل 1 مستوى ثقة المشاركين في الاستبيان في مؤسسات الدولة، الدراسة المسحية التي أنجرها فريق العمل

ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية وخلال فترة الحملة الانتخابية، تعزز خطاب قيس سعيد المناوئ للأحزاب ولكل عناصر المشهد السياسي القائم، معتبراً إياهم مسؤولين عن النكسة التي تشهدها تونس. وقد تجسد ذلك فعلياً في العديد من تصريحاته التي أكد فيها استقلاليته عن جميع الأحزاب "وُلدت مستقلاً وعشت مستقلاً وسأموت مستقلاً".

كما استفاد كثيراً من تعاطف شبابي كبير نتيجة بعض الهجمات الإعلامية التي تعرض لها، معتبرين أن " الماكينة" (يقصد بها في تونس الآلة الإعلامية) قد اشتغلت ضده.

وللتأكيد على ما سبق إيراده، وبالعودة إلى الدراسة المسحية الإحصائية التي تضع الأساس المنطقي لهذه الورقة، وبسؤال حوالي 400 ناخب شاب من ناخبي قيس سعيد في الدور الأول عن علاقتهم بالمؤسسات السياسية في تونس، تصدر مجلس النواب المرتبة الأولى من حيث المؤسسات الأقل ثقة، حيث عبر أكثر من 80 بالمئة من ناخبي قيس سعيد عن عدم ثقتهم في مؤسسة مجلس نواب الشعب، وهو ما يشير إلى كون ناخبي قيس سعيد – مثل مرشحهم – لا يثقون بهذه المؤسسة التي لا تعتبر ممثلاً فعلياً للطبقة السياسية السائدة، من حيث تمثيلها لكل الأطياف السياسية الموجودة في تونس، ناهيك عن اعتبارها مسرحاً لغالبية التشنجات السياسية، وسبباً لتعطيل مسار الإصلاح في تونس.

ويفهم من كل هذا، أن قيس سعيد تبنى موقفاً مناهضاً للمنظومة ككل، ويفكر في الإصلاح من خارجها، بمعنى إعادة تشكيل منظومة سياسية تقلب معادلة الفاعلين السياسيين، وتعطي الكلمة للشباب الذين يعتبرهم أصحاب السيادة. ويتقاطع هذا التوجه مع حالة اليأس التي أصابت الشباب في فترة ما بعد الثورة، بعد تأخر الإصلاح وتنكّر الطبقة السياسية للمطالب الشبابية. ويبدو أن خطابات قيس سعيد المناوئة للمنظومة السياسية الحالية، جعلته يكسب ود الشباب الذين اختاروا انتخاب مرشح من خارج المنظومة لمعاقبتها.

الشباب يقود الحملة الانتخابية

لعلّ من أبرز تجليات التفاف الشباب حول قيس سعيد، وقوفهم إلى جانبه في الحملة الانتخابية، بل قيادة حملته والإشراف على كل تفاصيلها.

خصوصية الحملة الانتخابية لقيس سعيد

قبل الحديث عن تفاصيل هذه الحملة، لا بد من الإشارة إلى خصوصية الحملة الانتخابية لقيس سعيد. فهذا الأخير امتنع عن تسميتها حملة انتخابية، وسمّاها "حملة تفسيرية"، حيث جاء على لسان أحد المستجوبين في المقابلات: "لم نكن في حملة انتخابية، بل في ظاهرة سياسية غريبة أشبه بالهبّة الشعبية. كنا منظّمين من دون نظام، ومنسّقين من دون مكلفين واضحين بالتنسيق. كان الأستاذ قيس سعيد حريصاً مراراً وتكراراً على ألا نقدّم وعوداً زائفة للناس، بل أن نذكّر بمبادئنا السياسية عند الاتصال بهم". 5مقابلة مع الناشطة سيرين بوعزيزي بتاريخ 2 شباط/فبراير 2020. فخلافاً لبقية المرشّحين، لم يتقدم ببرنامج انتخابي واضح المعالم، واكتفى في أكثر من مناسبة بالتأكيد أن البرامج يجب أن تنبع من إرادة التونسيين. وأسس حملته الانتخابية على "تمكين الشباب من الآليات القانونية التي ستسمح لهم بتجسيم إرادتهم". ولعل منطلق قيس سعيد في ذلك كان الشعور بالخيبة التي كانت ترافق كل انتخابات، نظراً لحجم الوعود الكبيرة التي كان يقدمها المرشّحون مقابل الإنجازات القليلة التي تحقق، والتي كانت تعتبر شكلاً من أشكال الكذب والافتراء في تقديره.

كما بدا تنظيم فريق حملة قيس الانتخابية فريداً من نوعه، إذ إنه لم يشمل ناطقاً رسمياً باسم الحملة، ولا قيادات معينة لها. وكانت صورة قيس سعيد الوحيدة البارزة من دون وجود حاشية إلى جانبه. وقد عبرت سيرين بوعزيزي -و هي شابة من ضمن فريق الحملة الانتخابية لقيس سعيد - على الشكل الآتي: " لا يوجد تنظيم واضح ودقيق للحملة الانتخابية، ولم يكن هناك عدد واضح ومحدد للمشاركين فيها. كل شخص كان يساعد بطريقته". وأضافت: "فريق العمل في الحملة كان مزيجاً من الشباب من مختلف المرجعيات الأيديولوجية، بل ضم أطرافاً اتسمت علاقتها خارج السياق الانتخابي بالتنافر مثل النقابات الطلابية".6مقابلة أجريت معها يوم 2-2- 2020

حملة شبابية على مواقع التواصل الاجتماعية

انخراط الشباب في حملة قيس سعيد بدأ بشكل باكر. فمنذ ظهوره الإعلامي الأول على قناة "حنبعل" (قناة تلفازيه خاصة)، الذي أعلن فيه ترشّحه للانتخابات، تجندت مجموعات من الشباب للعمل في حملته الانتخابية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وبالأخص "فايسبوك". ويعتبر هذا التوجه نحو وسائل الإعلام الجديدة قطعاً مع الإعلام الكلاسيكي وتوجهاً من الشباب لمواجهة ما اعتبروه هجمة من الإعلام التقليدي على مرشحهم، مصنفين الإعلام التونسي كجزء من المنظومة السياسية القديمة التي تعمل لأجندات خاصة وتغيب عنه النزاهة.

كما سمحت الحملة الواسعة التي قادها الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي في الاقتراب من أكبر عدد ممكن من الشباب؛ لكون هذه المواقع تشكّل البيئة الافتراضية التي ينشط فيها الشباب.

وبالعودة إلى تقرير محكمة المحاسبات الخاص بمراقبة الأحزاب وتمويل الحملات الانتخابية الرئاسية المبكرة الصادر في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، والنظر إلى ترتيب المرشحين من حيث التغطية الإعلامية، نلاحظ أن قيس سعيد صُنّف في المرتبة الأخيرة من المرشحين الذين حصلوا على تغطية إعلامية في القنوات التلفزية والإذاعات والجرائد.

شكل 2 التغطية الاعلامية لمرشحي الانتخابات الرئاسية خلال الدور الأول, تقرير محكمة المحاسبات الخاص بمراقبة الأحزاب وتمويل الحملات الانتخابية للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها الصادر في 8 نوفمبر / تشرين الثاني7تقرير محكمة المحاسبات الخاص بمراقبة الأحزاب وتمويل الحملات الانتخابية للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها الصادر في 8 نوفمبر [7] 2020 / تشرين الثاني

في المقابل - ومن خلال التقرير نفسه - نجد أن قيس سعيد حصل على المرتبة الأولى كأكثر مرشح حصل على دعاية إعلامية خلال الحملة الانتخابية من خلال صفحات فايسبوكية، حيث ساهمت 30 صفحة غير رسمية في خدمة الحملة الانتخابية لقيس سعيد بمجموع 3 ملايين مشترك، أدارها 85 مشرفاً مقيمين في تونس وفي عدد من بلدان العالم.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن تقرير محكمة المحاسبات تناول فقط صفحات الفايسبوك التي ساهمت في الدعاية لقيس سعيد، ولكنه أغفل المجموعات التي أنشئت على مواقع التواصل الاجتماعي مثل مجموعة "الشعب يريد" و"احنا ماكينة" والتي نجحت في استقطاب أعداد مهولة من الناخبين خاصة الناخبين الشبان منهم.

ويجب التأكيد على نقطة مهمة من خلال المعطيات الواردة في تقرير محكمة المحاسبات، وهي أن الصفحات التي قامت بالدعاية لقيس سعيد كلها صفحات غير رسمية، لأن قيس سعيد لا يملك أي صفحة منها، على الرغم أن بقية المرشحين يملكون صفحات رسمية مقابل عدد محدود من الصفحات غير الرسمية. وهو ما يشير إلى عدة احتمالات أهمها أن الصفحات التي قادت الحملة الانتخابية لقيس سعيد انخرطت في حملة تطوعية ولم تكن خاضعة مباشرة لإشراف قيس سعيد أو توجيهاته.

وما يؤكد هذا الاستنتاج، هو التوزع الجغرافي للمشرفين على هذه الصفحات التي توزعت على عدد من البلدان، كما ينفي تقرير محكمة المحاسبات قيام قيس سعيد بالتعاقد مع أي شركة دعاية إعلامية، خلافاً لبعض المرشّحين، وهو ما يؤكد الطابع التطوعي لحملته، بل ويتماشى مع فلسفة حملته الانتخابية المناهضة للنظم التقليدية في العمل السياسي.

شكل 3 عدد المشرفين على الصفحات غير الرسمية وتعدد توزيعهم الجغرافي, تقرير محكمة المحاسبات الخاص بمراقبة الأحزاب وتمويل الحملات الانتخابية للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها الصادر في 8 نوفمبر / تشرين الثاني

اختلافات في تعداد الصفحات التي استعملت كأداة للقيام بالحملة الرئاسية الخاصة بكل مرشّح، تقرير محكمة المحاسبات الخاص بمراقبة الأحزاب وتمويل الحملات الانتخابية للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها الصادر في نوفمبر / تشرين الثاني.

دور الشباب في الحملة الانتخابية يخفض من كلفتها المالية

من دلائل الروح التطوعية في الحملة الانتخابية لقيس سعيد واستفادته من اصطفاف الشباب إلى جانبه، هو التكلفة المنخفضة جداً للحملة.

قرر عدد كبير من الشباب التطوع لخدمة الحملة الانتخابية الرئاسية لقيس سعيد بشكل مستقل، وفيهم من بادر إلى تقديم دعم مادي وفق إمكانيته المحدودة. ونظم عدد كبير من الشباب في مختلف ولايات الجمهورية زيارات قيس سعيد للجهات خاصة، وتكفلوا باستقباله والقيام بخدمة هذه الزيارات. وهو ما أكده لنا فوزي الدعاس، أحد أبرز المشاركين في الحملة الانتخابية لقيس سعيد الذي قال: "الشيء المميز في الحملة الانتخابية هو التطوع. لم تكن هناك أي علاقة عمودية فقط، كان هناك تنسيق للجهود وكل من كان يؤمن بالفكرة كان سفيراً لها وناطقاً باسم الحملة".8مقابلة بتاريخ 12 أيار/مايو 2020.

ويتأكد ذلك أكثر من خلال العلاقة الأفقية بين قيس سعيد وناخبيه وأعضاء حملته الانتخابية. فكان هناك وجود اتصال مباشر بينه وبين عدد كبير من الشباب، وهو ما اثبته الاستبيان الذي نشرناه، حيث أكد 72 بالمئة من إجمالي المشاركين أنهم التقوا به بصفة شخصية سواء في الجامعة أو في خارجها. وهو ما يؤكد على البعد الشخصي في العلاقات التي شكلت النواة الأساسية لعلاقة قيس سعيد بناخبيه.

شكل 5 هل التقيت شخصياً بقيس سعيد, دراسة مسحية من إنجاز فريق العمل

هذه الحاضنة الشبابية لم تكلف قيس سعيد كثيراً. فبناءً على ما أورده تقرير محكمة المحاسبات المذكور أعلاه، نلاحظ أن الحملة الانتخابية لقيس سعيد لم تتكلف مبالغ مالية ضخمة، عكس بقية حملات المرشحين، حيث امتنع قيس سعيد عن قبول التمويل العمومي الخاص بالحملة الانتخابية، معتبراً أنه يجب عدم تبذير أموال التونسيين، كما لم يقدم قيس سعيد تمويلاً ذاتيا لحملته الانتخابية، ويعتبر مجموع تمويل قيس سعيد خلال الحملة الانتخابية هو الأقل من بين كل المر شحين. فعلى سبيل المثال تمثل تكلفة الحملة الانتخابية لقيس سعيد 0.7 بالمئة من تكلفة الحملة الانتخابية للمرشح يوسف الشاهد.

وبحساب مجموع الأصوات التي حصل عليها مقارنة بتكلفة الحملة الانتخابية، فإن تكلفة الصوت بالنسبة لقيس سعيد لم تتجاوز 0.030 دينار، وهي أقل تكلفة بين المرشحين وأدنى بكثير من متوسط التكلفة لدى كل المرشحين التي تمثل 1.980 ديناراً.

شكل 6 مقاربة موارد المترشحين للدورة الأولى للانتخابات الرئاسية لسنة 2019 وعدد الأصوات عليه من قبلهم. تقرير محكمة المحاسبات الخاص بمراقبة الأحزاب وتمويل الحملات الانتخابية للانتخابات الرئاسية السابقة لأنوانها الصادر في تشرين الثاني / نوفمبر.

يشير ما سبق إلى أن تكلفة حملة قيس سعيد المالية كانت منخفضة مقابل مشاركة وإقبال شبابيين عاليين جداً. وهذا يؤكد الهبة التضامنية التي استفاد منها قيس سعيد.

كما يعتبر عدم قبول قيس سعيد التمويل العمومي، قد ساهم في تعاطف فئات شبابية كثيرة معه، باعتباره رئيساً متواضعاً شبه حالته المادية والاقتصادية الوضعية المادية والاقتصادية بقية حالة الشباب نفسها، ما عزز الإحساس بأنه رئيس منهم وإليهم،وهو ما خلق موجة من التضامن لصالحه خلافاً لبقية المرشحين أو غالبيتهم الذين برزوا في جلباب الأثرياء الذين يهدرون أموالاً كثيرة لشراء أصوات الناخبين.

ويشهد على صدق ما حصل ما أورده السيد أحمد حسين العباسي وهو شاب شارك في قيادة الحملة الانتخابية لقيس سعيد الذي جاء على لسانه في المقابلة التي أجريت معه "لقد كانت كل الفئات ممثلة في متطوعي الحملة الانتخابية، ولكن الطبقة الفقيرة كانت غالبة". 9مقابلة يوم 24 اذار /مارس 2020.

كما أكد هذه الفكرة الناشط أيمن بن عمار، وهو ناشط سياسي شارك في فريق حملة قيس سعيد الانتخابية بمدينة تونس، حيث قال في المقابلة معه: "من العوامل التي شجعتني على الانخراط في حملته الانتخابية هي محدودية الموارد التي يمتلكها... لقد سئمنا من أشخاص يصرفون المليارات في الانتخابات دون أدنى نتيجة فيما بعد".10مقابلة يوم 26 اذار /مارس 2020.

قيس سعيد استفاد أيضاً وبالخصوص من هبة شبابية تطوعية في جمع التبرعات للانتخابات، حيث ينص القانون التونسي على كون المرشح لانتخابات الرئاسية مطالب بجمع عشرة آلاف تبرع أو عشرة تبرعات من قبل عشرة نواب في مجلس النواب. ولم يضع قيس سعيد برنامجاً لجمع التبرعات، بل افسح المجال للناشطين الشباب المتطوعين لتقديم التبرعات واكتفى بوضع عنوان لإرسال التبرعات إليه، وقد لقي هبة شعبية من قبل الشباب الذين تمكنوا في وقت قياسي من جمع اثنين وثلاثين ألف تبرع وإرسالها إلى مكتب قيس سعيد، بالرغم مما قيل من وجود سرقة لتبرعات المرشح قيس سعيد وتحويل وجهتها إلى مرشحين آخرين.

كل ما سبق يجعل من هذه الهبة الشبابية قياسية بكل المعايير ومختلفة على كل المستويات. ولعل الجامع المشترك بين كل أشكال تجنّد الشباب لمساعدة قيس سعيد خلال الحملة الانتخابية، هو ذلك الشعور بالحمية تجاهه والرغبة في نصرته، كلما أحسوا أنه ضحية للمنظومة القديمة. فكلما كان محل هجوم وانتقاد من قبل أطراف محسوبة على المنظومة الحزبية القائمة، سواء في الإعلام أو عند التمويل أو عند سرقة عدد من تبرعاته، إلا وكانت ردة فعل الشباب جدية، وتجندوا لنصرته، وهو ما يُعد عاملاً نفسياً ومظهراً سلوكياً جمعياً قائماً على التعاطف من جهة، ومن جهة أخرى رغبة في معاقبة المنظومة القائمة. ويتأكد ذلك مما أوردته سيرين بوعزيز وهي إحدى الناشطات في حملته الانتخابية في المقابلة التي جمعت فريق المل بها، وبسؤالها عن الأسباب والظروف التي دفعتها إلى مساندته في الانتخابات أوردت "عند ظهوره في التلفاز لأول مرة لإعلان ترشّحه، لقد مسني كثيراً خطابه وكلامه، لقد أحسست أنه وحيد وأنه يعول فقط على الشعب. لقد مسني ذلك كثيراً".11مقابلة يوم 30 شباط/فبراير 2020.

قيس سعيد يستقطب أصوات الشباب

أولوية المطالب الاقتصادية والاجتماعية عن الحريات الفردية كمعيار انتخابي بالنسبة للشباب

لم تقتصر مشاركة الشباب في الانتخابات الرئاسية على مساندة قيس سعيد في الحملة الانتخابية، بل تمثلت أيضاً في انتخابه بشكل كثيف من قبل عموم الناخبين الشبان حيث حضي قيس سعيد بأصوات غالبية الشباب، بل ونجح في دفع عدد كبير من الشبان والشابات من الذين لم يشاركوا مطلقاً في الانتخابات السابقة إلى مربع المشاركة السياسية.

ومن المهم الإشارة إلى أن قيس سعيد نجح في استقطاب فئات شبابية متنوعة، حيث يبدو أنه نجح في تقديم خطاب يتناسب مع متطلباتهم. فصورة الأستاذ الأكاديمي المثقف الذي يتحدث العربية بفصاحة وقادر على التحليل القانوني بامتياز، شجعت الشباب من أصحاب الشهادات العليا على انتخابه، وجعلتهم ينبهرون بصورته. فهم يتوقون إلى إعادة الاعتبار للمثقف في تونس وفي الحياة العامة، حيث يعتبرون أن الطبقة السياسة الموجودة يسيطر عليها أشخاص غير مثقفين ولا يؤمنون بالإنتاج العلمي.

وبناء على إحصائيات مؤسسة سيغما كونساي تمكن قيس سعيد من حصد 25 بالمئة من أصوات ذوي التعليم العالي كأكثر مرشح منتخب من قبل الجامعيين.

الشباب الذي انتخب قيس سعيد هو شباب عانى من ويلات خيبات متتالية في ظل عدم مراعاة الطبقة السياسية لمطالبه الاجتماعية والاقتصادية. وفي دراسة العينة التي أنجزناها والتي استهدفت 400 شاب وشابة من ناخبي قيس سعيد في الدور الأول، نجد أن 70 بالمئة من ناخبي قيس سعيد هم من الأشخاص الذين لا يملكون دخلاً ثابتاً. ويبدو ان هذه الفئة الشبابية تعتبر أن الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية أولى من غيرها من الاستحقاقات، بما فيها تلك المتعلقة بالحقوق والحريات.

شكل 7 تصنيف ناخبي قيس سعيد حسب الدخل الشهري، من دراسة المسحية التي أجراها فريق العمل

شكل 8 إلى أي درجة تؤيد الحريات الفردية (التعبير ، الضمير ، الرأي ، إلخ)؟

فبالرغم من ان جزءاً كبيراً من الشباب الذي انتخب قيس سعيد يؤيد الحريات الفردية (في دراسة العينة التي أنجزناها، سجلنا أن 88.8 بالمئة هم من مؤيدي الحريات الفردية). لم تزعج هؤلاء الشباب مواقف قيس سعيد من عدة مسائل حقوقية مثل المساواة في الميراث والمثلية الجنسية. وذلك يشير إلى "قبول" أو "تقبل" جزء كبير من الشباب منطق قيس سعيد القائم على إعطاء أولوية للاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية على غيرها من الاستحقاقات، خاصة تلك المتعلقة بالحقوق والحريات.

وكان هذا المنطق واضحاً في رد قيس سعيد على مسألة المساواة في الميراث عندما أجاب "حتى تجد المرأة ما ترث". مشيراً إلى تدهور وضعية التونسي الاقتصادية والاجتماعية.

وتجدر الإشارة إلى أنه في نفس السياق الانتخابي، كان هناك عدد من المرشحين ممن أبدوا دعمهم للحريات الفردية بشكل مطلق، لكنهم لم يجدوا دعماً من قبل الشباب، وهو ما يؤكد ما سبق وأشرنا اليه وهو أولوية الحقوق الاقتصادية على الحريات الفردية، بل إن معيار الشباب في اختيار مرشحهم هو قدرة المرشح على الاستجابة لحاجاتهم الاقتصادية قبل أي اعتبار آخر.

الشباب بحثوا عن مرشح نزيه

لا يخفى على أحد كون الفساد كان من أبرز الأسباب التي أدت إلى اندلاع ثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011، وكان القضاء على الفساد من أكثر ما ينتظره الشباب في فترة ما بعد الثورة، ولكن خيبة الأمل أصابت الشباب الذين أصبحوا يشعرون بغياب الثقة بمؤسسات الدولة وفي الفاعلين السياسيين الذين يعتبرونهم متورطين في العديد من الممارسات غير المشروعة، ويتأكد ذلك من خلال ما أبداه ناخبو قيس سعيد في الدراسة، حيث أبدى حوالي 50 بالمئة منهم أن الخطر الأول الذي يهدد المسار الثوري هو الفساد، وتضاعف الإحساس لدى الشباب بكون الفساد هو ما تسبب في تأخر تحقيق مطالب الثورة وتأخير حصولهم على الاستحقاقات الاقتصادية التي كانوا يريدونها.

كل ما سبق أكده لنا السيد أحمد حسين العباسي، و هو من بين الشباب الذين ساهموا في قيادة حملة قيس سعيد، والذي أشار إلى أن مرشحه "لم يكن بالشخصية السياسية القيادية ولا الشخصية التي لها تاريخ سياسي نضالي كبير، ولكن ما يجذبك إليه هو روحه النزيهة... نزاهته هي سمة لا تجدها كثيراً في الحياة السياسية".12مقابلة يوم 24 اذار/مارس 2020.

في المقابل وفي الأثناء برز الرئيس قيس سعيد شخصية لم يعرف أن عليها أي شبهات فساد، بل يعرف بتعفّفه عن المناصب، ومتشبث بمحاربة الفساد، ومتشبث بمحاربة المحسوبية، وعازم على انفاذ القانون على الجميع، ولطالما ردد: "على القانون أن يكون كالموت الذي لا يستثني أحداً". وقد برز قيس سعيد في عديد من المناسبات بتصاريح نارية استهدفت الطبقة السياسية الحالية، متهماً إياهم بالتورط في الفساد "والعبث بقوت التونسيين". وبالتالي يمكن الاستنتاج أن الشباب قد بحثوا عن مرشح نزيه يؤتمن على الدولة، ولا يوظف أجهزة الدولة لخدمة مصالحه الشخصية.

شكل 9 تقدير المشاركين في الاستبيان للمخاطر التي تواجه الانتقال الديمقراطي، من الدراسة المسحية التي أنجزها فريق العمل

هل كان التعويل على الشباب خيار استراتيجي من المرشح قيس سعيد؟

كما سبق وأشرنا، وبالرغم من محدودية مشاركة الفئة الشبابية في الانتخابات، فان قيس سعيد استحوذ على أكبر عدد من أصوات الناخبين الشبان المشاركين في الدور الأول من الانتخابات مقارنة ببقية المرشّحين.

ولكن هل كان منذ البداية مستهدفاً هذه الفئة وما الذي دفعه للرهان عليها دون غيرها؟

في الحقيقة لا توجد إجابات قاطعة عن هذه الأسئلة، لكن من المؤكد وبناء على ما ورد في جُلّ المقابلات، فإن المطالب الشبابية كانت حاضرة بقوة في خطاب قيس سعيد السياسي.

وقد يكون مردّ هذه العلاقة والتوجه نحو الشباب، طبيعة مهنة قيس سعيد الذي اشتغل لسنوات طوال في الجامعات، وهو ما جعله على تماس مباشر معهم، وأنشأ رابطة وثيقة بهم، وهو ما أكده لنا كل المشاركين المقابَلين. فقد عبرت سيرين بوعزيز عن ذلك بقولها: "لقد عرفته في الجامعة لقد كان رائعاً". وحتى السيد أيمن بن عمار، وهو شاب من فريق حملة قيس سعيد الانتخابية، أكد نفس الفكرة بقوله: "لقد التقينا في ملتقى خارج الجامعات في ولاية المنستير، ولقد كان يستمتع بالنقاش مع الشباب".13مقابلة يوم 26 اذار/مارس 2020.

تبقى الإجابة عن هذا السؤال غير واضحة المعالم في ظل عدم القدرة على استنتاج نواياه. فقد تكون قناعة شخصية بقيمة الشباب في مشروعه السياسي، وقد يكون واعياً للثقل الانتخابي للشباب، فراهن عليه. تبقى الإجابة صعبة المنال وتتطلب مزيداً من النظر والتمحيص.

خاتمة

حملت الثورة التونسية آمالاً كبيرة للشباب التونسي التوّاق إلى تحسين الوضع الاقتصادي ومن ورائه الوضع الاجتماعي، ولكن هذه الفئة ظلت منعزلة ورافضة الانخراط في الحياة السياسية، بالرغم من مناخ الحريات الذي طبع الحياة السياسية في تونس منذ كانون الثاني/ يناير 2011 .

عدم المشاركة السياسية بدت جلية في مختلف المحطات الانتخابية التي شهدتها تونس بعد الثورة، حيث سجلت عزوفاً شبابياً كبيراً، ولم تنجح القوى السياسية التونسية في استمالة هذه الفئة.

الانتخابات الرئاسية المبكرة لسنة 2019 في تونس، مثلت حدثاً هاماً في المشاركة السياسية للشباب في تونس، ليس من حيث المشاركة الكمية للشباب، ذلك أن نسبة الناخبين الشبان لم تتطور كثيراً، وإنما من حيث نوعية المشاركة، حيث استطاع مرشح وحيد من نيل غالبية أصوات الشباب في الانتخابات، بل واستطاع خلق التفافة شبابية حوله من خلال تجنُّدهم لحملته الانتخابية بصفة تطوعية.

هذا ويبدو أن قيس سعيد أبدى فهماً عميقاً لمشاغل الشباب التونسي، فكيّف خطابه السياسي مع المطالب الاجتماعية والاقتصادية، وشاركهم غضبهم على المنظومة السياسية البائدة، ووعدهم ببناء سياسي جديد تصبح فيه إرادتهم محور الحكم.

وقد جاءت هذه المشاركة الشبابية في الانتخابات الرئاسية لتؤكد قيمة مشاركة الشباب في الحياة السياسية لقدرة هذا الرصيد الديمغرافي على قلب موازين القوى واكتساب ثقل سياسي. كما عكست هذه التجربة قيمة المشاركة الشبابية في الحياة السياسية من حيث بلورة مطالب الشباب الفعلية والارتقاء بهذه المطالب إلى مركز صناعة القرار .

ولكن بالرغم من هذه التجربة، فإنها تبقى حدثاً عرضياً لا غير، على اعتبار تعلقها بشخص قيس سعيد لا غير، وهو ما يجعل من نجاح تجربته في الحكم أملاً لمستقبل المشاركة الشبابية في الحياة السياسية.

إن هذه الصحوة الظرفية للشباب تمثل دعوة لمكونات المجتمع السياسي التونسي للتفكير في آليات جديدة تضمن إدماج هذه الفئة في الحياة السياسية وفي إدارة الشأن العام قائمة على تجديد الخطاب السياسي وإبراز دورهم في العملية السياسية من مجرد متلقّين للخطاب السياسي إلى مشاركين في تشكيله. وإلى أن يتحقق ذلك، تبقى الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 صحوة عابرة من ركود متواصل.

Endnotes

Endnotes
1 - تونس في 19 كانون الأول / ديسمبر 2018 Heinrich BOLL STIFTUNG مشاركة النساء والشباب في الحياة العامة والشأن المحلي- شبكة مراقبون-
2 "في أسباب عزوف الشباب عن المشاركة السياسية"، الاسعد بوعزي، صحيفة تونس للانباء، 29 نيسان / أبريل 2019
3 مقابلات بتاريخ 28 و29 نيسان/أبريل 2020.
4 مقابلة بتاريخ 28 نيسان/أبريل 2020.
5 مقابلة مع الناشطة سيرين بوعزيزي بتاريخ 2 شباط/فبراير 2020.
6 مقابلة أجريت معها يوم 2-2- 2020
7 تقرير محكمة المحاسبات الخاص بمراقبة الأحزاب وتمويل الحملات الانتخابية للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها الصادر في 8 نوفمبر [7] 2020 / تشرين الثاني
8 مقابلة بتاريخ 12 أيار/مايو 2020.
9 مقابلة يوم 24 اذار /مارس 2020.
10 مقابلة يوم 26 اذار /مارس 2020.
11 مقابلة يوم 30 شباط/فبراير 2020.
12 مقابلة يوم 24 اذار/مارس 2020.
13 مقابلة يوم 26 اذار/مارس 2020.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.