بدأت المظاهرات المصرية لعام 2011 قبل تسع سنوات، في عيد الشرطة (25 يناير/كانون الثاني) – وهي العطلة التي أمر بها حسني مبارك لإحياء ذكرى رجال الشرطة المصريين الذين قُتلوا وأصيبوا على يد قوات الاستعمار البريطاني عام 1952. بدّل المتظاهرون تماما من المغزى الأصلي لليوم، فحولوه إلى رمز لوحشية الشرطة وفسادها في عهد مبارك. وفي خضم دراما الثمانية عشر يوماً التي تلت ذلك التاريخ، واجهت أجهزة الأمن الداخلي المصرية المتظاهرين في الشوارع، فقامت باستفزازهم والإضرار بهم في وقائع صادمة، ما أدى إلى المزيد من احتشاد صفوف الحركة الاحتجاجية وأسهم في نهاية المطاف في عزل مبارك.
ومنذ 2011، كانت الشرطة وقوات الأمن الداخلي في العديد من دول العالم العربي في قلب الصراعات والمواجهات التي شكلت المنطقة في صورتها الحالية. وفي الآونة الأخيرة تعد المواجهات الحالية بين المتظاهرين والشرطة في شوارع العراق ولبنان والجزائر والسودان تذكرة قوية لنا بأن الشرطة أكثر من مجرد كيان مستهدف بالاحتجاج ضد الدولة. هي أيضاً نقطة ينعقد حولها الغضب كجماعة قائمة بذاتها، ومن حيث مفاهيم الإدارة الشرطية والسيطرة الاجتماعية التي تتجسد فيها. أثر هذا التنازع المستمر حول سلوك الشرطة ومبادئ عملها في المنطقة يستحق التفكير والتناول. هل تغيرت الشرطة والإدارة الشرطية في العالم العربي؟ وإذا كانت قد تغيرت، فبأي أشكال؟
تستعرض هذه الورقة خارطة ببعض الأنماط الأساسية للتنازع حول الشرطة والإدارة الشرطية منذ عام 2011، وتقدم تقييماً أولياً بآثار هذه الأنماط. تطرح الورقة فكرة أن التنازع حول الشرطة المدفوع بالحشد الجماعي، لم ينجح في إحداث تغيير إلا عندما تلته مرحلة الإصلاح المؤسسي. وتوضح الورقة أن تهجين الإدارة الشرطية – حيث تتعاون أطراف أمنية غير رسمية مع الأطراف الأمنية الرسمية وتتحداها – انتشر في دول عديدة. لكن مفهوم الدولة الأمنية، وهذا بالتركيز على سلطة الدولة على المواطنين، مستمر في الانتشار في المنطقة. الحق أن أغلب العقد الذي تلى 25 يناير/كانون الثاني 2011 لم يشهد تحقق أغلب مطامح المواطنين الذين خرجوا للتظاهر ضد الشرطة، حتى عند وجود بعض التطورات الواعدة.
هل علينا دراسة الإدارة الشرطة بالاستعانة بالعدسة الإقليمية؟
إن التصدي لموضوع الإدارة الشرطية في إطار "العالم العربي" مسألة تنطوي على تحديات جمة، وهناك ثلاثة أسباب رئيسية على الأقل لهذا. أولاً، هناك مسألة التعاريف المرتبطة بالنقاشات الجارية حول ماهية "الإدارة الشرطية – policing" في مقابل "الأمن الداخلي" أو "الممارسات العسكرية". ويزيد من التِباس الحدود بين المفاهيم في السياق العربي أن الحكومات السلطوية في بعض الدول استخدمت الشرطة كهيئة للإنفاذ السياسي، وفي حالات أخرى وجدت الشرطة نفسها في الخطوط الأمامية للنزاعات المسلحة مع تعرضها للعسكرة والتحزّب، وفي حالات أخرى تم تكوين هيئات شرطية منافسة لها. لعل من الأصوب النظر إلى تعريف ما يعتبر "إدارة شرطية" بصفته عملية قائمة على نقاط مختلفة من خط متواتر، مبدأه أنها هيئات مهمتها - من حيث المبدأ - حماية القانون والنظام، وتحتفظ لنفسها بشرعية استخدام القوة بناء على مكانتها من الدولة، وهي ليست معسكرة كالجيش في الدول المختلفة. لكن بغض النظر عن التعريفات المرتجلة، فالتحدي الثاني هو تنوع القوات الشرطية وانتشارها على امتداد مختلف الهياكل والمؤسسات السياسية. إذا تحرّينا تعريفاً قائماً على السعة والقدرة، بغض النظر عن السياق القائم، ففي "مؤشر عالم الأمن الداخلي" أحرزت كل من شرطة البحرين والجزائر المركزين الأول والخامس على مستوى العالم، في حين تقع المغرب واليمن في الربع الأخير من الدول بحسب ذلك التصنيف. إذا أخذنا بقياس آخر، نرى أن نحو تسعة من كل عشرة مواطنين أردنيين يقولون إنهم يثقون في الشرطة، لكن نحو نصف الفلسطينيين فقط يثقون فيها. في الوقت نفسه، وفيما يتعلق بإطار العمل القانوني-القضائي، ففي حين أن قوات الشرطة في العالم العربي تعمل في إطار نظم تأسست على تقاليد "القانون المدني" الفرنسي، وتتبع نظام إجراءات جنائية تعلو فيه أهمية التحقيق والاستجواب، فإن الصورة على أرض الواقع تضم أيضاً إرث القانون العام بمناطق بها نفوذ بريطاني سابق، وقوانين عديدة اشتملت على نصوص مستوعبة للشريعة الإسلامية، فضلاً عن العادات والتقاليد غير المقننة. كما تعد الشرطة جزءاً من نظم سياسية شديدة التنوع: من النظام السلطوي (سواء سلطوية أخف أذى أو أشد وطأة) إلى الديمقراطية الناشئة المترددة، وحتى الدول الضعيفة أو المتنازع عليها، وانتهاءً بمناطق النزاع والاقتتال.
هناك قضية ثالثة تتعلق بالبيانات وقدرة الوصول إلى المعلومة. فالتمويلات البحثية تفضل عادة الدراسات الإقليمية المتعلقة بالجيوش، على الدراسات المتعلقة بالشرطة، في حين أن المعلومات حول الموضوع عادة ما تكون مبهمة وتحميها السلطات بقوة بصفتها مجال حساس من مجالات الأمن الوطني. إن محاولات التقصي حول الممارسات الشرطية عادة ما ترفضها السلطات ويرفضها المسؤولون، وقد تُواجَه بالقمع والعنف المباشرين أو القاتلين. وفي بعض الحالات – حيث هناك اهتمام دولي كبير بالقطاع الأمني كما في لبنان وتونس والعراق على سبيل المثال – توجد معلومات كثيرة ومعتبرة متاحة للعموم. وفي حالات أخرى – كما في الجزائر أو السعودية – فالمعلومات المتاحة أقل بكثير.
كما أن عدم توفر قدرة الوصول إلى المعلومة ينزع إلى تكريس نوع بعينه من المعرفة المُنتجة، إذ تتمثل غالباً في معرفة من الخارج (تقارير حقوق الإنسان، تحليلات سياسية، إلخ) وليس تصورات ورؤى واضحة عمّا يجري من الداخل، وبالطبع طبيعة ما يحدث فيما يتعلق بالجوانب الأقل "سياسية" من العمل الشرطي: مثل التحقيقات الجنائية وإدارة الموارد البشرية. هذا يعني أن هناك كم كبير مما لا نعرفه عن كيفية أداء ضباط الشرطة أنفسهم لعملهم وكيف يخبرون هذا العمل، وهو جانب مهم للغاية، ومسألة يجب أن يتم التصدي لها بتشخيصات متكاملة وحذرة. هل يمكننا مقارنة الإدارة الشرطية في السعودية الملكية التي نعرف عنها القليل بالإدارة الشرطية في لبنان التوافقية، التي نعرف عنها أكثر بكثير؟
رغم التنوع، تتحد الخيوط المختلفة في واقع الإدارة الشرطية على امتداد المنطقة، ما يجعل المقاربة الإقليمية مستحقة لمزيد من الاستكشاف، حتى ولو ظلت حذرة في تعميماتها. أكثر التعميمات أساسية هنا هو مفهوم مشترك للإدارة الشرطية، يوضح ما هي الإدارة الشرطية وما ضرورتها، وهو مفهوم يستند إلى نموذج "أمن الدولة". هذا النموذج يرى أن الدور الأساسي للشرطة هو حماية أمن واستقرار الدولة، ويُنظر إلى هذا الأمن عادة بصفته منفصل عن أمن المواطنين. في إطار هذا النموذج، تعد الشرطة منفصلة ومختلفة عن السكان، وهي تعتبر مؤسسة شبه عسكرية. تنعكس هذه السمة في الاستخدام العام للرتب العسكرية، حيث ضابط الشرطة المتواجد ميدانياً عادة ما تكون رتبته "جندي" ورئيس مركز الشرطة عميد. وفي حالات كثيرة، يتم تعيين ضباط الجيش قادة لوحدات شرطية. وفي بعض الحالات، كما في لبنان، يجب أن يكون جميع ضباط الشرطة الحائزين على رتب رفيعة من خريجي الأكاديمية العسكرية. وبين الرتب، هناك "نسبة مسافة إلى السلطة" عالية ما يفيد بأن عناصر الشرطة الأدنى رتبة يقبلون بتركز السلطة وصناعة القرار في رأس هرم المؤسسة. هناك مسافة مماثلة بين الشرطة والعامة، حتى في الدول التي تتمتع فيها الشرطة بشعبية كبيرة. في هذا النموذج، يعد الأمن في العادة مفروضاً من أعلى لأسفل، وليس مبنياً على التعاون مع السكان. وفي الهيئات الشرطية شبه العسكرية، فإن إشراف المدنيين على هذا النموذج يكون محدوداً في العادة، بحيث تتمتع المؤسسة الشرطية وعناصرها بدرجات متفاوتة من الحصانة من حيث القانون والممارسة معاً. لكن من المهم ملاحظة أن "النتائج الوظيفية" لهذا المفهوم قد تكون متباينة كثيراً، إذ تتراوح من انتشار الانتهاكات والإساءات بدرجة متطرفة، إلى نتائج أخفّ وطأة بكثير.
لقد تم اعتماد هذا النموذج، وتم تكييفه، بسبل مختلفة، منذ عهد النظم الاستعمارية. رأت القوى الاستعمارية أنها على مسافة بعيدة، ومتمايزة، عن السكان الذين تسيطر عليهم. خرجت النخب الشرطية الجديدة بعد الاستقلال – بما يشمل في مصر وتونس – فوجدت نفعاً كبيراً في نموذج الإدارة الشرطية الاستعمارية، فيما يتعلق بالإخضاع والسيطرة، فعمقت وطورت من هذا الجانب من الإدارة الشرطية، وجعلت الشرطة شريكاً أساسياً في نظام الحكم. وفي أغلب الدول القمعية، مثل سوريا والعراق (قبل 2003)، خسرت شرطة الدرك (في الزي الرسمي التقليدي) الكثير من النفوذ في مواجهة هيئات وفروع المخابرات، التي اتسعت اختصاصاتها كثيراً لتشمل التحقيقات الجنائية، إضافة إلى التعامل مع ملفات التجسس ومكافحة التجسس والسيطرة السياسية.
وفي حالات أخرى، حيث كانت العلاقات الاستعمارية مختلفة بعض الشيء، كما في شرق الأردن وإمارات الساحل المتصالح، وحيث كانت الدولة أقل قوة وتوسعاً، فإن العلاقة بين الشرطة والناس كانت تتبع النهج الأبوي المعتمد على التقاليد والعادات، حيث الوضع الأبوي للشرطة هو دور الحماية وتأديب أبناء وبنات الأمة. وفي الكويت، يتم تناول هذا الأمر بصفة الشرطة "قدوة" (نموذج أبوي يُحتذى به). وفي عمان والأردن، الحاكم هو رئيس الشرطة. وفي الدول الخليجية الأصغر، إضافة إلى تونس ولبنان، طرأ نزوع ملحوظ في الآونة الأخيرة إلى اعتماد استراتيجيات الإدارة الشرطية المجتمعية، إضافة إلى نهج أمن الدولة المختلفة. في حين تكثر الانتقادات الموجهة إلى الشرطة في تلك الدول، فهناك قطعاً جهود ممنهجة تم بذلها للتقريب بين الشرطة والشعب. هذه الاستراتيجيات متنوعة، وآثارها تتباين من حالة لأخرى، لكنها بدرجة أو أخرى تمثل "تخفيفاً" من نموذج أمن الدولة.
أنماط التنازع حول الشرطة والإدارة الشرطية منذ 2011
تحدي الحشد الجماعي
لم يكن من المدهش – نظراً لتنوع سمات الشرطة عبر المنطقة – أن التنازع حول الشرطة والإدارة الشرطية قد تطور عبر عدة سبل مختلفة في المنطقة منذ 2011، وقد تكثف ذلك التنازع تحديداً في دول "الربيع العربي". نوع التنازع الأكثر انتشاراً كان تحدي الحشد الجماعي، حيث يتجمع المتظاهرون في أعداد غفيرة احتجاجاً على الشرطة، بناء على مجموعة بعينها من المظالم، أو بسبب طيف أوسع من المظالم المختلفة. وليس من السهل دائماً التمييز بين هذا النوع وذاك من الأسباب. يختلف المحك الرئيسي للمظاهرات من بلد لبلد. على سبيل المثال، ركزت بعض المظاهرات في خريف 2018 بالسودان على إساءة معاملة النساء وما يُدعى بشرطة "أمن المجتمع"، في حين ركز خطاب المتظاهرين في المغرب في أكتوبر/تشرين الأول 2016 على موت بائع أسماك سحقته سيارة بلدية بعد رمي أعوان الأمن لبضاعته. تحول الرجل إلى رمز لظلم الشرطة/الحكومة. يمكن تعقب جذور هذه السرديات حتى لحظة انتفاضات 2011، وإشعال البوعزيزي النار في نفسه في ديسمبر/كانون الأول 2010، بعدما أهانته الشرطة.
على أنه ورغم استمرار هذا الشكل من أشكال التنازع، فإن النجاحات الفورية في تحدي المفاهيم القائمة للإدارة الشرطية تميل إلى كونها نجاحات دراماتيكية، وإن كانت محدودة. في حين دفع الزخم الثوري في 2011 قوات الأمن المصرية إلى الابتعاد عن الشوارع لفترة، مع حلّ جهاز أمن الدولة سيئ السمعة، فقد قام الجهاز الأمني بعد ذلك بتعزيز مركزه. أعيد تشكيل مباحث أمن الدولة تحت مسمى قطاع الأمن الوطني، وكانت أحكام القضايا أقسى على المتظاهرين مقارنة بضباط الشرطة، مع إنزال بعض أحكام الإعدام بالمتظاهرين منذ عام 2011. يبدو أن مؤسسات الشرطة ومفهوم أمن الدولة لم يتغيرا في مصر.
التحدي المؤسسي
وعلى الجانب الآخر، تمثل تونس حالةً أكثر نجاحاً في التنازع حول منهجيات الإدارة الشرطية. كما حدث في مصر، تنازع الحشد الجماعي الغفير هناك حول عمل الشرطة، ما أدى إلى مكتسبات سريعة ودراماتيكية، مع حل ما كان يُعرف بمسمى "البوليس السياسي"، وعزل بعض كبار القادة في الشرطة. لكن تطور تحدي الحشد الجماعي إلى جهود مؤسسية هو ما ميّز تونس عن مصر. في عام 2014 نصّ الدستور الجديد على أن الشرطة هيئة غير سياسية، ووضعت وزارة الداخلية دليلاً لحقوق الإنسان، وتمت مراجعة القوانين الحاكمة للتوقيف، مع إتاحة الحق القانوني للعاملين بقطاع الأمن في العمل النقابي. وتعمل حالياً لجنة برلمانية تُشرف على قطاع الأمن، وإن كانت كفاءتها محل انتقادات.
ولقد أعرب البعض عن الأسف إزاء عدم اتساع مدى انتهاز فرص إصلاح الشرطة والإصلاحات العامة في تونس بالقدر الكافي، مع انحسار ما يمكن عمله الآن إزاء هذا الملف. لكن النقطة المهمة هنا هي أن الإصلاح القائم عملية قائمة لم تنته. لا يزال مفهوم "أمن الدولة" قائم إلى حد ما، والتغييرات المذكورة أعلاه بعيدة كل البعد عن كونها كاملة، لكنها على الأٌقل تنير الطريق نحو مفهوم شرطي يضع المواطن – لا الدولة – في القلب من نشاط الشرطة. وفي الوقت الراهن، فإن التنازع المؤسسي يعد عملاً بطيئاً وتكرارياً ولا يسهل وصفه بإيجاز ووضوح لكن على الأقل بدأ العمل فيه. إن هذه الجهود سوف تتناول ولو بوتيرة بطيئة (وليس دون وجود عوائق، نتناولها في الجزء الثاني من هذه الورقة)، تحسين خضوع الشرطة للمساءلة، وتحسين مستوى نزاهتها وفعاليتها.
التهجين
يحدث تهجين قطاع الأمن واقترابه من الطابع غير الرسمي عندما يقوم عدة أطراف من غير التابعين للدولة بالتعاطي مع الدائرة الأمنية، أو حين يتم امتصاص أطراف غير تابعة للدولة بشكل أو بآخر في قطاعات أمن الدولة. كظاهرة، تمثل أيضاً نوعاً من التنازع حول الشرطة والإدارة الشرطية، لأنها ظاهرة تمثل بديلاً للهيئات الشرطية، ولأنها تتحدى المفهوم الخاص بأمن الدولة بصفته احتكار للقوة وللإدارة الشرطة عموماً. يسود هذا الوضع في لبنان، حيث كيانات الأمن التابعة للدولة – وتشمل قوى الأمن الداخلي والقوات المسلحة اللبنانية – مضطرة لتشارك المجال الأمني مع مجموعات أخرى (تشمل أطرافاً سياسية ومؤسسات أمن خاصة) تنفذ أعمال الدوريات والمراقبة والتحقيق وأنشطة حفظ النظام العام الخاصة بها. من الصعب وصف تعقد العلاقة بين الدولة والأطراف غير التابعة للدولة في ملف الأمن في لبنان بإيجاز، إذ يتباين الوضع من حيث درجة وطبيعة التهجين من حي إلى حي، ومن منطقة إلى منطقة.
تعود جذور هذه الظاهرة إلى ما قبل عام 2011، إلى زمن الحرب الأهلية على الأقل. وهناك تهجين له طبيعة مختلفة، نراه قائماً بصورة حادة في اليمن، حيث تنفذ أطراف النزاع أنشطة الأمن الداخلي الخاصة بها. في مثل هذه الظروف، يصبح التنازع حول الإدارة الشرطية جزءاً من التنازع على الأراضي وعلى الدولة بشكل أعم.
كما أن تهجين المجال الأمني قائم بقوة في سوريا أيضاً، إذ انسحبت الشرطة المدنية بمناطق النظام وأتاحت المجال لفروع المخابرات، ومع تسييس المجال الأمني الداخلي إلى درجة العسكرة، قام خليط من الأطراف، على المستوى الوطني والدولي، بتهجين مجال الأمن الداخلي، وهو المجال الذي يصعب فصله منطقياً عن المجال العسكري. إن النزاع لم يكتف بإدخال فاعلين جدد إلى الساحة، بل قدم أيضاً بعض المفاهيم الجديدة، لا سيما في المناطق التي أصبحت خارج سيطرة النظام. ومنذ عام 2013، ومع ظهور الشرطة السورية الحرة – بناء على مبادئ الشرطة المجتمعية بمعاقل المعارضة في حلب وإدلب واللاذقية – وإنشاء قوات الأمن الداخلي (المعروفة بمسمى أسايش بالكردية) في شمال شرق سوريا، يظهر الاختلاف البالغ في مفاهيم الإدارة الشرطية الجديدة. قطعاً ورغم الثغرات والعيوب الكثيرة القائمة، فإن محاولة الشرطة السورية الحرة الشجاعة وغير المسلحة للإدارة الشرطية المجتمعية – والإدارة الشرطية عن طريق موافقة الناس عليها – كانت الأولى من نوعها في سوريا. من المهم للغاية أنه وفي خضم الأزمة، تم ضخ الإحساس بالأولوية وموارد ثمينة في تشكيل هذه المؤسسات. ينعكس هذا على الصلة المستمرة بين الدولة والإدارة الشرطية حتى في الأماكن التي كانت الشرطة فيها (والدولة) مرهوبة الجانب تاريخياً. تم بناء الشرطة السورية الحرة والأسايش كأجزاء مركزية من الدول الثورية و/أو البديلة. هي تقوم بالعمل الشرطي كفعل ثوري لبناء دولة. ولا يمكن الإشارة إلى الشرطة السورية الحرة دون الإشارة إلى الدعم الدولي الذي تلقته، ونتناوله في الجزء الثاني من الورقة.
المحاولات الدولية لإصلاح الإدارة الشرطية
هناك بعض الأشكال من التعامل الدولي مع قوات الشرطة العربية، يمكن تصنيفه أيضاً في إطار "منازعة المفاهيم الشرطية". يسري هذا على حالة التعامل الدولي لإصلاح الأمن وليس "المساعدة الأمنية". الأخير يعني بناء قدرات القطاعات الأمنية دون العمل على تغيير مفاهيمها وطريقة عملها. في حين أن المساعدات الأمنية ليست مسألة سلبية بالضرورة، فهناك نقد وجيه ومستحق تم توجيهه إلى البرامج التي تقدم مساعدات أمنية لأسباب عديدة ومختلفة، منها إعلاء أولوية مكافحة الإرهاب ونقل تقنيات التجسس إلى الدولة دون ضمان توفر إطار عمل قضائي وقانوني مناسب.
لقد تم عقد مناقشات أقل حول آثار الجهود المدعومة دولياً لإصلاح مفاهيم الإدارة الشرطية في العالم العربي، رغم أن هذه الجهود قائمة منذ عقد الألفية. ولقد تكثفت هذه الجهود منذ 2011، مع تقديم الانتفاضات العربية للأطراف الدولية فرص جديدة للدخول إلى المنطقة ومثلت لها مخاطر جديدة فيما يتعلق بانهيار وتحلل الدولة. فتحت تونس وليبيا مساحات جديدة، وتم تأكيد إصلاح الشرطة كأحد ملفات بناء الدولة.
مشاريع الإصلاح الدولية هذه (ممولة من قبل الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وهيئات الأمم المتحدة) تروج لنماذج من الإدارة الشرطية تركز على منظور الأمن الإنساني، مع الالتزام بأن يكون الأمن مراعياً لمختلف المجتمعات، وأن يكون حساساً ومراعياً لاحتياجات المرأة، وأن يحترم سيادة القانون. ولقد صادفت جهود دعم الإصلاح الدولية بعض النجاحات اللافتة، منها على سبيل المثال دعم بريطانيا لدائرة الأمن العام الأردنية، والإدارة الشرطية بمخيمات الزعتري والأزرق للاجئين. اشتمل هذا على الاستعانة بمقاربة الإدارة الشرطية التي تركز على المجتمع، مع تجنب الإفراط في الانتشار الأمني بالمخيمات. بحلول عام 2013، كان أكثر من 140 ألف لاجئ قد احتموا بمخيم الزعتري، فثارت مشكلة الأمن في المخيم. اندلعت التوترات بين المسؤولين الأردنيين الذين حاولوا استرداد السيطرة على المخيم، وسكان المخيم السوريين، في صورة مصادمات بين الشرطة والسكان في أبريل/نيسان 2014، ما جعل بعض مناطق المخيم غير آمنة على رجال الشرطة. أثارت هيئات وطنية ودولية مخاوفها حول السلامة والأمان لسكان المخيم. بدعم من بريطانيا، اعتمدت الشرطة الأردنية مقاربة تصالحية تركز على الإدارة الشرطية المجتمعية، مع بناء علاقات إيجابية مع السكان، والسماح لهم بتخفيف التوترات والحيلولة دون نشوب مشكلة أمنية خطيرة. يمثل هذا اختلافاً ملحوظاً مقارنة بما ربما كان ليحدث إذا كان الحل المطروح هو التأمين المفرط للمخيم بالطريقة التقليدية.
لا شك أن الجهود الدولية كانت لها حدودها. إذ كان يجب أن تتم بموافقة الإدارات المضيفة لها، وهو الأمر الذي تطلب عادة التفاوض على المطامح، والرضا بما يمكن تحقيقه عملياً. كما أنه من المهم للغاية التشديد على أن الجهود الدولية لا يمكنها أن تصادف النجاح إلا في الحالات التي هيأت فيها الحركات الوطنية للتغيير المساحة لهذا الإصلاح من الأساس. كما أن أعضاء فريق المشروع الدولي الذين يعملون بملفات الإصلاح هم عموماً غير معرضين للمخاطر التي يواجهها نظرائهم الإقليميين.
كما تميل الجهود الدولية إلى تحييد أو تهميش، أو حتى تجاهل، الفاعلين غير الرسميين وغير التابعين للدولة الذين يبذلون جهوداً معقولة لتوفير الأمن، من أجل دعم سمو الدولة على الأطراف الأخرى في العمل الشرطي، واحتكارها لهذا النشاط. هذا يتفق مع افتراضات الأطراف الدولية العامة حول كون الدولة هي الكيان الذي يحقق المصالح الفضلى للناس في المنطقة، فضلاً عن تحقيقها لمصالحهم الدولية. كيف يتحقق التوازن بين هاتين المجموعتين من المصالح؟ يختلف هذا بحسب الأطراف الدولية المعنية وبحسب برامجها المقدمة للدولة المستفيدة. على جانب، يمكن أن تؤدي جهود الإصلاح إلى تحسن الوضع الأمني للمواطنين، وفي ظروف أخرى يمكن للدعم بنيّة حسنة للشرطة أن يؤدي إلى تدهور الوضع بالنسبة للمواطنين. إن انتقاد منصف كارتاس للدعم الدولي للإصلاح في قطاع الأمن التونسي يشتمل على كيف أسهمت هذه الجهود في تعزيز استقلالية الشرطة ومن ثم قللت من درجة خضوعها للمساءلة، ما أدى أيضاً إلى ترسخ الإفلات التقليدي من العقاب الذي كانت تتمتع به الشرطة من قبل.
إلا أنه وفي حالات عديدة، كان التوازن الذي أتاحته الجهود الدولية في ملف الشرطة بين مصالح الفاعلين الأجانب ومصالح المواطنين، كان معقداً لدرجة يصعب فهمها. على سبيل المثال، فإن المشاركة الألمانية في إصلاح القطاع الأمني التونسي تعزز كل من الإدارة الشرطية الجيدة، وزيادة الانتشار الأمني المفرط على الحدود التونسية معاً، وهما الأمران اللذان عادا بآثار إيجابية وسلبية على التونسيين.
ماذا بعد؟
الإدارة الشرطية في العالم العربي متنوعة للغاية. ولقد تبين منذ عام 2011 أن أنماط التنازع حول الشرطة والإدارة الشرطية كانت متنوعة كثيراً بدورها، ما أدى إلى درجات متفاوتة من النجاح في تلك الجهود للإصلاح. لم ينجح التنازع عبر الحشد الجماعي إلا في الحالات التي حدثت فيها بعد الاحتجاجات إصلاحات مؤسسية. وبالمثل، فإن التنازع عبر الإصلاح المؤسسي كان عملية بطيئة وصعبة. وفيما يتعلق بالتهجين الأمني، اتضح أن الأطراف الأمنية غير التابعة للدولة تتعاون مع الهيئات الشرطية وتتحدّاها في الوقت نفسه، وكذا الأمر بالنسبة إلى تبنيها وتحديها للمفاهيم التقليدية بمجال الإدارة الشرطية. كما تبين انتشار مركزية وأهمية مفهوم "أمن الدولة" عبر المنطقة، في ظل وجود بعض الاستثناءات.
على ذلك، فإن مختلف الجماعات بالمنطقة مستمرة في العمل بهمة لتغيير النظرة إلى الإدارة الشرطية وتغيير العمل الشرطي: هناك أنماط تنازع أخرى لم تذكر هنا، ومنها التنازع القضائي (عبر عمليات العدالة الانتقالية في تونس)، والتنازع العملي مع تشكيل نقابات للشرطة في مصر وتونس. إن تنوع أشكال وأنماط التنازع – والجهود والتضحيات التي تجسدها – يجب أن يشجع الفاعلين على الأرض لكي يستمروا، ومعهم الأطراف الدولية. إن إصلاح الشرطة عملية بطيئة وصعبة، لكنها عظيمة الفوائد. لقد مرت تسع سنوات منذ 25 يناير/كانون الثاني 2011، لكن التجربة القائمة في شرق أوروبا – في كوسوفو والبوسنة والهرسك، حيث اشتبك المجتمع الدولي بالإصلاح بشكل مكثف – توحي لنا بأن الأمر سيستغرق عشرات السنين.
إن البيانات المتوفرة بمجال الإدارة الشرطية بالعالم العربي – وفهم هذا المجال – قليلة ونادرة، وهو الوضع الذي يسلط الضوء على أهمية هذا الموضوع لسكان المنطقة والمجتمع الدولي، ويسلط الضوء على أهمية إجراء المزيد من البحوث. ثمة حاجة إلى بحوث أكثر بكثير بمجالات تشمل السعي لفهم تجربة ضباط الشرطة أنفسهم. تتطلب هذه النقطة بحوثاً إضافية كثيرة، إذ أن فهم هذا المنظور مهم لتغيير السلوك: إذا أردت أن يغير ضابط الشرطة من طريقة عمله، فمن الضروري معرفة دوافعه وما يقيده من مشكلات وتحديات. إن المناظير التي تُخرج ضباط الشرطة من الأطر التقليدية بصفتهم "منفذين للظلم" أو "شركاء أمنيين" للدولة وتضعهم في أطر اجتماعية وسياسية أعرض، هي مناظير مطلوبة بشدة. في حين أن هذه الورقة قد عالجت موضوعها الذي يركز على الشرطة والإدارة الشرطية من زاوية ضيقة، ما يعني عزل هذه القضية إلى حد ما؛ فهناك أيضاً حاجة إلى بحوث تضع أمن الدولة في سياقات الإدارة الشرطية الأعرض والأوسع.
يتناول الجزء الثاني المعوقات والمصالح المُعارِضة التي تعيق إصلاح الشرطة في العالم العربي، ويبحث في التوجهات المستقبلية الخاصة بالجهود الإقليمية والدولية.
*أليكس والش (يتقدم المؤلف بشكر خاص إلى د. فلورنس غوب من معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية، على ما قدمت من دعم في تطوير هذه الأفكار).
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.