بتاريخ 17 كانون الأول/ ديسمبر 2015، أُبرِم اتفاقٌ سياسيٌّ بين الفرقاء الليبيّين برعاية الأمم المتَّحدة في مدينة الصخيرات بالمملكة المغربية. وبقدر ما لاقى هذا الاتّفاق من ترحيب ودعم دولي، لاقى أيضاً معوقاتٍ داخليّة كادت أن تَعصف به، خاصة ما يتعلّق بالمادة (8) من الأحكام الإضافية للاتّفاق السياسي. وهي مادّة تَنقل كافّة المناصب العسكريّة إلى مجلس رئاسة الوزراء المشكّل اسِتنادا للاتِّفاق المذكور، الأمر الذي وجد اعتراضاً من مجلس النواب الليبي وتحفُّظاً على هذه المادّة، كما وجد معارضة على الأرض ممّن يُعرف بالجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر.
وبسبب حالة الجمود التي صاحبت وماتزال التسوية السياسية المُشار إليها، قام د. غسان سلامة، ممثِّل الأمين العام الجديد ورئيسُ بعثة الأمم المتّحدة للدعم في ليبيا، بتقديم خطّة تتبنّى الاتِّفاق السياسي الليبيّ كإطار عام، وتقدِّم دفعاً لحلحلة الجمود القائم والمضيِّ قدُماً في سبيل ايجاد حلّ للأزمة الليبية.
تنقسم خطّة العمل من أجل ليبيا التي أطلقها د. غسان سلامة في نيويورك شهر أيلول/ سبتمبر 2017 إلى ثلاثة مراحل:
- تعديل الإتفاق السياسي الليبي (اتّفاق الصخيرات) استناداً للمادة 12 منه (الأحكام الإضافيّة) عن طريق التوافق ما بين مجلسي النواب والدولة .
- المؤتمر الوطني الجامع.
- إقرار الدستور وإصداره وإجراء انتِخابات تشريعية ورئاسيّة استناداً إليه.
وخلال الشهرين الماضيين (أيلول/سبتمبر- تشرين الأوّل/أكتوبر) شُرِع إلى تنفيذ المرحلة الأولى، وذلك بتطبيق المادة 12 من الاتفاق السياسي. وعُقدت لهذه الغاية اجتماعات لما عُرف بلجنة الصياغة المكوّنة من ثمانية نواب عن كلّ مجلس (النوَاب/ الدولة). جرت تلك الاجتماعات في مقرّ البعثة الأممية بتونس وبحضور رئيسها واستمرّت حوالي الشهر. إلّا أنّها لم تُسفر عن نتيجة، وبالتحديد لم تُصدر مسوَّدة بالتعديلات الواجِب اجراؤها على الاتِّفاق السياسي ومن ثَمَّ لم يجرِ التصويتُ عليها كما كان متأملاً من المجلسَين، ولم يَصدر تعديل دستوري بها.
لذا، ورغم أن محاولاتٍ محدودةً ما تزال قائمة للوصول إلى توافق حول مواد معيّنة في الاتفاق السياسي لتعديلِها، إلا أنه من الواضح أن هناك صعوبةً في الوصول إلى هذا التوافق ما بين مجلسي النواب والدولة. لذا فمن المتوقع، في حالة عدم تحقق المرحلة الأولى، تجاوزُها والإنتقالُ إلى المرحلة الثانية أي انعقاد المؤتمر الوطني الجامع الذي لم تُفصِّله خطة العمل، والذي ما يزال – على ما يبدو – في طور التفكير والتنفيذ. لذا، وفي ظلّ المعطيات القائمة وعدمِ تمكّن مجلس النواب ومجلس الدولة من التوافق حول التعديلات المطروحة على بعض نصوص اتفاق الصخيرات، يبدو من الضروري النظرُ إلى أبعد من ذلك وهو الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة العمل دون تحقُّق المرحلة الأولى.
احتمالات فشل المرحلة الأولى
- من المهم توقُّع فشل المرحلة الأولى من خطة العمل، وفي هذه الحالة ألّا يتمُّ تجاوزها وكأن شيئاً لم يكن. فالحقيقة التي يجب مواجهتها هي عجز كل من مجلس النواب ومجلس الدولة، حتى هذه اللحظة، على التوافق والتفاهم من أجل صياغة تعديلات على الاتفاق السياسي. وهو أمر جَلَل لسبب رئيسيّ، ألا وهو أنّ الاتِّفاق السياسي الليبي يقوم أساساً على التوافق ما بين مجلسَي النوّاب والدولة، بل إنَ المرحلة الانتقاليّة لن تنتهي إلا بتسوية ما بين هذين المجلسين من اختلافات حول مشروعَي قانونَي الاستِفتاء على الدستور والانتِخابات بناءً على الدستور.
- لقد وصف الاتّفاق السياسيّ مجلس الدولة على أنه مجلس استشاري، إلا أن العِبرة في الحقيقة تكمن بإختصاصات هذا المجلس. وإن نظرنا في الاتفاق السياسي، تبيّن أن مجلس الدولة يمارس اختصاصات مهمة تجعل منه شريكاً لمجلس النواب، وأن الاتِّفاق السياسيّ في حقيقته قد سحب الإختِصاصات التنفيذيّة من مجلس النواب ومنحَها للسلطة التنفيذية الجديدة (حكومة الوفاق الوطني التي تضمُّ مجلساً رئاسياً وعدداً من الوزراء)، لكنّه أيضا حدَّ من اختِصاصات مجلسِ النوّاب التشريعيّة في مواطن عدّة وجعلها رهينة للتوافق مع مجلس الدولة. لذا فالعمود الفقري للاتِّفاق السياسي هو "التوافق المؤسساتي" ما بين مجلس النواب من جهة ومجلس الدولة من جهة أخرى.
- يكفي الإشارة للموادّ التالية في الاتِفاق السياسيِّ الليبيِّ (10، 15، 19/2، 22/2، 23/1-2، 50، 52، 3 و4 و5 و13 من الأحكام الإضافية) لمعرفة مدى عمق العلاقة المفترَضة بين المجلسَين من أجل استئناف عمليّة المسار الديمقراطي، وتحريك عجلة إدارة الدولة للوصول إلى بر الأمان.
- لذا، فإنّ فشل مجلسي النواب والدولة من أول الطريق في التوافق حول تعديلات محدودة على نصوص الاتفاق السياسي يشكِّلُ مؤشّراً خطيراً يتوجّب الوقوف عنده، قبل الولوج إلى المرحلة الثانية (مرحلة المؤتمر الوطني الجامع)، كما يجب أن يؤثر هذا الفشل في استراتيجية تشكيل واختصاص هذا المؤتمر والنتائج المؤملة منه.
ويمكن القول إن عدم نجاح المرحلة الأولى يعني صراحة أنه لا مجال لتطبيق الاتفاق السياسي الليبي، وذلك لاستحالة استخدام آلية التوافق التي فشل المجلسَين في تطبيق أبسط صورها في مرحلة أولية ولأسباب عدة سبق أن تطرقنا لها في مقالة سابقة، وأهمُّها الحاجة المُلِحّة لعملية إصلاح تُعزز الديمقراطية للمجلسين.
بإختصار، من الضروري أن تُطرح تبعات هذا الفشل، وأن يتمَّ وضع كلّ من مجلس النواب ومجلس الدولة أمام مسؤوليته عند النظر للمرحلة الثانية ومواجهتها.
التبعات في حال فشل المرحلة الأولى
- ضرورة مراجعة نصوص الاتفاق السياسي
تعجّ نصوص الاتفاق السياسي بالتوافق المؤسّساتي ما بين مجلسي النواب والدولة، وتستلزم كثير منها توافق المجلسين للسير قدماً وتحريك المسار الديمقراطي بهدف الوصول إلى نهاية للمرحلة الانتقالية وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية. بالإضافة إلى ذلك، يتوقف مقياس نجاح خطة العمل المعروضة ذاتها على إصدار دستور للبلاد خلال سنة، بعد عرضه على الاستفتاء، وإجراء انتخابات تأسيسا على الدستور المقبل. لذلك، يفترض أن يتوافق كل من مجلس النواب ومجلس الدولة على كلّ الإجراءات، وتحديدا التشريعات التي تلبي هذه المرحلة.
ولما آل الاختبار الأوّل لكلٍّ من مجلسَي النوّاب والدولة في عمليّة التوافق المبدئيّة بالفشل حتى الآن، فإن هذا مؤشِّر حقيقيّ لفشل عمليّة التوافق في تطبيقِ نصوص الاتِّفاق السياسي التي تتطلَّب توافقاً ما بين المجلسَين. فمن الواضح أنّ عجلة تنفيذ الاتفاق السياسيّ لن تدور وأن موضوع التوافق المؤسّساتي ما بين المجلسين لن يكون. وعليه فمن الضروري القيام بمراجعة حقيقيّة للنصوص التي تتطلَّب توافقاً بين المجلسين، بل وقد يذهب التفكير إلى أبعد من ذلك كما سنبيّن أدناه.
- في المراحل اللاحقة: المؤتمر الوطني الجامع والمرحلة الدستورية
سبق وأن بينا في دراسة سابقة أنه لا سبيل للسير قُدماً بمؤسستَين تحتاجان لإصلاحات داخليّة جديّة ألا وهما مجلسَي النواب والدولة واللذان يَنطبق عليهما وصف السيد غسان سلامة في إحدى مقابلاته، بأن هناك مؤسسات في ليبيا "مختطفة من القيِّمين عليها يجب تحريرُها". ينطبق هذا الوصف على كلٍّ من المجلسين، الرئاسة فيهما أصبحت محلَّ مساوَمات سياسيّة مكشوفة للوصول إلى مناصب أعلى مقابل التعديلات المطلوبة في المرحلة الأولى. بالإضافة إلى ذلك، أخفق هذان المجلسان في الإصلاح الداخلي. تمثَّل إخفاق مجلس النواب في عدم قدرته على العمل وتحقيق نتائج بل حتى في الوصول إلى النصاب المطلوب في اجتماعاته وانسلاخ نوّابه عن دوائرهم من جهة. وأخفق مجلس الدولة في تشكيله بطريقة غير قانونية ومخالفة للاتّفاق السياسي الذي أنتجه، ممّا يعرضه للطعن في تشكيله أمام القضاء الدستوري في أي وقت. إخفاق كهذا يجعل من المستحيل الإعتماد على المجلسين بحالتيهما الراهنة للسير قدماً في خطة السيد سلامة.
نضيف إلى ذلك غياب النوايا الحسنة والمبادرة، فليس هناك ما يمنع من إجراء لقاءات واجتماعات وحوار بين المجلسين تطبيقاً للمادّة 12 من الأحكام الإضافيّة للاتِّفاق السياسي الليبي دونما حاجة لأن تتوقَّف على دعوة بعثة الأمم المتحدة في ليبيا. كِلا المجلسين متواجدان على أرض واحدة – ليبيا، وكان من الممكن الاعتماد على حسن النوايا والمبادرة لإنقاذ الوطن، والإستمرار في الاجتماعات واللقاءات بغية الوصول إلى حلول للبلد المنهك والذي يُشارف على الإفلاس.
لكن هذه المواقف المتصلِّبة إنَّما تنبئ عن صعوبة تطبيق مبدأ التوافق المشترَط في الاتفاق السياسي. لذا فإن عدم إصلاح بُنى هاتين المؤسستين، من خلال ضمِّ المقاطِعين وتعديل البناء واللوائح الداخلية واجراء انتخابات جديدة للرئاسة والشروع في العمل بشكل جدي. ويستدعي هذا الأمر مراجعة الخطة المرسومة للمرحلة الثانية وعدم الإعتماد المطلق على هاتين المؤسّستين، واعادة النظر في الاختِصاصات الموكَّلة اليهما استنادا للاتفاق السياسي الليبي، وعدم ترك أمر هذه المرحلة بين أياديهم بدءً وانتهاءً. وفي هذا الصدد نقترح ما يلي:
- التوسع في المؤتمر الوطني الجامع وتحجيم دور مجلسَي النواب والدولة ما لم يسارعا بالإصلاح البنيوي والقانوني ويُجريا انتخاباتٍ نزيهةَ وشفافة ويبادرا بالتوافق الحقيقي ويثبتان ذلك.
- إدراك أهمية التمثيل في هذا المؤتمر ووضع المعايير اللازمة لذلك، بعد تحديد اختصاصات وأعمال هذا المؤتمر والإعلان عنها والتشاور الموسع بشأنها.
- الاستعانة بلجنة للخبراء الليبيين يكون دَيدَنُها الكفاءة والاستقلالية والنزاهة وليس المحاصصة، وتعمل تحت إشراف بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، تواكِب سيرَ المؤتمر ولا تكون جزءًا منه، تُفرِّغ نتائج المؤتمر إمّا من خلال صياغة تعديل للاتِّفاق السياسيِّ الحالي، أو وضع ميثاق وطني جديد. على أن يُعرض هذا الأخير على الاستفتاء الشعبيّ ويكون دستوراً للمرحلة الانتقالية المقبلة.
- محاولة الاستفادة من مشروع الدستور المعروض، من خلال ضغط المؤتمر الوطني الجامع – إن رأى ذلك – على مجلسِ النواب لعرضه على الاستفتاء بقانون استفتاء يمكّن من فتح الطريق لإعادة مشروع الدستور إلى الهيئة التأسيسيّة لصياغة مشروع الدستور تطبيقا للمادة (30/ بند 12) من الإعلان الدستوري الليبي لإجراء المزيدِ من التوافق حوله. وتقوم لجنة الخبراء بإعداد مشروع قانون الاستفتاء بهذا الغرض.
توصيات
- يجب أن لا تمرَّ واقعة عدم تحقق المرحلة الأولى من خطة العمل من أجل ليبيا مرور الكرام ودون إعادة نظر، بل يجب أن يوضع المتسببون في هذا الفشل، أي مجلسي النواب والدولة، أمام مسؤولياتهم، كما أنه على بعثة الأمم المتحدة أن تأخذ هذه الواقعة السلبية – في حال تحققها – بعين الإعتبار وأن تؤسّس عليها للمرحلة التالية، من أجل تفادي أخطاء المرحلة الأولى وأهمها عدم قدرة المجلسين على الإصلاح والعمل وعدم امكانية الإعتماد عليهما فعليا في هذه الخطة.
- يستتبع فشل المرحلة الأولى، إعطاء العناية الفائقة للمرحلة التالية (المؤتمر الوطني الجامع)، خاصة في مسألتي التمثيل والاختصاص والتشاور ومشاركة أهل التخصص والخبرات. من الضروري اعتماد المهنية للعودة باتفاق الصخيرات إلى القواعد العامة للنظم الدستورية وقد فشلت محاولات الموائمة ما بين مؤسَّسات القانون والواقع. كما أنه من المهم اعتماد مبدأي الشفافية والمشاركة الشعبية والاستفتاء لأية مخرجات تصدرعن هذا المؤتمر العام الجامع.
- إن وقفة جادة يجب أن تولى للاتفاق السياسي دون تعصُّب، وهو اتفاق ذو طبيعة خاصة، وتصميم خاص للحالة الليبية، ويغلب عليه الطابع السياسي ولا يخضع لمعايير نظم الحكم المتعارف عليها، ولئن تبّيَّن عدم امكانيّة تطبيقه لقصور فيه أو في أدواته، قد يكون المؤتمر الوطني الجامع فرصةً لإعادة تقييمه وتعديله. كما وأنه من المهم النظر في مبادرات أخرى قد تكون مخرجاً من هذا النفق تمَّ عرضها بالخصوص.
- يجب أن تكون "المصالحة الوطنية" أساس المؤتمر الوطني الجامع وركيزته وهدفه، سواء من حيث التمثيل أو الاختصاص، ويجب أن يعلن عن ذلك. ثمة أمرٌ آخر من الضروري تفاديه: أن يتحوَّل المؤتمر الوطني الجامع إلى طاولة لتقسيم المناصب، وأن ينصب على تعيين السلطة التنفيذية وهي الصخرة التي تسببت حتى الآن في عدم تحقق المرحلة الأولى. كما يجب التفكير جديا في عقد هذا المؤتمر في ليبيا، كي يعطى الزخم والجدّيّة والمشروعيّة والاستمراريّة المطلوبة.
- من المهم أن يكون أحد عناوين المرحلة التالية هو التعامل بجديّة مع مشروع الدستور الصادر عن الهيئة التأسيسية لصياغته، بإعتباره أحد مخرجات المرحلة الانتقالية، واقحام الهيئة وأعضائها في المؤتمر الوطني الجامع وإيجاد مخرجٍ لمزيد من التوافق حول مشروع الدستور.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.