ملخَّص
أثبت المثال السوري النتيجة الكارثية لمسار “أسلمة الثورة”، بالتجربة العملية للجماعات الإسلامية المسيطرة. صعود هذه الجماعات اتّكأ على فاعليتها العسكرية، وتغلغلها في المجتمعات المحلّية بالعمل الدعوي، والاهتمام بالجوانب الخدمية في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد. لكنّ عاملاً لا يقلّ أهمّية كان حاسماً في تقبّل الناس لها، هو استحواذها على مشاعر فئات من “الجمهور المؤمن” وأفكاره، عبر تصوير نفسها الأمينة على الدين/الإسلام، وأن مشروعاتها تجسيدٌ له.
مشروعها التسلّطي الظلامي بدأ يتكشّف للناس، نتيجة ممارساتها في مناطق سيطرتها، والكثيرون ممن خُدعوا بكثافة الحمولة الدينية لخطابها راحوا ينفضّون عنها. لكنّ المسألة التي يجب التأكيد عليها، وأن يتنبّه لها “الجمهور المؤمن”، هي أنّ المشكلة ليست في هذا التنظيم أو ذاك و”التطبيق الخاطئ” أو “فساد القادة” فحسب، بل في جوهر أي مشروع يمزج الدين بالسياسة.
والكثير مما تقوم عليه إيديولوجيات الحركات الإسلامية كخلفية دينية لمشروعها السياسي، وتفرضه على الناس بزعم أنّه من النصوص الدينيّة؛ يأتي معظمه من تراثٍ كتبه بشرٌ معلومون في ظروف تاريخية محدّدة. فلا يعدو كونه آراءً واجتهاداتٍ تخصّ أصحابها، وفقاً لفهمهم الخاص، أو لأغراض مصلحيّة، وليس لها ما للنص الديني من قوّة ملزمة عند المؤمنين. والأهمّ أنّ جزءاً منها يعود إلى “الآداب السلطانية”.
أخيراً، تنطوي السياسة على صيرورة تغيّر وتطوّر مستمرّة، مقابل ما يتّسم به الدين من ثبات في أحكامه ومرجعياته المعرفية، فكيف يمكن لما هو ثابت في جوهره (الدين الإسلامي) تقديم القواعد والحلول في ميدان معرفي وعمليّ، متجدّدٍ ومتنوعٍ في بنيته وآليات تشكّله ومواضيعه كالحقل السياسي. ما لم يقرّ الإسلاميون بهذه الحقيقة، وأنّه يتعذّر خوض غمار عالم السياسة النسبي بدلالة المطلق، أي الدين؛ فسنبقى ندور في حلقة مفرغة، نستبدل مستبدّاً بآخر.
اقرأ المزيدخلال سنوات "الربيع العربي"، تصاعد دور الحركات الإسلامية عموماً، ونسخها الجهادية الأكثر تطرفاً بوجه خاص، ممّا أثّر سلباً في اتّجاهات التغيير، على الأقل حتى الآن، في معظم بلدان "الربيع العربي". وأسهم في تعطيل ممكنات التحوّل الديمقراطي، الذي نشدته الشعوب المنتفضة ضدّ الاستبداد. فالتنظيمات الإسلامية كانت، بصور مختلفة، من أسباب استمرار نظامٍ مستبدّ هنا، وإعادة إنتاج آخر هناك.
في المثال السوري برهانٌ ساطعٌ على المحصّلة الكارثية لمسار "أسلمة الثورة"، فالتجربة العملية للجماعات الإسلامية المسيطرة، بعناوينها المختلفة، (تنظيم الدولة، جبهة النصرة، أحرار الشام، جيش الإسلام، إلخ) مع فروق نسبية في درجة عسفها وتسلّطها لا في جوهره؛ كشفت عن نماذج من الاستبداد السياسي والاجتماعي، في مناطق سيطرتها كافّة، فاستبدلت استبداد النظام باستبدادها هي.
اتّكأ صعود هذه التنظيمات بدايةً على فاعليتها العسكرية في مواجهة النظام، ثمّ تغلغلت في المجتمعات المحلّية عبر العمل الدعوي المنظم، والاهتمام ببعض الجوانب الخدمية في المناطق الخارجة عن سيطرة سلطة الأسد. ساعدها تمويلها الجيّد، عن طريق التبرعات و"الغنائم"، وبعض الموارد الاقتصادية والأنشطة التجارية التي وضعت يدها عليها. غير أنّ عاملاً آخر لا يقلّ أهمّية عن كلّ ما سبق، نفترض أنّه كان حاسماً في تقبّل الناس لتلك الجماعات والترحيب بها؛ هو استحواذها على مشاعر فئات واسعة من "الجمهور المؤمن" وأفكاره، عبر تصوير نفسها الأمينة على الدين/الإسلام، وأن مشروعاتها وبرامجها تشكّل تجسيداً له.
صحيحٌ أن مشروعها التسلّطي الظلامي بدأ يتكشّف للناس منذ حين، نتيجة ممارساتها في مناطق سيطرتها، وأنّ كثيرين ممن خُدعوا سابقاً بكثافة الحمولة الدينية لخطابها وشعاراتها راحوا ينفضّون عنها؛ لكنّ المسألة التي يجب التأكيد عليها، ويفترض أن يتنبّه لها "الجمهور المؤمن"، هي أنّ المشكلة ليست في هذا التنظيم أو ذاك و"التطبيق الخاطئ" أو "فساد القادة" فحسب، بل تكمن في جوهر أي مشروع يمزج الدين بالسياسة. وهذا ما تنشغل الورقة به كمحاولة لفكّ الارتباط المصطنع بين الطموحات السلطوية للتنظيمات الإسلامية والدين، وتعرية ما هو سياسيٌّ وتاريخيٌّ من التراث لا صلة له بالدين ويغلّفه خطابُها بالدين، لإضفاء شرعيّة دينية على مشروعها السياسيّ.
تسييس الدين:
يرفض الإسلاميون من مختلف المشارب فصل الدين عن السياسة، حيث أنّ مشروعاتهم بالرغم من تنوّعها الظاهري وما تنطوي عليه من تباين الأولويات واختلاف في الخطط المرحلية وبعض التفاصيل الفقهية؛ فإنّها جميعاً تصدر عن رؤية ثابتة للإسلام، تعتقد بشموله كافة مناحي الحياة وشؤون البشر، فهو عندهم "دين ودولة". لذلك لا يعترفون بأي تقسيم يفضي إلى التمييز بين أمور الدين وأمور الدنيا، ولا يقرّون مطلقاً بأن يقتصر مجال الدين على شؤون العبادات والمسائل الروحية وحيّز الإيمان الشخصي.
ومعلومٌ أنّ الشيخ حسن البنّا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، كان أوّل المنظّرين في هذا الاتّجاه في العصر الحديث، حيث كان الجانب السياسي "قبل دعوة حسن البنا وقيام مدرسته بعيداً عن اهتمام الجماعات الإسلامية، وخارج نطاق نشاطها وتفكيرها". وهو القائل: "الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف"، فالبنّا وجماعته (الإخوان المسلمون)، هم من وضع الأسس التي قام عليها "الإسلام السياسي"، وطريقة تقديمهم للإسلام وأفكارهم تلك، شكّلت الرحم الدافئ الذي فرّخ لاحقاً الحركات الجهادية.
ومن الجدير ذكره، أنّ جماعات "الإسلام السياسي" لدى الشيعة والسنة على السواء، ورغم كلّ ما بين الفريقين من خلافات عقائدية وما يقومان به من تسفيه وتكفير متبادل كثيراً ما بلغ حد الاقتتال الطائفي؛ لكنّهم على قلب رجل واحد عندما يتعلق الموضوع بتسييس الدين وتديين السياسة، ويحاججون بالمنطق ذاته الذي يمزج الحقلين معاً.
الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس "الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين"، وأحد الشخصيات الإسلامية السنّية والمرجعيات الإخوانية البارزة، يؤكّد أنّ "الإسلام يرفض التقسيم المستورد للناس والمؤسسات إلى ما هو ديني، وما هو غير ديني. فلا انقسام للناس ولا للتعليم ولا للقوانين ولا للمؤسسات، فكلها يجب أن تكون في خدمة الإسلام. وتقسيم شؤون الحياة إلى ما هو ديني، وما هو غير ديني، تقسيم غير إسلامي، بل هو تقسيم مستورد، مأخوذ من الغرب النصراني. وما نراه اليوم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من تقسيمات للحياة، وللناس، وللمؤسسات، إلى ديني، وغير ديني، ليس من الإسلام في شيء".
يتطابق "الإسلام الشيعي" مع شقيقه اللدود، "الإسلام السني" برفضهما القاطع فصل الدين عن السياسة، فضلاً عن تشاركهما القول بشموليّة الإسلام واندراجه في كافة مناحي الحياة. فالمرجع الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله، على سبيل المثال، ورغم معارضته تولّي "الولي الفقيه" الولاية السياسة العامة وفق النموذج الخمينيّ وتبنيه الرأي القائل بتقييد صلاحياته؛ فإنّه أكّد استحالة الفصل بين الدين والسياسة، بقوله: "لا يمكن أن يكون هناك دين بدون سياسة، لأن القيم الدينية ليست شيئاً معلّقاً في الهواء، وإنما هي شيء يعيش في عقل الإنسان وقلبه وحركته، يمثل في الواقع، ولذلك فإن ديننا سياسة وسياستنا دين". يُذكر أنّ فضل الله كان من أهم المراجع الدينية لأحد أبرز عناوين الإسلام السياسي الشيعي: "حزب الله".
ولمّا كانت هذه التنظيمات تسعى لبثّ دعايتها ونشرها في أوساط المسلمين الأكثر التزاماً، الذين يشغلُ الدّين حيّزاً مهمّاً من وعيهم، فهي تعمل على استغلال ما للدين من سلطة لدى المؤمنين، بهدف التأثير على الخيارات السياسية لهم، تحت مسوّغات وذرائع يغلّفها الدعاة بفتاوى يرافقها زخرف الكلام الديني المنمّق. ويبلغ الأمر مداه مع "التكفير" الذي يحصل أن يُمارَس ضدّ بعض الخصوم السياسيين، كما ضدّ فئات إسلامية أخرى منافسة، حتى يكاد البعض يتوهّم أن الموقف السياسي بات جزءاً من التديّن. فهل يكون الزجّ بالدين في حلبة الصراعات السياسية شأناً دينيّاً حقاً؟
الجذر "السلطاني" لتسييس الدين:
إنّ كثيراً من الأسس التراثية التي تقوم عليها إيديولوجيات الحركات الإسلامية، وتعيد إنتاج مقولاتها جاعلةً منها خلفية دينية لمشروعها السياسي، والذي تريد فرضه على الناس بزعم أنّه نابع من النصوص الدينيّة ومنسجم معها؛ يأتي في معظمه من تراثٍ فقهي كتبه بشرٌ معلومون، في سياقات وظروف تاريخية محدّدة. فهذا التراث لا يعدو أن يكون آراءاً أو اجتهاداتٍ تخصّ أصحابها، وفقاً لفهمهم الخاص للنصوص، أو لأغراض مصلحيّة معيّنة، وبالتالي ليس لها ما يُفترض أنّه للنص الديني من قوّة ملزمة عند المؤمنين به. والأهمّ من ذلك، أنّ جزءاً غير يسير منها لا ينتمي إلى "المدوّنة الفقهية" بل إلى ما يُعرف بـ"الآداب السلطانية".
و"الآداب السلطانية" تلك، كانت ترسم ملامح تصوّرات سياسية مرتبطة أساساً بمجال الدولة والسلطة. وعلى الرغم من استعانتها بمعطيات متعددة من الأنماط الفكرية الإسلامية القريبة منها؛ فهي قد نشأت في سياق تاريخي سياسي محدد، وكانت بهدف إنجاز مهام إيديولوجية مضبوطة، ضمن دائرة الفضاء السياسي الإسلامي، وفي أجواء الصراعات التي كانت تجري داخله. فالمبدأ الذي يزاوج بين المُلك والدين، (أي بين السياسة والدين بلغة اليوم)، هو من المبادئ العميقة المؤسسة لخطاب الآداب السلطانية. ويعود أصل هذا المبدأ إلى الكتابات الفارسية التي قدّمت تصوّراً لعلاقة السلطة السياسية، سلطة الملك والملوك، بالدين عموماً، والدين الوثني على وجه الخصوص، وهو ما تمّ تأويله واستبطانه في الخطاب السياسي الإسلامي بأشكال وتجليات مختلفة. هذا "التراث السلطاني"، ذو الأصل الفارسي و"الوثني"، هو (ويا للمفارقة) مصدر الكثير من الأفكار المفتاحية التي يقوم عليها خطاب الحركات الإسلامية، فكتب التراث زاخرة به، ومن معينه تنهل تلك الحركات أفكارها المؤسّسة.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي، في كتابه "إحياء علوم الدين": "اعلم أن الشريعة أصل، والملك حارس، وما لا أصل له مهدوم، وما لا حارس له فضائع". وفي كتاب "الفتاوى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها". ويقول الماوردي في "الأحكام السلطانية": "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا". وبالعودة إلى أصل تلك الأفكار، فهي منقولة عن نص فارسي بعنوان "عهد أردشير". وأردشير هو أحد ملوك الفرس، قام في القرن الثالث الميلادي بإخضاع الإمارات الفارسية المتفرقة، فوحّدها تحت حكمه وأسّس الدولة الساسانية، وكان مهتمّاً بالدين وأعاد إحياء الديانة الزرادشتية. ومما جاء في العهد: "اعلموا أنّ الملك والدين أخوان توأمان، لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أسّ الملك وعماده، ثم صار الملك يُعدّ حارس الدين. فلا بد للملك من أسّه، ولا بد للدين من حارسه، لأن ما لا حارس له ضائع وما لا أسّ له مهدوم".
هذه المزاوجة الفارسية بين الدين والسلطة اندرجت في متن التراث الإسلامي على يد عدد من الفقهاء المسلمين، الذين عملوا على تبيئتها إسلامياً في إطار خدمتهم للدّول السلطانية التي عاشوا في كنفها، فكانوا يكتبون تحت إشرافها وينظّرون لشرعيتها. وبات "الخليفة" –أو الإمام– "ظلّ الله في الأرض"، و"طاعته من طاعة الله". وقد وجدت الحركات الإسلامية في أدبيات ذلك الزمن ما يدعم مشروعها وينسجم مع رؤيتها، سواء تأسست نظرية السلطة لديها على "الإمامة" كما عند الشيعة، أو "الخلافة" كما لدى السنة.
نقض الإسلام السياسي:
إنّ السعي إلى بلوغ السلطة أو العمل على إقامة نظام حكم جديد، هو عمل سياسي بالضرورة، أياً كانت وسائل العاملين عليه ودوافعهم وغاياتهم والإيديولوجيات التي ينطلقون منها ويسعون إلى تطبيق مقولاتها. هذا ينطبق على الإسلاميين، سياسيين و"مجاهدين". ولمّا كانت السياسة شأناً بشرياً خالصاً، يرتبط بشؤون الحكم وتدبير أحوال الناس الدنيوية، وتنظيم العلاقات بين المحكومين والحكام، فضلاً عن علاقات الدول فيما بينها، وكل ما يتصل بذلك من أمور؛ فإنّ إكساء ذلك كلّه بلباسٍ دينيّ هو قسرٌ للشيء على غير ما هو فيه وإفسادٌ له. فالدين والسياسة كالزيت والماء، المزج بينهما يفسدهما معاً. وعندما تعيد السياسة صياغة الدين تجعل منه شيئاً آخر، كذلك الحال حينما يجري استخدام الدين لإعادة تشكيل السياسة، وهذا ما لا تكفّ الحركات الإسلامية المعاصرة عن فعله، منذ ظهورها قبل قرن من الزمن إلا قليلاً وحتى اللحظة.
والإخوان، كحالة نموذجية للإسلام السياسي، ويزعمون الاعتدال، لهم غاية أساسية أعلنها صراحة إمامهم المؤسس حسن البنا، في رسالة بعنوان "من هم الإخوان المسلمون"، وكرّرها بصيغ أخرى في غيرها: "نظام اجتماعي يتناول شؤون الحياة جميعاً اسمه (الإسلام) وبعث الأمة الإسلامية النموذجية التي تدين بالإسلام الحق، فيكون لها هادياً وإماماً، وتعرف في الناس بأنها دولة القرآن التي تصطبغ به والتي تذود عنه والتي تدعو إليه والتي تجاهد في سبيله وتضحي في هذا السبيل بالنفوس والأموال".
ولأنّ حضور النصوص الدينية (القرآن والحديث)، يأتي في سياق تبريري ليسند التراثيات الفقهية والسلطانية، فالإسلاميون يناقضون أنفسهم حتى عند القول بتمثيلهم "الدين"، ومن الصعوبة بمكان أن تلمس في طروحاتهم ومشروعاتهم نقاطاً محدّدة قابلة للضبط والقياس وفق معايير الأداء، فجلّها عبارات إنشائية ومبادئ عامة تفتقد لبنية نظرية متسقة تصلح لأن تترجم سياسياً.
سبق للفيلسوف كارل بوبر القول: "إن السلطات عندما تعارض المناقشة النقديّة المسبقة لبرامجها تحكم على نفسها بارتكاب الأخطاء بشكل مستمر وعندما تحظر الفحص النقديّ للنتائج العمليّة تحكم على نفسها بتفاقم الأخطاء إلى أن تعلن تلك الأخطاء عن نفسها بنفسها وأي مقاربة اجتماعيّة من هذا النوع هي مقاربات استبداديّة وغير عقلانيّة". وهذه بالضبط حال حركات الإسلام السياسي، ذلك أنّها حين تماهي بين مشروعاتها السياسية وبين الدين؛ إنما تغلق الباب أمام إمكانية النقد أو الاختلاف السياسي، بحيث تفترض أنّ كل نقد يوجّه إليها هو إساءة للدين، وهي نفسها لا تتحرّج من القيام بالفعل ونقيضه تبعاً للظرف السياسي، وتجد في الحالتين السند الشرعي. ومما يسهّل على الإسلاميين ذلك معرفتهم أنّ معظم ما يسمّى "أحكام الشريعة" هو نتاج فهم الفقهاء واجتهاداتهم، ما يعني أنّه تأويل من بين تأويلات عدّة محتملة، وهذا يفسّر وجود اختلاف في التفاسير والأحكام بين فقيه وآخر حيال مسألة واحدة، فلن يكون من الصعب سحب ذلك على السياسة والميل حسبما تميل الريح، "على بركة الله".
لقد كان عبد الرحمن الكواكبي، من أوائل المصلحين الذين أدركوا خطورة الخلط بين الديني والسياسي، حين ذهب إلى أنّ سبب ما أصاب العرب والمسلمين من تخلّف هو الاستبداد، الناجم عن وصاية الدين على السياسة. لذا ألحّ، منذ أواخر القرن التاسع عشر، على "التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم ولا يجوز الجمع منعاً لاستفحال السلطة"، وأوجز الحلّ بقوله: "دعونا ندير حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط".
خلاصة:
إن ما نشهده من خلط مفرط ومتعمّد، بين المجالين الديني والسياسي، على النحو الشائع في مختلف البلدان والمجتمعات العربية، هو من المعضلات الأساسيّة التي تعيق أيّة محاولة جادّة لإصلاح أحوال العرب والنهوض بهم، وكثيراً ما استخدمته نُظم الاستبداد كأحد الأساليب الناجعة في تأبيد حكمها، فضلاً عن كونه يشكّل التربة الخصبة التي استثمر فيها "الإسلام السياسي" بتلاوينه المختلفة، فأفسد السياسة وأساء للإسلام كما للمسلمين. وبالتالي، فإنّ الحدّ من هذه الظاهرة وتطويقها من خلال العمل الحثيث على تفكيكها وكشف حقيقة المشروعات السلطوية للتنظيمات التي تكرّسها، عبر ما تقوم به من ربط زائف بين مشروعاتها السياسيّة وبين الدين؛ هو مدخلٌ ضروريٌّ ولازم لأي مشروع إصلاحي أو تغييري في المنطقة العربية.
إنّ قطاعاً واسعاً من السوريين الخاضعين لحكم سلطات الأمر الواقع الإسلامية، قد أدركوا حقيقة المشروع التسلّطي لها، وزيف ادّعاءاتها الدينية، وكيف أنّ تغليب الشكل على المضمون كان دليلاً إضافيّاً على استخدامها الدين كوسيلة لتخدير بسطاء الناس وخداعهم بالقشور، لصرف أنظارهم عن ممارساتها العملية وغاياتها الحقيقية. وإن ما جرى من خروج آلاف الناس في مظاهرات تندّد بتلك التنظيمات ورموزها وقادتها، مراراً وفي مناطق متفرّقة تحت سيطرتها، هو تأكيدٌ على رفض السوريين لهذه المشروعات بشكليها الديني والسياسي، وعدم القبول بمستبدّ جديد. ويجب أن يكون الانتفاض ضد هذه الجماعات خطوة أولى نحو وعي سياسيّ جديد، لدى جمهور المؤمنين قبل غيرهم، تليها مرحلة تطوى فيها صفحة مشروعات كهذه.
سيقول قائل: "من تشير إليهم وانتفض الناس ضدّهم في سوريا هم جهاديون متطرّفون، ألا يختلف هؤلاء عن الإسلاميين المعتدلين؟" والجواب نعم، ثمة اختلافٌ فعلاً بين الجانبين. غير أنّ الفارق بينهم في الدرجة لا في النوع، فاختلافهم يكمن في الأولويات وأسلوب تحقيق الهدف النهائي، وليس الهدف ذاته.
من هنا يجدر الانتباه والحذر من أسلوب تورية الخطاب، الذي تلجأ إليه بعض الحركات الإسلامية التي تدعي الاعتدال ونبذ التطرّف، كالإخوان المسلمين مثلاً، من قبيل الحديث عن "دولة مدنية بمرجعية إسلامية". فطالما كان ثمة إصرار على مرجعية دينية للمشروع السياسي؛ فالمحصّلة ستفضي إلى "دولة دينية" على نحو ما، انطلاقاً من أنّ الدولة الدينية، "هي الدولة التي تعتبر الدين أساساً شاملاً لجميع ميادين الحياة فيها، فتضع ميدان السياسة ضمن دائرة السلطة الدينية، أو تجعل السلطة الدينية مستوعبة للسلطة السياسية استيعاباً كاملاً، فتشرف عليها وتستخدمها كما تشاء". فهل يخرج عن ذلك محتوى الإيديولوجيا الثاوية بين طيّات برامج الإخوان وسواهم من إسلاميين "معتدلين"؟
إنّ السياسة تنطوي على صيرورة تغيّر وتطوّر مستمرّة، مقابل ما يتّسم به الدين من ثبات في أحكامه وقواعده ومرجعياته المعرفية، فكيف يمكن لما هو ثابت في جوهره (الدين الإسلامي) أن يقدّم التصوّرات والقواعد والحلول والرؤى في ميدان معرفي وعمليّ، متجدّدٍ ومتنوعٍ في بنيته وآليات تشكّله ومواضيعه كالحقل السياسي.
ما لم يقرّ الإسلاميون ويقتنعوا بهذه الحقيقة، وأنّه يتعذّر خوض غمار عالم السياسة النسبي بدلالة المطلق، أي الدين؛ فسنبقى ندور في حلقة مفرغة، نستبدل مستبدّاً بآخر. وهذا يقتضي منهم الكفّ عن العبث بمقدّسات المسلمين المؤمنين ومشاعرهم الدينية، وتوظيفها في خدمة طموحات سياسيّة، أو التستّر خلف نصوص الإسلام وتحويلها إلى إيديولوجيا للهيمنة والتسلط، بدعوى أنّهم يرمون إلى "تطبيق شرع الله". فهل سيفعلون، رأفةً بعباد الله؟
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.