مقدمة
على مدار 13 عاما، لم تشكل تجارب تأسيس وإدارة تحالفات في الشأن السوري ركيزة أساسية للعمل في الشأن العام، سواء في العمل السياسي أو الإغاثي، أو الحقوقي، بما في ذلك مجال العدالة الانتقالية. وعلى الرغم من الانسجام بين الأطراف – إن كانت سياسية، أو ثورية، أو تحت أي شكل من أشكال النضال – في الرؤية أو الهدف، أو حتى الأيديولوجية، كان ضعف الثقة بينهم من الملامح التي تطفو على السطح. وقد ساهم هذا الضعف في إعاقة بناء علاقات متينة واستراتيجية، مما أدى إلى تلكؤ في توحيد الصف في أشد الأوقات حاجة.
تحاول هذه الورقة التحقق من واكتشاف مدى تأثير "ضعف الثقة" على تشكيل التحالفات كما يراها الفاعلون/ات في الشأن العام السوري. وتبحث في طبيعة العلاقات بين المؤسسات والمنظمات السورية، ومدى قدرتها على بناء تحالفات حول مطلب معين أو قضية تجمعها. ونظرًا لتداخل العوامل واختلاف المدارس في تفسير نشأة ونجاح أشكال التعاون المؤسساتي المختلفة وتدرجاتها، تركز الورقة على "بناء الثقة" باعتباره محددا جوهريا في بناء التعاون والتحالف الاستراتيجي. كما تطرح تساؤلا عاما حول أسباب ضعف الثقة بين المؤسسات التي تعمل في الشأن العام وتأثيره على العمل الجماعي، إلى جانب استعراض الدروس المستفادة لتجاوز عقبة. وتركز الورقة بشكل خاص على المؤسسات غير الربحية العاملة في ميدان العدالة الانتقالية، وحراك عائلات الضحايا والناجين والناجيات.
تبرز أهمية الموضوع في تفكيك وفهم أسباب مقولة "ضعف الثقة أو انعدام الثقة" بين العاملين والعاملات في الشأن العام السوري، وتأثير ذلك على بناء علاقات متينة وتحالفات تركز على ثقة عميقة بين أعضائها، وهو تعد الحاجة إليه ملحة على الصعيد السياسي، والحقوقي والعمل المدني بشكل عام. بل تبرز أيضا أهمية الموضوع في الدروس المستفادة من تجربة – تعتبر سابقة في التاريخ السوري المعاصر – وهي تحالف من روابط ومؤسسات سورية أسست مستويات عالية من الثقة فيما بينها، مما يؤكد قدرة السوريين والسوريات على خلق حراك قاعدي مطلبي حول قضية الاعتقال والاختفاء القسري، وهو حراك واسع النطاق جغرافيا يُحركه أصحاب القضية أنفسهم وقيادات نسائية بارزة.
المنهجية
اعتمدت هذه الورقة على إطارين نظريين: الأول يبحث في السياسات التنازعية غير العنفية لتحليل الحركات الاجتماعية والصراعات السياسية، ودراسة التفاعل المعقد بين الأفراد والمجموعات والدولة في تشكيل التغيير السياسي. أما الثاني، فيعتمد على "النظرية النقدية للمنظمات والجمعيات غير الربحية."
ونظرًا لأهمية التركيز على السياق التاريخي والهياكل السياسية والمعايير الثقافية للمجتمع السوري المعاصر في موضوع فهم ضعف الثقة وآثاره، وبعد مراجعة الدراسات والتقارير المنشورة حول العمل الجماعي في مضمار العدالة الانتقالية، تم اختيار أداة المقابلات المعمقة. ومن خلال البحث عن مئات المبادرات والمجموعات والمؤسسات التي عملت على موضوع المفقودين في سوريا، تم الاعتماد على مسح لـــ160 منظمة ومبادرة شعبية وحملة محلية ودولية عملت وناصرت موضوع المعتقلين منذ 2011، من ضمنها شبكات أو مجموعات متحالفة. تميزت أغلب هذه المجموعات بعفوية خروجها على العلن عبر منصات التواصل الاجتماعي، خاصة على الفيسبوك، مع عدم الإعلان عن هوية الأفراد القائمين عليها، أو مقرها؛ فغلب عليها طابع السرية. تركز عملها في السنوات الأولى من بدء الاحتجاجات في 2011 على التوثيق، ونشر الأخبار المعلقة بالاعتقالات أو الإفراجات ومنشورات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين/ات. لم تقتصر هذه المجموعات على المطالبة بالمفقودين لدى المراكز الأمنية للنظام السوري، بل كان بعضها – في السنوات اللاحقة – يطالب بالمفقودين لدى تنظيم الدولة الإسلامية أو الفصائل الإسلامية المسلحة، أو لدى قوات سوريا الديمقراطية. كما ركز بعضها على منطقة جغرافية معينة، أو معتقلين من جامعة أو كلية معينة أو معتقلات نساء بشكل محدد. تنوعت نشاطات هذه المجموعات ما بين توثيق من تم اعتقالهم/ن أو اختطافهم/ن، أو تقديم دعم للناجين/ات من المعتقل، أو المطالبة عبر حملات إعلامية بالإفراج عنهم/ن، وكان من ضمن هذه المجموعات روابط الأسر والعائلات.
بسبب الوضع الامني والملاحقات، كان النشاط داخل سوريا وعلى الأرض محدودا. إلا أنه بعد نشر صور قيصر في 2013، ولجوء العديد إلى خارج سوريا، بدأت الظروف تسمح بتشكيل مجموعات من الناجين/ات وأسر المفقودين. وبالفعل بدء الإعلان عن روابط لها شكل تنظيمي مؤسساتي، وهيكل، ورؤية واضحة.
وبناء على هذه المعطيات والظروف، تم إجراء 15 مقابلة شملت مجموعة متنوعة من الفاعلين، منهم روابط عائلات الضحايا والناجين والناجيات، ومؤسسات حقوقية تعنى بالعدالة الانتقالية وتدعم حراك أهالي الضحايا، ومجموعة من الباحثين والسياسيين. عُقدت المقابلات عبر تطبيق زووم أو عبر الاتصال الهاتفي، وشملت (6) من ممثلي روابط عائلات الضحايا، (4) مدراء منظمات حقوقية سورية تعنى بالعدالة الانتقالية وتعمل على مشاريع وبرامج لدعم روابط أسر الضحايا ونشأتها. و(5) باحثين وسياسيين سوريين وغير سوريين ممن نشطوا قبل وبعد 2011 وشاركوا في تحالفات متنوعة. عُقدت المقابلات بين شهري آذار/مارس وحزيران/يونيو 2023.
قياس الثقة
يعد مصطلح "الثقة" مبهمًا. ويتم تعريفه وفق تصنيفات متنوعة، إما من ناحية الفوائد التي توفرها (التعاون، الموثوقية، التماسك السياسي وعدم التشتت، الأمان المجتمعي، وما إلى ذلك) أو تصرفات أولئك الذين يمنحون الثقة: عاطفي/ة، ذو/ات معايير أخلاقية، وبراغماتي/ة، إلخ. أو يتم تعريف "الثقة" وفق طبيعة العلاقة بين الشخص مانح الثقة ومن يُفترض أنه جدير بها: تعاقدية، استغلالية، تابعية، متبادلة، إلخ.
يفترض الرأي الشائع أن تحقيق تعاون ناجح يتطلب وضع "الثقة" في الأشخاص أو المنظمات المناسبة، وكل شيء سيكون أفضل إذا وثق الآخرين ببعضهم. الأمر يتطلب ثلاثة عناصر: جهود صادقة في تحقيق الالتزامات، والصدق في المفاوضات السابقة للالتزامات، وانتهازية محدودة. بينما يرى رأي معارض أن تحقيق التعاون لا يستدعي وجود ثقة، ويمكن تحقيق مشاريع مشتركة بدون وجود مستويات عالية من الثقة. نلاحظ بالفعل أن الأفراد الذين لا يثقون ببعضهم البعض يمكنهم التعاون ضمن شروط يتفاوضون حولها، ويوافقون عليها ويخلقون نظاما يمنحونه الشرعية، وله قوة إجبارية لتطبيقه. كنتيجة، يحتم منح الثقة من طرف لآخر وجود مخاطرة على المؤسسة تحملها، على الأقل الوعي وإدراك هذه المخاطرة.
لا يمكن قياس مقدار الثقة المطلوبة لتحقيق تعاون أو عمل مشترك بين كيانين مستقلين بسهولة، إذ يتداخل هذا الأمر بعوامل شخصية أو سياقية. ومع ذلك، استطاعت الأشكال غير الرسمية للعمل الجماعي في سوريا منذ 2011، من بناء ثقة آنية فيما بينها رغم حجم المخاطرة الأمنية الشديدة. مثال على ذلك تنظيم نشاطات مطلبية واسعة النطاق كالمظاهرات في دير الزور، أو حمص بين تنسيقيات الحراك السلمي، أو التعاون بين المبادرات المحلية للإغاثة الإنسانية لتقديم مساعدات إنسانية مستعجلة لمن تعرضوا للقصف الجوي أو تدمير منازلهم. قد يكون الطابع غير الرسمي – وأقصد به العمل خارج منظومة سيطرة الدولة – لهذه التنسيقيات أو المبادرات الإغاثية أحد أسباب سهولة بناء الثقة بينها، أو قد يكون الظرف الطارئ والملح والحاجة للاستجابة والتعاون أحد الأسباب. إلا أن تحقيق مستويات من الثقة المؤسساتية، المستدامة والعميقة لا يمكن أن يحدث كردة فعل على حدث طارئ أو بشكل سري مع أسماء وهيئات على الإنترنت فقط.
على صعيد آخر، من المجدي تفصيل مستويات العمل الجماعي بين المؤسسات نظرا لارتباط عنصر المخاطرة في منح الثقة بطبيعة ونوع العمل المشترك. كما يُظهر الجدول (1) أن التفاهم المتبادل والوصول إلى اتفاق لا يعني التماهي والاندماج ضمن التحالف، بل رؤية أن درجات العمل المشترك تحدد الأدوار ومستوى التوقعات.
المرحلة |
تنافس Compete |
تعايش Coexist |
تواصل Communicate |
عمل سوية Cooperate |
تنسيق Coordinate |
تعاون Collaborate |
اندماج Integrate |
النتيجة |
تركز فيه المؤسسة على الفرصة المتاحة |
معرفة بالآخرين |
مشاركة بمعلومات ودروس مستفادة |
عمل جماعي في برنامج أو أنشطة مُعدة سابقا، لها طابع "مانح - منظمة مستفيدة" |
عمل جماعي يهدف لتعزيز الأثر الناتج عن هذا التنسيق، وخلق أثر غير ممكن تحقيقه فرديا |
عمل جماعي يتسم بتطوير رؤية مشتركة لبرنامج، وتحويل في أنظمة التفكير للمؤسسات. |
نتائج مندمجة - للبرنامج أو النظام محط الاهتمام |
جدول (1) يمثل طيف ومستويات العمل الجماعي بين المنظمات والمجموعات غير الربحية وغير الحكومية
أولا - جذور ضعف الثقة وآثارها
في هذا الجزء، أحاول استكشاف جذور ضعف الثقة وتفنيدها استنادا إلى المفهوم الشائع للثقة، الذي يعرف بأنها قبول درجة معينة من التبعية لشخص أو كيان آخر في ظل عدم اليقين حول موثوقيته، بهدف تحقيق نتيجة يصعب الوصول إليها بطريقة أخرى، مما يجعلها مرتبطة بعنصر المخاطرة. بتم ذلك من خلال البحث في أسباب ضعف الثقة، بناء على المعطيات التي جمعتها من المراجع والمصادر أثناء الدراسة، لا سيما المقابلات مع الفاعلين/ات في مجال العمل الحقوقي العام في سوريا. ويمكن تلخيص هذه الجذور بعوامل محددة، بعضها مرتبط بعوامل داخلية خاصة بحالة القضية السورية، وبعضها الآخر مرتبط بالسياسات الدولية الداعمة أو عوامل خارجية وتاريخية أخرى.
1. جذور الضعف
يمكن تلخيص أسباب أو جذور ضعف الثقة بستة عوامل على الأقل وهي: طغيان العقلية الفردية والشخصنة في أوساط العمل، الاصطفافات وثقافة الثنائيات، غياب الحياة السياسية وتداخل النفعية مع العمل في الشأن العام، سياسات عدالة إنتقالية دولية خلفت بعثرة وتفكك، الاعتماد المفرط على القصص الفردية، إضافة إلى عوامل داخلية/ديناميكيات ضمن التحالفات القائمة. ومن الجدير بالذكر عدم إمكانية الفصل بين هذه العوامل الخاصة بالشأن السوري والعوامل الدولية التي تتفاعل وتتأثر بأزمات أخرى إنسانية كانت أو سياسية.
- - الشخصنة والاتصالات الخاصة أو العقلية القائمة على الفردية
ضمن لقاءات شخصية أو أحاديث ثنائية في اجتماعات مهنية، أو عند حضور اجتماعات متابعة لتحالفات أو ائتلافات حديثة الظهور في الشأن العام السوري، تنتشر العديد من الآراء حول ضعف الثقة بين المجموعات والمؤسسات السورية، الأمر الذي يختلف بشكل جوهري عن الثقة بين فردين يعملان في الشأن العام، أو بين فرد والجماعة التي تناصر من أجلها. حيث نفترض وجود حدّ أدنى من الثقة بين المؤسسات بسبب العلاقات والهيكل الذي يخلقه العمل المؤسساتي والذي يخفف من الغموض ويزيد من اليقين الذي يرفع من درجات الثقة. إلا أنه وصف تقرير استراتيجيات للانخراط الأوروبي مع منظمات المجتمع المدني السوري في الشتات، العلاقات بين المؤسسات السورية التي تعمل في المضمار نفسه بضعف الروابط الهيكلية فيما بينها، وأن الشبكات الموجودة تعتمد بشكل مفرط على أفراد معينين أو الاتصالات الشخصية.
وهذا ما أكدته المقابلات ضمن هذه الورقة، عند طرح السؤال حول "ضعف الثقة ونتائجها في العمل المشترك". تنتشر إحدى المقولات في الأوساط العاملة في الشأن العام، أن السبب في ذلك هو عضوي يتمثل بعقلية التاجر أو "الدكنجي" في منطقتنا. والأخيرة طريقة تفكير فردية لتاجر صغير، يُفضل خيار فض الشراكة والانقسام عن الشريك، والعمل بشكل فردي. هو أمر نراه في أبرز الأسواق التجارية والشعبية في المدن السورية الكبرى. إلا أنه من دون شك، نجد موضوع الشخصنة وتماهي الشخص بدوره أو دورها في إدارة المؤسسة أمر منتشر للغاية ويوجد عدد كبير من الحالات. لدرجة أنه يشير البعض إلى المنظمة باسم الشخص الذي أسسها، وانصهار الهوية الاعتبارية للمنظمة بالمؤسس/ة او المدير/ة.
- الاصطفافات وثقافة الثنائيات
لا تقتصر أسباب ضعف الثقة على هذه العقلية القائمة على الفردية حيث يفسر آخرون أسباب الضعف هذه بطبيعة الاصطفافات في الحياة العامة وفق منظور الثنائيات المطلقة. الأمر الذي كرسته شمولية نظام الحكم على مدى عقود طويلة في سوريا، وما تبعه من إلغاء التعددية السياسية، وتعميم سياسة الرأي الواحد ونشر ثقافة التخوين وقمع الحريات العامة والخاصة، مما أدى إلى تكريس ثنائية العدو الغاشم أو الحليف الأبدي، بوصفه نمط واحد في الفكر السياسي والثقافي العام.
لا شك أن السياسات التنازعية موجودة في كل من الأنظمة السلطوية والديمقراطية بطريقة أو بأخرى، إلا أن عدم وجود قوى سياسية مستقلة عن السلطة أو على هامشها وانغلاق النظام السياسي على ذاته من خلال القمع الذي يمارسه على خصومه قد يدفع العناصر المعارضة المعتدلة إلى التطرف وإلغاء الآخر.
بالتالي امتدت رؤية الواقع كثنائيات لنواحي عديدة وتكرست في الحياة العامة، وعند وجود أي نوع من الخلاف في طريقة عمل أو رؤية "غير مقبولة" لدى أحدهم ضمن المجموعة، يتم إقصاء هذا الشخص. امتد ذلك إلى ثقافة سياسية قائمة على الإلغاءات والاقصاءات، والتي تطورت إلى انقسامات وانفصالات ضمن الحزب الواحد، أو المؤسسة المدنية. أحد الأمثلة البارزة هي انقسامات الحزب الشيوعي في سوريا على مدى عقود عدة، والانقسامات في المجلس الوطني السوري 2011 والتي أدت إلى تعطيله وتأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة 2012.
أخذت شكل هذه الانقسامات قبل عام 2011 قالب ايديولوجي، ضمن شكل علماني/ شيوعي/ إسلامي/ قومي…الخ. واستمرت إلى حد ما لما بعد هذا التاريخ نظرًا لتواجد وفعالية الأفراد المخضرمين ممن دخلوا المجال السياسي، بينما كان للجيل الشاب نصيب من هذه الانقسامات، والتي استمرت بطابع وشكل مختلف. كانت الاختلافات في الانتماءات السياسية والإيديولوجية عند المعتقلين السياسيين ما قبل 2011، سيفًا ذو حدين. فقد تساهم تلك الاختلافات في إثراء التجربة التنظيمية وتحقيقها لتقدم سريع، أو تتحول إلى سببًا في تقسيم وانفصال الأعضاء.
- غياب الحياة السياسية وتداخل النفعية بالعمل في الشأن العام
من جهة أخرى، غياب الحياة السياسية العامة لعقود طويل أدت إلى عجز الكفاءات في خلق مكان حرّ وغير مقيد لها في الأحزاب والقوى السياسية، أو البرلمان أو النقابات والمنظمات الشعبية. كما أدت إلى النظر إلى الآخر بشك وعدم ثقة في النوايا أو تأويل الأفعال والاتهام بالعمل لصالح المخابرات والأجهزة الأمنية. وبالتالي، لم تستطع تكوين تجربة سياسية مكتملة، مع حد أدنى من الثقة باللاعبين السياسيين، كي تخلق ائتلافات أو تكتلات وتعيد تشكيل نفسها وفق الظرف السياسي.
إلا أن ذلك لم يمنع مفكرين وصحفيين وسياسيين وحقوقيين من إنشاء منظمات حقوقية كاستراتيجية للالتفاف على الواقع الراهن ومقاومة النظام آنذاك. ولكن تداخلت الرغبات السياسية والخلفيات الايديولوجية والفكرية مع عمل المنظمة الذي يفترض أن يقتصر على القضايا الحقوقية، وجعلت من الصعب تحقيق بناء الثقة، نظرًا لخطوط الانقسامات السياسية السابقة ومناخ القمع العام.
كما أثرت الضغوطات المعيشية والقانونية والاقتصادية في داخل وخارج سوريا بعد عام 2011، على مفهوم العمل في المجتمع المدني بوصفه فرصة لتحقيق أمن واستقرار اقتصادي نسبي. هذا الأمر أتى مع انتشار وصمة تكرست مع الزمن وخاصة في العمل الإغاثي والسياسي حول من يعمل في هذه المجالات. بمعنى آخر، تداخلت النفعية مع العمل العام. وانتشر مفهوم مغلوط مرتبط بالاستفادة والانتفاع من الانضمام للمجتمع المدني بدلاً من كونه عمل عام مرتبط بالمساعدة المجتمعية والنفعية العامة لا الخاصة. وبالتالي نشأت طبقة إضافية من التشكيك وضعف الثقة في النوايا لمن يعمل في هذا المضمار.
- سياسات عدالة انتقالية دولية خلفت بعثرة وتفكك
من الصعوبة محاولة تفسير ظاهرة ضعف الثقة دون النظر إلى الصورة الأعم والأشمل والتي تعمل ضمنها المؤسسات المدنية وغير الربحية في مجال العدالة الانتقالية. هي ليست منعزلة عن الأطر القانونية والمحاكم والمعاهدات الدولية، وأعراف العدالة الانتقالية بالإضافة إلى الممارسات المعيارية في التعامل مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتعدد أصحاب المصلحة ومنظمات دولية أو محلية حقوقية، وجهات داعمة ووزارات خارجية دول…الخ.
أحد صفات المحيط الحيوي الذي خلقته سياسات العدالة الانتقالية الدولية، التفكك والبعثرة. حيث أدت سلسلة من الآليات وخاصة الوساطة العابرة للحدود الوطنية، والتنسيق الرأسي، وعلاقات المحسوبية، إلى تجزئة وبعثرة في السعي لتحقيق الأهداف العامة للعدالة الانتقالية، خاصة في جهود التنظيم والحشد للمؤسسات في المنفى.
ساهمت صفة التفكك والبعثرة الأخيرة، بشكل سلبي على قدرة المنظمات المحلية في بناء الثقة فيما بينها. فمن الممكن وصف هذه السياسات والعلاقات التي أنشأتها وشكل ارتباطاتها بطابع تنافسي إلى حدّ ما، على الرغم من النوايا الحسنة والأهداف السامية. حيث تنشأ علاقات رسمية بين الناشطين والناشطات أو المنظمات التي يديرونها في الشتات مع حلفاء مثل أحزاب سياسية، حكومات، إلخ. مع الوقت تصبح المنظمات أكثر اعتمادًا على العلاقات السابقة لضمان بقاءها التنظيمي. ونظرًا لكون العملية متسلسلة، فإن هذا التنسيق قد يؤدي إلى شكل من أشكال التبعية. ويمكن أن يولد التنافس على الرعاية، انقسامات بين المجموعات المختلفة. وساهم الاعتماد المفرط والعلاقة شبه الوحيدة مع جهة داعمة سياسية واحدة، في خلق شكوك وضعف الثقة في هذا الكيان.
بمعنى آخر، يتبلور هذا الطابع – وبالأخص بالحالة السورية – من ناحية الاعتماد الشبه التام للمنظمات والمؤسسات السورية على الموارد المقدمة من مؤسسات ووزارات خارجية الدول، من منح وتمويل مادي، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. خلق الاعتماد المالي على عدد قليل من الممولين أمرين، الأول: تصميم وتنفيذ برامج ومشاريع تمضي مع أولويات الحكومات الممولة. والثاني حالة من التنافس على الموارد وعدم يقين وتخوف من نقص التمويل، وبالتالي هشاشة العمل وسهولة اندثاره عند توقف التمويل، ضمن غياب شبه تام لدور رسمي أو هيئة راعية، أو غياب جهود جمع تبرعات فردية واسعة النطاق أو مشاريع ذاتية تدر دخل لاستدامة المنظمات.
إضافة على ذلك، ما يزيد من عامل الهشاشة هو ضخامة الحاجة إلى الرأس المال البشري الممثل في الأشخاص العاملين في مجال العدالة الانتقالية وخبرتهم، وعلاقاتهم، ومهاراتهم. ونقص الخبرات المحلية في هذا المجال من ناحية الموضوع أو العمليات المتعلقة به والتي تتجه نحو المنظمات الدولية أو المؤسسات التي توفر استقرارا اقتصاديا.
من أحد تجليات المحيط الحيوي سابق الذكر، انتهاج المجتمع الدولي نهجًا يشبه إلى حدّ كبير بـ نهج "دعوا ألف زهرة تتفتح let a 1000 flowers bloom" في دعم ورعاية المجموعات والمؤسسات المحلية حول العدالة الانتقالية، والذي يتلخص بأنه؛ عند بذل الاهتمام والدعم والرعاية ل1000 فكرة أو مشروع، فسوف يزهر ويثمر العديد منها بطريقة أو بأخرى. إلا أن هذا النهج يعمل وفق مبدأ السوق الحر والعرض والطلب ومبدأ الأصلح يستمر وينجو. وعلى الرغم من مزايا هذا النهج المتمثلة في استهداف شريحة واسعة والانتشار الأفقي على مستوى القاعدة ومحاولة الوصول للعديدين، ومنح فرص وبيئة للمبادرة، إلا أنه خلق معضلة وآثار مضرة في ديناميكية وعلاقة هذه المجموعات والمؤسسات مع بعضها. تمثلت في نشوء حالة "من يستحق أكثر" وربط الشرعية بالاستحقاقية، وخاصة عندما لعبت المنظمات الدولية دورًا في تأسيس روابط عائلات الضحايا والناجين والناجيات من خلال تخصيص تمويل صغير نسبيًا يساهم في تغطية تكاليف تأسيس الرابطة، ورسخت ما هو متعارف عليه الآن ب "دورة الضعف المزمن/الجوع للمنظمات غير الربحية" وهي تتجلى بتوقعات غير واقعية من قبل الممولين للتغيير والأثر الاجتماعي ونقص في البنية التحتية لعمل هذه المنظمات. مما ينعكس على ديناميكيات النجاة لهذه المؤسسات، ويعزز بطريقة غير مقصودة هذا الاتجاه من الاستحقاقية والتنافس.
في ذات الوقت تخضع المؤسسات لضغوطات من السياسة العامة الدولية واستجابتها للمستجدات من حروب في العالم، وكوارث إنسانية وتوجهات دبلوماسية. ينعكس هذا على خطط المنظمات التي تعتمد على هذه المنح وتحول تركيزها من الإغاثة إلى الاستقرار المجتمعي أو التنمية على سبيل المثال دون ارتباط هذا أو ذاك بأولويات المجتمع السوري وحاجاته الطارئة. كما تعاني هذه المؤسسات أيضاً من تحول التركيز على أزمة سياسية أو إنسانية من مكان إلى آخر كما في جائحة كورونا أو حرب أوكرانيا وغيرها. وبسبب الاعتماد شبه الكلي على المنح الخارجية وتأرجح الأطر العامة لهذه المنح، نجد ميزان القوى لدى العديد من المنظمات، سورية كانت أم غير سورية يكون في كفة المنظمة المانحة. مما ينعكس في الكثير من الأحيان على خلق مشاريع تنصب في التوجهات العامة الدولية، وتبتعد عن احتياجات المجتمعات المحلية وهي أزمة متأصلة في المساعدات الدولية. دون إغفال أن بيئة العمل الدولية تتميز بقدر كبير من التنظيم، والمنافسة، وجمع التبرعات، وثقافة العقود، وبالتالي تخضع المنظمات بشكل متزايد لضغوط، تحول من تركيزها لتتوصل إلى نتائج ومخرجات محددة مبنية على عقود موجهة نحو الأهداف. وتتقلص العلاقة بين المانحين والمؤسسات المتلقية للمنح إلى علاقة محدودة، تحصر من فاعلية المؤسسة وحسّها بالمسؤولية ورؤية الواقع وتوصيل احتياجاته بشكل حر ودون تقييد، وتحولها إلى مجرد منفذ عقود ومذكرات تفاهم.
- الاعتماد المفرط على القصص الفردية للناجيات والناجين
من ناحية أخرى، يتأثر بناء الثقة بين المؤسسات بالاعتماد المفرط على الأشخاص وقصصهم الفردية، فيقتصر العمل في المناصرة والحشد الشعبي غالباً على القصص الفردية، بالأخص الضحية أو الناجي/ة، وإبراز وجوه وقصص شخصية. ذلك بدلاً من حملات التنظيم المجتمعي التي تؤدي إلى الانتشار الأفقي والوصول إلى أكبر عدد من الأشخاص المتضررين أو إنجاز أبحاث مبنية على الإحصاءات والاستبيانات ونشر نتائجها للعموم، أو الاستعانة بخبراء ومتخصصين من ذوي الخبرات في القضايا المطروحة، وصولاً إلى استخدام الفنون في دعم وتوضيح القضايا أو الاستعانة بالمؤثرين في دعم هذه القضايا وإظهارها للرأي العام المحلي والعالمي.
بالتالي، خلقت طريقة التواصل المقتصرة غالباً على القصص الفردية هذه ما يمكن تسميته بـ “نجوم"، أو أيقونات يتاح لهم دعوات رسمية للقاءات دولية وأممية رفيعة المستوى وفرص هامة لتكوين صلات وعلاقات مهمة. أثر هذه الاعتماد المفرط على ذلك إلى حدّ كبير على ديناميكية المجموعات والروابط التي تسعى إلى تحقيق تعاون، أو تشكيل تحالف من ناحية خلق نزاع خفي داخلي في قوة التأثير وقيادة الرأي. وفي بعض الأحيان حصرت هذه الظاهرة الشخصيات في مساحات هشّة وفارغة، وتأطر دورهم في ذكر قصتهم الشخصية في اجتماعات دولية رسمية، أو كمتحدثين ضمن لقاءات إعلامية، ومطالب متكررة دون وجود دور وفاعلية ملحوظة أبعد من ذلك. تكرر هذا الأمر في نضال عائلات الضحايا والناجين والناجيات وفي العديد من الدول الأخرى التي عاشت تجارب شبيهة.
عبر "سبرنكلز Sprenkels" عن هذه المخاوف في دراسته في 2017 لتحركات أسر الضحايا في تونس، وغواتيمالا، وهوندارس وبلدان أخرى حول العالم بقوله: "هناك خطر حقيقي يتمثل في عدم إدراك أفضل لديناميكيات مشاركة الضحايا، فإن هذا العنصر الأساسي في سياسة العدالة الانتقالية قد يتطور إلى مبدأ أجوف أو طقوس فارغة." مشيرا إلى تأطير دور الضحايا بالشكل السابق.
- عوامل داخلية/ديناميكيات ضمن التحالفات والمبادرات القائمة
تشير الديناميكيات التنظيمية داخل التحالف إلى تفاعل معقد بين القوى التي تشكل كيفية عمل التحالف. وتبرز هنا ديناميكيات مشابهة لنموذج العائلة الكبيرة في العمل المؤسساتي، حيث رأس العائلة هو الأكبر عمرًا أو الأكثر نفوذًا أو الأقدم. مع وجود ضوابط غير مكتوبة، خاصة عند نشوء خلافات بين الأعضاء، منها عدم الانتقاد العلني، والحلّ بالمراضاة. حقق نموذج العائلة الكبيرة في العمل المؤسساتي رغم الخلافات والتناقضات، نجاحًا في ضبط الخلافات عند حدّ ما قبل الانفجار، وقرّب بين الأعضاء من مبدأ المصالحة الشعبية. إلا أنه تكريس نفوذ الشخص الأكبر عمرًا أو المؤسس أو ذو المكانة الأبرز، بالتالي أصبحت الأصوات النقدية منبوذة، وتنسحب تدريجيا عند تجاهلها أو استبعادها. وفي حالات أخرى، تنشأ خلافات على القيادة، أو منصب الناطق الرسمي، أو اللجنة التنفيذية. ويتم استبعاد الأصوات التي لا تتفق مع من في سلطة اتخاذ القرار والإدارة العليا. وتنتهي بانفصال وتقسيم التحالف.
كما تؤثر في شكل ديناميكيات العلاقة بين المؤسسات ضمن التحالف عوامل مرتبطة بحجم المؤسسات ضمن التحالف، وعدد العاملين وانتشارها وميزانيتها وتاريخها وعلاقاتها مع مختلف الرعاة والداعمين. وتؤثر السلطة الخفية التي تنشأ بينها على تفاعلها. وبالتالي تحتل المنظمات الأكبر حجما والأكثر في ميزانيتها موقعا أقوى من المؤسسات الناشئة أو الأصغر، وتنشأ ديناميكيات داخلية ضمن التحالف لفرض السيطرة مما يؤثر سلباً على تحقيق تحالفات مؤثرة وعلى تطور المؤسسات أو المبادرات الناشئة أو الصغيرة.
2. تأثير ضعف الثقة على فاعلية العمل الجماعي
خلق مزيج من العوامل السابقة بدرجات متفاوتة حالة من الشك وعدم الثقة في التعاون والعمل بين المؤسسات، مما أدى إلى نتائج، لم تقتصر فقط على عدم القدرة على العمل المشترك، بل كان لها آثار أكثر عمقًا وخلقت شرخًا ودورًا غائبًا لمجتمع مدني متماسك وموحد حول قضية ما.
أحد الأمثلة لنتائج عدم الثقة هو عدم تبادل ومشاركة المؤسسات التي تعنى بالعدالة الانتقالية، وخاصة المؤسسات المتخصصة منها بتوثيق الانتهاكات، التوثيقات التي بحوزتها لتشكيل بنك للمعلومات حول أعداد وتفاصيل المفقودين والمفقودات، شهادات، صور…الخ، لاستخدامه بشكل فعال عند أي عملية تفاوض، على الرغم من تعدد المبادرات والمؤسسات بالعمل على التوثيق، ومنهم الأمم المتحدة أيضًا.
مع الوقت، ارتفعت حالة حماية البيانات والتوثيقات في سياق انخفاض الاهتمام الدولي بالقضية السورية وتقلص الموارد المتاحة. بالتالي من الممكن تفسير جنوح المجموعات لامتلاك ميزة نسبية. وعند مشاركتها لما لديها ستخسر تلك الميزة في وسط قائم على المنافسة. والنتيجة، تكتم المؤسسات على بياناتها وعدم مشاركة ما يقومون به عند الانخراط في تكوين تحالف.
كما من أحد نتائج عدم الثقة هو التركيز المفرط على التفاصيل عند القيام بمشروع مشترك، وعدم الاستعداد لتقبل عنصر المخاطرة التي يأتي مع بناء الثقة. وقد يبدأ هذا التركيز المفرط في اشتراط تشارك الرؤية أو الاستراتيجية، وينتهي في الاتفاق التام على تفاصيل وطريقة التنفيذ. تخلق هذه الطريقة المحافظة في التعاون مساحات ضئيلة للتعلم والتجربة، وتصلب في التنفيذ في الكثير من الأحيان، وسرعة في التفكك عند عدم تحقيق تصورات معينة حول المشروع، وهي تنشأ من وجود مستوى سطحي من الثقة بالشريك وقدرتهم. نرى الظاهرة منتشرة عند المجموعات حديثة النشأة، حيث تنقسم عند الخلافات الأولى.
بالفعل، لا يمكن إنكار حالة الجفاف التي عاشها المجتمع السوري، وسلبه من تكوين ونضج مجتمع مدني قادر على ممارسة دوره الكامل. إلا أن السنوات 13 الأخيرة كانت فرصة للتعلم، وأنتجت تجارب عدة يستحق التعلم منها. وعند التركيز في حراك محدد مثل الحراك المعني بقضية المفقودين في سوريا، وخاصة الاعتقال والاختفاء القسري، نجد بروز تجربة عمل جماعي فريدة استطاعت فيها مجموعة من روابط الناجين/ات وعائلات الضحايا، من تكوين مجموعات متحالفة ومتفقة فيما بينها على عمل محدد، يخدم القضية. واستطاعت تحقيق نجاحات صغيرة، ولكنها ملحوظة، وهذا ما سأقوم باستعراضه في الجزء التالي بوصفه تجربة إيجابية يمكن البناء عليها واستخلاص دروس مستفادة وتوصيات.
ثانياً - ميثاق الحقيقة والعدالة: دروس مستفادة
نجحت عدة مبادرات تعاونية تضم مؤسسات سورية تعمل في مجال العدالة الانتقالية وحراك المفقودين والمفقودات، في عمل تنسيقي أو تشبيكي، مثل مجموعة العدالة الانتقالية (2014-2016)، وجسور الحقيقة (2021)، أو مبادرات تضم مجموعة منظمات تقوم بإصدار بيانات مشتركة حول تطور ميداني أو سياسي ما، أو حملات مناصرة وحشد. إلا أن نشوء مجموعة ميثاق الحقيقة والعدالة، تجاوز التنسيق أو تبادل المعلومات أو التعاون في مشروع مشترك، بل ركز على خلق تحالف حول قضية الاعتقال في سوريا، بالتحديد من قبل روابط أسر الضحايا والناجين والناجيات. ظهرت مجموعة الميثاق للعلن في 2021 وكانت مؤلفة من خمس روابط أسر ضحايا وناجين وناجيات من الاعتقال، من ثم توسع الميثاق ليضم خمس روابط ومؤسسات جديدة في 2022.
للوهلة الأولى، تبدو علاقة الثقة التي تجمع روابط ومؤسسات ميثاق الحقيقة والعدالة، كما وجدتها بعض الروابط، قد نشأت لأسباب شخصية للغاية، من جراء علاقة وجدانية أو مهنية، ترتكز على الود أو الاحترام، أو قد تكون مبنية على صداقة. ضمن مقابلة مع مدير مبادرة تعافي أحمد حلمي يقول في سياق حديثه عن آلية عمل هذا التحالف: "من خصائص الشراكة الناجحة ضمن مجموعة الميثاق بالتحديد، هو وجود علاقة وجدانية بين الأعضاء، وليس علاقة تنافسية وهذا الأمر لا ينطبق على جميع التحالفات. أقصد بالعلاقة الوجدانية أنها بدون شك تلغي وجود تنافسية على من يظهر أو من يستلم القيادة أو يتسلط عليه الضوء".
على أهمية الجانب الوجداني السابق إلا أنه تواجدت عدة عوامل ساهمت في بناء الثقة، ومنها "الشرعية" التي اكتسبتها الروابط، وتجارب مؤسسيها السابقة في تأسيس والانخراط في مجموعات أخرى لم يكتب لها النجاح، وقدرتهم على إدارة الخلافات بين أعضاء التحالف. بالإضافة إلى قراءة المعطيات والمتغيرات السياسية والمشهد العام والاستجابة لها.
1. ربط الثقة و"الشرعية" وخلق مفهوم مختلف للشرعية
ربط البعض في روابط العائلات مفهوم الثقة بالشرعية، أي تزداد الثقة بكيان ما في حال كان شرعيًا. وعند العودة إلى أدبيات الشرعية وعلاقتها بالسلطة، فهي تنشأ عند اكتساب هيئة ما السلطة وتمارسها وفق قواعد مبررة، ومع وجود دليل على الموافقة والرضا، فإننا نسميها شرعية أو مشروعية. وتُكتسب بناءًا على انتخابات أو اتفاقات للاعبين أساسيين في الساحة السياسية، أو تكون شرعية قبول دولية...إلخ. إلا أن "الشرعية" التي اكتسبتها الروابط، كانت – كما يرى البعض – الحجر الأساس في بناء علاقات ثقة بينها وبين الضحايا أو المجموعات الأخرى. فأحد مصادرها أتى من تجربة الاعتقال أو تعرض فرد من العائلة لهذه التجربة. وتزداد الثقة عند نمو الرابطة بشكل بطيء ومتدرج، بناءً على أنشطة ومشاريع صغيرة لتصبح مؤسسة أو رابطة. لم تكن هوية القائمين على الروابط محددًا لبناء الثقة، بل ثبات عمل المنظمة والتصاقها بأهدافها ومجتمعها، وديمومته، خلق ما أطلق عليه البعض "مشروعية" جعلها أهل للثقة عند بناء شبكة أو تحالف.
"أرى أنه من عوامل نجاح التحالفات: الإنجاز والانتاج، وليس الغرق في وضع نظام داخلي ومذكرات وقواعد والخ، وإهمال الإنجاز على الأرض. قد يمّل أو يتعب الجميع. إن وجود نجاح ضمن التحالف يعطي المنظمات دافعا للاستمرار. ضمن الميثاق، وفي الفترة الأخيرة تم إنجاز نجاحات كثيرة، مثل التأثير على قرارات مجلس حقوق الإنسان، والتأثير على الجمعية العامة، والضغط على المجتمع الدولي والمجتمع المدني السوري لتخصيص مقعد خاص لروابط الضحايا…الخ، في عام 2018 لم تكن "تعافي" معروفة. في عام 2019 عندما كنا نتحدث عن الآلية (المؤسسة الدولية المستقلة) لم يستمع لنا أحد. في عام 2020 كان يتم الاستخفاف بنا. في عام 2023 أصبحت الآلية واقع. هذه النجاحات كانت سبب الترابط بيننا" أحمد حلمي، تعافي
إلا أنه ما يثير الاهتمام وجود عاملا آخر، تم الإشارة إليه عند تناول موضوع المشروعية. وهو التركيز على حجم المؤسسة وحجم تمويلها وعلاقتها، وخاصة صلاتها مع المؤسسات الضخمة والسياسية في لعب دورا كبيرا في اكتسابها قبولا واعترافا من الجميع.
"لا يوجد مشكلة شرعية كما يتم فهمها غالبا، بل برأيي تظهر، ولكن ليس تحت بند الشرعية، تحت بند منظمات كبيرة وصغيرة. مثلا يوجد منظمات كبيرة. لا يتم الحديث عن الشرعية، بل عن الميزانية وعدد العاملين، وهو أمر ليس له علاقة بالمنظمة وإنما له علاقة بالممول، مثلا إذا أتى ممول بميزانية ضخمة وقام بدعم مؤسستي بشكل غير محدود نصبح من أهم المنظمات وعند زوال ذلك، يزول الأثر." بسام الأحمد، سوريون من أجل الحقيقة والعدالة
2. أثر التراكم والتجارب السابقة في تأسيس ائتلافات وتحالفات
كان لمعظم القيادات في ميثاق الحقيقة والعدالة، تاريخ سابق في العمل المدني، خاصة النساء والرجال الذين نشطوا وناضلوا قبل عام 2011 لتحقيق تغيير سياسي أو اجتماعي ما. هذه الخبرات السابقة، ساهمت في إنتاج تجربة أنضج لبناء تحالف بين الروابط. تجلت، أولا في الانخراط في تحالفات وائتلافات وشبكات سابقة لم يكتب لها النجاح، في مجالات عدة، سياسية أو إغاثية …الخ. وثانيا، في فهم سياسات العدالة الانتقالية الدولية وأثرها ونتائجها. وخاصة إدراك دور التمويل في تغيير ديناميكيات العمل والاستدامة، والعلاقة بين المجموعات المتحالفة.
وكانت النتيجة، تسهيل اتفاق روابط ومؤسسات الميثاق على عدم جعل للتمويل أي دور محفز أو مثبط لتوسيع أو تقليل عدد الروابط في الميثاق. كما اتفقت على عدم قبول تمويل مالي يأتي للميثاق. أجمعوا على أن الميثاق، وثيقة لجميع السوريين والسوريات، وأي أحد يستطيع تبنيه انطلاقا من أن قضية المفقودين هي قضية وطنية وللجميع، وليست ملك الضحايا وأهاليهم فقط. كما قامت المجموعة بالاتفاق على رفض وجود ناطق رسمي باسم الميثاق، لما كان للأمر عواقب سلبية في تعاونات أخرى. الفرصة متساوية لدى الجميع في المشاركة الإعلامية أو في الاجتماعات عالية المستوى. وأدركت أهمية عدم الغرق في وضع نظام داخلي وقواعد سلوك وهيكلية مفصلة، مقابل إهمال الإنجاز على الأرض، لأهميته في جذب كفاءات وإعطاء دافع للجميع للاستمرار. وتم الإشارة من خلال المقابلات إلى التعلم من نموذج العمل الجماعي السلبي، والذي وصف ب "يا لعيّبة يا خريّبة" أي إما البقاء بالمجموعة واللعب والفوز، أو الخروج وتدمير جهود الآخرين.
"لا نريد إعطاء ميثاق العدالة شكل إداري أو تنظيمي شديد، وأن يصبح الميثاق مؤسسة ويصبح هناك ناطق باسمه مثلا. جميعنا ناطقين باسم الميثاق. ولا نريد الخروج عن الهدف الأساسي. الميثاق ليس كتابا مقدسا، هو مجهود جماعي وحق للجميع وحق للسوريين جميعا. أي أحد يستطيع تبنيه، القضية هي قضية وطنية ولكل شخص الحق التحدث فيها" مقابلة مع دياب سرية، رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدناي
على نطاق آخر، كان أعضاء الميثاق على يقين بأن الانضمام إلى تحالف لا تعني الموافقة على كل شيء، والتماهي فيه تماما. وأن وجود قيم مشتركة أو الرغبة في إنشاء مشروع مشترك، ليسا كافيين لتحقيق عمل جماعي مثمر. حيث وجد الأعضاء أن التحالفات بحاجة إلى نوع مختلف من المتطلبات. إحداها وضع فكرة التحالف. مطلب محدد قدر المستطاع، ضمن إطار زمني، محدد الجهات المستهدفة والوسائل المستخدمة. مما يحتم الخروج بتوصيات معينة ونتائج من هذا التحالف، وعند تحقيق ذلك يمكن فك التحالف. لا ضرورة للاتفاق الأيديولوجي على كل شيء، والتنوع في استخدام الأدوات لتحقيق الهدف مطلوب وعامل غنى للتحالف.
"أظن أن التحالف يجب أن يكون على هدف محدد، وليس تحالف عام، مثل تحالف محدد حول حقوق الملكية للمهجّرين في سوريا. من الممكن الخروج بنتائج وتوصيات مشتركة بهذا الموضوع بالتحديد. وليس بالضرورة وجود اتفاق على أي موضوع آخر، أو اتفاق إيديولوجي تام، ماعدا الأساسيات على الأقل. وتحقق الأمر ضمن تحالف مجموعة الميثاق على قضية الإخفاء القسري والتعذيب." أحمد حلمي، مبادرة تعافي
"نرفض أن يكون هناك ناطق رسمي باسم المعتقلين ووجود سوبر ستار المعتقلين، و الفرصة يجب تكون متساوية للجميع، كما رفض أن تكون أحد الروابط وصية على الجميع لأنها تحظى بتمويل أكثر، ولديها قدرة تنظيمية وقدرة على الحصول على الموارد." مقابلة مع دياب سرية، رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا
3. إدارة الخلافات
كثرة الخلافات وعلانيتها الانتقامية ضمن المؤسسة الواحدة تخلق ترددا في بناء الثقة في أي مشروع مشترك بين مؤسستين. ليست الخلافات ظاهرة مَرضية أو سلبية في العمل المدني، والاختلافات الأيديولوجية موجودة ضمن كل مجموعة، وبين أعضائها. الهدف ليس إلغاء هذه الاختلافات أو محوها، بل قد تكون مصدرًا مهمًا لنضج التجربة وتطورها.
وعند طرح مثال تطبيقي، برزت تجربة رابطة سجناء صيدنايا كحالة فريدة في تحقيق اتفاق بين أعضائها المتنوعين أيديولوجيا وفكريا. حيث اتفقوا في نظرتهم لمكان الاعتقال على أنه ليس مجرد عقوبة فردية لانتماء سياسي ما، وكتم لحرية تعبير شخص واحد من خلفية دينية ما، بل وسيلة لتطويع المجتمع بكافة مكوناته، وإبراز جبروت النظام. جمعت هذه الفكرة الأعضاء وخرجت بهم من التفكير بالمعتقل على أنه تجربة معزولة تستهدف مجموعة سياسية أو دينية محددة إلى فهم أشمل لما يحدث.
"تحتوي رابطة صيدنايا، معتقلين من خلفيات مختلفة، فبعضهم سلفيين وبعضهم إخوان وبعضهم لا ينتمي لأي حزب، أو لا يحمل أي فكر. على الرغم من وجود نضج فكري، ولكن يوجد أدلة. كانت الصعوبة في التوافق على هدف والاجتماع عليه. أحد التحديات - التي واجهتنا في البدايات- هو كل مجموعة أفراد لديها تصور حول دور رابطة سجناء صيدنايا. منها يرى أنها منبر دعوي أو تحسين صورة الجهاديين، آخرون يجدون أنها مؤسسة لمساعدة وضع المعتقلين المعيشية. قد أخذ من المؤسسين جهدا كبيرا جدا في البداية لضمان أن الجميع على صفحة واحدة. في النهاية تم الاتفاق على أن تكون العضوية في الرابطة تشترط ألا يكون أحد من المنتسبين منتهكين لجرائم حقوق الإنسان. وأن الرابطة لا تنتمي لفكر ولا لعقيدة، ليست ليبرالية أو تنتمي لأي جهة أو توجه، إنما هي لدعم ضحايا الاختفاء والتعذيب وكتابة قصصهم ومعاناتهم وإيصال صوتهم للخارج." دياب سرية، رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا
ونظرا لمدى تأثير خطوط الانقسامات الدينية والطائفية، أثبتت مجموعة الميثاق القدرة على تناول الانقسامات وتجاوزها. على سبيل المثال كانت للقيادات النسوية في الميثاق، ومنها عائلات من أجل الحرية، التي تمكنت من كسر خطوط الصراع الطائفي والمناطقي في سوريا، من ناحية وضع أولوية مطالبهم في تحقيق العدالة دون أبعاد أخرى. وطلب العدالة للنساء والرجال سوية، دون تمييز. أثبتت قدرة الرابطة على إدارة الخلافات المتعلقة بالهويات الإثنية والطائفية في سوريا وتاريخ الاضطهاد لكل مجموعة ووضعها في مصلحة القضية، كذلك الأمر بالنسبة لفهم خطوط الانقسام مع الحلفاء الإقليميين والدوليين، كمحددات للتخطيط الاستراتيجي.
4. القدرة على قراءة الواقع والمتغيرات السياسية
ساهمت قدرة الروابط على قراءة الواقع والمستجدات السياسية إيجابيا في تعزيز قدرتها على التنسيق السريع فيما بينها، والتحرك بشكل فعال وسريع. من يتابع الصراع في سوريا منذ لحظاته الاولى، يدرك ما يصفه البعض بالتعقيد. التغييرات السريعة وكثرة اللاعبين يجعل تحديد الأولويات لعمل جماعي ومناصرة حول موضوع محدد بحاجة لفعل مستعجل. هذه المتغيرات قد تكون لحظة التدويل، أو دخول وخروج لاعبين إقليميين ودوليين، قد تكون بدء مسارات العدالة الجنائية والمحاكم في أوروبا، أو التقاط رغبة دولية في تأسيس آلية دولية لمعرفة مصير المفقودين. هذه المتابعة تحتاج لجهد كبير لأي مجموعة تنسيقية أو شبكة مؤسسات لتبادل معلومات والدخول في النظام الحيوي للعدالة الانتقالية.
"حاول أحد الناجين من الاعتقال تأسيس رابطة ضحايا في الفترة 2012-2013، ولكن لم تكن اللحظة مناسبة ولم تلق تشجيع أو استجابة في بعض الأحيان، بينما تغير الواقع بعد عدة سنوات."مقابلة الباحثة مع محامي سوري بتاريخ 25 آذار/مارس 2023
قراءة المتغيرات وسرعة الاستجابة لها لا تتطلب تغييرا في الأهداف والرؤية والهيكل، بل في هوامش وانحرافات بسيطة للانسجام مع ما يحصل في العالم. الحاجات متغيرة وعلاقات المجتمع في تطور ومدّ وجزر بين مكوناتها، في حركة ديالكتيك دائمة ضمن أنظمة اجتماعية وسياسية معقدة. وكانت روابط الميثاق قادرة على التقاط هذه التغييرات قدر المستطاع، والاستجابة لما هو ضروري وأساسي لبقائها في انسجام مع محيطها الاجتماعي، مع إدراك للمكتسبات والخسارات من جراء هذا التغيير. هذه التغييرات الهامشية لا تجعل الروابط أكثر اقترابا لما يحصل على أرض الواقع فقط، بل تحسّن في فرص الالتقاء مع روابط ومجموعات أخرى، تقوم بالشيء ذاته. مما ينعكس على التفاهم وقدرة على العمل الجماعي المثمر.
عمليًا، وبشكل عام، تُقابل عملية التغيير والتكيف بممانعة ورفض مؤسساتي بيروقراطي، وخشية من انهيار المنظمة والابتعاد عن جوهرها. وكانت لقيادة النساء في الروابط أكثر قدرة على العمل بشكل مختلف وتقبلاً للتغيير، وكسر النمط العام السائد في التصلب المؤسساتي. مع العلم أن نجاح العمل الجماعي بين الروابط ليس بسبب متغير واحد، وجود نساء قياديات، بل لأنهن في ذات الوقت ناجيات من تجارب الاعتقال وتتشاركن مع العديد بتجربة الفقدان، ودون إقحام قضايا نسوية حصرية في أولوية النضال، بل وضع ملف المفقودين والمفقودات كأولوية في العمل.
"يوجد شباب ويوجد جيل أكبر عمرا ضمن مجموعة الميثاق، متقاسمين وموزعين الأدوار. أحدهم يتحدث الانكليزية بطلاقة، ورغم خبرتي و كل شيء، الجأ إليه عند حاجتي لمعرفة أمر ما بهذا الشأن. لست صغيرة لأني أسأله، هو بهذا المجال له القدرة على التواصل، أو له علاقات مع أشخاص آخرين. و بالتالي المجموعة متكاملة، ولا يوجد تنافس، ولا يوجد أحد يأخذ مكان أحد ودوره. وهناك احترام متبادل رغم وجود فروق عمرية، والقرارات دائما هي قرارات جماعية وعند الخلاف على موضوع، يتم التصويت عليه جميعا. " فدوى محمد، عائلات من أجل الحرية
5. إدراك أهمية الاستقلالية في العمل
عند الانتقال والتركيز على حراك أسر الضحايا من المعتقل والناجين والناجيات، وتأثير بناء الثقة على قدرتهم على تشكيل تحالفات استراتيجية، فيظهر لدينا محدد جديد يقوض من فعالية تشكيل تحالف، وهو مرتبط بكيفية نشأة الرابطة بحد ذاتها.
تظهر أهمية نشأة روابط أسر الضحايا والناجين/ات في الحالة السورية في إعطاء قدر وأهمية للتنظيم الذاتي للضحايا، وقد تنوعت طرق هذا التنظيم. حيث صنف تقرير "لن يتحدث أحد باسمنا" تأسيس الروابط ضمن ثلاث مجموعات. نشأ الصنف الأول، وفق "إدراك ذاتي"، لمجموعة من المعتقلين/ات السابقين/ات، جمعتهم علاقة قوية بين بعضهم ورغبة بمساعدة معتقلين/ات آخرين/ات. بينما نشأ الصنف الثاني، وفق "إدراك بدافع خارجي"، أي من خلال منظمة وسيطة قامت بإنشاء برامج ودعت لتأسيس روابط ضحايا بشكل مباشر. والنمط الثالث هو مزيج من السابقين، تمثل بعائلات الضحايا – ليست على معرفة سابقة – يجمعها قضية واحدة، اجتمعت مع منظمة وسطية لتحقيق عمل جماعي مطلبي، وفي هذا النموذج برزت المرأة كفاعل أساسي ومحرك في النشأة وفي الاستمرار لهذا الصنف. وبسبب طبيعة الروابط واعتمدها على الحشد الشعبي، حتم الأمر وجود منظمات داعمة تساعد الأصناف الثلاثة السابقة، في النشأة وسير عمل، خاصة في البدايات. إلا أن التأسيس بحد ذاته وما تلاه، لعب دورا في مدى استقلالية الرابطة، من ناحية اتخاذ القرارات والتخطيط الاستراتيجي، وتبعات انتشار شائعات حول تبعية كاملة لمؤسسة النشأة وفقدان الثقة بالرابطة. مما أثر على إمكانية تشكيل تحالفات.
على أهمية الرعاية في نشأة الروابط إلا أنها، خلقت تابعية متخيلة - في أغلب الأحيان- للمؤسسات. في حين أن العلاقة بين الطرفين (الرابطة ومؤسسة النشأة الحاضنة لها)، تعتمد على حاجة كل من الطرفين على الآخر. من حيث توفر مؤسسة النشأة وهي غالبًا مؤسسة سورية في الشتات، أحد الأوجه التالية: اللوجستيات، الخبرة التقنية، تمويل، العلاقات نافذة لوزارات خارجية ودبلوماسيون/ات. بينما تمنح الرابطة وصولا على الأرض والتصاقا بالاحتياجات، مما يزيد من شرعية مؤسسة النشأة.
إلا أنه وبالفعل، ليست العلاقة بين الروابط والمؤسسات الحاضنة متماثلة. فمنها يحمل صفات الوصائية إلى حد ما، تتمثل في اتباع الرابطة للمؤسسة الحاضنة بشكل كبير، بسبب انخراط الأخيرة في المحيط الحيوي للعدالة الانتقالية وتبنيها لغته وأطر عمله منذ بدايات نشوئها، فتبدو نهج العارف والعالم بكل شيء، وتتحول إلى علاقة هرمية منها إلى تبادلية. وعلى الرغم من تعاطف المنظمات الحاضنة وخاصة المهنية الحقوقية مع مطالب الضحايا إلا أنها تجد هذه المطالب غير واقعية – في بعض الأحيان – ولا يمكن تحقيقها بسبب العوائق القانونية أو السياسية المختلفة.
كنتيجة، يضعف النهج الوصائي السابق من استقلالية الروابط وقدرتها على تحقيق تغيير. وبالفعل حاولت إحدى روابط الضحايا خلق مسافة وابتعاد عن المؤسسة الحاضنة بعد عدة سنوات من العمل سوية، لتكوين استقلالية في أخذ القرار وتطور في المؤسسة، تم مقابلتها بمقاومة من المؤسسة النشأة، ورفض لهذا. وتجلى ذلك عند رفض الرابطة مشاركة قاعدة بيانات المعتقلين/ات، مع المؤسسة الحاضنة إشارة لعدم وجود جهود لدعم استقلاليتها، وأن مشاركة قاعدة البيانات سيخلق مزيدًا من التبعية. تخلت الرابطة عن الدعم اللوجستي والفني من المؤسسة الحاضنة، إلا أن ذلك أثر في إمكانية تعاون مستقبلي بينهما. تخشى المؤسسة الحاضنة من عدم استعداد الرابطة وضعف خبراتها أو مؤهلاتها لهذه الخطوة، وظهور نوع من التخبط في اتخاذ القرار. بينما تدرك الرابطة أهمية تحقيق مسافة واستقلالية بعد تراكم معين وإلا فستبقى مقيدة ولن تستطيع تمثيل مجتمعها المستهدف. أثبتت التجارب السابقة لروابط أهالي الضحايا في كل من تونس، غواتيمالا وكينيا وبلدان أخرى، أن استقلالية الروابط وعملها دون وصاية من أحد ولعبها دور لاعب مستقل، من حيث القدرة على اختيار حلفائهم السياسيين وغير السياسيين بحرية على سبيل المثال، أمر محوري في تحقيق فعالية وأثر مطلوب. وقد يثير انخفاض الاستقلالية تساؤلات حول شرعية المنظمات.
التوصيات
- على المؤسسات السورية إدراك أن الاتفاق الأيديولوجي والقيمي التام ضمن العمل الجماعي والتعاون سواءً في بناء التحالف أو غيره، ليس شرطا لبناء الثقة، بل ارتباط بناء الثقة بقدرة المؤسسة في أخذ مخاطرة عند عدم جدوى العمل الفردي.
- تخلق ممارسة تهميش أو عزل أو إقصاء الأصوات النقدية عند نشوء خلافات داخلية، ضعف الثقة ومزيدا من الانقسامات. وإن الوسيلة لتدارك ذلك تكون عبر آلية تواصل مفتوح ومباشر بين الأعضاء بشكل تنظيمي ودوري، متمثلة في اجتماعات دورية، مؤتمرات، منصات الكترونية…الخ. وأن يحرص الأعضاء على جعل مساحات النقاش وتبادل الأفكار ذات أثر على التخطيط، وليست صورية.
- اعتماد آلية (1) واضحة، (2) مُعلنة و (3) مُتفق عليها عند اتخاذ قرار ما، ما يزيد من بناء الثقة بين المؤسسات المدنية من جهة، وبين المؤسسة والمجتمع التي تعمل معه أو تمثله.
- على المنظمات السورية في عملها ضمن تحالف ما، إدراك الخطوط التقليدية للانقسامات والاصطفافات، إن كانت مناطقية، دينية، أيديولوجية أو إثنية. ومن الأهمية فصل الانقسامات والمواقف السياسية عن العمل المطلبي والحقوقي المحصور في التحالف.
- العمل على تنويع أدوات المناصرة والحشد الشعبي، دون الاقتصاد على أداة واحدة فقط (القصة الفردية).
- اعتماد الشفافية كمنهج عمل في إعلان الميزانيات، العقود، مصادر التمويل (بما لا يشكل خطر أمنيا). كونه إجراء يزيد من الثقة بالمؤسسة عند التعاون مع مؤسسة أخرى، أو في علاقتها مع مجتمعها الذي تمثله، وازدياد الغموض والسرية يزيد من الشك والريبة.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.