في 26 فبراير/شباط الماضي، منح مجلس نوّاب الشعب ثقته للحكومة الجديدة التي شكّلها إلياس الفخفاخ. تخرّج رئيس الحكومة الجديد، البالغ من العمر 48 عامًا، من مدرسة الهندسة في صفاقس، وهو مواليد تونس العاصمة، ويشغل حاليًا منصبه الحكومي الثالث بعد أن شغل منصبَي وزير السياحة والمالية بين عامي 2011 و2014. أنهى تصويت مجلس نوّاب الشعب فترة عدم الاستقرار التي سادت البلاد منذ صيف 2019. ورغم حفاظه على بعض ثوابت الحياة السياسية التونسية، يُعَدّ التشكيل الوزاري الجديد نقلةً على عدّة أصعدة.
فلأول مرّة منذ عام 2011، لا تدير البلاد حكومة "وحدة وطنية" كما كان الحال مع الحكومات السابقة؛ إذ يواجه الفريق الحكومي معارضةً برلمانية قد تضم ثلث النوّاب، وهو أمرٌ معتاد في الأنظمة الديمقراطية، ولكنه غير معهود في تونس. حيث حاولت جميع الحكومات التي تشكّلت منذ عام 2011 كسب أكبر قطاعٍ من الأغلبية البرلمانية. وفي الوقت ذاته، يظلّ وضع الحكومة في معظمه حرجًا، إذ لا ينتمي رئيسها للأغلبية البرلمانية، ويعتمد على دعم عدّة أحزاب ليس لديها بالضرورة نفس التوجُّه السياسي.
كما تتمتّع الحكومة بتكوينٍ متفرّد؛ حيث نجد مستقلّين على رأس الوزارات السيادية، ورئيس حكومةٍ ينتمي إلى حزبٍ غير ممثَّل في مجلس النوّاب. لكن تظل مسألة تأثير هذا التشكيل على قدرة الحكومة على إحداث التغييرات المأمولة في تونس غير محسومة. بمجرّد تسلّم الوزراء الجدد مهامهم، شرعوا في مواجهة الأزمة الصحية الناجمة عن فيروس كورونا المستجدّ، والتي طالت جميع القطاعات وتتطلّب درجاتٍ من التنسيق والفعالية والشفافية، وهي كلّها أشياء لم تعهدها الدولة التونسية من قبل.
ما هي الديناميات الجديدة للمشهد السياسي التونسي؟ كيف يمكن قراءة التشكيل الوزاري الجديد وعلاقته برئيس الجمهورية؟ ما هي الديناميّات التي كشفت عنها حتى الآن أزمة فيروس كورونا المستجدّ؟ وما هو المستقبل الذي يمكن التنبّؤ به فيما يخصّ قدرة الحكومة على القيام بالإصلاحات الضرورية؟
2019: عامٌ فوضوي
مرّ المشهد السياسي التونسي بعدّة تقلّباتٍ منذ ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، لم يسلم منها عام 2019. حيث شهدت البلاد في أواخر الصيف وفاة شخصيّتين مهمّتين: رئيس الجمهورية بيجي قايد السبسي في يوم 25 يوليو/تموز، والذي يوافق الذكرى الثانية والستين لقيام الجمهورية، وزين العابدين بن علي في 19 سبتمبر/أيلول. وقد ترك كل من هذين الرجلين أثراً في تاريخ الدولة المعاصر، كلٌّ على طريقته، وبوفاتهما تُطوى صفحتين مهمّتين من حقبة ما بعد الثورة.
كما شكّلت الانتخابات الرئاسية والتشريعية المنعقدة في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2019 تحوُّلاً كبيراً، وأكّدت على تجذُّر الديمقراطية في البلاد، بعد نجاح ثاني عملية اقتراعٍ وطني حرّ وديمقراطي وشفّاف في تاريخ تونس الحديث. وقد حملت الانتخابات عدّة مفاجآت: حيث أتت الانتخابات الرئاسية بقيس سعيد رئيساً للبلاد، وهو أستاذ قانونٍ دستوري لم يلتحق يوماً بأي حزبٍ سياسي أو يترشّح سابقاً في أي انتخابات، بعد أن خاض سباقاً مع 26 مرشّحاً آخر (من بينهم رئيس الحكومة السابق ورئيس الجمهورية الأسبق وبعض الوزراء السابقين)، ومواجهةً في الجولة الثانية مع نبيل القروي، رجل أعمال ثري وقطب من أقطاب الإعلام التونسي.
أما الانتخابات التشريعية فقد أتت ببرلمانٍ أكثر تشرذماً، بغياب الحزب الفائز بالأغلبية خلال الدورة التشريعية السابقة (نداء تونس، الذي كان يرأسه بيجي قايد سبسي)، وتراجع نفوذ حزب النهضة رغم استمرار هيمنته على المشهد السياسي، وظهور عدة قوى من أجل تكوين كتلٍ برلمانية (مثل الحزب الدستوري الحر، والتيار الديمقراطي، وحركة الشعب، وائتلاف الكرامة). تلك اللوحة البرلمانية إنما ترسم وصفاً دقيقاً للمشهد السياسي التونسي بتبايناته وانقساماته وتحالفاته.
وإذا كانت الانتخابات قد أظهرت نضوج الديمقراطية في تونس، فإن تشرذم البرلمان دفع البلاد في طريق عدم الاستقرار بترك الحكومة شبه خاوية لأكثر من ستة أشهر. وخلال تلك الفترة، كلّف حزب النهضة، المتحصّل على أكبر عدد من المقاعد في مجلس النوّاب، الحبيب الجملي بتشكيل أول حكومة، بموجب الإجراء المنصوص عليه في الدستور، وهي المهمة التي فشل فيها في 10 يناير/كانون الثاني حين رفض مجلس النوّاب منحه الثقة بـ134 صوت معارض، و72 صوت مؤيد، وامتناع ثلاثة أعضاء عن التصويت.
وبذلك دخل رئيس الجمهورية آنذاك في سباقٍ مع الزمن؛ إذ تعيّن عليه أن يقوم "في أجل عشرة أيام بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر". وهو الإنذار الدستوري الأخير، وينطوي على رهانٍ كبير، إذ ينصّ الدستور على أنه، في حال لم يمنح أعضاء مجلس نوّاب الشعب الثقة للحكومة للمرّة الثانية، يكون لرئيس الجمهورية الحقّ في حلّ مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخاباتٍ تشريعية جديدة.
الرئيس التونسي يختار ويفاجئ
فرض قيس سعيد، والذي لا زال قليل الارتباط بالعادات والتقاليد الرئاسية، إيقاعه، بأن طلب من جميع الأحزاب السياسية الممثّلة في البرلمان ترشيح أسماءٍ لتولّي رئاسة الحكومة، وعلى غير المألوف، طالبهم بتقديم مقترحاتهم مكتوبة. وفي 16 يناير/كانون ثاني، تلقّى الرئيس قائمةً بأكثر من عشرة مرشّحين، وفي 20 يناير/كانون الثاني، استقرّ على اسم إلياس الفخفاخ المقترَح من حزب "تحيا تونس" الذي يرأسه يوسف الشاهد، رئيس الحكومة السابقة.
ويعدّ اختيار إلياس الفخفاخ مفاجئاً لأكثر من سبب. فبالإضافة إلى كونه أحد منافسي قيس سعيد في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، كان الفخفاخ أحد المرشّحين الرئاسيّين الأقل شعبية إذا ما اعتمدنا على صحّة نتائج تلك الجولة. كما أنه لا ينتمي إلى أي حزبٍ سياسي ممثَّل في البرلمان، حيث كان مرشَّحاً في انتخابات الرئاسة عن حزب "التكتُّل". هكذا اختار قيس سعيد سياسيّاً يحمل أفكار حزبٍ غير ممثَّلٍ في البرلمان.
كذلك لم يختَر الرئيس أيّاً من المرشّحين المقترحين من الحزبَين الحائزَين على أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات التشريعية، وهما "النهضة" و "قلب تونس". وتشير التجارب السابقة إلى أنه، في كل مرّةٍ لم يصل فيها حزب النهضة إلى رئاسة الحكومة، كان هذا مؤشِّراً على مرور الحركة الإسلامية بأزمة.
ديناميّات اللعبة السياسية في ضوء الحكومة الجديدة
يمكن تفسير خيار الرئيس المثير للدهشة من خلال عدّة عوامل. أوّلاً، لم يُخفِ قيس سعيد كثيراً توافقه مع يوسف الشاهد، رئيس الحكومة السابقة آنذاك، والذي تعاون معه منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 إلى فبراير/شباط 2020. وقد التقى الرجلان في عدّة مناسبات من أجل التباحث حول المشاكل الملحّة التي تواجهها البلاد. كما ردّد يوسف الشاهد في العديد من المناسبات عباراتٍ تمتدح الرئيس وتثني عليه، ولم يتردّد في وصفه بـأنه "رجل صادق ووطني ويحب أن يخدم بلاده"، مضيفًا: "أفتخر أن تونس يرأسها الرئيس قيس سعيد وليس ناس آخرين".
شهدت الفترة الواقعة بين اختيار إلياس الفخفاخ لتشكيل الحكومة (20 يناير/كانون ثاني) والتصويت على منح البرلمان الثقة للحكومة الجديدة (26 فبراير/شباط) مشاوراتٍ سياسية مكثّفة. وقد أتاح التشرذم السياسي بين نوّاب المجلس المرشّح لمنصب رئيس الحكومة خلط الأوراق وإعادة توزيع المناصب. حيث منح الفخفاخ حزب النهضة مكاناً في التشكيل الجديد بعد أن أُبعِد هذا الأخير من المفاوضات لبعض الوقت، بينما استبعَد نهائيّاً حزب قلب تونس الذي يمثّله نبيل القروي.
لم تكن المشاورات قائمة على برامج بل على أشخاص، وهي ممارسةٌ أصبحت معتادة في تونس منذ عام 2011. إلا أن هذا لم يمنع الفخفاخ من تقديم موجزٍ ببرنامج عمل حكومته عشيّة جلسة التصويت البرلمانية على منحها الثقة، ويشمل النقاط التالية:
- برنامج هيكلي لإصلاح الدولة واستكمال بناء اللامركزية لملاءمتها مع الدستور.
- إصلاح منظومة التربية والتعليم العمومي
- إصلاح الصحة العمومية
- إصلاح المنظومة الفلاحية من خلال مقاربة شاملة للبعد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي والأمني للفلاحة
- إنجاز النقلة الرقمية
- إنجاز النقلة الطاقية
- اندماج طوعي ومعزز داخل قارتنا الأفريقية Cap Afrique.
يشبه هذا البرنامج إلى حدٍّ كبير برنامج رئيس الحكومة السابق، وهو ما يوكِّد مرّةً أخرى التقارب السياسي بين الرجلين، ويفسّر الموافقة الضمنية التي أعطاها قيس سعيد لهذا التجديد الشكلي. استهجن العديد من نوّاب البرلمان هذا التآزُر، ولكن تمّت مباركته في اللحظة الأخيرة من حزب النهضة بعد أن بات مهدّداً بفقدان مكانته كحزب أغلبيةٍ في البرلمان، إذا ما أقدم قيس سعيد على حلّه إن فشلوا في التوافق حول الحكومة الجديدة.
هناك ديناميةٌ أخرى مثيرة للاهتمام في هذا المشهد السياسي الجديد، وهي تلك التي نراها بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نوّاب الشعب راشد الغنوشي. بوصفه رئيس حزب النهضة، يحمل هذا الأخير على عاتقه مهمّة الحفاظ على مصالح الحزب ومكانته السياسية، إلا أن فشل الحبيب الجملي في تشكيل الحكومة في مطلع العام وضعه في موقفٍ حرج، كرئيسٍ للحزب ورئيسٍ للبرلمان، لعجزه عن كسب تأييد الأغلبية وتمرير الحكومة التي اختار حزبه رئيسها.
وقد اندلعت مواجهةٌ سياسية وإعلامية بين الرئيسين في ديسمبر/كانون الأول 2019، حين أراد الغنوشي إنهاء المحادثات الخاصة بالحبيب الجملي التي دامت لشهرين. حيث شدّد رئيس الجمهورية عدّة مرّات على ضرورة تشكيل الحكومة بشكلٍ عاجل، وهدّد صراحةً بحلّ المجلس إذا لم تتوافق الأغلبية.
يبدو أن ذلك الضغط المتبادل قد انقلب في النهاية لصالح قيس سعيد، حين اضطرّ حزب النهضة إلى التصويت لصالح الحكومة المقترَحة في 20 فبراير/شباط. كان الحزب الإسلامي متمسّكاً بمنح حزب قلب تونس، ثالث كتلةٍ برلمانية، عدّة حقائب، عملاً بما كان متّبعاً في السابق سابقاً في الحكومات الائتلافية. إلا أنه اضطر في النهاية إلى التنازل عن ذلك المطلب وعن ارتباطه المشروط بقلب تونس، بقبوله الانضمام وحيداً إلى الحكومة الجديدة.
تشكيلٌ حكومي فريد على عدّة أصعدة
تلك الحكومة هي فقط الثانية منذ عام 2011 التي تضمّ هذا العدد من الوزراء المستقلّين. فهي الوحيدة التي أسندت هذا العدد من وزارات السيادة إلى أشخاصٍ غير منتمين إلى الأحزاب الكبرى. فنجد أن ثريا جريبي في وزارة العدل، وعماد حزقي في وزارة الدفاع الوطني، وهشام مشيش في وزارة الداخلية، ونور الدين الراعي في وزارة الخارجية، جميعهم وافدون جدد على الساحة الحكومية ومستقلّون.
أمّا بالنسبة للتمثيل الحزبي في الحكومة، فقد حظى حزب النهضة بنصيب الأسد بسبعة وزراء (21،87%)، يليه حزب التيّار بثلاثة وزراء (9،37%)، ثم حزبَي "حركة الشعب" و"تحيا تونس" بوزيرين لكلٍّ منهما (6،25%). أما الوزراء المستقلّون فعددهم 18، ويمثّلون حوالي 56% من التشكيل الحكومي.
كما أنه، وللمرّة الأولى، لا تكون الحكومة "حكومة إئتلاف وطني" كما كان الحال بالنسبة للحكومات السابقة منذ 2011. فالأحزاب المتحصّلة على المراكز الثاني (قلب تونس) والثالث (الحزب الدستوري الحرّ) والخامس (ائتلاف الكرامة) في الانتخابات البرلمانية من حيث عدد الأصوات، صارت أحزاب المعارضة في المجلس. يُعَد هذا الوضع مألوفاً في الأنظمة الديمقراطية، بيد أنه غير مألوفٍ في تونس؛ إذ غالباً ما كانت الحكومات المتعاقبة منذ عام 2011 تسعى إلى كسب أكبر قطاعٍ من الأغلبية البرلمانية.
وقد فتحت تلك الحكومة المجال أمام شكوكٍ عديدة حول قدرتها على جمع الأصوات الـ109 الضرورية لحصولها على الأغلبية، وتوقّع العديد من الخبراء أن يتم تمريرها كحكومة أقلية. ولكن في 20 فبراير/شباط، حصلت الحكومة في جلسةٍ برلمانية امتدّت لسبع ساعات على 129 صوت، في مقابل 77 صوتاً معارضاً وامتناع عضوٍ عن التصويت. أتت تلك الأصوات من خمس كتلٍ برلمانية من أصل ثمانٍ، وبضعة نوّاب مستقلّين. يُكسِب هذا التقسيم المعارضة بالكاد قوّة الثلث المعطّل (قلب تونس والكرامة والحزب الدستوري الحر) بـ73 نائباً، وهي القوّة التي تمكّنهم من ممارسة ضغطٍ كبير ككتلةٍ متجانسة (دون انقساماتٍ أو غياب).
شكل 1: تقسيم الأصوات بحسب الكتلة أثناء التصويت على منح الثقة للحكومة المقترحة من إلياس الفخفاخ في 0 فبراير 2020 (المصدر: البوصلة)
أمّا عناصر التفرُّد الأخرى فتتعلّق بباقي التشكيل الحكومي. فلم تتولّى النساء سوى 6 حقائب وزارية من أصل 32 حقيبة؛ أي ما يعادل 18،75%، وهي نسبة ضعيفة مقارنةً بالحكومات السابقة، ولكن علينا أن نحتفي بتولّي ثريا جريبي وزارة العدل، لتكون بذلك أوّل امرأة تشغل هذا المنصب في تونس.
كما أن تنوّع الوزراء في الحكومة الجديدة أمرٌ يستحقّ الاهتمام؛ فلم يشغل من هؤلاء الوزراء مناصب حكومية من قبل سوى الثلث، وهو ما يجعلها بحقّ حكومةً ذات دماءٍ جديدة.
تحدّياتٌ ملحّة مصحوبة بأزمة صحّية كبرى
يهدّد تفتُّت الأحزاب داخل مجلس نوّاب الشعب بعطلٍ تشريعي منهجي. فمشروعات القوانين الأساسية (المتعلّقة على سبيل المثال بالحقوق والحرّيات الأساسية أو بتوازن القوى) تتطلّب أغلبيةً مطلقة قوامها 109 نائب، وهو رقم يصعب الوصول إليه غالباً بسبب تغيُّب بعض النوّاب والخلافات بينهم. من ناحيةٍ أخرى، لم تكتمل بعد العمارة المؤسّسية التي نص عليها الدستور الجديد. وسيكون على مجلس النوّاب ورئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء القيام بالمهمّة الصعبة المتمثّلة في اختيار كلٍّ منهم أربعة أعضاء للمحكمة الدستورية.
يتولّى الفريق الجديد مقاليد الحكومة، وعليه أن يواجه تحدّياتٍ اقتصادية واجتماعية وبيئية وسياسية جمّة. إلا أن السياق سرعان ما ازداد تعقيداً بعد الهجمات التي وقعت في يوم 6 مارس/آذار في تونس العاصمة بالقرب من السفارة الأمريكية، ثم تفشّي وباء كوفيد-19، والذي يمثّل أكبر تحدٍّ للحكومة الوليدة. وقد سجِّلت أول حالة إيجابية في تونس يوم 2 مارس/آذار 2020.
على الصعيد السياسي، يبدو مجلس نوّاب الشعب، والذي يمارس مهامه عن بُعد منذ أكثر من شهرين، منقسماً أكثر من أي وقتٍ مضى، كما تتعالى أصوات أحزاب المعارضة التي تنادي بسحب الثقة من رئيس المجلس (وهو رئيس الحزب الحاصل على أكبر عددٍ من المقاعد، راشد الغنوشي)، ممّا يضعف الائتلاف الحكومي أكثر فأكثر.
دون رابطٍ سياسي مباشر بين رئيسٍ منتخَب حديثاً وفريقٍ وزاري بدأ للتوّ عمله، كان من الممكن أن يتأثّر التواصل بينهما بسهولة فيما يخصّ إدارة الأزمة الصحّية. لكن يبدو أن الأمور سارت في الاتجاه الصحيح؛ حيث فرض رئيس الدولة حظر التجوال في كافة أرجاء البلاد في 17 مارس/آذار 2020، عملاً بالصلاحيّات التي تمنحها له المادة 80 من الدستور المتعلّقة بالاجراءات الاستثنائية. وفي اليوم التالي، اتّخذ رئيس الحكومة حزمة إجراءاتٍ صحّية وأمنية واقتصادية بموجب المادة 70 من الدستور.
وفي كل ظهورٍ إعلامي لهما، يحرص الرجلان على تنسيق رسائلهما وترتيب مداخلاتهما على هذا الأساس. في حوارٍ تلفزيوني أجري معه في 12 مايو/ايار 2020، أجاب رئيس الحكومة عن السؤال الموجّه له حول علاقته بالرئيس قائلاً: "نحن نتقاسم نفس القيم، نفس المشروع لتونس، نفس الحس الاجتماعي، ونفس الإرادة من أجل التغيير دون ارتباط بأي لوبي. لقد أوصلته إلى الحكم ثقة الشعب وأنا نفس الشيء، هو اختارني. أدين بذلك له ولأكثر من 120 نائب ".
تلك الآلة الحكومية يبدو أنها تدور بسلاسةٍ يوماً تلو الآخر، مستفيدةً من التوقّف الجزئي لمجلس نوّاب الشعب أثناء الأزمة؛ حيث قرّر النوّاب إيقاف الاجتماعات المباشرة في اللجان والجلسات العامة، والتقليل من وتيرة أعمال التشريع والرقابة، والعمل من منازلهم. أسفر ذلك عن تخفيف الضغط السياسي الذي يُمارس على الفريق الحكومي، وتراجُع المشرّع إلى الصفوف الخلفية لخط المواجهة مع فيروس كورونا المستجدّ. حيث قرّر مجلس نوّاب الشعب في جلسته العامة المنعقدة في 5 إبريل/نيسان تفويض جزءٍ من سلطاته إلى رئيس الحكومة لمدّة شهرٍ واحد في المجالات المتعلّقة بمكافحة الوباء. يتيح ذلك التفويض لرئيس الحكومة إصدار مراسيم بقوانين، وهو وضعٌ لم تشهده البلاد منذ قيام الثورة.
من المتوقَّع أن تمتدّ التحدّيات الناجمة عن فيروس كورونا المستجدّ على المدى المتوسّط والبعيد، وستتجلّى في التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية التي يتوجَّب على تونس مواجهتها كغيرها من البلدان. سيضع كافة مراقبي الشأن السياسي التونسي ديناميّات السلطة تحت المجهر، ولن يتردّدوا في رصد قوّة التقارب بين رأسَي السلطة التنفيذية، أو على العكس، ضعفه، كما سيرصدون تحرُّكات رئيس البرلمان على الساحة السياسية، بالإضافة إلى تحرُّكات قادة كُتَل الأغلبية والمعارضة.
أمام كل هذه العوامل التي تعرضها هذه الورقة التحليلية، من الصعب توقُّع تطوُّر العلاقات بين مختلف السلطات، ممّا يجعل أي تكهُّن متعلِّق باستمرارية حكومة إلياس الفخفاخ أكثر تعقيداً. يبدو من آخر تصريحاتٍ إعلامية قام بها رئيس الوزراء أنه لا يزال واثقاً في قدرة فريقه على تخطّي الصعاب الناجمة عن الأزمة الصحية، وفي قدرته على الحفاظ على الروابط الاستراتيجية مع رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان بما يحفظ مصالح الجميع.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.