مقدّمة
شرعت الحكومة المغربية منذ 20 أيار/مايو 2024 في تفكيك ما تبقى من صندوق المقاصة (La Caisse de compensation)[1] عبر التقليص الجزئي لدعم الدولة لأسعار غاز البوتان، بعدما تخلت عن دعم المواد النفطية السائلة منذ عام 2015 على أساس تخصيص المتوفِّرات لتدعيم الاستدامة المالية للتحويلات النقدية المباشرة المُوجَّهة للفئات الفقيرة، والتي ستبلغ ميزانيتها حوالي 3 مليار دولار بحلول سنة 2026.
تدّعي الحكومة أن نظام المقاصّة يفيد الأغنياء أكثر من الفقراء. لكن في المقابل، من شأن التخلي عن هذا النظام، الذي يشكل آخر قلاع الدولة الرعائية (Welfare State)، الإضرار بالوضع المعيشي للفئات الفقيرة ومتوسطة الدخل، خاصة أمام محدودية الاحتياطات المتخذة لمعالجة التداعيات السلبية لهذا الإصلاح في ضوء تحرير أسعار المحروقات الذي أثّر سلبا على القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود.
ترصد هذه الورقة السرديات المُؤسِّسة للتخلّي عن الدعم السلعي الشامل والأطر الحجاجية لتبرير إصلاح نظام المقاصة في المغرب، مع إبراز تداعياته الاقتصادية والاجتماعية. كما تحاول الدراسة استشراف آثار هذا التحول الهيكلي على توازنات النسيج الاجتماعي نتيجة تعميق الفجوات الاقتصادية-الاجتماعية بين الفئات المستفيدة والمتضررة من رفع الدعم المالي عن المواد الأساسية.
السياقات المؤسِّسة لإصلاح نظام المقاصة بين الدولي والوطني
توالت ضغوط المؤسسات المالية الدولية لتوجيه سياسات إعادة توزيع الموارد العامة والثروات نحو التكريس الفعلي لأقل ما يمكن من الدولة (L'État minimal) منذ عشرية التقويم الهيكلي (1983-1993). وقد حوَّلت هذه الجهود نظام المقاصة إلى مجرد أداة بسيطة داعمة لخطة توسيع شبكات الأمان الاجتماعي. وتزامن ذلك مع مرحلة الخصخصة المكثَّفة (1993 - 2007) التي أذِنت بتفويت عدة قطاعات حيوية إلى القطاع الخاص، وصولا إلى السياقات الموازية والموالية لاحتجاجات 2011 التي استغلتها الجهات المانحة لفرض رؤيتها النيوليبرالية للسياسة الاجتماعية الداعية لاستبدال نظام دعم الأسعار (Décompensation) بتحويلات نقدية مستهدفة. وقد ساهم تعقّد الوضع المالي للبلاد في الارتهان أكثر لاستحقاقات الشراكة مع صندوق النقد الدولي الذي جعل الحصول على خط الوقاية والسيولة (PLL) منوطا بتقليص الإنفاق العمومي من ضمن مجموعة إصلاحات لا اجتماعية (Antisocial) على رأسها التحرير التام للأسعار.
وفي مفارقة صارخة، انطلقت أولى ترتيبات الإجهاز على صندوق المقاصة مع الحكومة المنبثقة عن الربيع العربي، حيث دشّنت حكومة عبد الإله بنكيران (2012-2017) مسلسل التفكيك التدريجي للصندوق منذ حزيران/يونيو 2012، برفع الدعم جزئياً عن المواد البترولية التي انتقلت تكلفتها من 412 مليون دولار في 2002 إلى 5.7 مليار دولار في 2012. بالرغم من ذلك، أصبحت نفقات المقاصة تمثّل %5.1 من الناتج المحلي الإجمالي في 2013 مقارنة ب 1.7% في 2009، كما انتقلت نسبته من مجموع نفقات الاستثمار العمومي خلال نفس الفترة من 23.9 إلى88.5% نتيجة البديل السياساتي المتّبع والمفصّل لاحقا. في ضوء ذلك، تسارعت الأجندة النيوليبرالية بإطلاق نظام للمقايسة (L’indexation) في أيلول/ سبتمبر 2013 التزمت بموجبه الحكومة بوضع سقف محدَّد لدعم المنتوجات الطاقية، وصولا إلى التحرير النهائي لأسعار الوقود في كانون الأول/ ديسمبر 2015.
تعويضا عن ذلك، حاولت الحكومة إضفاء "مسحة اجتماعية" على الخلفيات الماكرو-اقتصادية للإصلاح، حيث تعهدت بموجب قانون المالية لسنة 2012 بإطلاق صندوق التماسك الاجتماعي كآلية لتمويل مساعدات نقدية مستهدفَة لفائدة بعض الفئات الهشة كالأرامل والمطلقات الفقيرات وذوي الاحتياجات الخاصة، وذلك تحت تأثير الجهات المانحة التي أوصت بمصاحبة التخلي عن الدعم السلعي بتقوية شبكات الأمان الاجتماعي الموجَّهة لشرائح السكان محدودة الدخل. وكان المغرب قد قبِل منذ سنة 2018 مساعدة من البنك الدولي في تصميم السجل الاجتماعي الموحد (RSU) كقاعدة معلوماتية لحصر المستفيدين من الدعم الاجتماعي المباشر، الذي انطلق العمل به منذ كانون الأول/ ديسمبر 2023 بهدف منح إعانات شهرية لكل أسرة فقيرة تتوفر على مؤشر عددي يُثبت استحقاقها للدعم النقدي. في خضمّ ذلك، شرعت حكومة عزيز أخنوش (2021-2026) في تنفيذ مخطط متعدّد السنوات لتحرير ثمن الغاز انطلاقا من أيار/ مايو 2024 مع أفق لتحريره بشكل تام بحلول عام 2026 على أساس تخصيص ميزانية مُعادَلة أسعار غاز البوتان للتحويلات النقدية المستهدَفة.
الخطاب الحجاجي حول إصلاح صندوق المقاصة: السرديات والسرديات المضادة
من خلال تتبّع الخطابات الحكومية، يمكن استنتاج أهم ملامح السردية الرسمية بخصوص تفكيك صندوق المقاصة، والتي كانت موضوع نقد من طرف أصحاب مصلحة آخرين كالنقابات العمّالية والجمعيات المدنية ومجمل تعبيرات الحركة الاجتماعية التي حاولت التصدي للرواية الحكومية:
- الإصلاح كغطاء للتفكيك: وعيا بمركزية صندوق المقاصة في المخيلة المجتمعية، فقد تعهدت الحكومة بإصلاح عادل للصندوق بشكل يكفل الملاءمة بين التوازن الميزانياتي والعدالة الاجتماعية، حيث تم الرهان على توظيف الهوامش المالية المُوفَّرة في معالجة الاختلالات الهيكلية للميزانية العامة – على غرار توصيات صندوق النقد الدولي المتعلقة بالتقشف و"التعزيز المالي" – مع تقديم وعود متتالية للاحتفاظ بدور صندوق المقاصة الحيوي كصمام أمان للسلم الاجتماعي. لكن الترتيبات المتخذة تندرج ضمن استراتيجية "غير مُعلنَة" لتغيير مرجعية الفعل الاجتماعي للدولة من نهج مستند على الحقوق إلى نهج قائم على التخفيف من حدّة الفقر.
- إجراء "لا شعبي" في مصلحة "الشعب": حثت الخطابات الرسمية منذ سنة 2011 على تفهّم الطابع المؤلم واللاشعبي لإصلاح صندوق المقاصة في سبيل إنقاذ الميزانية العامة للدولة. هذا الخطاب الأبوي (Paternaliste) شكَّل خلفية سياسية لفرض إصلاح فوقي وقسري لنظام المقاصة بدون أي إشراك للفاعلين الاجتماعيين، مع الإصرار على الإنهاء التدريجي لنظام المقاصة بالرغم من ظهور تأثيرات عكسية لذلك على الأوضاع المعيشية للطبقات الضعيفة التي طالما اعتُبِرت الباعث الأساسي وراء الإصلاح بحسب خطابات أصحاب المصلحة.
- دولة اجتماعية بنكهة نيوليبرالية: نص القانون الإطار رقم 09.21 المتعلق بالحماية الاجتماعية في المادتين 8 و13 على توجيه متوفرات إصلاح المقاصة لتعميم التعويضات العائلية. في ضوء ذلك التزمت الحكومة بتخصيص 20 مليار درهم من متوفرات رفع دعم الأسعار لتقديم تحويلات نقدية مباشرة لفائدة 7 ملايين طفل في سن التعليم المدرسي، وهو ما يعني أن المخصصات السابقة للدعم المالي السلعي تشكل حوالي 40% فقط (5 مليار دولار) من الغلاف المالي السنوي لعمليات الحماية الاجتماعية التي يجرى تنفيذها خلال فترة 2021-2025. رغم ذلك، يحتمل هذا المَنفَذ التمويلي عدة مخاطر على السياسات الاجتماعية إذ يجعلها أكثر نيوليبرالية في دفعها للانتقال من مخططات شاملة تطال الجميع إلى تدخلات انتقائية تستهدف نطاقا محدودا من المستفيدين.
- قطعٌ لِدابرِ الريع الاجتماعي أم شرعنة له: شكل التسرُّب المالي عَصب السردية الحكومية انطلاقاً من معطيات رسمية تفترض استفادة غير المستحقين من الدعم السلعي، على اعتبار أن الفئات الفقيرة التي تمثّل %34 من المجتمع كانت تستفيد بالكاد من7% من الدعم المخصص للمحروقات فيما كان يذهب %42 منه للأغنياء. نفس الأمر بالنسبة للغاز، حيث لا يحصل المواطن البسيط – بحسب البيانات الحكومية – سوى على %12 من الأموال التي تخصصها الدولة لدعم هذه المادة الحيوية. لكن في المقابل، من شأن تحرير أسعار هذه المواد أن يعيد إنتاج الرِّيع (La rente) في ظل الافتقار إلى آليات ناجعة لِلَجم المضاربات والممارسات الاحتكارية كالتخزين وغياب أي نظام للتتبع الدقيق لحركة الأسعار على المستوى الدولي وأثرها على المستوى الداخلي؛ وخير مثال على ذلك، استفادة شركات توزيع المحروقات من أرباح إضافية "فاحشة" تتراوح بين 6.5 و7 مليار دولار منذ تحرير القطاع في كانون الأول/ ديسمبر 2015 بحسب الخبير الاقتصادي محمد بنموسى.
المؤشرات الأولية للتأثيرات السوسيو-اقتصادية لتحرير أسعار المواد الطاقية
كان من المُنتظَر أن يُسفِر تحرير أسعار المحروقات، بحسب الخطاب الرسمي، عن تقلص كبير لفاتورة المقاصة، وذلك من 6.5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2012 إلى %1.4 في 2016. فتح هذا المكسب المالي المرتقب شهية الحكومة لتحرير ما تبقى من المواد المدعومة (Produits subventionnés)، حيث تم الرهان من خلال تحرير سعر الغاز على توجيه الموارد الموفرة (حوالي 1.2 مليار دولار سنويا) لتقليص العجز في الميزانية العامة من 4% في 2024 إلى 3% في 2026. وقد اعتبر رئيس الحكومة أن رفع الدعم عن الغاز سيخفف من الأعباء المالية للدولة إذ تقارب حصته 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي أعلى نسبة ضمن دائرة الدول لهذه المادة كمصر والهند وإندونيسيا وتونس، حيث تتراوح الحصة بين %0.20 و2.7%.
لكن على عكس التطمينات الحكومية، أسهمت تقلبات السوق الدولية في تعظيم كُلفة المقاصة التي يُرتقب أن تصل في 2025 إلى 1.6 مليار دولار، مُوزَّعة على دعم غاز البوتان ( 1.06 مليار دولار) والقمح (151 مليون دولار) والسكر (400 مليون دولار)، مع ارتفاع فاتورة دعم المواد الغذائية بنسبة 13.3% في 2024 مقارنة بسنة 2023، وكذلك ارتفاع فاتورة الإعانات المخصصة لِمهنيي النقل الطرقي لدعم استقرار أسعار نقل الأشخاص والبضائع التي ناهزت 156 مليون دولار في 2024 بزيادة قدرها 93% مقارنة بالسنة السابقة. يُعبِّر ذلك عن فشل سياسة تحرير المحروقات من منظور أصحاب المصلحة، حيث دعت النقابة الوطنية لقطاع النقل الطرقي للبضائع إلى استبدال الدعم المالي بدعم عيني في صيغة قسائم على شاكلة غازوال مهني (Diesel Professionnel) للتخفيف من أعباء ارتفاع الأسعار على غرار عدة دول أوروبية.
من زاوية الاقتصاد الكلي، ثمة حالة من اللايقين بخصوص العائد المالي لتحرير الأسعار في ظل اضطراب المؤشرات الماكرو-اقتصادية. فقد تراجع عجز الموازنة بالكاد من %4.5 من الناتج المحلي الإجمالي في 2015 إلى 4.3% في 2023. كما أن تحرير المواد، التي كانت تلتهم قسطا وافرا من الإنفاق العمومي، لم يخفف من المديونية التي أصبحت تشكل %69 من الناتج المحلي الإجمالي في 2024 بعدما كانت تراوح %58 في 2014. ومن شأن محدودية المكاسب الاقتصادية للإصلاح أن يرسخ أكثر النهج النيوليبرالي في تصميم السياسات الاجتماعية تحت ضغط الجهات المانحة بجعل شبكات الحماية الاجتماعية تقتصر على الأشخاص الأشد فقرا لدواعي تقشفية.
وبمعزل عن حقيقة الأثر المالي للإصلاح، فإن المعضلة تبرز بشكل أوضح من زاوية الاقتصاد الجزئي في ظل تضرر الأسر الهشة والمقاولات الصغرى ومتوسطة الحجم من رفع الدعم. فتعهُّد الحكومة بالتخصيص الاجتماعي للأموال الموفرة بفضل "الإصلاح" يظل غير ملموس، إذ مكَّن تحرير أسعار المحروقات في الحد الأدنى من توفير 3.5 مليار دولار سنويا منذ 2016، لكن هذه العوائد لم تُوجَّه بالقدر الكافي لتعزيز ولوج الفئات الأكثر احتياجا إلى شبكات الأمان الاجتماعي. لا يزال تعميم الحماية الاجتماعية متعثرا في ظل حرمان عشرات آلاف الأسر من الحق في التغطية الصحية بحكم تصنيفها خارج عتبة الاستحقاق من قِبل خوارزميات الاستهداف، التي تنتصر للحسابات الميزانياتية على حساب الاعتبارات الحقوقية، عدى عن صعوبات ولوج المشمولين بالتأمين الصحي المجاني (Amo Tadamon) إلى الخدمات الصحية أمام محدودية سَلَّة العلاجات وضعف تغطية مصاريف الاستشفاء والدواء.
تنطبق نفس المآل على برامج المساعدة الاجتماعية، حيث تم التعويل على العائد المالي لتحرير سعر غاز البوتان في توسيع قاعدة الأسر المستفيدة من نظام التحويلات النقدية ليشمل خمسة ملايين أسرة بدلا من أربعة ملايين حاليا، مع تعزيز ميزانيته التي يُرتقب أن تنتقل من 2.5 مليار دولار في 2024 إلى حوالي 3 مليار دولار في 2026. جزء منها يتأتى من قرض مرتقب من البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار. لكن بالرغم من ذلك، فإسهام التحويلات النقدية المباشرة في تحسين القدرة الشرائية للفقراء لا يزال مشكوكا في أمره أمام ضآلة المبالغ الممنوحة التي سرعان ما تلتهمها موجات التضخم، بالإضافة إلى غموض معايير تحديد المستهدفين وما ينجُم عن ذلك من استبعاد أعداد كبيرة من الأسر الفقيرة والتي تتجاوز – حسب بعض التقديرات – مليون أسرة بدعوى ارتفاع المؤشر العددي الخاص بتحديد مستحقي الدعم النقدي المباشر.
الآفاق المرتقبة لتوازنات النسيج الاجتماعي في ضوء تبعات تفكيك صندوق المقاصة
يُنذِر التداعي التدريجي لصندوق المقاصة بالإخلال بتوازنات النسيج الاجتماعي حيث لا يبدو أن استبدال الدعم المالي المُعمَّم بالدعم النقدي المُستهدَف سيُسهم في تحسين فعالية سياسات إعادة التوزيع. ليس ذلك فقط جرّاء الاختلالات الظرفية نتيجة تحرير الأسعار، بل بسبب العيوب المتأصّلة في منهجية الاستهداف التي من شأنها أن تُعمِّق أكثر من هشاشة إعادة توزيع المداخيل والفجوات الاجتماعية. ففي حين يُعتَبَر الدعم السلعي مُفيد بالدرجة الأولى للفئات الغنية، والتي طالما جُعِلَت استفادتها الريعية هذه مُسوِّغا للتخلي عن نظام المقاصة حيث توحي الإحصاءات الأولية بأن مكاسب هذه الفئات تفوق بكثير خسائرها، ما يضيع من هذه الفئات من دعم غير مستحق من المواد الطاقية سرعان ما تسترجعه أضعافا مضاعفة بالزيادة في الثمن النهائي للسلع. ويأتي ذلك في ظل غياب أي تدابير لحماية الفئات الاجتماعية وأطراف السوق الأكثر تأثُّرا.
على النقيض من ذلك، في ما يخص الفئات الضعيفة، لا يبدو أن أحوالها المعيشية تتحسن بالمستوى الذي يُوازي العائد المالي لإصلاح المقاصة، بل تبقى قوتها الشرائية مهدَّدة بالتآكل المستمر أمام ارتفاع الأسعار وتثبيت الأجور، كما حصل في الجزائر منذ شروعها في التخلي عن الدعم الشامل للسلع الأساسية. صحيح أن المساعدات النقدية المستهدَفة قد تُمكِّن الفقراء من الحصول على إعانات منتظمة لتلبية بعض احتياجاتها لكنها أبعد ما تكون عن إمكانية تأمين الحد الأدنى للدخل اللازم للعيش الكريم (revenu de dignité)، ليس فقط بسبب ضعف قيمتها وإهمال عامل التضخم، بل كذلك لكون منهجية الاستهداف قاصرة عن المستفيدين المستحقين فعليا. وذلك على غرار التجارب الدولية التي تبرز أن الدعم النقدي المباشر قد يكون أكثر استبعادا من الدعم المالي السلعي، حيث تقارب نسبة أخطاء إقصاء الفئات الهشة بالمكسيك 70%. وحتى جورجيا التي طالما قدمها البنك الدولي كتجربة فُضلى شهدت استبعاد %46 من أفقر %10 من السكان.
فيما يتعلق بالوضع السوسيو-اقتصادي للطبقة الوسطى، فهو آخذ في التدهور بحكم تضررها المزدوَج من تفكيك نظام المقاصة. فهي من جهة مُرغمة على شراء السلع الأساسية بثمن السوق دون أن يكون لها إمكانية الاستفادة من أي دعم، ما قد يؤدي إلى تدحرجها نحو عتبة الفقر. ومن جهة أخرى، فهي تفتقر للبديل الناجع والقادر على التعويض عن ذلك في تأمين حد أدنى من الضمان الاجتماعي. فضلا عن ذلك، أصبح جزء واسع من هذه الطبقة ملزَم بالمساهمة في تمويل البرامج الاجتماعية الجديدة خلال المحلة الانتقالية الحالية من إصلاحات الضمان الاجتماعي، وإن كان الكثير من تلك الإصلاحات في الاتجاه الصحيح. فتنطوي تلك الإصلاحات على إقرار تحملات جبائية متتالية تثقل كاهل الطبقة الوسطى كفرض المساهمة الاجتماعية على الأرباح والدخل على كل موظف أو أجير يساوي أو يفوق أجره الشهري 20 ألف درهم في حدود 1.5% من الأجر الصافي.
ولا بد هنا من الإشارة إلى الضرر الواقع على الوسط المفقود (Missing Middle) الذي يشمل العمالة غير المُنظَّمة المنتمية للطبقة الوسطى، فعدم تسجيلها بصندوق الضمان الاجتماعي يحرمها من التأمين الصحي ومعاش التقاعد، كما أن خوارزميات الاستهداف تقصيها من الإعانات النقدية المُوجَّهة للفقراء. وفي المقابل، فقد تدهورت أوضاعها على وجه الخصوص بفعل تحرير الأسعار، حيث أغفلت هذه التدابير الحكومية التأثير السلبي لتحرير المحروقات على القطاع غير المهيكَل بما في ذلك قطاع الزراعة الذي يُعَد المصدر الاستراتيجي للدخل والتوظيف في المغرب. وإن كانت الحكومة تدّعي أن المستهدف برفع الدعم عن الغاز هي الفئات غير المستحقة التي تستغله لأغراض مهنية، فإن التأثير المباشر يقع، إلى جانب الأسر الفقيرة، على هذه الفئة، حيث يستحوذ الإنفاق على غاز الطهي قسطا وافرا من ميزانيتها مقابل الأسر الميسورة التي تعتمد أكثر على الكهرباء، وكذلك الأمر بالنسبة للتنقل، إضافةً إلى التداعيات على السلوك الاقتصادي للفئة السكانية الأكثر حرمانا التي قد تلجأ إلى التدفئة بالحطب ووضعية المزارعين البسطاء الذين اضطر العديد منهم لاستعمال غاز البوتان هروبا من الكلفة المرتفعة لسعر الوقود.
الخاتمة
في الحصيلة، يَبرُز ضعف الأثر الاجتماعي لإصلاح نظام المقاصة. فبعد مرور حوالي عقد من الزمن على التحرير الكلي لأسعار المحروقات، لا تزال الشكوك قائمة حول إرادة توجيه مدّخرات رفع الدعم المالي السلعي إلى حماية القدرة الشرائية للفئات الأكثر تضرراً. بدلاً عن ذلك، يُؤشِّر الواقع السوسيو-اقتصادي على تدهور الوضع المعيشي للطبقات الفقيرة والمتوسطة؛ فالفقراء ازداد وضعهم بؤسا، والطبقة الوسطى أصبح قطاعها الأوسع يقترب من دائرة الفقر، وذلك جراء غياب مظلة تنموية لتعزيز القوة الشرائية للشرائح المتضررة من رفع الدعم. هذا إلى جانب العيوب المنهجية للتحويلات المباشرة التي تهدف فقط للتخفيف من حدّة الفقر عوضاً عن استئصاله وتستند على سياسات "زبونية" تتوجه إلى قاعدة اجتماعية محدودة بدلا من سياسات شاملة تُموَّل بإصلاحات جبائية عادلة.
بشكلٍ عام، تشير نتائج تحرير أسعار الموارد الطاقية عن فشل مزدوَج؛ فلا هي مكَّنت من ضبط التوازنات الماكرو-اقتصادية اللازمة لِتعافي المالية العامة، ولا هي حفِظت توازنات النسيج الاجتماعي وحدّت من اللامساواة. وهي تأثيرات مُقبِلة على التفاقم في ضوء تجربة بعض الدول التي ارتضت الدعم النقدي المستهدَف بديلا عن الدعم المُعمَّم الذي تُثبت التجارب المقارنة أنه يفيد الفقراء أكثر من غيرهم. في ضوء ذلك، يتعيّن إعادة الاعتبار لنظام المقاصة كآلية لتثبيت أسعار المواد الأساسية وفق منظور جديد يُوازِن بين حماية القدرة الشرائية للفئات الضعيفة والتصدّي لحالات الهدر المالي. كما يتوجب الوعي بكون نجاعة الدعم العمومي تفترض بالضرورة تصميم سياسات اجتماعية شاملة تراهن على اجتثاث الجذور المُورِّثة للتفاوتات الاجتماعية بدل استهداف أعراضها.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.