إن قيام دولة واحدة يعيش فيها الفلسطينيون والإسرائيليون على كامل أرض فلسطين التاريخية على أساس المساواة الكاملة يمثل بدون جدال الحل المُفَضَّل للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. وبافتراض أن هذا الكيان سيضمن التكافؤ الفردي والجماعي، وأنه سيحل قضية اللاجئين بشكل مرضٍ، فسيؤدي إلى إحقاق حق الفلسطينيين الوطني الأساسي في تقرير المصير بشكلٍ يتوافق مع الطموح الفلسطيني الأوسع لتكامل عربي أكبر.
ومما لا شك فيه أن إقامة دولة واحدة ديمقراطية في فلسطين كنتيجة لأي عملية لا يمكن أن يتحقق بدون إلغاء الصهيونية كمؤسسة رسمية، وبدون تخلي إسرائيل عن المبادئ الأساسية للتفوق السياسي اليهودي والتفوق الديموغرافي والهيمنة الإقليمية على وجه التحديد، وهي المبادئ التي وجّهت سياسة الدولة منذ عام 1948. إن احتساب الثمن الذي يتطلبه حل الدولة الواحدة مقابل المنفعة التي ستنتج عنه مرهون بقرار يتخذه حكام إسرائيل بأن ثمن الحفاظ على الدولة الصهيونية قد ارتفع بشكل غير مقبول وأنهم لذلك يختارون التخلي عنها. لكن الطريق السياسي نحو قرار كهذا غير موجود لأن النخبة الإسرائيلية وكذلك الأغلبية الساحقة من مواطني إسرائيل اليهود من جميع الأطياف السياسية لن يفكروا بمستقبل خالٍ من الصهيونية إلا كنتيجة لهزيمة عسكرية حاسمة. وحتى عندئذٍ، فمن غير الممكن تجاهل إمكانية أن قادة إسرائيل قد يلجأوا إلى الاعتماد على ترسانتهم النووية لتفادي الهزيمة – وهو ما يعرف بخيار شمشون.
بالنظر لتوازن القوى السائد بين إسرائيل والفلسطينيين، وكذلك الوقائع الجيوسياسية الحالية التي تعزز هذا التوازن ولا تتحداه، فإن جميع الحلول المعروضة حالياً والتي تنطوي على الدولة الواحدة هي تلك التي اقترحتها الولايات المتحدة في مبادرتها الدبلوماسية في يناير 2020 وكذلك الحلول التي يقترحها اليمين الإسرائيلي الراديكالي الذي تتبنى واشنطن أجندته. وبعبارة أخرى، فإن المنادين بالدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية في فلسطين الذين لا يستطيعون اقتراح استراتيجية عسكرية ذات مصداقية لتحقيق ذلك يتعاملون مع أوهام بعيدة المنال بدلاً من حلول مجدية. قد تتغير الديناميات التي أنتجت هذه الحقائق، لكن الوضع الحالي للحركة الوطنية الفلسطينية والمنطقة الأوسع تشير إلى أن هكذا تغيير سيستغرق عقودا وليس مجرد سنوات. كما تجدر الإشارة إلى أن الضغط الاقتصادي الذي يفوق بكثير ما تنادي به حركة المقاطعة الاقتصادية (BDS) لم يحقق نجاحاً يذكر في تغيير أي نظام خلال المئة سنة الماضية وسيلعب دوراً ثانوياً في أحسن الأحوال.
إذن كيف يمكن، وكيف يجب على الفلسطينيين أن يردوا على مقترح واشنطن الأخير لإضفاء الطابع الرسمي على السيطرة الإسرائيلية الدائمة على الشعب الفلسطيني؟ هل عليهم أن يتخلوا عن إطار حل الدولتين أملاً في قيام دولة واحدة ديمقراطية في نهاية المطاف؟
إن خطة ترامب-نتنياهو، والتي أدينت على نطاق واسع كونها تضفي الطابع المؤسساتي على الفصل العنصري(الأبارتايد)، تتجاوز بكثير في الواقع نموذج العنصرية الهيكلية التي وضعها نظام الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، إذ أن إسرائيل لا تسعى لاستغلال شعب حبيس تحت الاحتلال، وإنما تسعى لتحقيق إزالة تواجد ذلك الشعب في نهاية المطاف. وفي الواقع، تذهب هذه الخطة إلى حد التوصية بتغيير الوضع القانوني لمئات الآلاف من مواطني إسرائيل الفلسطينيين، وذلك عن طريق اعتبارهم من سكان الكيان الفلسطيني الذي سيشكل فعلياً أرضاً محتلة بغض النظر عن أية تسميات.
إن خطة ترامب-نتنياهو لا تقدم شيئاً للفلسطينيين، سواء في الوقت الحاضر أو في المستقبل، وحتى لا تدعي أنها تفعل ذلك. وقد تم تصميم الخطة بشفافية لتحقيق كل هدف استراتيجي إسرائيلي على حساب جميع الحقوق الفلسطينية، بدلاً من إرساء الأساس لمفاوضات مجدية بين الطرفين يتم فيها تلبية المصالح الأساسية لكل منهما في إطار الشرعية الدولية. إن الإجراءات التي اتخذتها واشنطن فيما يتعلق بالقدس واللاجئين الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية والمستوطنات والوضع القانوني للأراضي المحتلة وقضايا أخرى تكشف بشفافية عن هذه الأجندة، وليست بحاجة لأي تعليق أو تحليل إضافي. ولذلك، فمن الضروري أن ترفض القيادات الفلسطينية المختلفة بشكل قاطع أي تعامل – سواء بشكل مباشر أو غير مباشر – مع هذه المبادرة، لأن مثل هذا التعامل لن يؤدي إلا إلى إضفاء الشرعية عليها وتوفير غطاء للأطراف الإقليمية والدولية والإندراج فيها بجدية.
إن الهدف من خطة ترامب- نتنياهو، وبالتالي التهديد الأساسي الذي تمثله، هو تحويل الإجماع الدولي حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وسواء كان ذلك للأفضل أم للأسوأ، فإن هذا الإجماع يشمل عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة، ومساندة مبدأ إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام 1967 تعيش بسلام مع إسرائيل داخل حدودها لعام 1949، وتحقيق حل عادل لقضية اللاجئين. أما الحل الذي تقترحه واشنطن وتل أبيب لإنهاء النزاع، فهو مبني على أساس أن القوة هي الحق، وأن الحقوق ليست ذات أهمية، وأن القانون الدولي أيضاً ليس مهماً.
بدلاً من الإندراج إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل في التنديد بالإجماع الدولي حول إطار الدولتين والمطالبة باستبداله، حتى لو لأسباب وأهداف مختلفة جذريًا عن تلك التي تتضمنها خطة ترامب-نتانياهو، يجب على الفلسطينيين، من أجل تعزيز الأهداف الغير قابلة للتحقيق التي أشرنا إليها سابقاً، بذل كل ما في وسعهم للحفاظ على هذا الإجماع وتعبئته وتنشيطه وتقديمه باعتباره اختباراً للحفاظ على النظام الدولي الذي تسعى واشنطن إلى تفكيكه بشكل ممنهج. وفي ظل الظروف الحالية، فإن البديل الوحيد الفعلي هو حل الدولة الواحدة، ولكنها ستزيل بشكل دائم الحقوق الوطنية الفلسطينية من الأجندة الدولية. قد لا يكون المرء معجباً بالحل المبني على انموذج الدولتين، ولكننا بصراحة لا يمكن أن ننكر أن الغرض من خطة ترامب-نتنياهو هو استبدال ذلك الأنموذج بشيء أسوأ بكثير.
على الرغم مما سبق، فإن تصوير النقاش الفلسطيني كخيار بين حل الدولة الواحدة وحل الدولتين يتجاهل النقطة الأساسية، وفي ظل الظروف الحالية يشبه إلى حد ما حالة سجين محكوم بالإعدام يقضي الليلة الأخيرة قبل إعدامه يفكر جدياً بشأن ما إذا كان سيقضي الصيف التالي في الريفييرا الفرنسية أو الإيطالية. لا تتعلق القضية الأساسية في عام 2020 بشكل الدولة في نهاية المطاف، بل بالحفاظ على مبدأ أن إسرائيل ليس لها الحق في ضم الأراضي التي يعتبرها القانون والمجتمع الدوليين أراضٍ محتلة، وبالترويج لجدول أعمال يعتبر أن استمرار إسرائيل في السيطرة على تلك الأراضي هو غير قانوني وغير شرعي. وعلى النقيض من هدف إقامة الدولة الديمقراطية الواحدة، فهناك سبل سياسية لإنهاء الاحتلال لا تتطلب موارد عسكرية لا يمتلكها لا الفلسطينيون ولا حلفاؤهم الإقليميون. فاحتساب التكلفة مقارنة بالعائد لإنهاء الحصار المفروض على قطاع غزة، وعكس مسار التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، وإنهاء الاحتلال، لا يتطلب تحولاً شاملاً للدولة الإسرائيلية. ومع ذلك، إذا اضطرت إسرائيل إلى تفكيك المشروع الاستيطاني والانسحاب من الأراضي المحتلة بدلاً من ضمها، فقد يحصل فيها تحول من خلال تلك التجربة، مما سيرسي مسارات مجدية كجزء من تلك العملية تؤدي إلى نتيجة أفضل مع مرور الوقت.
من الشائع وصف نهج إدارة ترامب تجاه قضية فلسطين بأنه خروج جذري عن السياسة الأمريكية التقليدية. ومع أن هذا صحيح من نواح معينة، فربما يكون من المفيد أكثر فهم خطة ترامب-نتنياهو على أنها نهاية منطقية لسبعة عقود من السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ولاتفاقات أوسلو التي لم تتصور أبداً نهاية للاحتلال أو إحقاق حق تقرير المصير للفلسطينيين بالتحديد.
إن هذا الواقع السائد وهذا النقاش الدائر يدلان قبل كل شيء على الموقف الضعيف جداً الذي يجد فيه الشعب الفلسطيني نفسه اليوم. وسيكون الخروج من ذلك الوضع صعباً للغاية، لكنه ليس مستحيلاً بأي حال من الأحوال. أولاً وقبل كل شيء، يجب على الفلسطينيين حل خلافاتهم الداخلية وإنشاء حركة وطنية موحدة بزعامة قيادة ذات مصداقية تمتلك إستراتيجية واضحة قادرة على الانفكاك عن مصفوفة السيطرة التي وضعتها اتفاقيات أوسلو، وقادرة على تعبئة الشعب الفلسطيني بأسره بالإضافة إلى حلفائه الإقليميين ومؤيديه الدوليين. يجب أن تصبح فلسطين من جديد قضية تقف فوق الخصومات الإقليمية، بدلاً من أن تكون كرة قدم سياسية يستغلها المستبدون الصغار من أجل تحقيق مكاسب تافهة. يجب أن تعود لتصبح قضية أساسية على جدول الأعمال الدولي، واختباراً عالمياً للعدالة الفضيلة، بدلاً من إحالتها إلى مستوى نزاع ثانوي في منطقة يشوبها الصراع. وعندما يتحقق ذلك، ستكون فلسطين أيضاً قادرة أن تعتمد على مستويات أكبر من الدعم الشعبي قد تفوق أية مستويات سابقة.
بإمكان حركة وطنية فلسطينية معبأة وقادرة على تفعيل، و عند الضرورة على الضغط لاستحصال دعم الحكومات الإقليمية، وعلى بسط قُدرتها الجماعية على الساحة الدولية، أن تنفذ بنجاح مزيج من الاستراتيجيات الشعبية والسياسية والاقتصادية والقانونية، و العسكرية ايضاً حيثما كان ذلك مناسباً، لتحدي الاحتلال الإسرائيلي بشكل فاعل، وإجبار الدول الأجنبية على اتخاذ القرارات الصحيحة في الأوقات الحرجة بدافع المصلحة الذاتية.
إن الفلسطينيون يواجهون اليوم لحظة وجودية، والوقت ليس مناسباً الآن للسعي لتحقيق المستحيل على حساب البقاء على قيد الحياة.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.