سيتوقف التاريخ طويلا أمام مسار ونتائج البرلمان المصري الجديد الذي سيبدأ في الانعقاد خلال أسبوعين، لأنه يعد بحق نقطة تحول حاسمة في تطور الحياة البرلمانية المصرية منذ تبنيها مبدأ التعددية الحزبية في أواخر سبعينات القرن العشرين. فلطالما مثلت المعارك البرلمانية الاختبار المركزي لتقييم شرعية وشعبية النظم السياسية علي الصعيدين الداخلي والدولي ولطالما طالب المجتمع الدولي، ممثلاً في دول و منظمات دولية، باحترام التعددية و تشجيع الديموقراطية التمثيلية كأهم ركن في التحول الديموقراطي. وبغض النظر عن قيام الثورة المصرية وموجات الحشد الشعبي الذي تلتها وما أوضحته من ضرورة بناء كيان تشريعي كفء وقادر علي مراقبة أداء الأجهزة التنفيذية في البلاد وتحديد تخصيصاً أكثر عدلاً للموارد المحدودة للدولة المصرية، سنظل نذكر كيف تم تجاوز سبعة وثلاثون عاماً من التباديل والتوافيق في صياغات قوانين الانتخاب البرلمانية وتعديلها بتآني و حذر وبدون خوض أي حوار مجتمعي لحسم معضلات ثابتة في قوانين البرلمان والانتخاب في غرف مغلقة، من ذلك تنحية نظم القوائم النسبية والتمثيل الفردي وتطبيق نسب تمثيل للعمال والفلاحين من عدمه، وإدارة الشكل القانوني للتحالفات الانتخابية بين أحزاب متقاربة أو متنافرة أيديولوجياً. لذلك، ستبدو الانتخابات الأخيرة أقرب إلي روح انتخابات مجلس الأمة كما عرفتها مصر خلال عقدي الستينات والسبعينات حيث كان المرشحون يتبارون لمساندة الدولة وأهدافها وسياساتها في إطار الاتحاد الاشتراكي كمظلة وحيدة للعمل السياسي، أكثر من تنافسهم حول طرح برامج وتصورات مختلفة عن أليات مراقبة أداء السلطة التنفيذية واقتراح إصلاحات محددة فيما يتعلق بالسياسات والتشريعات.
ولربما وجد البعض –بعد سنوات أو عقود - في هذا البرلمان الجديد نفياً صريحاً لمبدأ التعددية الحزبية كأساس للتمثيل السياسي في السلطة التشريعية ولأهمية انعكاس هذه التعددية بشكل مباشرعلي تقسيم مقاعد البرلمان بين أغلبية وأقلية أو أقليات متنافرة. لكنه من المؤكد ان هذا البرلمان سيظل لفترة رمزاً لسابقة فريدة في جر المرشحين الحزبيين الي الاكتفاء بالتنافس علي المقاعد الفردية واستئثار أهل الثقة من المقربين للسلطة بحق تشكيل قوائم كاملة تطرح نفسها كأغلبية محتملة بغض النظر عن أي انتماء أو تجانس حزبي و سياسي سابق أو حالي فما بينها.والي حين ندرك هذه اللحظة في المستقبل، غالباً سيستمر وصم هذا المجلس بأنه مجلس "ما قبل اللعبة" أو " التأسيس" لجمهورية جديدة كما يقول الفرنسيون، أو مجرد انتخابات "للتسخين" كما نقول باللغة العامية ليتم أثناء ذلك فرز العناصر المؤهلة لمساندة النظام السياسي الجديد بكفاءة من تلك التي يمكن أن تشكل عبئاً عليه في المستقبل. فعلي الرغم من انقضاء عامين علي مصر بدون برلمان، فقد تم طرح قانون الانتخابات وتقسيم الدوائر ومراحل الانتخابات واعتماد مبدأ القوائم المطلقة عبر خطوات متتالية بهدف التوصل عبر التجريب ووضع "الكل ضد الكل" في المنافسة والتصفية - إلي تشكيل أغلبية جديدة فائزة وقادرة علي القيام بما كان يقوم به الحزب الوطني من وساطة وضبط بين السلطة و الجماهير، ناهيك طبعاً عم إعادة ترتيب القوة النسبية للتكتلات الباقية والتي شاركت في الانتخابات.
وإذا ما انتقلنا من القواعد المنظمة لهذه الانتخابات الي العملية الانتخابية في حد ذاتها سنكتشف تحولات لا تقل أهمية وتعبيراً عن أن عصر برلماني كامل قد ولي ليبدأ عصراً جديداً بقواعد جديدة. ويعد الأفول النسبي للإسلام السياسي ممثلاً في حزب النور من أهم معالم الجدة في هذه الانتخابات، يلي ذلك تمكن المال السياسي من التغلب علي نفوذ العصبيات المحلية المعتادة بل وسحقها بصراحة في الكثير من الدوائر معلناً بذلك نموذج جديد للنائب الممول بدلاً من نائب الخدمات و ما قد يترتب علي ذلك من إعادة تعريف الوظيفة السياسية للبرلمان، ليس كمورد و إنما كساحة للتباري بالنفوذ المالي بين النواب. يضاف إلي ذلك ظهور نسبة لا بأس بها من أركان الدولة المصرية من قضاة ومستشارين وضباط سابقين ضمن المرشحين، بل وعلي رأس القوائم ذات الشأن. ولا يقل أهمية هنا البروز غير المتوقع لكتلة "مستقبل وطن" والمفترض تعبيرها عن ثقل الشباب في السلطة التشريعية الجديدة، من خلال مجموعات غير معروفة مطلقاً من الكوادر الشابة بشكل يذكرنا بتراث منظمة الشباب وأليات التجنيد والتصعيد التي اشتهرت بها.ويستحق كل ملمح من هذه الملامح الأربعة مقالاً منفرداً بعد بدء عمل البرلمان.
علي مستوي ثالث، غالباً سيتميز هذا البرلمان عما سبقه بكثرة "النقاط الرمادية" والتي تم أو سيتم حسمها بشكل يدعم نفوذ الرئاسه علي البرلمان الوليد. من ذلك، إمكانية التحالف بين نواب المقاعد الفردية من عدمه لتشكيل كتلة معارضة نيابية، أو إمكانية اختيار رئيساً للبرلمان من بين الأعضاء المعينين أو صلاحية لجنة الانتخابات في الغاء انتخاب نائب استناداً للشكاوي المقدمة من مرشحين أخرين ضده، أو قدرة البرلمان علي تحديد أجندة تشريعية تخالف - ولو قليلاً- ما تم إصداره من مهام عاجلة للبرلمان بعد أكثر من عامين من غياب أي سلطة تشريعية منتخبة؟
ويتضح من هذه الملاحظات السريعة غلبة منطق القطيعة الصريحة علي منهج الاستمرار فيما يتعلق بتراث التعددية البرلمانية المصرية. من المؤكد أن هذه التعددية كانت مقيدة بل وشكلية في العديد من الانتخابات السابقة وأنها تراوحت صعوداً وهبوطاً علي مدار أربعة عقود، لكن من المؤكد أيضاً انها كانت أهم أسس شرعية النظام السياسي في مواجهة جمهوره وبالذات في مواجهة النظام الدولي والذي جعل من التعددية السياسية أهم مؤشرات الإصلاح الديموقراطي منذ مطلع الثمانينات و كذلك أحد شروط المقبولية السياسية للنظم السياسية الجديرة بالدعم المالي و السياسي في العالم بأكمله.
أن نظرة سريعة علي الإعلام المصري أو علي نسب الامتناع عن التصويت أو علي التقارير المرحلية للمراقبين الدوليين القليلين في هذه الانتخابات تؤكد اكتفاء كل هؤلاء بإجراء الانتخابات كمؤشر إيجابي " وكافي في حد ذاته كبرهان" علي التزام النظام المصري بالتحول الديموقراطي، كما يوضح عدم تأفف الجمهور أو المراقبين كالعادة من مظاهر الرشوة وانتشار الوسطاء لجمع الأصوات للحكم سلبياً علي هذه الانتخابات، أن معظم الأطراف باتت تهتم أولاً بوجود برلمان بغض النظر عما سيلعبه من أدوار تشريعيه. بمعني أخر، يعكس كل من عدم اكتراث المواطنين ورضا المنظمات الدولية بالحد الأدنى، تبلور قاعدة جديدة مفادها ان السلطويات التنافسية – بمعني النظم السلطوية التي تسمح بحد أدني من الممارسات التعددية ومن الالتزام بها قانونياً عند هندسة المؤسسات التشريعية – لم تعد شرطاً ضرورياً للفوز بالقبول الشعبي والرضاء للدولي عن النظم السياسية الرافعة لشعارات التحول الديموقراطي. أن الانتخابات المصرية الأخيرة تؤكد بلا شك أن مجرد الاستيفاء الشكلي لهذه المؤسسات بات كافياً في إطار تغير الأولويات الوطنية والإقليمية والدولية. ويبقي هنا السؤال: هل يمكننا اعتبار هذا القبول بالقليل بمثابه قاعدة جديدة في تعامل كل من الناخبين والنظام الدولي مع التغيرات التي تفرضها الجمهورية الجديدة أم ان ذلك لا يعدو أن يكون تغاضي شعبي ودولي "مؤقت"في سياق إدارة الأزمة الأهم، وهي الحرب علي الإرهاب؟
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.