النقابات الأمنية تطالب بتشريكها في عملية إصلاح المنظومة الأمنية في تونس

إثر مرور أربع سنوات على تاريخ انطلاق الثورة التونسية، بقي مسار التحول الديمقراطي رهين مدى نضج استراتيجية الفاعلين فيه، كما أنه مرتبط بمدى نجاح مسار الإصلاح السياسي الذي من شأنه أن ينعكس على الإصلاح الأمني. وعليه فان مجرد الاقتناع بكون النقابات الأمنية هي الأدرى بالثغرات والنقائص والتجاوزات والاخلالات، يؤدي إلى نتيجة مفادها أنهم الأقدر على تقديم مشاريع وتصورات لإصلاح المنظومة الأمنية. وبالتالي فانه من حق النقابات الأمنية أن تطالب بتشريكها في عملية الإصلاح، وأن ترفض الإصلاحات المسقطة من وزارة الداخلية، خصوصا وأن غياب استراتيجية واضحة لإصلاح المنظومة الأمنية من شأنه أن يساهم في إضاعة الكثير من الوقت، دون الانطلاق في تطبيق التصورات المقترحة. إلى جانب غياب الإرادة السياسية المحلية للانطلاق بوضع استراتيجية إصلاحية، ناتجة عن رفض عدد من المسئولين بوزارة الداخلية الشروع في عملية إصلاح المنظومة الأمنية، فبتشريك النقابات الأمنية يفتح المجال للاستفادة من التصورات التي اقترحتها هذه النقابات سابقا، مما يستوجب التأكيد على ضرورة دعوة النقابات الأمنية بهدف الإنصات إليها والاطلاع على أفكارها ورؤيتها لمستقبل المؤسسة الأمنية و الأخذ بمقترحاتها الإصلاحية، والتي من شأنها أن تربحهم الكثير من الوقت.

إصلاح المنظومة الأمنية من داخلها

 أصبح من حق الأمنيين إيجاد هيكل نقابي يتبنى مطالبهم الاجتماعية، وذلك تجسيما لمبدأ الحرية النقابية التي تضمن لأي سلك الحق في التمثيل النقابي، ليساهم في تحسين ظروف عملهم، حيث أصدر رئيس الجمهورية مرسوما عدد 42 لسنة 2011 المتعلق بضبط القانون الأساسي العام لقوات الأمن الداخلي، حيث نص الفصل 11(جديد):"لأعوان قوات الأمن الداخلي الحق في ممارسة العمل النقابي، ولهم لهذا الغرض تكوين نقابات مهنية مستقلة عن سائر النقابات المهنية واتحاداتها.  كما نص الفصل 36 من الدستور الثاني للجمهورية التونسية الصادر في 27 جانفي 2014 على أن: "الحق النقابي بما في ذلك حق الإضراب مضمون ولا ينطبق هذا الحق على الجيش الوطني، ولا يشمل حق الإضراب قوات الأمن الداخلي والديوانة.

فإذا كانت الحرية النقابية في بعدها الفردي تعني حرية الشخص في الانتماء أو عدم الانتماء للنقابة، وكذلك حريته في الانسحاب من النقابة متى شاء، فإنها تبقى في جوهرها حرية جماعية تفترض إمكانية التعددية النقابية، التي تجسدت على صعيد الممارسة الفعلية خلال الفترة الانتقالية، وأدت إلى بروز عدة نقابات في سلك الأمن، و يمكن أن نعدد أهم هذه النقابات الأمنية :

  • نقابة قوات الأمن الداخلي التي تأسست بتاريخ 4 جوان 2011.
  • نقابة موظفي الإدارة العامة لوحدات التدخل التي تأسست بتاريخ 3 جويلية 2011.
  • الاتحاد الوطني لنقابات قوات الأمن التونسي الذي تأسس بتاريخ 17 أكتوبر 2012.
  • نقابة الإدارة العامة للحرس الوطني والتي تأسست بتاريخ 23 ديسمبر 2012.
  • نقابة موظفي السجون والإصلاح والتي تأسست بتاريخ 10 سبتمبر 2013.

إن بناء مقاربة لإصلاح المنظومة الأمنية يتطلب مشاركة الفاعلين الأمنيين و كذلك الخبراء من المجتمع المدني، حيث حرصت "النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي " للمساهمة في إصلاح المنظومة الأمنية من خلال تقديم مقترحاتها الإصلاحية، من منطلق إدراكها بالدور المحوري الذي سيلعبه جهاز الأمن كشريك فاعل في ضمان عملية الانتقال الديمقراطي خلال ندوة قامت بتنظيمها تحت عنون : " إصلاح المؤسسة الأمنية مشروع شراكة نحو أمن جمهوري" . واعتبرت النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي أنها مدركة جيدا لثقل مهمة إصلاح المنظومة الأمنية التي لها أحكامها وضوابطها وآلياتها وعوائقها وتحدياتها. كما واصلت النقابة إرسال تصوراتها حول إصلاح المنظومة الأمنية، إلى سلطة الإشراف ونذكر أهم المقترحات التي تقدمت بها حيث طالبت النقابة: ببعث هيئة عليا لإصلاح المنظومة الأمنية، تتولى إعداد مجلة قانونية لقوات الأمن الداخلي يكون الطرف النقابي ممثلا فيها، كما طالبت أيضا بالقطع النهائي مع سياسة التعليمات وإعطاء أكثر صلاحيات للمسئول القطاعي وفقا للقوانين. مؤكدة على ضرورة الإسراع بإعداد مشروع الأنظمة الأساسية الخاصة بأسلاك قوات الأمن الداخلي. مشددة على ضرورة القيام بإصلاح هيكلي لوزارة الداخلية.

أما بالنسبة "للاتحاد الوطني لنقابات الأمن التونسي" فقد نظم  مائدة مستديرة حول إصلاح المنظومة الأمنية بعنوان  " تطلعات الأمنيين في ظل رهانات و مستقبل و أفاق المؤسسة الأمنية "، تناول هذا الملتقى موضوع إصلاح المنظومة الأمنية ، بهدف المساهمة في تقديم المقترحات ووضع الرؤى والتصورات التي تمهد الطريق لتحقيق عملية الإصلاح الجذري و الشامل وذلك من خلال استشراف ملامح العملية الإصلاحية و الخروج ببعض الأفكار والتصورات الكفيلة بدعم هذا المشروع، الذي يشمل كافة الجوانب القانونية  والهيكلية ،الوظيفية ، التكوينية ، المهنية و الاجتماعية. كما تم الاتفاق على أن الإصلاح يجب أن يشمل الإطار التشريعي وما يستجوبه من تنقيح للقوانين الأساسية وتوفير آليات ضامنة على غرار الرقابة الدستورية والرقابة البرلمانية إلى جانب إصلاح الإطار المهني من خلال الهيكلية والتمثيلية، وإصلاح التكوين وتحسين الأوضاع المادية للأمنيين.

يمكن أن نستنج من خلال عرض أهم المقترحات التي قدمتها بعض النقابات الأمنية، أنها تشترك تقريبا في نفس التصورات الكبرى حول كيفية إصلاح المنظومة الأمنية، مع التأكيد على أنه لا مجال أن تجرى عملية الإصلاح بصفة تقليدية وفوقية بل لابد أن تساهم كل الأطراف المكونة للمؤسسة وفي مقدمتها أفراد المؤسسة من خلال تنظيماتهم المهنية في علاقة تشاركية لإصلاح المنظومة الأمنية نفسها، التي بدورها يجب أن تكون مقتنعة بأهمية المشروع الإصلاحي.

وإلى حد هذه اللحظة لم يتم إصلاح المنظومة الأمنية، كما تركت مختلف التصورات التي قدمتها النقابات على الرفوف، ولم تتجاوب سلطة الإشراف مع المقترحات الإصلاحية للنقابات، وبقي إصلاح المنظومة الأمنية مؤجلا إلى حين توفر الإرادة السياسية. وحتى بعض المبادرات السابقة الرامية للإصلاح لاحظنا خلالها تغييبا للطرف النقابي، يفهم منه رفض سلطة الإشراف تشريك النقابات الأمنية في عملية إصلاح المنظومة الأمنية.

العوائق التي حالت دون الانطلاق الفعلي في الإصلاح

لقد تعاقب على رأس وزارة الداخلية منذ تاريخ انطلاق الثورة عدة وزراء نذكر أهمهم: "فرحات الراجحي "، " الحبيب الصيد"، "علي العريض" علما و أن مختلف هذه التغييرات تمت تحت الضغط لغاية تحييد وزارة الداخلية، ووقع الاختيار على قضاة ليس لديهم أي انتماء حزبي وهما: السيد" لطفي بن جدو " و السيد" محمد الناجم الغرسلي " الذي تم تعيينه في فيفري 2015 في حكومة السيد الحبيب الصيد. كما نلاحظ أنه قد تم التخلي على حقيبة "الإصلاح" بعد تشكيل حكومة الكفاءات المستقلة. ورغم مناداة كل من تنظيمات المجتمع المدني و النقابات الأمنية و أهل الخبرة بضرورة القيام بإصلاحات تشريعية هيكلية عاجلة ، إلا أن المشرع لم يكن قادرا على التدخل بسرعة في هذا المجال. أما على مستوى السياسات الأمنية فانه من الصعب الحديث عن وجود تغييرات واضحة، فإلى جانب تقطع عمليات " الإصلاح" وتجزئها، فان الهاجس كان المحافظة على توازن المؤسسة الأمنية وتماسكها أكثر منه إدخال تغييرات جوهرية عليها. وفي غياب عملية الإصلاح نتج عنه إعادة إنتاج المنظومة الأمنية القديمة من خلال الاكتفاء بتغييرات على مستوى القيادات وعزل عدد من الأمنيين إذ قرر وزير الداخلية "محمد ناجم الغرسلي " إلغاء مهمة مدير عام الأمن الوطني وإبدالها بمديرين للإشراف على الإدارات العامة، كما شهد ديوان وزير الداخلية تغييرات عديدة.

لقد اتسمت المرحلة الانتقالية بغياب القدرة على قيادة الإصلاح ويعود ذلك:

- لعدم وضع إطار سياسي وقانوني وإجرائي واضح وعملي على مستوى الحكومة، وكذلك على مستوى السلطة التشريعية، فلم يتم تكوين لجان قطاعية للتخطيط والإصلاح بشكل يضمن الالتزام بإصلاح المؤسسة الأمنية وقيادته من جهة أولى، والسهر على ديمومة مسار الإصلاح من جهة ثانية.

- عدم تحقيق الدعم السياسي لعملية الإصلاح من خلال إشراك واسع لكل الأطراف الفاعلة بما يضمن مشروعية عملية الإصلاح وتبنيها من قبل كل الأطراف.

- غياب إستراتجية شاملة لإصلاح المنظومة الأمنية.

- غياب التنسيق بين مختلف الفاعلين في مجال الإصلاح.

- بروز هيمنة سياسية متواصلة على المؤسسة الأمنية.

- غياب الحوار مسئول بين النقابات الأمنية وسلطة الإشراف مما انجر عنه إخلال الطرف الثاني بجملة من التعهدات التي قطعها.

-عرقلة المديرين العامين بوزارة الداخلية إصلاح المنظومة الأمنية لأنهم تعودوا على إعطاء الأوامر  والتمتع بالامتيازات الكبيرة، فيصعب عليهم قبول التفاوض مع النقابات التي يعتبرونها جسما غريبا عنهم، مازالوا لم يتقبلوه بعد، مما جعل مهمة النقابات تقتصر على تقديم مقترحاتها الإصلاحية لمكتب الضبط بوزارة الداخلية دون التجاوب معها.

- تغييب الطرف النقابي يؤدي إلى صعوبة في وضع استراتيجية ناجعة لإصلاح المنظومة الأمنية.

- التعددية النقابية أدت إلى تشتت وتشظي العمل النقابي، لان تكاثر عدد النقابات قد يؤدي إلى إضعاف قيمة المفاوضات، مما يستوجب ضرورة العمل على توحيد الصف النقابي الأمني لتدعيم مبدأ الوحدة النقابية الأمنية.

- تعاقب عديد الوزراء على وزارة الداخلية عكس غياب استمرارية المشاريع والأفكار والتصورات الإصلاحية.

- بروز بعض القوى المناهضة للإصلاح، مهمتها التصدي لعملية الإصلاح من داخل وزارة الداخلية وإرباك المؤسسة الأمنية ذاتها.

- غياب الإرادة السياسية لإصلاح المنظومة الأمنية.

كل هذه العوامل تجعل من برامج الإصلاح التي تضعها الحكومة ظرفية وغير قادرة على تحقيق التغيير المطلوب على مستوى المنظومة الأمنية. كما يمكن اعتبار "الكتاب الأبيض" الذي أعده الوزير الأسبق المنتدب لدى وزير الداخلية المكلف بالإصلاح، محاولة أولى لإصلاح المنظومة الأمنية. فهو يضم مجموعة من الاقتراحات والنصوص التشريعية تتعلق بإصلاح وإعادة هيكلة المسالك الأمنية وإعادة النظر في برامج الانتداب والتكوين إلا أنه لم يكلل بالنجاح لفقدانه المشروعية الضرورية ولعدم تثبيته في سياق الإصلاح الديمقراطي.

و بالتالي فانه بإمكان  النقابات الأمنية أن تكون شريكا فاعلا و محوريا في إصلاح المنظومة الأمنية ، باعتبارها الهيكل الذي يعنى بالدفاع عن المسائل المهنية و الاجتماعية لأبناء القطاع من المؤسسة الأمنية، فهي صوتهم والمترجم لتصورهم و أطروحاتهم الإصلاحية،  مما يستوجب مستقبلا العمل على أن تتعاضد جهود النقابات الأمنية مع جهود المنظمات و الهياكل الناشطة في المجتمع المدني ،لان هذا التنسيق سيجبر سلطة الإشراف على الخروج من حالة التقوقع و الانغلاق و الاكتفاء ببرامجها المسقطة، خصوصا و أن العلاقة التي يفترض أن تكون تشاركية  مع وزارة الداخلية ، عمليا هي لا تزال إلى الآن علاقة عمودية. علما وانه لا يمكن إصلاح وزارة الداخلية إلا من الداخل مما يستوجب تقوية عملية الضغط من الخارج.

إن مسألة إصلاح المنظومة الأمنية ستبقى رهينة توفر المناخ السياسي الملائم والقدرة على وضع استراتيجية وطنية متكاملة تحصل على وفاق واسع بين مختلف الأطراف الفاعلة: حكومة، أحزاب مجتمع مدني، مؤسسة أمنية، بعيدا عن كل الضغوطات والتجاذبات السياسية.

 وعلى إثر الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية خرجت البلاد التونسية من المرحلة الانتقالية نحو مؤسسات دائمة التي من شأنها أن تحدد مكانة ودور النقابات الأمنية في المساهمة في إصلاح المنظومة الأمنية، غير أن الإشكال كان في عدم التجاوب مع مقترحاتها وهذا لا ينقص من مساعي النقابات للمساهمة في الإصلاح بصفتها شريكا فاعلا، وإنما يبعث للتساؤل عن تاريخ الانطلاق الفعلي في عملية صلاح المنظومة الأمنية دون إقصاء للأطراف المعنية؟

توصيات لتفعيل دور النقابات وجعلها شريكا فاعلا في عملية إصلاح المنظومة الأمنية

- التركيز على دور المجتمع المدني ودعمه  كشريك فاعل في عملية الإصلاح و رقيبا عليها: الإصلاح يقتضي مقاربة تشاركية بين هياكل وزارة الداخلية و أطراف المجتمع المدني، فلكل إسهامه من موقعه من أجل إنجاح الانتقال الديمقراطي.

- تنظيم العلاقة بين النقابات الأمنية وسلطة الإشراف، من خلال تحديد مجالات التدخل النقابي وتقنين الاجتماعات وجعلها دورية، كان تكون مثلا مرة كل شهر.  لكي تساهم النقابات الأمنية بتقديم تصوراتها واعتبارها شريكا فاعلا في مختلف المبادرات التي تهدف لإصلاح المنظومة الأمنية.

- التفكير في بعث مركز دراسات تقنية وثقافية صلب هيكل النقابات الأمنية واعتباره شريكا متقدما في عملية إصلاح المؤسسة الأمنية.

- التأكيد على أن تكون النقابات الأمنية شريكا استراتيجيا وفاعلا في كل القرارات والبرامج التي تخص المؤسسة الأمنية في جميع الأوجه والأصعدة  واعتماده كقوة اقتراح و هيكلا في عملية الإصلاح.

- تجنب التوظيف السياسي لمسالة إصلاح المنظومة الأمنية من قبل كل الفاعلين.

- نجاح إصلاح المنظومة الأمنية يقتضي أيضا إصلاح المنظومة القضائية والسجنية وغيرها، وإلا فانه سيفشل المشروع الإصلاحي بأكمله.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.