مقدمة
مع اندلاع احتجاجات اجتماعية كبيرة في فترة ما بعد ثورة 2011 في تونس، حظيت التعبئة البيئية باهتمام كبير. وقد اكتسبت حملات بيئية جديدة - مثل حملة "مانيش مصبّ" ("أنا لست مكبًّا للنفايات") وحملة "أوقفوا التلوث" التي احتشدت خلفها المجتمعات المحلية – اعترافًا على المستوى الوطني، ورفعت مستوى الوعي بالأضرار البيئية، ونجحت في حثّ الدولة على اتخاذ إجراءات. ومع ذلك، لم يكن الاحتجاج الاجتماعي سوى أحد أشكال التعبئة البيئية التي شهدتها تونس في أعقاب الثورة. فقد نشطت عدة حركات ذات أشكال تنظيمية وانتماءات مختلفة تعمل في مواقع جغرافية مختلفة منذ عام 2011، بل ونشط بعضها قبل ذلك.
تبحث هذه الدراسة التعبئة البيئية في تونس، مع التركيز على الفترة الممتدة من عام 2011 حتى نهاية عام 2024. وتستند هذه الدراسة إلى مسح ومقابلات أُجريت مع 11 منظمة من منظمات المجتمع المدني البيئية الموجودة في تونس، والتي لعب العديد منها دورًا كبيرًا في مختلف أشكال التعبئة البيئية في البلاد. ولا تقتصر مهمة معظم هذه المنظمات على تحقيق الأهداف البيئية، بل تختلط هذه الأهداف بأخرى اجتماعية وسياسية واقتصادية، وغالبًا ما تكون الأولوية لهذه الأهداف الأخرى. تنخرط الحركات البيئية في أشكال مختلفة من التعبئة، وتتفاعل في ما بينها ومع مختلف الجهات الفاعلة الأخرى – مثل الدولة وقطاع الأعمال والعمال والمنظمات الدولية - بطرق تتفاوت بين التعاون والمواجهة ومستوى الثقة والتنسيق في ما بينها. وتشكل هذه التفاعلات أنشطتها الموجهة نحو البيئة ونتائجها.
هذه الدراسة هي جزء من مشروع بحثي أوسع نطاقًا بعنوان "تطوير البحوث الشاملة من خلال النشاط والمناصرة المستنيرة"، يجمع بين مبادرة الإصلاح العربي والمعهد المغربي لتحليل السياسات، ويموله المركز الكندي لبحوث التنمية الدولية. ويتمثل الهدف الرئيسي للمشروع في دراسة التعبئة البيئية في العالم العربي لخلق المعرفة حول مختلف أشكال الحركات البيئية وتعبيراتها ومطالبها، ومعاييرها التنظيمية، وتفاعلاتها مع الجهات الفاعلة الأخرى الحكومية وغير الحكومية، والظروف التي تواجهها.
وبالنظر إلى التحديات البيئية متعددة الأبعاد التي تواجهها الحركات البيئية على نطاق عالمي، فإن استكشاف ديناميات المنظمات المجتمع المدني البيئية يكتسي أهمية قصوى، نظرًا لكونها الجهات الفاعلة المعنية غالبًا بالتصدي لهذه التحديات. تقع تونس في وسط شمال أفريقيا وإحدى أقرب النقاط إلى أوروبا، ما يسلط الضوء على الأبعاد البيئية للتفاوتات بين الشمال والجنوب والخطابات حول الاستعمار الأخضر. وعلاوة على ذلك، تُظهر طبيعة ووتيرة التغيرات السياسية في البلاد منذ عام 2011 كيف أن التغيرات في الحكم – أي الانتقال الديمقراطي وعودة الاستبداد – والصراع الاجتماعي السياسي المستمر وغير المستقر، تتردد أصداؤها وتتفاعل مع البيئة.
وتبدأ الدراسة باستكشاف السياق السياسي-الاقتصادي في تونس ما بعد 2011، وكيف أدى انفتاح المجال السياسي إلى ظهور العديد من منظمات المجتمع المدني البيئية. كما يستكشف هذا القسم أيضًا أهم التحديات البيئية التي تواجهها البلاد، مع التركيز على التلوث الصناعي وقطاع الخدمات، واستخدام المياه، والتحول الأخضر. ثم تنخرط الدراسة في رسم خريطة لمنظمات المجتمع المدني البيئية وأنماط تنظيمها وتوزّعها الجغرافي واستراتيجياتها وتكتيكاتها وأهدافها وأولوياتها والتحديات التي تواجهها. ويدرس قسم لاحق كيفية تفاعلت منظمات المجتمع المدني البيئية مع بعضها البعض ومع الجهات الفاعلة الحكومية والاجتماعية والدولية، مع التركيز على المجالات ومدى التعاون والمواجهة والتنسيق. ثم يلي ذلك تقييم لنجاحات وإخفاقات هذه المنظمات البيئية. وتختتم الدراسة بملخص للنتائج والآثار العملية المترتبة عليها.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.