يجري الحديث بشكلٍ دائم حول "الصراع الناعم" بين إيران وروسيا في سوريا، وتركّز معظم الأبحاث والتقارير الإعلاميّة المهتمّة بهذا الموضوع على مناطق النفوذ والسيطرة. دون الخوض في العلاقة بين هاتين القوتين على الأرض السوريّة، والتي تمثّلت بتحجيم أذرع السيطرة الإيرانية بعد دخول القوات الروسيّة إلى سوريا، يبدو التمييز بين طبيعة هاتين القوتين ضرورياً، لتحديد سمات الصراع والتي لا تنحصر بمناطق النفوذ فقط. فثمّة اختلاف واضح في المصلحة والاستراتيجية بين إيران وروسيا حيال قضيتين رئيسيتين.
الأولى هي العلاقة مع إسرائيل، ففي حين ترى روسيا إسرائيل حليفاً استراتيجيّاً في المنطقة؛ فإن إيران تكتسب شرعيّتها الإقليمية من خلال التأكيد على أبديّة الصراع مع إسرائيل.
أما الثانية فتتمثّل في شكل النفوذ ورؤية كلّ منهما لسوريا المستقبل. فإيران لا تستطيع تحقيق دولة مركزيّة بحكم عدائها العقائدي مع المكوّن السنّي الغالب في سوريا، ولذلك ترى في دولة الميليشيات الطائفيّة ركناً أساسيّاً لضمان بقائها على الأرض السوريّة. فهي تستطيع إدارة تلك الميليشيات العاجزة عن حمل مشروع وطني. وهذا الأمر يتعارض مع رؤية روسيا لدولة مركزيّة يشكّل الجيش المنضبط والمطواع عِماداً أساسياً لها.
لذا فـــ"الصراع الناعم"، لا ينطوي على نسبٍ وجغرافيا فحسب، بل على قضايا جوهريّة في بنية النظام الأمنيّة والعسكريّة، وهذا ما سنتطرق إليه في هذه الورقة التي تشكّل الجزء الثاني من دراسة أوسع حول السياسة التي تتّبعها روسيا في ترسيخ نفوذها العسكري في سوريا. وسنتطرق بالتحديد إلى الميليشيات السورية التي كرّس الوجود الإيراني تواجدها، والأسلوب الروسي في التعامل معها على الأرض. وتستثني هذه الدراسة الميليشيات الدخيلة على الأرض السوريّة، التي فرضها التواجد الإيراني، كحزب الله وميليشيا فاطميّون وزينبيّون والميليشيات الشيعيّة الأخرى، لارتباطها الشديد بالسياسة الإيرانيّة وعدم ثباتها في مناطق صراع محددة وتواجدها على الأرض السوريّة كعناصر غريبة تماماً، الأمر الذي يجعل مهامها ذات طبيعة مؤقّتة.
أولا – سيادة تتداعى وميليشيات تنتشر
حين قرّرت روسيا التدخّل عسكرياً في سوريا في أيلول/سبتمبر 2015، كانت اليد العليا في مناطق سيطرة النظام للميليشيات التي اعتمدتها إيران لتثبيت قواها العسكريّة على الأرض. فانتشرت مجموعات قتال خاصّة تابعة لرجال الأعمال، وميليشيات ذات طابع ديني مرتبط بإيران من خلال الحجّاج الإيرانيين (ضبّاط الحرس الثوري الإيراني). وتغاضى النظام عن المتخلِّفين عن الخدمة العسكريّة الإجباريّة شريطة انضمامهم لأيٍّ من هذه المجموعات، كما تجنّب الاصطدام معها رغم شيوع عمليات الخطف والسرقة. بالإضافة إلى ذلك، ركّزت إيران على الجانب المدني ودعمت حركات التشيّع في جميع البيئات والأوساط في الساحل السوري ودمشق والسويداء، وأمعنت في ربط الفعاليات الاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة في هذه المناطق بمشروعها التوسّعي. وستتناول الورقة طبيعة علاقة الروس بهذه الميليشيات على الحياد:
1- اللجان الشعبيّة:
بدأت هذه الميليشيا بالحواجز التي أوعز حزب البعث لقياداته المحليّة بإنشائها حول القرى في الساحل السوري، وتحديداً القرى العلويّة. كان الهدف منها هو بثُّ الخوف من الثورة في نفوس العلويين. وعملت هذه الحواجز على ترهيب أهل تلك القرى وضيّقت الخناق على المعارضين. ولاحقاً، أخذت العناصر التي سُلِّحت من قبل حزب البعث بالانتقال تدريجيّاً لميليشيا الدفاع الوطني، باستثناء بضع تجمّعات صغيرة استمرّت بعد بداية عام 2013، وتعمل تحت إشراف الأمن العسكري، وهو فرع استخبارات تابع للنظام.
قام الروس بحلّ هذه الميليشيات بعد قدومهم لسوريا، وأبقوا على عناصر قليلة تحمي مكاتب البعث في البلدات والمدن، وبأسلحة قليلة جداً.
2- ميليشيا الدفاع الوطني:
انطلقت في بداية عام 2013، وخاض معظم عناصرها دورات تدريبيّة في إيران تخلّلتها تدريبات على السلاح ودورات عقائديّة، حيث كان "المرشد الثوري الإيراني" يقوم بإلقاء محاضرات تشريعيّة شيعيّة بشكل يومي على المقاتلين، كما كانت تفرض عليهم الصلاة في المساجد في إيران خلف إمام شيعي. ومن من أبرز المهمّات التي أوكلت لهذه الميليشيا هي المجازر الطائفيّة، والتي كان من شأنها توريط العلويين فيها، بالإضافة لأعمال الاغتصاب المُمنهَج، والسرقة التي اشتهرت بها الميليشيا. حيث بدأت بتنظيم حملات نهب مُمنهَجة لجميع الأحياء المُنتفِضة ضد الأسد.
وقد أخذت حملاتها أشكالاً عديدة بحسب المناطق، وقادها هلال الأسد في اللاذقيّة، وهو ابن عم بشار الأسد، وعمل معه علي الكيالي العلوي التركي الذي قاد الميليشيا في مذبحة البيضا في بانياس صيف 2012. وقُتِل هلال عام 2015 في ظروف غامضة، واشتُهِر ابنه سليمان بأعمال الاعتداء والاغتصاب وفرض السلطة في مدينة اللاذقيّة، وسُجِن من قبل النظام على إثرها نهاية عام 2015.
وأشرفت عليها جمعيّة البستان التابعة لرامي مخلوف في دمشق، وهو ابن خال بشار الأسد، وصاحب مجموعة شركات ضخمة تحتكر سوق الاتصالات وقطاع النقل الجوي الخاصّ، كما تحتكر استيراد العديد من السلع وتصديرها، وكانت تتبع للأمن العسكري في طرطوس، وهو فرع استخبارات تابع للمخابرات العسكريّة.
قام الروس بحلّ هذه الميليشيا بشكل نهائي، وأُلحِق ما تبقّى من عناصرها بميليشيا سهيل الحسن.
3- ميليشيا سهيل الحسن:
تُعدّ هذه التسمية تعويماً واضحاً لضابط المخابرات الجويّة، سهيل الحسن، الذي قام عناصره ببث إشاعات مفادها أنّه البديل المرتقب لبشار الأسد، ولا سيما في الفترة التي تلت الحملات التي تحدّثت عن انتصاراته، ومن أهمّها فتح طريق خناصر شرقي حلب، وفتح طريق ريفي حماه وإدلب، كما أنّه قاد عمليات السيطرة على تدمر، وقاد عمليات اقتحام الغوطة الأخيرة، وخاض معارك في الريف الشمالي لحماه. فذاع صيت هذا الضابط بين الموالين، وكانت له صلاحيات مفتوحة. ودعايات قام عناصره بنشرها تفيد بأنّه سيتسلّم زمام الأمور في سوريا بعد الانتصار في الحرب.
ويكمن سرّ اعتماد شعبة المخابرات الجويّة وتوسّع نفوذها بالرغم من وجود أكثر من مئة ألف عنصر في شعبة المخابرات العسكرية؛ في النفوذ الإيراني الذي يقف خلفها. حيث يرأس اللواء جميل حسن شعبة المخابرات الجويّة، وهو الرجل الذي يتمتّع بعلاقات قويّة ودعم من إيران وحزب الله اللبناني. ولذلك تحوّلت شعبة المخابرات الجويّة، من فروع ومفارز صغيرة في بعض المحافظات، لا يتجاوز تعداد عناصرها عشرة آلاف قبل الثورة –وفق أعلى التقديرات– إلى شبه جيش تجاوز عدد عناصره مئة ألف في نهاية عام 2013، يستقبل مدنيين وعسكريين، وفارين من الجيش، مع صلاحيات واسعة للعناصر والضباط التابعين لسهيل الحسن، ومن ثَمّ لشعبة المخابرات الجويّة.
تتبع لجيش سهيل الحسن، كتائب السحابات بقيادة علي مهنّا، الذي يُعتبر الواجهة الماليّة والاقتصاديّة لسهيل الحسن. وينتمي معظم أفرادها لمنطقة الخريبات في طرطوس. وحتى مجيء الروس كانت السحابات عبارة عن ميليشيا أُدخِلت بالكامل في جيش سهيل الحسن، وانضوت تحت قيادته في الكثير من معارك حلب وحمص. وبعد التدخّل الروسي العسكري، تغيّر دور هذه الكتائب وتمايز عن دور جيش سهيل الحسن.
قام الروس بالسيطرة الكاملة على ميليشيا سهيل الحسن، إذ غادرها الحجّاج الإيرانيون، أي ضبّاط الحرس الثوري الإيراني، وحلّ محلّهم ضبّاط روس يشرفون على كل صغيرة وكبيرة فيها. وتحاول روسيا تعويم هذه الميليشيا وإضفاء صبغة رسميّة عليها، بغية تحفيز عناصرها، وضمان عملهم تحت سيطرتها كجيش موازٍ لجيش النظام. الأمر الذي يخلق حالة تنافس فيما يخص الامتيازات والولاء تجاه القوات الروسية، مما يجعل من الروس أكثر قدرة على المناورة، وأكثر جرأة في تحريك القوى على الساحة السوريّة.
4- صقور الصحراء:
ظهرت في نهاية عام 2013، بقيادة رجل الأعمال محمد جابر، وهو قريب لبشار الأسد، وبمساعدة أخيه أيمن جابر، المشرف الميداني والعملياتي على الميليشيا. وتُعتبر ميليشيا صقور الصحراء مُكلَّفة بحماية المنشآت النفطية، لضلوع مُموِّلها محمد جابر بتعهدات في هذا المجال، إلا أن النظام استخدمها لاحقاً في عدّة جبهات أخرى، كإدلب، وبعض الجبهات في حمص.
تتميَّز ميلشيا صقور الصحراء براتبها الجيّد الذي يبلغ 50 ألف ليرة سوريّة (ما يقرب 100 دولار أمريكي)، في حين كانت فصائل الدفاع الوطني تصرف راتباً قدره 25 ألف ليرة سورية آنذاك. وظهرت صقور الصحراء مع بدء انحلال ميليشيا الدفاع الوطني حيث كان أغلب مقاتليها من أعضائها. لكنّ عدد عناصرها لم يتجاوز 5 آلاف؛ بسبب ظهورها بوقت انكماش شباب الساحل ونفورهم من القتال. وتمتلك أسلحة خفيفة ومتوسطة وسيارات دفع رباعي وعربات نقل جنود تم استقدامها من جيش النظام.
تعمل هذه الميليشيا بمنطق العصابات، حيث يترأّس كل مجموعة شخصٌ مُقرّب من أيمن جابر. وتنجز مهامها القتالية تحت إشراف ميليشيا سهيل الحسن أو جيش النظام. وسُجِّل استقلالها حين تولّت حماية المنشآت النفطيّة وأنابيب النفط في منطقة تدمر، دون تدخّل أيّ من الميليشيات الأخرى، أو من جيش النظام.
قام الروس بتحويل نشاط هذه الميليشيا إلى مدينة اللاذقيّة، حيث انكفأ عناصرها على المحافظة، ويقوم قادة هذه الميليشيا بالاجتماع الدوري مع ضبّاط روس في قاعدة حميميم، حيث يأخذون أوامر الحركة العسكريّة من هناك، وتتلخّص مهامهم الحاليّة في حراسة البنى التحتيّة النفطيّة في اللاذقيّة وبانياس.
ثانياً – "صراع ناعم" إيراني-روسي على الأرض لملء الفراغ
لم تعتمد إيران منذ بداية توغّلها في نظام الأسد على المؤسسات الرسميّة. بل كانت تسعى إلى تدمير مؤسّسات النظام، والعمل خارجها واعتمدت إيران في استراتيجيتها على تغييب مظاهر الدولة وإحلال ميليشيات موالية لها في المنطقة، لتضمن السيطرة الكاملة والمنفلتة من أية مسؤوليّة. فانتشرت الميليشيات، وانتشر معها منطق ما أصبح معروفاً بـ "التشبيح" و "التعفيش"، وراح عناصر الميليشيات يفرضون سلطاتهم وقراراتهم على كلّ هيئات الدولة ومؤسّساتها. حتى وصلت الحال لهروب عناصر الشرطة من مواجهة عناصر الميليشيات.
في الفترة التي أعقبت الأفول الأوّل لحلم انتصار الأسد على الثورة السوريّة، أي في بداية عام 2012، بدأت الميليشيا بالتوغّل. وفي غضون عامين، بدأت مظاهر الخراب الأمني والفوضى تنتشر في مدن الساحل السوري. ووقعت أحداث كثيرة منها السرقة والنهب، كان يقوم بها عناصر الميليشيا متسلِّحين بتلك الأسلحة التي وُزِّعت عليهم، وبمعنويات المقاتلين الذين يحمون أبناء المدن. كانت هذه السرقات بمثابة إتاوات لم يستطع نظام الأسد أن يحول دون حدوثها. وراحت مظاهر الدولة تنهار تدريجيّاً.
وتفشّت في كل مدن الساحل، ظواهر مشابهة لحد كبير لظاهرة سليمان الأسد، ابن هلال الأسد الذي قتل ضابطاً في جيش النظام، مما أدى لاحتجاجات واسعة ضده في الأوساط الموالية، الأمر الذي أرغم بشار الأسد على احتجازه. فانتشرت مجموعات خارجة عن القانون، وعبثت بأمن الأهالي وأرزاقهم دون رادع. واستمرت الحال على هذا المنوال حتى قدوم الروس نهاية عام 2015، وبدأت مرحلة جديدة بالنشوء والتطوّر في الساحل السوري، تتسم بانضباطٍ من شكلٍ جديدٍ.
بعد عامين ونصف من دخول القوات الروسيّة الأراضي السوريّة؛ اختفت معظم الفصائل المسلّحة التي كانت تملأ الساحل السوري. حيث قام الروس بحلّ جميع الميليشيات الصغيرة والتي يصعب ضبطها، كميليشيا جمعيّة البستان، وميليشيات رجال الأعمال، وأصبح عناصرها مطاردين من قبل أجهزة الدولة. حيث اعتمد الروس على شعبة المخابرات العسكريّة لضبطها. إلّا أنّ بعضها ما زال قائماً، وازدادت صلاحياته، من حيث القدرة على استيعاب الفارّين، وترتيب أوضاعهم.
يعود ذلك، بالدرجة الأولى، لرغبة الروس باستثمار هذه الميليشيات، حيث قاموا باستمالة قادتها، ليذوبوا تدريجيّاً تحت الأمر الواقع الروسي. فالقوات الروسية بحاجة لميليشيات مُنظَّمة تُوكَل إليها مهمّات الحماية، أو رغبة في المحافظة على كيانات موازية للجيش تساهم بتأجيج القلق، وتتنافس فيما بينها للحصول على رضا القوة العظمى. والملفت أن معظم عناصرها يعملون على حواجز في مناطق التماس.
قد تعود الطريقة الروسية في التعامل مع مسألة التوغّل الإيراني في الساحل من خلال الميليشيات؛ إلى أهميّة منطقة الساحل الاستراتيجية بالنسبة لروسيا. ومثال ذلك ظهور ميليشيا السحابات في مدينة طرطوس عقب تفجيرات أيار/مايو 2015، والتي قامت بإيقاف الأعمال العدائيّة ضدّ النازحين، بعد أن خشيت روسيا من انتشار الفوضى في هذه المناطق الحسّاسة.
ثالثاً – تعديلات طفيفة ذات دلالة في الأجهزة الأمنية والاستخبارات العسكرية
لا بدّ من الإشارة إلى ضرورة الانتباه لأي تغيير صغير قد يطرأ على سلوكيات الأجهزة الأمنية، بحكم كونها جوهر نظام الأسد. ولا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الأجهزة لم تشهد بعد تغييرات كبيرة، فما تزال تحتجز عشرات الآلاف من المعتقلين السوريين إلى اليوم، إلى جانب دورها السابق في قمع المظاهرات واعتقال المُحتجّين وقتلهم، وهو أمر سيتكرر في مناطق سيطرة النظام إن اندلعت احتجاجات أو ظهرت تنظيمات مُعارِضة.
ولم تكن الأجهزة الأمنيّة قبل اندلاع الاحتجاجات بالأهميّة نفسها التي هي عليها اليوم، فيما يخصّ الأدوار المُناطَة بكلّ أفرعها. إذ كان اعتماد النظام الرئيسي يقع على عاتق الأمن العسكري، الذي كان يشكّل قوة قمعيّة ضاربة تكوَّنت من مئة ألف عنصر، ينتشرون في أفرع تغطّي المحافظات كلّها، ويقوم عملها على الترهيب وفرض هيبة الدولة والتنمّر على المواطنين. وكان الأمن العسكري يتدخّل في كل شرايين الحياة اليوميّة.
بعد الأمن العسكري، يأتي جهاز الأمن السياسي من حيث التعداد واعتماد النظام عليه. وتتبع أفرعه لوزارة الداخليّة وجميع عناصره من قوّات الشرطة، إلّا أنهم يتصرفون كفرع أمني؛ لباس مدني، واعتقال تعسُّفي، وتدخّل في جميع مفاصل الحياة.
في الدرجة الثالثة، تأتي أفرع أمن الدولة، أي شعبة المخابرات الأولى، التي اعتمدها القادة العسكريون والحكومات منذ الاستقلال، وهي أجهزة استخبارات معنيّة بالشأن المدني، في حين كانت الشعبة الثانية أي المخابرات العسكريّة أو الأمن العسكري، تُعنى بشؤون الجيش وضبط تحرُّكات الضبّاط. وحين تولّى الأسد الأب السلطة، قام بتوسيع عمل الأفرع وخاصّة الأمن العسكري، وأطلق صلاحيات غير محدودة لجميع هذه الأفرع. مما أدّى إلى التداخل في الصلاحيات والسلطات الممنوحة عرفيّاً من النظام لشُعب المخابرات وأفرعها المتنوعة، وذلك لتحقيق التنافس فيما بينها، وعدم احتكار أي من هذه الشُّعَب لملف معيّن.
أخيراً تأتي المخابرات الجويّة، وقد كانت قبل اندلاع الاحتجاجات عبارة عن فرع رئيسي في دمشق وعدّة مفارز في عدّة محافظات رئيسيّة في البلاد، إلى أن بدأ الإيرانيّون بتوسيعها بشكل كبير بواسطة ميليشيا سهيل الحسن.
باستثناء تحويل شعبة المخابرات الجويّة لما يشبه اللواء العسكري، حيث يعمل هذا اللواء تحت إمرة سهيل الحسن، لم يغيّر الروس في طريقة عمل الأفرع الأمنيّة ولم يتدخّلوا في إدارة شؤونها حتى الآن، ما عدا مسألة إيقاف الاعتقال السياسي التي غيّرت إلى حدّ كبير من دور الأجهزة الأمنيّة وشكل النظام الحالي.
لم تُسجَّل أية حالة اعتقال سياسي داخل مناطق سيطرة النظام بعد دخول القوّات الروسيّة. كما تشهد صفحات الفيسبوك، ظهور معارضين علنيين، يؤيّدون خط المعارضة الخارجيّة (الهيئة العليا للمفاوضات) ويتبنّون مصطلحات مثل "الاحتلال الروسي" و "نظام الأسد القمعي" و "الثورة السوريّة". كما بدأت على صفحات علنيّة على الفيسبوك ظاهرة نشر المقالات لأشخاص في مناطق سيطرة النظام، من مواقع معارضة تدعم وصول قوى أخرى للسلطة في سوريا.
وفي هذا السياق ثمة ملاحظتان ضروريتان لتقييم التغيير:
الأولى: لا يوجد تنظيم سياسي مُعارِض يعمل على الأرض بحريّة كاملة، كما لا يوجد منع واضح. فالقوى السياسيّة تترقّب، وأصبح الرقيب داخليّاً، فالتنظيمات السياسيّة لم تختبر حتى الآن مدى مرونة الروس بخصوص آليات العمل السياسي في مناطق سيطرتها الاستراتيجيّة.
الثانية: تبقى ظاهرة المعارضة العلنيّة ضيّقة جداً، وقد تنحصر في عدّة شخصيّات سياسيّة وكُتّاب رأي في كلّ مدينة. إلّا أن الفارق بين موالين غاضبين وسياسيين معارضين، يكاد يكون معدوماً، بعد انهيار العديد من "الخطوط الحمر"، كالحديث عن بشار الأسد أو النظام أو الدفاع عن المعارضين وحقوق أهالي المناطق الساخنة والمُهجَّرين.
إذ تبقى المصطلحات المذكورة سابقاً بالإضافة إلى توجّه الموقع الذي يُنشَر به أو الصفحة هي الفيصل الوحيد في تحديد اتجاه المُدوِّن على وسائل التواصل الاجتماعي. فقد نرى كلاماً أكثر قسوة لموالٍ غاضبٍ، من ذاك الذي ينشره معارض سياسي، وهنا لا نتحدّث عن "المعارضين" الموالين لروسيا، والذين يُطلقون على أنفسهم لقب "معارضة الداخل"؛ بل عن معارضين غير منحازين لأي احتلال، يُعارضون بالدرجة الأولى نظام الأسد، ويساندون الثورة، ويتطلَّعون لتغيير النظام.
وأخيراً، لا بدّ من التنبيه إلى التغييرات الكبيرة التي حصلت في أوساط ضبّاط المخابرات العسكريّة (الأمن العسكري) والتي لم يتسنَّ لنا تحديد مدى علاقة قادتها الجدد بالقوات الروسية.
رابعاً – ميليشيا خاصّة لحماية الضباط الروس وعوائلهم
أنشأت القوات الروسية ميليشيا في المناطق الساحليّة، تتبع بشكل مباشر لضبّاط روس وأسموها (القوات الرديفة للأصدقاء الروس)، ومهمتها حماية الضبّاط الروس وعوائلهم في مدن اللاذقيّة وطرطوس ودمشق، حيث تتمركز القوات الروسيّة بشكل كبير، عِلماً أن بعض الجنود الروس استقدموا عائلاتهم للعيش معهم، واتخذوا من فنادق وأبنيّة فاخرة تابعة للنظام مقرّات إقامة لهم.
عدا ذلك، لا يحتكّ العنصر الروسي مع المدنيين السوريين، إلا فيما ندر خلال الجولات السياحيّة، حيث رُصِدَت مجموعات من العسكريين الروس في ثياب عسكريّة في أسواق اللاذقيّة وطرطوس.
ومع دخول القوات الروسيّة إلى سوريا، عادت مظاهر الدولة إلى الفضاء العامّ، فعادت شرطة المرور. وقامت الشرطة، بالتعاون مع الأمن العسكري باعتقال المجموعات المُسلَّحة التي كانت تخطف أغنياء الساحل وتسطو عليهم دون تمييز، والتي كانت قد تمترست في بعض القرى لأكثر من سنتين، إبّان النفوذ الإيراني الذي كان سائداً قبل التدخّل العسكري الروسي.
بعد دخول القوات الروسية، تغير سلوك جهاز الشرطة. فبات بالإمكان رؤية مخافر الشرطة الجنائيّة مثلاً، وهي تحاول تطبيق مواد من الدستور تتعلق بالاعتقال بإذن من القاضي، وعدم الاعتقال التعسّفي للقضايا الجنائيّة. ورغم ظهور بعض الممارسات الجديدة في مناطق سيطرة النظام؛ فإنها ما تزال شكليّة حتّى الآن، لانعدام استقلالية القضاء وخضوع القضاة لسطوة رجال الأمن. مما يجعل كل التغييرات المدنيّة في بنية نظام الأسد شكليّة. فلا تغييرات بنيوية في نظام الأسد، كتوقّف الاعتقال السياسي في مناطق سيطرة النظام، وانخفاض الرُّهاب الجماعي من حضور الدولة ورُهاب انتقادها.
وأخيراً، لا بدّ من ذكر الاجتماعات الأمنيّة التي يترأّسها ضبّاط روس في كل محافظة على حدة، حيث يحضر قادة الأفرع الأمنيّة والشرطيّة والمحافظ كل شهر، لتتم دراسة الوضع الأمني في المحافظة، ومن ثَمّ يقوم الروس بإصدار التعليمات لهؤلاء الضبّاط.
خلاصة
تُعتبر الأجهزة الأمنيّة رقيباً سليطاً على المجتمع. وهي المسؤولة عن اندلاع الاحتجاجات ونقمة الشعب على النظام في الدرجة الأولى، إضافة لدورها في إفساد الاقتصاد والحياة الاجتماعيّة والثقافيّة. وبقاء هذه الأجهزة هو إعادة إنتاج للنظام كما كان عليه، وهو بتعبير آخر، إعادة تدوير للأحداث في سوريا.
ومن الواضح أن القوات الروسية تسعى للبقاء بشكل دائم في سوريا. ويتجلّى ذلك في السياسات المُتَّبَعة على الأرض، إلا أن البنية الأمنية للنظام تبقى إحدى أبرز المعضلات التي لم يتجرّأ الروس على الخوض بها حتّى الآن، في ظل رفض النظام لأي مساس بها، رغم الإشارات الروسية إلى نيّة مُحتمَلة لتغيير هذه البنية.
حيث تشير التغييرات التي نشهدها في الممارسات اليومية للروس على الأرض إلى استراتيجية روسية تسعى لبناء نظام أكثر استقراراً، يقوم على آليات مختلفة للسيطرة على المجتمع، وخلق بيئة مناسبة تتيح استغلال ثروات البلاد لأجل غير مُسمّى.
في ظل هذا المشهد الضبابي المُغيَّب عن الإعلام والرأي العام، يصبح تركيز الجهود على التنظيم السياسي أولوية لدى القوى السياسيّة السورية، لخلق حركة سياسيّة ضاغطة على النظام المقبل أيّاً كان شكله، لتجعل من نفسها أمراً واقعاً.
كما يبدو من الضروري العمل على تعزيز الجهد الجماعي للنخبة السوريّة باتجاه إعداد القوى السياسيّة على الأرض، وذلك بموازاة المفاوضات الجارية في المحافل الدوليّة.
في غياب قوى شعبيّة مُنظَّمة وضاغِطة، يصبح من السهل إنتاج نظام جديد أكثر قمعاً وقسوة من نظام الأسد، أو ربما إعادة نظام الأسد كما كان على حاله، قوّة احتلال مُقنَّعة تسيطر على مفاصل الحياة كلّها.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.