في عام 1841، وقبل عقدين من إعلان أبراهام لينكولن تحرير العبيد، ألغت تونس تجارة العبيد، ثم ألغت العبودية نفسها عام 1846، لتكون أول دولة عربية تفعل ذلك. وقد علل أحمد باي، والي تونس آنذاك، إنهاء الرق بقوله إن العبودية عززت انتهاكات حقوق الإنسان وهددت الاستقرار السياسي وشجعت على أسر المسلمين للمسلمين بصورة غير شرعية.
في العالم العربي المعاصر أيضاً تبنت تونس نهجاً تقدمية نسبياً فيما يتعلق بمواجهة التمييز العنصري ضد السود والتصدي له. ففي عام 2018، كانت تونس أول دولة عربية تسن قانوناً يهدف إلى القضاء على كافة أشكال التمييز العنصري (قانون مناهضة التمييز العنصري رقم 50 لسنة 2018).
في مناطق بجنوب تونس، تصدر الوثائق الحكومية الرسمية للمواطنين التونسيين السود، من أحفاد العتقاء، مع إضافة لفظة "عتيق" قبل ألقابهم، في إشارة إلى العائلات التي كانت "تسترق" أسلافهم ثم "حررتهم". وفي عام 2020، وبدعمٍ من جمعية "منامتي" (أيّ حُلمي)، إحدى منظمات المجتمع المدني البارزة في مناهضة العنصرية، واستناداً إلى القانون رقم 50 ومواد الدستور التونسي، تكلل الالتماس الذي قدمه المواطنان التونسيان الأسودان حمدان دالي وابنه كريم إلى المحكمة من أجل حذف التسمية المهينة والمسيئة من ألقابهم في الوثائق الرسمية التونسية للمرة الأولى في تاريخ تونس.
في حين أن العنصرية ضد السود لا تزال متجذرة في تونس -يرجع ذلك جزئياً إلى تباطؤ الدولة في تطبيق القانون الجديد- فقد أُحرز بعض التقدم نحو تحقيق المساواة العرقية، وإن كان ذلك بوتيرة أبطأ من المرجو. وفي أغلب الأوقات لا تتوافر لدى ضحايا التمييز العنصري الإمكانات المالية اللازمة للشروع في الإجراءات القضائية المكلفة، ولا يسعهم الانتظار لسنوات على أمل كسب القضية، بل وأحياناً يكون من غير المنطقي ومن غير المقبول اجتماعياً التقدم بشكوى ضد أحد الجيران أو أفراد العائلة.
مع ذلك، أود أن أؤكد هنا على أنه قد تم بالفعل إحراز تقدم مؤخراً في هذا الشأن في البلاد، ويرجع الفضل في معظم هذا التقدم إلى التحول الديمقراطي الذي تشهده تونس. فعلى أقل تقدير، مهدت الديمقراطية في تونس الطريق أمام منظمات المجتمع المدني لتعمل بحرية، وهو ما سمح بتنظيم احتشاد قوي لمواجهة العنصرية ضد السود. تجدر الإشارة هنا إلى أن غالبية الدول العربية هي بلدان استبدادية وكثيراً ما يدعي قادتها أنه لا حاجة لإصدار قوانين لمكافحة العنصرية لأن جميع مواطنيها سواسية وفقاً للدساتير التي وضعوها. إضافة إلى ذلك، تخشى هذه الدول من عواقب الوحدة الوطنية وترفض منح تراخيص لمنظمات المجتمع المدني التي تكافح العنصرية. لكن وعلى النقيض من ذلك، كان لحرية تشكيل الجمعيات في تونس وكذلك حرية الحياة النقابية دور كبير في تسهيل خروج جمعية "منامتي" إلى الضوء في عام 2012، التي برزت بوصفها منظمة رئيسية ومؤثرة في مكافحة العنصرية ضد السود. قادت جمعية "منامتي" المعركة التي نتج عنها سن قانون مناهضة التمييز العنصري رقم 50. وقد مثّل المحامون التابعون للجمعية حمدان دالي وكريم دالي في قضيتهم الناجحة التي تم بمقتضاها حذف لفظة "عتيق" رسمياً من وثائق الهوية الوطنية الخاصة بهم (شهادات الميلاد).
في ضوء التقدم الذي تم إحرازه نحو تحقيق المساواة العرقية في تونس ودور جمعية "منامتي" في ذلك، أنشر فيما يلي نص الحوارات التي أجريتها عبر الإنترنت مع زيد روين، المدير التنفيذي لجمعية "منامتي"، وحمدان دالي في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2020.
قرب نهاية حقبة بن على (1987-2011)، سعت الناشطة سعدية مصباح، رئيسة ومؤسسة جمعية منامتي، وزوجة المغني التونسي المشهور صبري مصباح إلى تشكيل منظمة غير ربحية للتصدي للعنصرية ضد السود في تونس. لكن الحكومة التونسية في عهد بن علي رفضت كل مجهوداتها لتسجيل المنظمة منكرةً وجود أيّة عنصرية في البلاد أو الحاجة إلى سن قانون لمكافحتها. واتهمت بافتعال مشاكل عرقية بين التونسيين. في نهاية المطاف، تمكنت مصباح من تسجيل جمعيتها بعد الثورة التونسية في 2012، واستأنفت عملها من أجل إصدار قانون لمكافحة التمييز العنصري لتتوج مجهوداتها في النهاية بسن القانون رقم 50 لعام 2018.
تُعد شمولية القانون رقم 50 بمثابة اعترافٍ هائل من قبل الدولة بِوجود عنصرية ضد السود في تونس وبِضرورة التصدي لها في مؤسسات الدولة وفي المجتمع. يُلزم القانون الدولة بوضع برامج لزيادة الوعي وتحسين الأنشطة التثقيفية بشأن التمييز العنصري في كافة المؤسسات العامة والخاصة. يفرض القانون أيضاً عقوبات جنائية (السجن لمدة تتراوح من شهر لسنة) وغرامات بحق "كل من يرتكب فعلاً أو يصدر عنه قولاً يتضمن تمييزاً عنصرياً بقصد الاحتقار أو النيل من الكرامة". إضافة إلى فرض عقوبات محددة تحظر التحريض على الكراهية والعنف والتفرقة والفصل والإقصاء أو تهديد شخص أو مجموعة أشخاص على أساس عنصري؛ ونشر الأفكار القائمة على التمييز العنصري أو التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية بأي وسيلة من الوسائل؛ وتكوين مجموعة أو تنظيم يؤيّد بصفة واضحة ومتكررة التمييز العنصري أو الانتماء إليه أو المشاركة فيه؛ وكذلك دعم الأنشطة أو الجمعيات أو التنظيمات ذات الطابع العنصري أو تمويلها. وأخيراً، ينص القانون كذلك على إنشاء لجنة وطنية رسمية مسؤولة عن رصد كافة القضايا ذات الطابع العنصري، وفي الوقت نفسه دفع وحث الحكومة على تطبيق القانون رقم 50 من خلال تصميم واقتراح مجموعة من الإجراءات والسياسات العامة المُفصلة.
من هو زياد روين؟
أنا مواطن تونسي أسود، وناشط أعمل منذ 8 سنوات في جمعية "منامتي" حيث أشغل حالياً منصب المدير التنفيذي. يتمثل انتصارنا الرئيسي في اعتماد القانون 50 في تشرين الأول/أكتوبر عام 2018، الذي يدين ويعاقب كافة أشكال التمييز العنصري. أنا أيضاً المستشار المحلي لمجموعة حقوق الأقليات المعنية بقضايا مكافحة التمييز العنصري في تونس. في 2019، أنشأنا مركز دعم قانوني لمساعدة ضحايا التمييز العنصري. تم اختياري في 2019 ضمن أكثر 100 شخص مؤثر من أصل أفريقي ممن تقل أعمارهم عن 40 عاماً حول العالم.
بعد النجاح في قيادة المعركة من أجل تطبيق أول قانون يكافح التمييز العنصري في العالم العربي، ما هي الأهداف الحالية لِجمعية "منامتي"؟
هدفنا المباشر الرئيسي هو ضمان أن تكون الأوضاع على أرض الواقع متماشية مع ما ينص عليه القانون 50 على الورق، وذلك من خلال مواصلة عملنا الدؤوب.
علاوة على ذلك، انتقلت الجمعية إلى مرحلة أخرى، تتمثل في اقتراح إجراءات ملموسة لمناهضة التمييز العنصري. وقد أنشأنا مراكز هدفها هو الاستماع لضحايا التمييز العنصري، مع ثلاثة ممثلين لكل منطقة، في الجنوب وفي العاصمة تونس الكبرى، لتوفير الدعم القانوني لهم. يتولى الممثلون مسؤولية متابعة وجمع وتوثيق كافة التصرفات والأفعال العنصرية المبلغ عنها خلال الحياة اليومية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. ومنذ عام 2019، تم إبلاغنا بـ 67 حالة تمييز عنصري مع تسع شكاوى رسمية وصلت إلى المحكمة، من بينها حكمين صدرا لصالح الضحايا.
لكن ما يزال أمامنا الكثير لإنجازه في مجتمع يشكل السود فيه نسبة تتراوح بين 10% إلى 15% من السكان لكن تمثيلهم في الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد ضعيف للغاية (يوجد نائب أسود واحد فقط من بين 217 نائب منتخب، مع عدم وجود أيّ والي أو رئيس بلدية أسود).
ما تزال هناك أيضاً ممارسات تمييزية غير مقبولة تحدث في جنوب البلاد تشمل وجود حافلات ومقابر مخصصة للسود في عدة مدن، بل وثمة قرى بأكملها أُنشئت لعزل المواطنين السود. في الواقع، لا تتمتع فئة السود بمكانة كاملة وعلى قدم المساواة مع باقي الفئات المجتمعية في التاريخ والثقافة التونسيين؛ إذ يرتبط السود في الذاكرة الجمعية التونسية بالوظائف الثانوية وتجارة الرق. ولذا تسعى جمعية "منامتي" إلى تغيير العقليات، وخاصةً من خلال إجراء مشاريع بحثية تاريخية ملموسة لإعادة السود إلى مكانتهم التي يستحقونها ضمن نسيج المجتمع.
بوجه عام، ما هي مظاهر تجلى العنصرية ضد السود في تونس؟
تظهر العنصرية في عدد من مجالات الحياة التونسية. واستناداً إلى التقارير المباشرة التي قُدمت إلينا، فقد تصدت جمعية "منامتي" بفعالية إلى أنواع مختلفة من الحالات:
في الأماكن العامة: كشف تحليل لهذه الحالات أن أكثر الفئات تضرراً هم المهاجرون من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى الذين يتعرضون لاعتداءات لفظية وجسدية، وأحياناً يقعون ضحايا لعمليات السرقة، خلال عودتهم من العمل إلى منازلهم ومرورهم عبر الأحياء التونسية. وحتى في سيارات الأجرة، يتعرضون للتهديد والضرب والإهانة. في حين تعرضت النساء الأفريقيات ذوات البشرة السوداء للتحرّش والتخويف على أيدي الشباب في أحيائهن، ووقعن أيضاً ضحايا للسرقة والإهانات العنصرية.
عند التواصل مع ضباط الشرطة: لدينا تقارير تفيد بوقوع ممارسات عنصرية داخل مراكز الشرطة أو على أيدي ضباط الشرطة في الشوارع. كانت أربع منها بسبب لون البشرة، بما في ذلك حالة تعرض فيها تونسي أسود للإيذاء من جانب الشرطة.
في أماكن العمل: تحدث ممارسات عنف وتحرّش وتمييز عنصري في أماكن العمل في تونس. شملت القضايا ثلاث حالات بسبب لون البشرة، و24 حالة تتعلق بالانتماء القومي. فقد كان التونسيون السود ضحايا للاعتداء أو الإهانات أو الاستهزاء من جانب زملائهم في العمل. وفي إحدى الحالات، طُردت الضحية من العمل بعد أن أُطلق عليها اسم عبدة (وصيفة) مع تعرضها للاعتداء من أحد زملائها. وفي حالة أخرى، اعتدى والد أحد الطلاب لفظياً على معلم في المدرسة بسبب لون بشرته. وتوجد تقارير عديدة حول التمييز في أماكن العمل ضد المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وهي أفعال يُمكن اعتبارها شكل حديث من أشكال العبودية. في إحدى الحالات، كان ثلاثة شبان أفارقة سود هم الضحايا، توفي أحدهم بأزمة قلبية في مكان عمله بسبب الإرهاق، وتوفي اثنان جراء إصابتهم بالاختناق في أحد مواقع البناء في مدينة صفاقس بسبب ما تعرضا له من استغلال دام لأشهر. والبعض الآخر إما أنهم لا يتقاضون راتباً أو أنهم يتقاضون أجراً أقل من العمال التونسيين، حتى وإن عملوا لساعات إضافية. توجد أيضاً حالات عديدة حول عمل العمال الأفارقة السود لعدد ساعات طويل للغاية (من الساعة 6 صباحاً إلى الساعة 8 مساءً مع استراحة غداء مدتها لا تتجاوز 30 دقيقة فقط). وفيما يتعلق بالنساء الأفريقيات اللاتي يعملن خادمات في المنازل، فقد أفادت التقارير أنهن يعاملن في كثير من الأحيان معاملة سيئة، ويتعرضن للإهانة والتحرّش والتخويف، ويتقاضين أجوراً منخفضة، مع التهديد أحياناً بإبلاغ الشرطة عنهن لأنهن لا يحملن تصاريح عمل كونهن مهاجرات غير شرعيات في تونس.
داخل الأحياء في تونس العاصمة: تحدث ممارسات العنف العنصري والتحرّش بين الجيران. فقد تلقينا ثمانية تقارير تفيد بوقوع ممارسات عنصرية من هذا القبيل. إذ أبلغ ستة من الأفارقة السود واثنان من التونسيين السود عن تعرضهم للتمييز بسبب لون البشرة والانتماء الوطني. فقد تعرض هؤلاء الرجال والنساء لاعتداءات لفظية وجسدية على أيدي جيرانهم العنصريين.
ما نوع الأعمال التي تقوم بها جمعية "منامتي"؟
توفر جمعية "منامتي" مراكز المساعدة القانونية لدعم ضحايا العنصرية في تونس ومساعدتهم على تحقيق العدالة. ونتولى مهمة توجيه وتدريب أكثر من 100 محامياً على قانون مناهضة التمييز العنصري رقم 50. ويتضمن جدول أعمالنا أيضاً ما يلي:
- تعزيز آليات المراقبة القضائية وغير القضائية على تطبيق حقوق الإنسان وفرض الجزاءات في حال انتهاكها.
- تنفيذ القانون الأساسي عدد 61 لسنة 2016 الصادر في 3 آب/أغسطس عام 2016 بشأن منع الاتجار بالأشخاص ومكافحته. والتحقيق بصفة رئيسية في حالات إساءة معاملة المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
- تنقيح السياسة الإعلامية بهدف تعزيز ثقافة مكافحة جميع أشكال التمييز.
- تدريب المعلمين في المراحل الابتدائية والثانوية والجامعية على حقوق الإنسان مع التركيز على الأقليات الضعيفة.
ما هي قضية "عتيق"؟
في البداية رفضت المحكمة عام 2017 الطلب المُقدم من المدعين، مستشهدة بعدم وجود لجنة أو قانون يختص بالمسائل المتعلقة بالألقاب. ولاحقاً في نفس العام، قدّم كريم دالي طلباً عن طريق محاميه إلى وزارة العدل من أجل سحب هذه العبارة المهينة من اسمه في الوثائق الرسمية. ورُفض طلبه مرة أخرى للأسباب نفسها، وهي عدم وجود لجنة خاصة للنظر في هذه المسائل.
في آب/أغسطس 2020، تقدمت عائلة الدالي، بمساعدة محاميتنا حنين بن حسانة، بطلب لحذف هذه الصفة المهينة من اسمائهم. اعتمدت المحامية بن حسانة في حجتها على المادة 2 من القانون رقم 50 والمواد 21 و23 و49 من الدستور، نظراً أن اسم "عتيق دالي" يُكرس التمييز والإذلال والإهانة لكرامة الإنسان. وبهذا الحكم، قررت المحكمة كتابة اسم "دالي" بدلاً من "عتيق دالي" في جميع الوثائق الرسمية، بما في ذلك شهادات الميلاد.
يمهد هذا الحكم الطريق أمام اتخاذ إجراءات مماثلة من قبل التونسيين السود الآخرين الذين سيتمكنون بدورهم من تغيير أسمائهم واختيار هويتهم بحق.
شهادة حمدان الدالي
اسمي حمدان دالي، مواطن تونسي. أعيش في جزيرة جربة وأبلغ من العُمر 81 عاماً. كان دافعي الوحيد لمتابعة قضية "عتيق" هو مصلحة أبنائي. فقد كان هدفي هو القضاء على أثر العبودية بحذف صفة "عتيق" من اسمي. وقد ساعدني ابني كريم دالي في هذا الأمر.
يُعبر لفظ "عتيق" عن معاناة السود وقت العبودية، وحتى اليوم ما يزال عديد من السود يحملون لقب "عتيق" قبل اسمهم الأخير في الوثائق التونسية. وعندما كنا نطلب الحصول على وثائق رسمية، كثيراً ما كان يُنظر إلينا بازدراء وتطرح علينا أسئلة مثل: "هل أنت عبد سابق وهل ما زلت تعمل لصالح هذه العائلات؟"
إن لفظ "عتيق" هو رمز لعصر اتسم بالاضطهاد والظلامية لكل شخص أسود ما يزال يحمل هذا الخزي باسمه أو اسمها. لا أريد أن أنظر إلى ماضيّ المليء بالألم والعنصرية. بل أريد أن أتطلع إلى مستقبل مشرق لأبنائي ولجميع السود في جزيرة جربة، الأكثر عرضةً للتهميش في المدارس وفي أماكن العمل. إذ ترتبط صورة السود في تونس بمهن مثل الخدم أو حتى قارعي الطبول في حفلات الزفاف وراقصي الفنون الشعبية. ولكننا سود، ونحن فئة على قدم المساواة مع باقي الفئات في هذا البلد.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.