يتلاشى الحضور اليمني تدريجياً من الساحة الدولية لتحتل الأزمة الحاليّة بين السعودية وقطر صدارة المشهد العام. ولم يكن هذا الغياب كاملاً، فقد سُجّل لليمن حضور خجول، تجلّى بذكرها بين الدول التي أعلنت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، ناهيك عن تصنيفها دولةً خليجية، بحسب خبر المقاطعة.
لا نناقش هنا وجود حكومة يمنية قادرة على اتخاذ قرار كهذا، أو عدم وجودها. ولكن هل يمكن اعتبار الظرف الحرج الذي تمر به البلاد مناسباً لهذا القرار؟ وكيف اعتبرت اليمن دولة خليجية؟ وهل يمكننا اعتبار أنها خليجية في زمن النزاعات ويمنية متفرجة على رخاء الخليج في زمن السلم؟
لليمن تاريخ طويل من محاولات الانضمام لمجلس التعاون الخليجي، وقد قُوبلت تلك المحاولات جميعها بالرفض من قبل دول الخليج. وللمفارقة، يتم اليوم إدراج اليمن ضمن النادي الخليجي، بعد اندلاع أزمة خليجية سياسية، تمخضت عن حرب إعلامية شرسة حتى الآن. فهل حصل اليمن على وعد بنيل عضوية مجلس التعاون الخليجي بعد انتهاء الصراع اليمني، ثمناً لهذا الموقف؟
بحسب بيانات رسمية؛ جاء قرار المقاطعة رداً على "تدخل قطر في الشؤون الداخلية ودعم الإرهاب". وهنا لابدّ من سؤال: ألم تكن قطر مشاركة – قبل أخذ القرار باستثنائها – في التحالف ضد جماعة الحوثيين والرئيس المخلوع علي عبد الله صالح؟ وهل انزعجت الحكومة اليمنية "الخليجية" فجأة من تدخل قطر وقررت مقاطعتها؟ إذا كان الجواب بالنفي؛ فكيف سمحت الحكومة لقطر من الأساس بالتدخل في شأن يمني داخلي، وهي على علم بأنها تمول الإرهاب على أرضها؟ ثم ماذا بالنسبة لبقية الدول المشاركة في التحالف الدولي؟ ألا تقوم هي الأخرى بالتدخل في الشأن اليمني الداخلي؟
يدرك المتابع للأزمة اليمنية الحالية، أنه منذ بدء غارات التحالف على اليمن لم يتم العمل بشكل جدي على تشكيل دولة مركزية قوية، في الوقت الذي لا يمكن حل الأزمة الحالية دون إعادة النظر في بناء الدولة المركزية في اليمن. إن ما يتم حالياً هو عملية إنعاش لدولة مركزية تعاني جملة أمراض حتى في مناطق سيطرتها. ثمة غياب كامل للدولة في معظم مناطق اليمن، بل إن بعض المناطق تعيش معاناة "تشبه ظروف المجاعة"، وقد وصفت الأمم المتحدة الوضع في اليمن بأنه "أكبر أزمة إنسانية في العالم". ورغم ذلك أوقفت المملكة العربية السعودية العمل بميناء الحديدة على البحر الأحمر بدعم من شركائها في التحالف.
وفي الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية في 19 أيار/مايو 2017، عُقِدت صفقات لبيع الأسلحة بقيمة تتجاوز 100 مليار دولار، بدعوى مكافحة الإرهاب. ولا يخفى على المتابع أن نصيباً كبيراً من هذه الأسلحة سيكون لمواصلة الحرب مع إيران والتي تجري بالوكالة على أراضي اليمن وسوريا والعراق.
لقد حان الوقت لتمارس الأمم المتحدة ضغوطها على جميع الأطراف المعنية، بما فيها المملكة العربية السعودية. ومن المهم أيضاً إعادة تقييم كل ما تم القيام به لإنهاء هذا الصراع. بالإضافة إلى تغيير التوصيف الحالي للصراع في اليمن، وعدم الاكتفاء بتحميل الحوثيين مسؤولية انهيار الدولة. إذ إن انهيار الدولة المركزية لم يكن مرتبطاً بتصاعد دور الحوثيين السياسي والأمني، بقدر ارتباطه بضعف الدولة المركزية وتفككها، وتعدّد اللاعبين السياسيين المحليين والإقليميين والدوليين، الأمر الذي ساعد على صعود الحوثيين وجهات أخرى كالقاعدة.
إنّ تفكّك الدولة المركزية الهشة أساساً أمنياً وسياسياً، يعود في المقام الأول لعدم قدرتها على حفظ الأمن والاقتصاد، الأمر الذي أدى إلى بروز جهات متعددة إقليمياً ودولياً على الأرض، وسمح للقبائل بالسيطرة على مراكز النفوذ الحساسة وجر البلاد إلى حرب أهلية طويلة المدى. من ناحية أخرى، لم تظهر نخب سياسية جديدة، وأُعيد إنتاج النخب السياسية السابقة تحت مسمّيات حديثة أو ثورية، وكانت غايتها الوحيدة السيطرة على القطاع الأمني والسياسي. ولذلك بات هذا القطاع يعاني من تعدّد الجهات المسؤولة، وعدم وجود تواصل بينها وبين مستويات الحكم في اليمن. إضافةً إلى الغياب الكامل لوجود آليات فعّالة للرقابة التشريعية والقضائية والمدنية عليه.
لا تبشّر المعطيات السابقة بحلٍّ سياسي أو أمني ينقذ البلاد من احتمالات قوية للوقوع في فخ الحرب الأهلية، ولذلك يجب التوقف أولاً وقبل كل شيء عن محاولة إنعاش دولة مركزية محتضرة، والانتقال فوراً لتعيين حكومة تسيير أعمال تخلو من كل الوجوه السابقة – بما فيها الحكومة "الخليجية" الحالية – فلا تُعيد إنتاج ما سبق وأثبت فشله.
كما لابد من العمل على إعادة بناء القوات المسلّحة والأمن على أساس المصلحة الوطنية العامة، التي يُحترم فيها الشعب. كما يجب إصلاح وزارة الداخلية ومنظومة الأجهزة الأمنية بشكل شامل، مع ضرورة الفصل بينها وبين القوات المسلحة في الدور والمهام. بحيث تؤدّي الأخيرة دورها العسكري وتترك للداخلية والأمن الدور المدني ومهمّة حماية الاستقرار الأمني داخل البلاد. أخيراً، يجب العمل على منع الأجهزة الأمنية من التدخّل في الحياة السياسية، وإلغاء تعدديتها والتوجه نحو تشكيل بنية مركزية لتلك الأجهزة، الأمر الذي لابد أن يتطلب إعادة تأهيل وتدريب.
إن اشتراك اليمن في صراع لا شأن له فيه يحول دون التركيز على إنهاء الصراع اليمني الحالي، ولا يخفى على أحد أن تعقّد الأزمة وطول مدّتها مرتبط بشكل أو بآخر بهذه الانشغالات الجانبية التي تنذر بتزايد اللاعبين في الميدان ولاسيّما الأمني.
إن العمل على النقاط السابقة كفيل بمساعدة اليمن في الخروج من أزمته الحالية بشكل تدريجي بعيداً عن أية تدخّلات خارجية، كما يمكنه أن يكون خطوة أساسية للوصول لأهداف أبعد في طريق إقامة دولة مدنية وتحقيق التحوّل الديمقراطي المنشود.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.