لماذا قررت القوات المسلحة المصرية، التي تجنبت طويلاً التورط جدياً في الحرب الداخلية على الإرهاب التي قادتها الشرطة في التسعينيات، والقتال لاحقاً ضد المتمردين المسلحين في سيناء، الشروع في حملة كبرى لمكافحة التمرد في سيناء في أعقاب انقلاب عام 2013؟ ولماذا استغرق الأمر تقريباً عقداً كاملاً للجيش المصري لتهدئة الوضع في شبه جزيرة سيناء بتكلفة باهظة للغاية بالنسبة لسكان سيناء والجيش نفسه، على الرغم من صغر حجم قوة المتمردين والمنطقة المحدودة نسبياً التي يمارسون فيها أنشطتهم؟
ستحاول هذه الدراسة الإجابة على تلك الأسئلة، لكنها تتناول أولاً بعض السوابق الكارثية التي نشر فيها الجيش قواته في عمليات مكافحة التمرد، قبل الخوض بعمق في حرب سيناء الأخيرة وما تخبرنا به عن عقلية الجيش.
تاريخ مضطرب: إهمال الجيش المصري لمكافحة التمرد
إذا كان تاريخ الجيش المصري في الحروب التقليدية قد شابه عدم الكفاءة، فإن سجله في عمليات مكافحة التمرد ليس أفضل، بل هو في الواقع كارثي. كان للجيش باع طويل في تدريب الجماعات الفدائية وشن عمليات القوات الخاصة ضد البريطانيين ولاحقاً الإسرائيليين في الخمسينيات والستينيات. بيد أنه في مواجهة حركات التمرد لأول مرة، خلال التدخل في اليمن حيث قاتل الجيش المصري إلى جانب القوات الجمهورية ضد الملكيين المدعومين من السعودية (1963-1967)، عانت القوات المسلحة المصرية من مشاكل فادحة. تشبه العديد من هذه التحديات الوضع بعد حملة سيناء عام 2013.
وصف وزير الحربية السابق المشير محمد عبد الغني الجمسي الحرب في اليمن في مذكراته بأنها "عملية بوليسية تقاتل فيها قواتنا المسلحة قوات غير نظامية تقوم بحرب عصابات في مسرح عمليات جبلي". من جانبه، ألقى وزير حربية سابق آخر، اللواء محمد فوزي، باللوم على "البيروقراطية" العسكرية في الصعوبات التي يواجهها الجيش المصري في اليمن، في حين أشار في مذكراته إلى عدم قدرة الجيش على تكييف استراتيجيته القتالية وتكتيكاته في اليمن مع نموذج مكافحة التمرد:
وقامت هذه القوات المسلحة المصرية الكبيرة وألوية يمنية حديثة، ورجال قبائل موالون للثورة، بعمليات تقليدية ضد عدو ضعيف متناثر في كل مكان. يظهر ويختفي، يتجمع ويتوزع ليلاً ونهاراً. ونتيجة لعدم إمكان التعرف على حقيقة هذا العدو وقوته أو إمكانياته، عانت القوات المصرية النظامية المقاتلة صعوبات كثيرة. إذ اضطرت أن تسرف إسرافاً باهظاً في قوة النيران إظهاراً للقوة وتخويفاً وإرهاباً لهذا الخصم.
وبالتأكيد ابتلعت رمال وجبال وصحاري اليمن كل هذا الإسراف في الذخيرة، وإذا حسبنا القتلى من أفراد القبائل المعادية، والتي كانت تمثل العدو، بالنسبة لحساب المستهلك من الذخيرة والقنابل والصواريخ، لوجدناها أغلى نسبة تكلفة حدثت في حروب العالم كله. أما لماذا لم تتخذ القوات المسلحة المصرية أسلوب حرب العصابات في اليمن، فلا أحد يدري، إنما هي السمعة البراقة والمظهر البيروقراطي المستحدث.
يمكننا بسهولة استبدال كلمة "اليمن" بـكلمة "سيناء" في النص أعلاه، وسيظل لدينا وصفاً مناسباً وملائماً للأداء الأخير للعمليات العسكرية المصرية ضد التمرد في سيناء.
بعد التجربة اليمنية، طورت المؤسسة العسكرية المصرية ما وصفه أحد المحللين بأنه "نفور عميق من الحروب غير النظامية، ومحوها من الذاكرة لتصبح في طيّ النسيان تماماً". وفي أعقاب اتفاقية السلام مع إسرائيل، قاوم كبار الضباط العسكريين عملية تحويل أو تكييف الجيش لتولي أدوار إنفاذ القانون وحفظ الأمن في الداخل، ورفضوا رؤية الولايات المتحدة واقتراحاتها بأن تُحيد القوات المسلحة المصرية بتركيزها بعيداً عن الحروب التقليدية، وتركز على مكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات والأسلحة.
لم تكن مهارات ومقدرة ضباط القوات الخاصة المصرية وضباط الصف واعدة أيضاً. فقد تأسست قوات الصاعقة المصرية على غرار القوات الخاصة الأميركية في عام 1957 من أجل عمليات القوات الخاصة. وفي العقود التالية، أظهروا عدم اهتمام تام بمبادئ مكافحة التمرد والتدريب. وعلى الرغم من أنهم كانوا يحظون بتقدير كبير في الثقافة الشعبية، فإن "أداؤهم في المعارك غالباً ما لم يكن يرقى إلى مستوى سمعتهم الموجهة بحرص". وقد ذكر قائد سابق في قوات العمليات الخاصة الابتدائية للبحرية الأميركية، كان من بين الفِرق التي أُرسلت لتدريب القوات الخاصة المصرية في الثمانينيات، أنهم لم يحققوا سوى "نجاحاً متوسطاً. مهما حاولنا جاهدين، كان من المستحيل تقريباً تدريب المصريين على العمليات المتخصصة… فقد وجدنا أن مهاراتهم في الرماية غير كافية، وحالتهم البدنية دون المستوى، وحماسهم منعدم".
وبدافع من الموجة العالمية لاختطاف الطائرات، مضى الجيش قدماً وأنشأ من وحدة الصاعقة وحدتين لمكافحة الإرهاب: الوحدة 777 قتال والوحدة 999. قامت الوحدة 777، والتي يُشار إليها أحياناً باسم "الفرقة 777"، بتنفيذ ثلاث عمليات بارزة لتحرير ركاب طائرات مدنية مُحتجزين كرهائن من قِبل متمردين مسلحين، في أعوام 1976 و1978 و1985. نجحت العملية الأولى. بينما كانت العمليتان الأخريان كارثيتين، انتهتا بسقوط أعداد كبيرة من الضحايا، وسجلتا من بين الأسوأ في تاريخ عمليات مكافحة الاختطاف في العالم. اكتسبت الوحدة سمعة متواضعة لدرجة أن الرئيس حسني مبارك اضطر إلى حلها مؤقتاً في أعقاب كارثة عام 1985.
كان نطاق عمل الوحدة 999 من الناحية النظرية أوسع وأكثر توجهاً نحو العمل العسكري من الوحدة 777. بيد أنها ظلت غير نشطة لما يقرب من ثلاثة عقود. ولم تنفذ أي عمليات حقيقية لها إلا بعد 28 كانون الثاني/يناير 2011، عندما أمر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بنشر أفراد مسلحين ملثمين لحماية المرافق الحكومية أو إيقاف الاحتجاجات التي اندلعت في ميدان التحرير بالقوة الغاشمة.
ومن المكونات الهامة الأخرى لقوات النخبة، خارج وحدة الصاعقة، هي "وحدات المظلات"، التي تأسست في عام 1951 لعمليات الإنزال الجوي. على مر تاريخها، قفزت وحدات المظلات في المعارك مرة واحدة فقط في عام 1963، خلال التدخل المصري في اليمن. خلاف ذلك، تُنقل إلى العمليات عن طريق القوات البرية. والواقع أن ضعف قدراتها، وصلاحيتها العملياتية غير الواضحة، والتغيرات الشاملة التي طرأت على الحروب الحديثة كانت لفترة طويلة من الأسباب التي أثارت تساؤلات حول سبب وجودها. ومع ذلك، كانوا عادةً أولى القوات المنتشرة لقمع الاضطرابات في المناطق الحضرية، مثل ما حدث في "انتفاضة الخبز" عام 1977 وتمرد قوات الأمن المركزي عام 1986.
مرحلة ما قبل 25 كانون الثاني/يناير 2011
قبل ثورة 2011، لم يكن للجيش دور فعال في مكافحة التمرد في شبه جزيرة سيناء أو ضد الجماعات الإسلامية من الجهاد والجماعة الإسلامية في وادي النيل.
لطالما كانت سيناء تُعد منطقة عسكرية تتولى المخابرات العسكرية وجهاز المخابرات العامة التعامل مع شؤونها الأمنية. وفي حين زاد تواجد الشرطة هناك تدريجياً في أعقاب انسحاب إسرائيل في عام 1982، كانت اليد العليا للجيش، ولكن لم يكن وجود ضباط المخابرات العسكرية واضحاً تماماً وكان يعملون أساساً من خلال حرس الحدود. وعلى عكس المخابرات العسكرية، كان وجود جهاز المخابرات العامة أكثر وضوحاً، وكان الجهاز يدير قضايا الأمن ويتواصل مع شيوخ القبائل المحلية المختلفة من خلال ضباط "شؤون القبائل". وكان لدى شرطة أمن الدولة التابعة لوزارة الداخلية مكاتب في العديد من مدن سيناء، لكنها نادراً ما تواصلت مع القبائل المحلية، وركزت عمليات الشرطة على مكافحة المخدرات.
تولى اللواء حبيب العادلي منصب وزير الداخلية في أواخر عام 1997، بعد مذبحة الأقصر، حيث قتل مسلحو الجماعة الإسلامية 58 سائحاً أجنبياً وأربعة مصريين. أهان مبارك الغاضب اللواء حسن الألفي، وزير داخليته وأقاله من منصبه في الحال على الهواء مباشرة. لبضع ساعات، فكر مبارك في تعيين ضابط جيش لإعادة تنظيم وزارة الداخلية وإدارتها. لكن سرعان ما ألغيت الفكرة، بعدما حذر زكريا عزمي - رئيس ديوان رئيس الجمهورية وضابط سابق في قوات الحرس الجمهوري - من أن مثل هذه الخطوة من شأنها أن توسع مجال نفوذ الجيش.
كانت مذبحة عام 1997 فضيحة دولية للنظام، وكان مبارك عازماً على "عدم السماح للشرطة بالإفلات من العقاب". نجا العادلي، الذي كان يرأس حينها قوات أمن الدولة من عملية تطهير القيادات العليا في الشرطة، وقلب الموقف لصالحه. وقد شرح ضابط شرطة متقاعد لي ذات مرة النهج الذي اتبعه العادلي لحماية نفسه عندما كان مدير لقوات أمن الدولة. فقد كان يصدر تحذيرات روتينية (أسبوعية وأحياناً يومية) عن هجمات إرهابية وشيكة. بيد أن هذه التحذيرات كانت غامضة، ومُصاغة بعناية، ولم تتضمن أي تفاصيل تقريباً. لذا، إذا وقع هجوم، يمكنه أن يقول "لقد حذرتكم!" وإذا لم يحدث شيء، فيمكنه الادعاء بأن ذلك بسبب استهدافه الاستباقي للمسلحين. وقد ذكرت هذه القصة أيضاً في صحيفة الأهرام الحكومية بعد الثورة بفترة وجيزة، وكذلك أيضاً في كتاب صدر عام 2014 لمحمد الباز، وهو كاتب وصحفي له علاقات وثيقة بالأجهزة الأمنية.
بعد تولي العادلي منصبه، تعدت الشرطة وقوات أمن الدولة على نفوذ المخابرات العسكرية والمخابرات العامة. يقول أحد الأعضاء البارزين في قبيلة الترابين، "كانت البلاد تعاني من هجمات إرهابية وكان [العادلي] هو من هزم الإرهابيين". مضيفاً، "هكذا استطاع مشاركة سيناء مع الجيش، الذين اعتقدوا أنهم هم الحكام الوحيدين هنا".
كان التحول النهائي من الجيش إلى وزارة الداخلية في أعقاب تفجيرات طابا في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2004، والتي كانت أولى الهجمات المسجلة التي شنها المتشددون الإسلاميون في شبه جزيرة سيناء. تراجع جهاز المخابرات العامة قليلاً، وتم تكليف أمن الدولة بملاحقة المهاجمين. وتماماً مثل ما حدث بعد هجوم الأقصر عام 1997، استغل العادلي الوضع بصورة انتهازية لزيادة نفوذه.
في أعقاب تفجيرات طابا، أطلقت شرطة أمن الدولة العنان لما وصفه العديد من المراقبين بأنه حملة إرهابية ترعاها الدولة. تم اعتقال وتعذيب الآلاف من السكان المحليين. وتلا ذلك تفجيران كبيران في منتجعي شرم الشيخ عام 2005 ودهب عام 2006. وأعقب ذلك أيضاً موجات من الاعتقالات التعسفية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. لم يتبع ذلك أي عمليات كبيرة، بيد أن العلاقات مع السكان المحليين توترت، مما أدى في عدد من المناسبات إلى اندلاع احتجاجات ضد وزارة الداخلية.
لم يتورط الجيش في اعتقال أو تعذيب المشتبه بهم المحليين. غير أن المحاكم العسكرية استُخدمت لمقاضاة وإصدار أحكام ضد المئات من أبناء قبائل سيناء بتهم إرهابية ملفقة، استناداً إلى تحقيقات الشرطة التي كانت مختلقة على أفضل تقدير، أو بناءً على اعترافات قسرية انتزعت تحت وطأة التعذيب.
خلال الانتفاضة الوطنية التي استمرت 18 يوماً وأطاحت بحكم مبارك، انفجر الغضب المتأجج في سيناء، بعد عقود من الإذلال والتمييز الذي مارسته الدولة المصرية، إلى مواجهات مسلحة بين السكان المحليين وشرطة أمن الدولة وقوات وزارة الداخلية، استمرت لمدة أربعة أيام تقريباً، قبل انسحاب الشرطة ونشر الجيش في محاولة لتهدئة المنطقة.
2011 - 2013: الهدوء الذي يسبق العاصفة
إحدى الشكاوى الشائعة في الخلاف بين الرئيس محمد مرسي والجيش كانت تفاقم الوضع الأمني في سيناء، والذي اعتقد الجيش أنه نتيجة لنهج مرسي الناعم في التعامل مع الإرهاب في شبه جزيرة سيناء. وقد رأى بعض المحللين أن هذا هو السبب الرئيسي وراء انشقاقهم واندلاع انقلاب 2013.
في محاولة لإعادة كتابة تاريخ الثورة والانقلاب، وتقديم الرواية الرسمية للدولة، أنتج جهاز المخابرات العامة في شهر رمضان عام 2022 مسلسل تلفزيوني بعنوان "الاختيار 3"، الذي راجع السيسي نصه والممثلين الذين شاركوا فيه شخصياً. ظهر في المسلسل قادة جماعة الإخوان المسلمين وهم ينظمون هجمات ضد الجيش بالتعاون مع جهاديين محليين وأجانب. وظهر مرسي وهو يمنح عفواً رئاسياً للإرهابيين الذين غادروا السجون للانضمام إلى حركات التمرد في سيناء. ولا تقتصر مثل هذه الاتهامات على الدعاية المؤيدة للجيش. حتى المؤرخة المعروفة زينب أبو المجد قالت إن الجيش "رأى أن جماعة الإخوان المسلمين - وهي منظمة دولية ثرية ومنتشرة على نطاق واسع - تُشكل تهديداً للأمن القومي، [منذ] أن ساندت جماعة الإخوان علناً الجماعات الجهادية في البلاد وخارجها".
بالرغم من صعوبة الحصول على صورة دقيقة لما جرى بين مرسي والسيسي فيما يتعلق بحركات التمرد في سيناء، فإن عدداً من الحقائق يلقي بظلال من الشك على الأقل على رواية الجيش:
- أصدر مرسي عفواً عن مئات السجناء، ومعظمهم من المتظاهرين الذين حكمت عليهم المحاكم العسكرية. وأفرج فقط عن 27 إسلامياً، بينما أطلق المجلس الأعلى للقوات المسلحة سراح أكثر من 800 إسلامي، بما في ذلك أكثر من 50 من سيناء، وسمح في عام 2011 بعودة نحو 3000 جهادي منفي من أفغانستان والشيشان والبوسنة والصومال وإيران، بعد رفع أسمائهم من قوائم المراقبة الأمنية في المطارات.
- وقعت مذبحة رفح في 5 آب/أغسطس 2012 بينما كان السيسي يرأس المخابرات العسكرية، المكلفة بسلامة القوات والتنسيق مع الإسرائيليين بشأن أمن الحدود. فقد فشل في اتخاذ تدابير وقائية، على الرغم من التحذيرات الإسرائيلية العلنية من هجوم وشيك بتاريخ 2 آب/أغسطس. علاوة على ذلك، تبين لاحقاً بعد أشهر أن جهاز المخابرات العامة قد نقل المعلومات من الإسرائيليين إلى مرسي والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، غير أن كبار القادة العسكريين رفضوا التحرك بناءً على تلك المعلومات، زاعمين أنها مسألة تتعلق بالشرطة.
- في أعقاب إعادة تشكيل القيادات العسكرية في 12 آب/أغسطس 2012، أطلقت القوات المسلحة "العملية نسر 2"، لمحاربة المتمردين في سيناء. بيد أنها كانت استعراضاً للقوة أكثر من كونها حملة دقيقة لمكافحة التمرد. وبينما ادعى الجيش تحقيق انتصارات كبيرة، بقتل واعتقال عشرات المشتبه بهم، نفى الصحفيون الاستقصائيون الذين عملوا على الصعيد الميداني ذلك بالإضافة إلى السكان المحليين.
- نقلت وسائل الإعلام مراراً عن مصادر أمنية، قبل وبعد الانقلاب، زعمها أن الجيش أوقف "العملية نسر 2" بأوامر من مرسي الذي فضل التفاوض مع الجهاديين. غير أن هذه التقارير مضللة. ووفقاً لما قاله ناشط من قبيلة الترابين إن "مرسي لم يوقف أي عمليات". فضلاً عن أن المتحدث العسكري نفى بشدة التقارير التي تفيد بأن العمليات قد توقفت على الإطلاق. وعموماً، كان مستوى العمليات على الأرض منخفض الكثافة مما جعلها غير ذات ثقل.
- زار مرسي سيناء في 5 تشرين الأول/أكتوبر 2012، ووعد بأن "كل حكم غيابي صدر ضد أبناء سيناء سوف يتم مراجعته". لم تتحقق هذه الوعود، وظلت الأحكام الصادرة عن المحاكم العسكرية والاستثنائية سارية المفعول.
- أصدر رئيس الوزراء هشام قنديل في عهد مرسي قانوناً في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 لتنظيم ملكية الأراضي في شبه جزيرة سيناء، وهي خطوة شوهتها حملة إعلامية مثيرة مؤيدة للجيش بوصفها خطة مرسي لإنشاء وطن بديل للفلسطينيين في سيناء. رأت الوسائل الإعلامية نفسها أيضاً أن قراراً صدر عن السيسي في الشهر التالي وكأنه أنقذ مصر من هذه المؤامرة. مثل هذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة. الفرق الوحيد بين الوثيقتين هو بند التقيد بمسافة 5 كيلومترات على طول الشريط الحدودي. لذا، من الأدق التعامل مع قرار السيسي على أنه إضافة إلى قانون مجلس الوزراء، وليس نفياً أو نقضاً له. علاوة على ذلك، لم يعترض مرسي على قرار السيسي ولم تندد جماعة الإخوان به.
- قبل أسبوعين من الانقلاب، خصصت حكومة مرسي 4.4 مليار جنيه مصري (616 مليون دولار آنذاك) لمشاريع التنمية في سيناء. أُسند أكثر من نصفها بأمر مباشر إلى جهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة التابع لوزارة الدفاع.
- حرص مرسي على التأكيد على أنه كان يعمل على تدمير الأنفاق بين سيناء وغزة. حتى وسائل الإعلام المصرية المعادية له أكدت أن عمليات هدم الأنفاق لم تتوقف أبداً.
- في اجتماع مغلق مع ضباطه في أكاديمية ناصر العسكرية العليا في بداية عام 2013، أصر السيسي بشدة على أن القيام بعمليات مكافحة الإرهاب ليس من مهام الجيش. بل يجب تكليف الشرطة المدنية بهذه المهمة. لا يقدم تصريح السيسي الصريح دليلاً واضحاً على أن المزاعم المتعلقة بعرقلة مرسي للجيش خاطئة فحسب، بل يفسر أيضاً سبب انخفاض كثافة أداء الجيش طوال "العملية نسر 2" ومتوسط في أحسن الأحوال. فقد افتقر قادة الجيش إلى الإرادة اللازمة للمشاركة في حرب مكافحة التمرد.
- اختطف إسلاميون متشددون سبعة من أفراد الأمن في 16 أيار/مايو 2013. وتعرض كل من مرسي والجيش لضغوط لتأمين إطلاق سراحهم، خاصة بعد أن نشر الخاطفون مقطع فيديو للجنود وهم معصوبو العينين ويتعرضون للإذلال. نشر السيسي القوات وتعهد الجيش برد شديد إذا لم يتم الإفراج عن الرهائن. في حين دعا مرسي علناً إلى إطلاق سراح الرهائن دون إراقة الدماء، رافضاً التفاوض مع المسلحين. ولم يتم تلبية مطالب الخاطفين وتم إطلاق سراح الأسرى. وهذا يتحدى السرد أن مرسي سعى إلى تقييد الجيش. فقد أظهرت أفعاله وتصريحاته التزامه بالأمن.
- اطلعتُ على العديد من التقارير الإعلامية والمقالات التحليلية عن سيناء، والتي تزعم أن مرسي كان يُقيد الجيش أو يتواطأ مع الجهاديين. ومصدر هذه الادعاءات في معظمها - بما في ذلك تقرير حمزة هنداوي المنشور في وكالة "أسوشيتد برس" الذي يُستشهد به على نطاق واسع - هو سامح سيف اليزل، وهو لواء متقاعد خدم سابقاً في قوات الحرس الجمهوري والمخابرات العسكرية وجهاز المخابرات العامة، ويجب التشكيك بقوة في مصداقيته، لأنه كان محورياً في حروب التضليل الإعلامي والدعاية المؤيدة للجيش، وخاصة بعد عام 2011، إلى أن توفي بسبب السرطان في عام 2016.
مرحلة ما بعد تموز/يوليو 2013: الجيش يبدأ عملية واسعة النطاق في سيناء
على الرغم من إحجام الجيش عن المشاركة، فضلاً عن قيادة القتال ضد المسلحين في شبه جزيرة سيناء تحت حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومحمد مرسي، فقد تغير الوضع تماماً بعد انقلاب 2013.
نظر المتشددون الإسلاميون من مختلف الأطياف في شبه جزيرة سيناء، بما في ذلك أولئك الذين لم يستهدفوا الشرطة المحلية والجيش من قبل، إلى حملة القمع التي شنتها الدولة على الإخوان المسلمين والمتظاهرين المؤيدين لمرسي في وادي النيل، والمذابح التي تلت ذلك، على أنها إعلان وشيك للحرب. وعلى حد تعبير أحد الناجين من حملة القمع عام 2004، "كنا نعلم أن التعذيب سيعود مجدداً. لقد كانت مجرد مسألة وقت".
قبل أن يبدأ الجيش عملياته واسعة النطاق في 7 أيلول/سبتمبر 2013 ؛ كانت وتيرة الهجمات والهجمات المضادة التي يشنها الجيش والشرطة والمسلحون مرتفعة بشكل كبير خلال شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس 2013؛ ويمكن رد هذا التحول إلى عدة عوامل.
أولاً: كانت هناك ضغوط دولية متزايدة على الدولة المصرية لحملها على استعمال قدر أكبر من القوة، فقد كانت إسرائيل تراقب الموقف بتوتر كبير، متسائلةً كيف تمكّنت جماعات المقاومة في غزة من بناء ترسانتها من الأسلحة باستغلال أنفاق رفح وهو ما جعل إسرائيل هدفاً مباشراً للهجمات المتزايدة من سيناء.
ثانياً: كانت قوات وزارة الداخلية – التي كُسرت شوكتها في عام 2011 – قد استُنزِفت في تهدئة الوضع في الداخل المصري.
ثالثاً: اعتقد الجيش – الذي لم يكن ينوِ التورط في مثل هذه العمليات– في البداية أن عملية أيلول/سبتمبر 2013 "ستُنفّذ مرة واحدة وتنتهي" ؛ ووعد وصفي - بصفته قائد الجيش الثاني الميداني - "بتسليم سيناء متوضية [مطهرة من الإرهابيين] خلال أسبوع". بعد أسبوعين - في 23 أيلول/سبتمبر - نشرت صحيفة الأهرام الحكومية على صفحتها الأولى، استناداً إلى مصادر أمنية مجهولة، ما بدا وكأنه بيان عسكري رسمي وليس "تقريراً إخبارياً" يطمئن الجمهور:
تعلن مصر رسمياً خلال أيام قليلة، قد لا تتجاوز أسبوعاً، خلوها من كافة مظاهر وأشكال الإرهاب، سواء في سيناء أم في أي مكان آخر، لتبدأ معركة جديدة مع ما يسمى "بالطابور الخامس". والتي تضم سياسيين وصحفيين وأعضاء من منظمات المجتمع المدني، وخاصة ما يتعلق منها بحقوق الإنسان.[51]
أفرط السيسي في استغلال الهجمات المسلحة ضد الشرطة والجيش - خاصة في سيناء - لنشر ذُهان الخوف والذعر بين الجمهور، وخلق جو من حالة الطوارئ الدائمة. وعلى عكس ما كان يأمله المسلحون؛ ساهمت هجماتهم على الشرطة والجيش في سيناء في تعزيز التماسك المؤسسي للجيش. يقول فريد هالي لوسون، عالم السياسة الذي يدرس الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط؛ "حتى المجندين من المتوقع أن يلتفوا خلف ضباطهم ويدافعوا عن النظام القائم إذا وجدوا أنفسهم عرضة لهجوم من قبل المتمردين المسلحين".
الحملة العسكرية لمكافحة التمرد في سيناء: انتهاكات حقوق الإنسان والأخطاء السياسية والعملياتية الفادحة
لم تكن حملة الجيش لمكافحة التمرد في سيناء قصة نجاح مُلهِمة؛ فما كان من المفترض أن يكون عملية تستغرق أسبوعاً واحداً، تحول إلى أطول وأكبر عملية عسكرية منذ حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 ، مخلفة وراءها خسائر فادحة في صفوف الجيش والشرطة والمدنيين المحليين. وأصبح عجز الدولة عن سحق التمرد بسرعة أمراً "محيراً" للمحللين.
كان عدد سكان شمال سيناء - التي سعت قوات مكافحة التمرد للسيطرة عليها - أقل من نصف مليون نسمة، ولم تتجاوز تقديرات أعداد المشاركين في التمرد 1500 مسلح في أكبر العمليات. وقد تركزت معظم أنشطة المتمردين في ثلاث من أصل ست مناطق في المنطقة: العريش، والشيخ زويد، ورفح؛ وكلها مناطق ساحلية مسطحة ومن السهل نسبياً مراقبتها، ويبلغ عدد سكانها حوالي 300 ألف نسمة. وعلى الرغم من الاتهامات التي لا يكف مؤيدو النظام عن تكرارها حول وجود قائمة طويلة من الحكومات الأجنبية التي لها علاقة بتلك الجماعات، لا يوجد دليل على تلقي المتمردين أي دعم خارجي.
إن استمرارية التمرد لمدة عقد تقريباً تعود في المقام الأول إلى الممارسات السياسية والعملياتية الكارثية للجيش.
الأخطاء السياسية وانتهاكات حقوق الإنسان
وصلت الدراسات التي أُجريت على مجموعة واسعة من حركات التمرد الحديثة إلى نتيجة مفادها أن الدعم الشعبي للمتمردين من المرجح أن يزداد كلما تورطت القوات العسكرية (و/أو الشرطة العسكرية) في انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان وتسببت في خسائر في صفوف المدنيين ؛ كما يحذر الدليل الميداني العسكري الأميركي بشأن حروب مكافحة التمرد مما يلي:
إن الحكومة التي تخرق الأعراف المحلية المعمول بها وتسيء إلى شعبها، أو تستبده؛ تولّد تلقائياً مقاومة لحكمها. قد يقوم الأشخاص الذين تعرضوا لسوء المعاملة أو قُتل أصدقاؤهم المقربون أو أقاربهم على يد الحكومة - خاصة على يد قواتها الأمنية - بالرد على من اعتدى عليهم. كما يمكن أن تكون انتهاكات قوات الأمن والاضطرابات الاجتماعية الناجمة عن الأضرار الجانبية التي يتسبب فيها القتال عوامل رئيسية لتصعيد عمليات التمرد.
وفي سيناء؛ أدت وحشية الجيش والشرطة المصرية إلى تحويل الشباب البدو إلى مجموعة من المجندين المتمردين، وخلقت بعض الدعم المجتمعي للمسلحين، للانتقام من الظلم الذي واجهه السكان المحليون على أيدي جنود الحكومة المركزية.
وبعد شهر تقريباً من أول تدخل للجيش؛ أعلن وصفي انتهاء العمليات العسكرية الكبرى في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2013، مضيفًا أن قواته "كان بإمكانها القضاء على الإرهاب في سيناء في ست ساعات، ولكن بشرط ألا يميّز الاقتحام في سيناء بين المجرم والبريء، بل سيجرف في طريقه الأخضر واليابس، ماحياً كل ما يقف في طريقه". ومضى في التأكيد على أن عمليات مكافحة التمرد تمت بدقة شديدة للحفاظ على العلاقات القوية مع المجتمع المحلي، وتجنب إيذاء أي "مدنيين أبرياء" ؛ بيد أن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة.
لم يعلن الجيش أبداً عن أي تقديرات للخسائر في صفوف المدنيين، ولم يعترف قط بوقوع حالة واحدة من حالات الاعتقال الخاطئ أو القتل غير المشروع. ورغم أن قسماً كبيراً من السكان المحليين قد رحّبوا في البداية بالانتشار العسكري في عام 2012، على أمل أن تعاملهم قوات الجيش بشكل أفضل من وزارة الداخلية، إلا أنهم سرعان ما أصيبوا بخيبة أمل، خاصة بعد انقلاب عام 2013.
شهدت العمليات المتعاقبة التي قادها الجيش اعتقالات جماعية تعسفية، وحالات اختفاء قسري للعديد من السكان المحليين. وفي الفترة من تموز/يوليو 2013 إلى كانون الأول/ديسمبر 2018، اعتُقل أكثر من 12 ألف مدني، وفقاً لتقديرات معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط. وكان المعتقلون يُحتجزون عادة في: 1- مقر الكتيبة 101 في العريش، والتي يطلق عليها السكان المحليون اسم "غوانتانامو سيناء"، بسبب الأهوال التي واجهوها داخلها. 2- معسكر الزهور، وهو مركز رياضي في الشيخ زويد تحول إلى معسكر. 3- سجن العزولي، الواقع داخل معسكر الجلاء العسكري، والذي توجد به قيادة الجيش الثاني الميداني بالإسماعيلية.
تعرض المعتقلون - من بينهم أطفال - للتعذيب الممنهج، وعُزلوا عن العالم الخارجي، واختفوا قسراً لفترات طويلة (أسابيع أو أشهر أو سنوات) قبل إطلاق سراحهم دون توجيه أي تهم إليهم أو إحالتهم إلى محاكم استثنائية. كما احتُجِز أقارب المشتبه بهم المطلوبين واتُّخذوا رهائن حتى سلم أقاربُهم المطلوبون أنفسهم.
ومنذ عام 2013، كان هناك سيل من مقاطع الفيديو والصور المسربة التي التقطها أفراد الجيش شخصياً على سبيل التذكارات، يظهر فيها معتقلون من سيناء (وبينهم أطفال) وهم يتعرضون للإهانة والتعذيب والإعدام والتمثيل بهم. هناك أدلة كافية على تورط الجيش والشرطة في عمليات إعدام ميدانية في سيناء وأماكن أخرى على نطاق لم يسبق له مثيل، حتى في التسعينيات. يُقبض على المشتبه بهم أحياء، لتظهر جثثهم لاحقاً في البيانات التي تنشرها وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، مع وجود أسلحة بالقرب من جثثهم.
يشير المحلل ماجد مندور إلى أن جزءاً من التوجه المتزايد نحو عمليات الإعدام دون محاكمة ينبع من محاولة تجنب رد الفعل الدولي العنيف ضد التوسع في استخدام عقوبة الإعدام، باعتبارها "أداة أساسية للقمع" من خلال المحاكم الاستثنائية. ويقول إن إعدام المشتبه بهم في الميدان أو تركهم يموتون في السجون بسبب الإهمال الطبي المتعمّد، هو أقل كُلفة بالنسبة لسمعة الدولة المصرية.
على الرغم من وجود 12 نقطة تفتيش أمنية دائمة في شمال سيناء، تزايدت أعداد نقاط التفتيش المؤقتة مع تصاعد عمليات مكافحة التمرد للوصول إلى ما يقدر بـ 150 إلى 200 نقطة تفتيش يحرسها الجيش أو الشرطة؛ وقد تحولت هذه الكمائن إلى مواقع إذلال يومي للسكان المحليين. والأخطر من ذلك هو أن نقاط التفتيش تلك كانت تطلق النار بشكل عشوائي وتقصف المدنيين ، ثم تُنسب الوفيات أو الإصابات لاحقاً إلى "مصدر مجهول".
من الصعب تقدير عدد المدنيين المحليين أو المتمردين الذين قُتلوا في تلك العمليات. فعلى سبيل المثال، عند حصر عدد "الإرهابيين" الذين قُتلوا في سيناء بناءً على البيانات العسكرية الرسمية، من آب/أغسطس 2011 (عملية النسر 1) إلى أيلول/سبتمبر 2015 (عملية حق الشهيد 2)، سنجد أن هذا العدد يتجاوز عدد 3000 بكثير ، وهو ما يساوي ضعفين أو ثلاثة أضعاف جميع تقديرات المراقبين المستقلين بالنسبة إلى حجم قوة المتمردين. وقد سعت الدولة إلى السيطرة على تدفق المعلومات حول تلك الحرب؛ فعزل الجيش شبه الجزيرة ، وأغلق الاتصالات بصورة ممنهجة ، وحظر دخول المراسلين ، واعتقل الصحفيين المحليين، وحاكمهم أمام محاكم عسكرية لمجرد كشفهم عن عدم دقة ما يروّج له الجيش من معلومات. بل ذهب قانون مكافحة الإرهاب الجديد الصارم - الصادر في عام 2015 - إلى حد منع أي شخص صراحةً من الاعتراض على تصريحات وزارة الدفاع.
هدم المنازل والتهجير القسري
ظلت عمليات هدم المنازل والتهجير القسري لفترة طويلة جزءاً من حرب مكافحة التمرد في جميع أنحاء العالم ، وسيناء ليست استثناء في هذا الصدد؛ ولكن في حين أن مبارك لم يجرؤ حتى على تطهير شريط يبلغ عرضه 150 متراً على طول الحدود مع غزة في عام 2007 كما كان يأمل ، فإن نظام ما بعد عام 2013 كان شديد البأس في حربه.
ففي الفترة من 3 تموز/يوليو 2013 حتى نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2014؛ هدم الجيش ما لا يقل عن 530 مبنى، معظمها في رفح. وفي أعقاب هجومين شنهما المتمردون في 24 تشرين الأول/أكتوبر 2014، وأسفرا عن مقتل 33 جندياً على الأقل وإصابة العشرات ؛ أصدرت الحكومة على الفور مرسوماً يقضي بإنشاء منطقة معزولة على طول الحدود مع غزة تبلغ مساحتها الإجمالية 79 كيلومتر مربع. وعلى أرض الواقع، كان هذا يعني نهاية رفح وتسريع عمليات الهدم على نطاق واسع في المحافظة. وعلى مدى السنوات الأربع التالية، هدم الجيش أكثر من 6850 مبنى في رفح؛ وقد هُجّر سكانها قسراً، دون توفير الوقت الكافي حتى لحزم أمتعتهم، وبالطبع كان ذلك دون أي إنذار مسبق، ولم يحصلوا على أي دعم لاحق. وبحلول منتصف عام 2018، كانت رفح قد اختفت بالكامل، وهُجّر جميع سكانها البالغ عددهم 70 ألف نسمة.
وفي أعقاب هجوم صاروخي على مطار العريش في 19 كانون الأول/ديسمبر 2017 شنه المتمردون لاستهداف وزيرَي الداخلية والدفاع خلال زيارة ميدانية ؛ شرع الجيش في كانون الثاني/يناير 2018 بتجريف الأحياء المأهولة بالسكان المحيطة بالمبنى لإنشاء المنطقة العازلة بمساحة 5 كيلومترات. كما كثّف الجيش عمليات هدم المنازل في بلدات متعددة؛ وفي أقل من ستة أشهر، دُمّر ما لا يقل عن 3600 منزل ومبنى تجاري.
كما استُهدِف الهاربون المطلوبون والمشتبه بهم المتهمون بالتورط في الهجمات، حيث هدم الجيش منازل عائلاتهم عقاباً لهم. وسُمح لبعض السكان - الذين نزحوا بسبب العمليات العسكرية - بالعودة إلى القرى، بيد أنهم فوجؤوا بمنازلهم قد استحالت أثراً بعد عين، إما أنها دُمرت بسبب القتال أو هدمها الجنود الذين زعموا أن ذلك إجراء ضروري لمنع المتمردين من استخدامها. كما استُخدم الادعاء نفسه لتبرير تجريف الأراضي الزراعية؛ ففي الفترة بين تموز/يوليو وتشرين الأول/أكتوبر 2013، دمر الجيش ما لا يقل عن 1.5 كيلومتر مربع من الأراضي المزروعة ، وارتفع هذا الرقم إلى حوالي 6.85 كيلومتر مربع بحلول آب/أغسطس 2015، حيث استخدم الجيش قاذفات اللهب والجرافات، وهو ما يعني تدمير مصدر طعام السكان وسبل عيشهم.
ومع استمرار العمليات، جُرّفت مزيد من الحقول الزراعية. ولا توجد تقديرات متاحة لحجم الأراضي المزروعة التي دُمّرت منذ آب/أغسطس 2015. ولكن في منتصف عام 2018، أدلى رئيس مديرية الزراعة في المحافظة بتصريح علني نادر، اعترف فيه بأن "جميع الأراضي الزراعية في مدينتي رفح والشيخ زويد تم تجريفها"، ولم يبق سوى 10% من الأراضي الزراعية في العريش.
كما طرح الجيش العديد من "مشاريع التنمية" دون الكثير من التشاور مع المجتمع المحلي، مما أدى إلى مزيد من عمليات هدم المنازل، إما لصالح مشاريع استثمارية أو لاستبعاد المناطق المضطربة وحرمانها من الوصول إلى البحر. كما أدخلت السلطات تعديلات قانونية في عامي 2020 و2021 لضمان خضوع الجهاز الوطني لتنمية شبه جزيرة سيناء - الذي يشرف على مثل هذه المشاريع والخطط الاقتصادية لشبه الجزيرة - لسلطة وزارة الدفاع، وليس رئيس الوزراء.
الأخطاء العملياتية
عانى الجيش أيضاً في قمع التمرد بسبب عدم قدرته على تبني التغييرات الهيكلية الضرورية، على الرغم من التوجه المتزايد نحو فرض الأمن وإحكام السيطرة على المدن منذ انتشارهم في الشوارع في عام 2011. وبالنسبة للمحللين الأمنيين والعسكريين، فإن السبب الرئيسي لاستمرارية التمرد الإسلامي هو الأداء "المتواضع" للجيش.
تعتمد حرب مكافحة التمرد الحديثة عموماً على وحدات صغيرة ومتنقلة ومستقلة، مدربة تدريباً عالياً، مع قادة صغار أقوياء، تقوم بعمليات خاصة تحت قيادة ميدانية مشتركة. وعلى الرغم من أن السيسي قام بتوسيع وتخصيص موارد أكثر مما فعل أسلافه لوحدات النخبة، ونشر قوات الصاعقة (بما في ذلك الوحدة 999) والمظليين في عمليات سيناء؛ إلا أن كل ذلك لم يصاحبه إصلاحات هيكلية مؤثرة. ومن المثير للدهشة أنه لا توجد قيادة مشتركة حتى الآن للوحدات الخاصة المختلفة، ولم يُخصص مقعد دائم لها في المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ويقوم السيسي عادة بترقية قادة القوات الخاصة إلى "المناصب الكبيرة/المؤثرة تقليدياً" ، بينما يستمر هو في الاعتماد على:
نموذج عتيق لقوات الصدمة المجنّدة بشكل جماعي، معززة بوحدات المهام الخاصة، التي تعتمد بشكل شبه كامل على دعم الجيش النظامي في معظم وظائفها. إن الافتقار إلى تمكين وحدات الدعم القتالي والخدمي - وهي الوحدات التي توفر مجموعة من الكفاءات والخدمات الأساسية مثل: الحصول على المعلومات الاستخباراتية، والخبرة في إزالة الألغام، والاتصالات العسكرية، والدعم الناري، والخدمات اللوجستية، وأصول الطيران - داخل هياكل قواتها جعلها تعتمد بشكل شبه كامل على القوات التقليدية (التي غالباً ما تكون رهناً بوفرة العدد، أو تفتقر إلى الخبرة اللازمة، أو تكون بطيئة في التعبئة).[104]
لجأ الجيش إلى استخدام نيران الدبابات والمدفعية، بالإضافة إلى الهجمات الجوية التي شنتها طائرات الهليكوبتر والطائرات المقاتلة – مستخدمة القنابل العنقودية المحظورة – مما أدى إلى مقتل وإصابة أعداد كبيرة من المدنيين. وكانت القوات البرية المنتشرة في معظمها من المجندين، غير المنضبطين، وغير مدربين بشكل كاف، وغير قادرين حتى على تحديد الأهداف العسكرية المشروع استهدافها، مما أدى إلى وقوع خسائر في صفوف المدنيين كان من الممكن تجنبها بدلاً من أن تصبح حادثة ملازمة للعمليات العسكرية.
إن هذا العنف العشوائي واسع النطاق ضد سكان سيناء ترك انطباعاً لدى الكثيرين أنه حتى لو "دعمنا الجيش... فإننا نشعر أن هذه حربٌ علينا، وليس على الإرهابيين"، على حد تعبير أحد المعلّمين المحليين. ويعني هذا حتماً أن جهود جمع المعلومات الاستخباراتية العسكرية اللازمة لمكافحة التمرد كانت ضعيفة، إن لم تكن بلا فائدة. وفي بعض أجزاء سيناء، أصبح السكان ينظرون إلى المتمردين على أنهم "أهون الشرّيْن".
في عهد مبارك، جُنّد عدد قليل من البدو للعمل تحت إشراف المخابرات العسكرية، وكانوا يُلقّبون بمناديب الجيش، بيد أن أدوارهم كانت ثانوية، حيث تركز معظمها حول البحث عن الأنفاق أو تعقّب الهاربين. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على سحق التمرد بالسرعة التي أعلنها كبار الضباط في البداية يمكن أن يكون حافزاً لتطوير دور السكان المحليين القبليين، على الأقل تدريجياً اعتباراً من عام 2015، حيث كان التمرد يتصاعد بكامل قوته.
وبالفعل وسع الجيش نطاق تجنيد المناديب، وهم عادة ما يكونون من المتعلمين، وتتراوح أعمارهم بين 25 إلى 35 عاماً، وقد تلقوا بعض التدريبات على الأسلحة النارية، وإبطال مفعول الألغام، على يد أفراد الكتيبة 103. وحصل كل واحد من المناديب على راتب شهري، تراوح – بعد العملية الشاملة سيناء 2018 – بين 15 ألفاً إلى 30 ألف جنيه (حوالي 840 إلى 1680 دولاراً في ذلك الوقت). وبعضهم لم يتلق أجراً منتظماً، حيث كانوا - على ما يبدو – قانعين عما اعتبروه مكانة رفيعة أن يقودوا سيارات الدفع الرباعي وهم يحملون الأسلحة علناً. وأيضاً، على عكس ما قبل عام 2011، عمل المناديب بشكل سري أكثر مما سبق، لإخفاء انتمائها إلى الجيش. كما حصلت عائلات من يسقطون قتلى أثناء المعركة على بدل لتغطية تكاليف الجنازة ومعاش تقاعدي.
خدم المناديب تحت قيادة ضباط المخابرات العسكرية الذين كانوا جزءاً من الكتيبة 103، وكانوا جزءاً من جهاز الخدمة السرية، الذي كان يدير العلاقات مع القبائل في سيناء والمناطق الحدودية الأخرى. وساعد المناديب نسبياً في تحسين جهود جمع المعلومات الاستخبارية. بيد أن طبيعة عمليات الكتيبة سيئة السمعة - التي تضمنت جرائم حرب مثل القتل دون محاكمة والتعذيب - أدى إلى استقطاب فئة معينة لتلك الوظيفة من السكان المحليين؛ حيث استخدم المناديب سلطتهم الجديدة غير الخاضعة للرقابة من أجل الدخول في ساحة تجارة المخدرات، وتصفية حسابات شخصية من خلال نعت خصومهم بأنهم تكفيريين" ؛ كما شاركوا في عمليات الإعدام الميدانية للمعتقلين.
وإذا كانت هناك تساؤلات حول الانضباط المهني للمناديب، فمثل هذا الانضباط يكاد يكون معدومًا بين صفوف كيان محلي آخر ذي أهمية كبرى، ألا وهو اتحاد قبائل سيناء. بدعمٍ من الجيش، تشكلت ميليشيات اتحاد قبائل سيناء في عام 2015 من حفنة من المقاتلين، معظمهم من قبيلة الترابين ، بيد أنها أصبحت قوة عاملة بكامل طاقتها بحلول عام 2017. وقد أنشأها وقادها إبراهيم العرجاني، عضو سابق في قبيلة الترابين؛ وهو مهرّب قضى عامين في السجن وتعرض للتعذيب بعد أن اختطف عدداً من رجال الشرطة في عام 2008، انتقاماً لمقتل شقيقه. ثم في ظروف غامضة بعد إطلاق سراحه، أصبح مستثمراً له وزنه، وشريكاً للجيش في العديد من الشركات، وطور علاقات وثيقة مع السيسي، ومُنح ترخيصاً - أو بالأحرى، احتكاراً - لتصدير مواد البناء إلى قطاع غزة المحاصر؛ ثم تولى فيما بعد إدارة مشروعات إعادة الإعمار المصرية. وبحلول عام 2022، امتدت إمبراطوريته التجارية إلى ما هو أبعد من سيناء؛ ليصبح – مثلاً – الوكيل الرسمي المحلي لشركة صناعة السيارات الألمانية BMW ، وأحد رعاة النادي الأهلي المصري.
نشأت الميليشيات القبلية بسبب تضافر عدة عوامل سياسية، وليس فقط نتيجةً للضغط الذي يمارسه الجيش. فقد بدأت القبائل - حتى بعدما التحق أبناؤها بركب المتمردين - تشعر باغتراب متزايد مع مواجهتها أحياناً لسخط المتمردين، سواء بسبب تعاونهم مع الدولة أم لفرض أعراف اجتماعية أكثر تشدداً. كما أثرت الحرب الدائرة سلباً على "اقتصاد الأنفاق" وهو ما أثار قلق المهربين وبعض فئات المجتمع المحلي، الذين تعتمد معيشتهم على التجارة (الرسمية وغير الرسمية) مع غزة. فمن ناحية، تضاعفت الجهود الذي يبذلها الجيش لِمكافحة أعمال التهريب. ومن ناحية أخرى، استهدف المتمردون هؤلاء المهربين في بعض الأحيان معطلين بذلك سبل رزقهم.
خلافاً لمجموعة "المناديب"، لم يتلق أعضاء "اتحاد قبائل سيناء" أيّ تدريب عسكري تقريباً. وقد تشكل الاتحاد عموماً من شباب أميين، شارك بعضهم في "أنشطة إجرامية"، ومدرجين بالفعل على قوائم المراقبة. وقد جرى تجنيد أطفال أيضاً. وبعد الانضمام إلى الميليشيا، حصل بعض المقاتلين على رواتب شهرية من الجيش، عادة ما تكون أقل من تلك التي يتلقاها "المناديب". بينما اكتفى آخرون بالحصول على تصريح عسكري خاص يسمح لهم بالمرور عبر نقاط التفتيش والطرق الصحراوية دون التعرض لأيّ تفتيش أو مضايقات. علماً أن أفراد الميليشيات الذين قُتلوا خلال العمل لا يتلقون معاشات حكومية. وشهدت الاستعانة بهم بوصفهم قوة احتياطية مساعدة إلى جانب الجيش خلال العمليات انتهاكات جسيمة، مثل إعدام المعتقلين.
إحدى الميليشيات الأخرى، التي تشكلت في عام 2022 بإشراف من المخابرات الحربية، هي "أبناء مجاهدي سيناء". وتتضمن أعضاءً من قبائل الترابين والسواركة والرميلات، الذين لم يرغبوا في القتال إلى جانب العرجاني بسبب خصومات قبلية أو عائلية. وقد نشطت هذه الميليشيا لعام واحد فقط ثم حُلت، عندما أعلنت الدولة "انتصارها" في الحرب على الإرهاب. مع ذلك لا تزال ميليشيات اتحاد قبائل سيناء مسلحة إلى الآن.
الجيش: مركزيّ للغاية لدرجة يصعب معها تهيئته على نحو مناسب
لماذا لم يجدد السيسي الهيكل التنظيمي والعقائدي للجيش، بدلاً من الاعتماد على الأساليب الحربية التقليدية والميليشيات المحلية غير النظامية؟ تتمثل إجابة هذا السؤال في عاملين أساسيين، أحدهما أيديولوجي والآخر إداري.
أيديولوجياً، ومع عدم وجود أسلوب محدد معمول به لمكافحة التمرد، لجأ الجيش إلى المذهب الوحيد الذي يعرفه، ألا وهو القوة الغاشمة. لكن هذا لم يحدث من فراغ. فقد جاءت الحملة المعادية للثورة التي أعقبت الانقلاب تحت قيادة التيارات الأكثر تطرفاً في جهاز الدولة القمعي، بما في ذلك السيسي نفسه، وهي حملة دعت إلى اتباع سياسات "استئصالية"، وتبنت نهجاً عسكرياً في كافة المشاكل. ولم تكن سيناء سوى مجرد معركة أخرى لاستئصال مشكلة ما. ولم يعبأ أحد بالخسائر في صفوف المدنيين. ولم يحاول السيسي وكبار الضباط استمالة القبائل وكسب تأييدها، وإنما سعوا إلى إخضاعها بالقوة العسكرية، دون أيّ مواراة. فعلى سبيل المثال، خلال خطاب أُذيع على الهواء مباشرةً في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2017، تحدث السيسي إلى مسؤولي الدولة قائلاً، وسط تصفيق حار،"إنني ألزم الفريق محمد فريد حجازي أمامكم وأمام شعب مصر كله بمسؤوليته عن استعادة الأمن والاستقرار في سيناء خلال ثلاثة أشهر… أنت ووزارة الداخلية سوف تستعيدون الأمن، باستخدام كل القوة الغاشمة، كل القوة الغاشمة!"
وعادة ما كانت التصريحات والبيانات العامة التي يصدرها قادة الأدوات القمعية تتضمن الرسالة نفسها، وهي التأكيد على الهيمنة، وتصوير عمليات مكافحة التمرد على أنها "ثأر" لقتلى الجيش والشرطة. وبعد عامين من الانقلاب، باتت معظم وسائل الإعلام تخضع فعلياً لسيطرة (وملكية) جهاز الدولة القمعي. وأصبحت العناوين الرئيسية التي تتصدر الصفحات الأولى في الجرائد اليومية متماثلة، فقد كانت تحرض بحماسة - بمشاركة مقدمي البرامج التلفزيونية - على إراقة الدماء، أو تنفيذ إعدامات بلا محاكمة مثلما كان يفعل زكي بدر، أو نثر جثث الإرهابيين على جبال سيناء لتأكلها الذئاب، أو عزل سيناء من خلال بناء "سور برلين مصري". ووصل الأمر بجريدة أخبار اليوم اليومية المملوكة للدولة، وكان رئيس مجلس إدارتها في ذلك الوقت هو ياسر رزق، أحد أبواق السيسي المخلصين، إلى حد وصف المتمردين "بالتكفيريين"، مع إثارة مزاعم لا أساس لها من الصحة حول وجود خلايا حوثية يمنية نشطة في سيناء تضم فلسطينيين وإيرانيين.
واجهت عملية إعادة هيكلة الجيش أيضاً تحدياً إدارياً، حتى عندما اتخذت خطوات لمعالجة الطابع المتغير للحرب. ففيما يتعلق بمؤسسات الجهاز القمعي الأخرى، شهدت حرب سيناء، منذ عام 2018، بشكل ملحوظ وللمرة الأولى عمليات مشتركة لجمع معلومات استخبارية بشرية، وذلك بمشاركة المخابرات الحربية والمخابرات العامة والأمن الوطني. وقد عملت الهيئات الثلاث معاً على استجواب المدنيين، بعد تقدم الجيش، وجمع معلوماتهم وتنسيق عملية العفو العام عن المقاتلين وعائلاتهم. وعمل ضباط الأمن الوطني أيضاً مع المخابرات الحربية، داخل سجن العزولي، من أجل استجواب المحتجزين.
لكن تظل التغييرات الطارئة على هيكل القوات المسلحة جوفاء إلى حدٍ كبير. ففي نهاية كانون الثاني/يناير 2015، أصدر السيسي قراراً بتشكيل "قيادة موحدة لمنطقة شرق القناة ومكافحة الإرهاب بسيناء"، وكان الهدف المعلن هو "تنسيق" عمليات مكافحة الإرهاب بين الجيش الثاني الميداني والجيش الثالث الميداني. نظرياً، بدت هذه فكرة جيدة، لكن تأثيرها الفعلي كان مختلفاً للغاية. وقال موقع (إيجيبت ديفينس ريفيو |Egypt Defence Review)، "حسب ما رأيت، كان ذلك مجرد وسيلة فحسب لتحقيق التواصل بين الجيش الثاني الميداني والجيش الثالث الميداني وليس العمل سوياً. فقد حافظ كلاهما على منطقة عملياته ومهامه. وما قاموا به بشكل أساسي هو تنسيق فقط ما كانوا يفعلونه بصورة أفضل إلى حدٍ ما، بدلاً من تمازج القوات والتجهيزات والجهود وما إلى ذلك، أو إنشاء تشكيلات ووحدات مصممة لهذا الغرض خصيصاً وتتألف من عناصر تابعة لكل منهما".
يرجع الفشل في إصلاح الجيش إدارياً بصورة كبيرة إلى السبب نفسه الذي تأفف منه الفريق محمد فوزي خلال التدخل المصري في اليمن وعجزهم عن التكيف مع الحرب غير النظامية، ألا وهو البيروقراطية العسكرية. إذ لم يكن من السهل معالجة الآثار التي خلفتها عقود من الأعراف التي أدت إلى تثبيت أركان المؤسسة العسكرية لتصبح صارمة وبالغة المركزية ومُقسمة لوحدات مستقلة بذاتها، إذا افترضنا أنه كان هناك استعداد لمحاولة فعل ذلك. فقد كانت مراكز القوة التقليدية في القوات البرية -في الجيش الثاني والثالث الميدانيين- غير مستعدة للتنازل ببساطة عن الأرض لقيادة تضمهما معاً. وليست مصر استثناءً، فحتى في الجيوش الغربية، تستخدم الوحدات الكبيرة ذات التاريخ الطويل والأعراف الراسخة والتأثير السياسي الواسع مكانتها لإبطاء الإصلاحات التي تهدف إلى التجديد أو إعادة التنظيم أو الدمج أو التفكيك.
وتقول المحللة السياسية أليسون مكمانوس إن مثل هذه المركزية المبالغ فيها تشير إلى أن القيادة الموحدة "لم تقم بإجراء تغييرات جذرية في سلطة اتخاذ القرارات الاستراتيجية بمعزلٍ عن القاهرة ولم تقدم قيادة أكثر مرونة. إن من المرجح أن يؤدي فعل ذلك إلى إثارة اعتراض القادة التقليديين الذين يرغبون في الحفاظ على سلطتهم". إذ لا يمتلك السيسي ولا أي قائد عسكري آخر في اللحظة الراهنة، نفوذاً سياسياً يمكنه من إحداث تغيير جذري في هياكل القوة المؤسسية تلك.
هددت هذه التخبطات السياسية والعملياتية أمن أفراد الجيش، مؤديةً إلى خسارة كبيرة في الأرواح. خلال السنة الأولى التي أعقبت الانقلاب، قتل على الأقل 105 فرداً من الجيش والشرطة وأصيب 247 فرداً، وذلك وفقاً لإحصائية نشرتها صحف محلية، معتمدة على بيانات رسمية. وفي نهاية عام 2016، قدر عدد القتلى في صفوف الجيش والشرطة بأكثر من ألف فرد.
وفي نيسان/أبريل 2022، صرح السيسي للمرة الأولى أن العدد الإجمالي للضحايا في صفوف الجيش والشرطة خلال عمليات مكافحة الإرهاب منذ عام 2013، بلغ 3,277 قتيلاً و12,280 مصاباً بإصابات تعيقهم عن العودة مرة أخرى للخدمة. وأضاف السيسي أن الجيش كان ينفق مليار جنيه مصري شهرياً على مدار سبع سنوات (تقريباً الفترة بين عامي 2013 و2020) لمواجهة الإرهاب، وجاء ذلك بسبب "أننا فتحنا الباب في عامي 2011 و2012 لحالة من عدم الاستقرار".
يستعرض بيان تحليلي نُشر تحت اسم مجهول حول عدد القتلى في صفوف الجيش والشرطة خلال العمليات، في الفترة من آذار/مارس 2011 إلى تموز/يوليو 2017 - بناءً على معلومات من مصادر مفتوحة - بعض التفاصيل المثيرة حول رتب رجال الشرطة والجيش. فقد كان 18% على الأقل من ضحايا الجيش ضباطاً، يحمل معظمهم رتبة ملازم أول ونقيب. لكن تمكن المتمردون أيضاً من قتل ما لا يقل عن 10 أفراد برتبة رائد و15 برتبة مقدم و8 برتبة عقيد و7 برتبة عميد. وتتضمن الضحايا ضباطاً يشغلون مناصب تنفيذية عليا. فقد قتل المتمردون مثلاً ثلاثة قادة لِلكتيبة 103 صاعقة، وهم المقدم رامي حسنين في عام 2016، وأحمد منسي في عام 2017، وعاصم عصام الدين في عام 2022.
علق موقع "إيجيبت ديفينس ريفيو"، "يُعد هذا أمراً عادياً بالنسبة لصغار الضباط والجنود، لكن من غير المألوف أن يقع ضحايا في صفوف كبار الضباط وأصحاب الرتب الأعلى بهذه الأعداد. المشكلة التي غالباً ما نواجهها مع ضباطنا هي أن أصحاب الرتب العليا والمتوسطة يضطلعون فعلياً بمهام الرتب الأصغر". توجد عدة عوامل دفعت كبار الضباط، برغبتهم أو عن غير رغبتهم، إلى خطوط المواجهة، وليس الاكتفاء بالجلوس في مركز القيادة لتنسيق الجهود العسكرية والعمل على الأمور المتعلقة بسياسات الجيش، مثل معالجة المركزية المبالغ فيها وانعدام الثقة في الضباط الجدد غير المتمرسين وضعف قوات ضباط الصف والمجندين الذين يفتقرون إلى التدريب الجيد الذين عادة ما يجري تكليفهم بالمهام خلال آخر أشهر متبقية في خدمتهم العسكرية لتقليل حالات الفرار من الخدمة. وحسبما يوضح موقع "إيجيبت ديفينس ريفيو"، "لذا، في حالة [المقدم] منسي مثلاً، لدينا قائد كتيبة يضطلع بمهام قائد سَرية. أيّ مقدم يؤدي مهام ملازم أول".
ومع ذلك، في عام 2019، بدا أن الجيش قد تمكن من تهدئة الأوضاع في سيناء إلى حد كبير، على الرغم من استمرار هجمات المتمردين بين الحين والآخر، التي تسببت في بعض الحالات في خسائر فادحة. يمكن أن يعزى تراجع العنف، على الرغم من أداء الجيش المصري الضعيف، إلى عدة عوامل.
أولاً، شنت إسرائيل، بمباركة من السيسي، حرباً جوية سرية - منذ آب/أغسطس 2013 وبلغت ذروتها في عام 2015 - قصفت خلالها أهدافاً عسكرية باستخدام مئات المُسيَّرات والمقاتلات والمروحيات. ومع نهاية عام 2017، بلغت الغارات التي نفذتها إسرائيل داخل سيناء أكثر من مئة غارة. وينسب المسؤولون الأميركيون لهذه الغارات الفضل المباشر في تغيير مسار الحرب لمصلحة مصر.
ثانياً، فرضت الدولة حصاراً على سيناء وتم عزلها عن بقية العالم، وذلك في محاولة لتضييق الخناق على مصادر المساعدات الخارجية الموجهة إلى المتمردين. ولعبت المخابرات العامة والمخابرات الحربية دوراً في الحد من تدفق الأسلحة من ليبيا غرباً، أما عن الشرق، فقد ضمن التقارب مع جماعة حماس (راجع الجزء التالي) عدم تمكن الحركات السلفية الجهادية في غزة من مساعدة حلفائها في سيناء والعكس. وعليه فقد شهدت خطوط الإمداد الخاصة بالمتمردين تضييقاً شديداً، خاصة بعد عام 2018. وهو ما أجبر المتمردين مثلاً في بعض الأحيان إلى الاستسلام بسبب نقص الغذاء.
ثالثاً، توسع اتحاد قبائل سيناء لاحقاً ليشمل بقية القبائل التي شعرت أن عليها الانضمام إلى الجانب الرابح لضمان بقائها. وكان لِشيوخ القبائل دوراً في إبعاد الشباب عن الجماعات المتمردة، وحرمان المتمردين من التمتع بملاذ آمن، إضافةً إلى تقديم معلومات استخباراتية قيمة للجيش الذي تراجع وسمح للميليشيات القبلية بتصدر القتال.
وبحلول عام 2019، خفف الجيش نسبياً حصاره الفعال الذي كان مفروضاً على المنطقة، والذي أدى سابقاً إلى أزمات في الوقود والغذاء أدت إلى تفاقم أوضاع السكان المحليين والنازحين داخلياً. وصرح السيسي نفسه في بداية عام 2023 أن مصر فازت في حربها على الإرهاب واحتفل رسمياً "بالنصر" في العريش في نيسان/أبريل من العام ذاته.
لكن هل يعني هذا أن الدولة انتصرت في حرب سيناء، مثلما يتساءل موقع "إيجيبت ديفينس ريفيو"، "أم أننا في انتظار تمرد آخر خلال عشر أو عشرين سنة؟" وقد أبدى المحلل السياسي ماجد مندور الرأي نفسه قائلاً، "وفقاً لما نراه ونسمعه، فقد انخفض حالياً عدد العمليات (الإرهابية). لكن هل يعني هذا أن الدولة قضت على مشكلة (الإرهاب)؟ أشك في ذلك كثيراً. فعلى المدى الطويل، ينبغي لنا التفكير في عواقب الممارسات القاسية التي فرضتها الدولة علينا من عنف واستبداد وتعذيب. لا بد أن يكون هناك ثمن لكل هذا العنف".
الجيش في العمليات البرية الرئيسية
خلافاً لسيناء، قدم الجيش الدعم لوزارة الداخلية، مع استثناءات قليلة بادر الجيش خلالها إلى الاضطلاع بدور قيادي كما هو الحال في المناطق الحدودية، لا سيما الحدود الغربية مع ليبيا الممتدة لأكثر من 1,115 كيلومتر. فمنذ عام 2011، كان الجيش المصري يرى أن ليبيا تُشكل تهديداً لاستقرار البلاد، وملاذاً "للإرهابيين"، ومصدراً لتسليح الجماعات المتطرفة في وادي النيل وسيناء وغزة. وبعد الانقلاب، ازدادت العمليات الذي نفذتها قوات حرس الحدود، وكانت وسائل الإعلام المحلية والمنصات الرسمية التابعة للجيش تُعلن عنها بانتظام.
وفي عام 2015، وافقت المخابرات العسكرية الفرنسية سراً على مساعدة مصر في جهود مكافحة الإرهاب على طول الحدود الليبية، في عملية أُطلق عليها اسم "العملية سيرلي". وأُرسل فريق فرنسي في شباط/فبراير من عام 2016 إلى قاعدة عسكرية قريبة من مرسى مطروح. واستعان الفريق بطائرة مزودة بأجهزة مراقبة واستطلاع واستخدم معدات مراقبة إلكترونية متطورة كان من المفترض أن تمنح القوات الجوية المصرية إحداثيات أهداف إرهابية تسللت إلى الحدود. لكن سرعان ما اشتكى الفرنسيون، مثلما تُظهر مذكرات داخلية مسربة، من أن المصريين كانوا يستغلونهم من أجل تنفيذ عمليات قتل بلا محاكمة لتجارٍ معظمهم فقراء ويحاولون كسب رزقهم من خلال تهريب السجائر والوقود والغذاء والسلع الاستهلاكية. لكن ذلك لم يؤدي إلى إنهاء "العملية سيرلي".
على الرغم من أن هجمات المسلحين كانت أقل في الصحراء الغربية مما كانت عليه في شمال سيناء أو القاهرة الكبرى، فقد تجلى عدم كفاءة الجيش المصري، وازدرائه لأرواح المدنيين، وغيرها من الإخفاقات العملياتية الأخرى بوضوح مراراً وتكراراً. ففي أيلول/سبتمبر 2015، لم يكن من الممكن التستر على فضيحة دولية، عندما قصفت طائرات الأباتشي وأطلقت النيران على قافلة من السياح بالقرب من الواحات البحرية، مما أسفر عن مقتل ثمانية مكسيكيين وأربعة مصريين. وكذلك في شمال سيناء، على الرغم من أن قوات الجيش والشرطة أظهرت على مر السنين تحسناً كبيراً في قدرتها على التنسيق، كانت هناك أسئلة جدية فيما يتعلق بالتناسق العملياتي في الصحراء الغربية، مع فشل الجيش في توفير الدعم الجوي والاستطلاع الكافيين.
في وادي النيل، باستثناء بضعة أشهر بعد الانقلاب، لم تكن عمليات الجيش على القدر نفسه من الكثافة التي كانت عليها عمليات وزارة الداخلية. ففي الأعياد الوطنية، والمناسبات والفعاليات الكبرى مثل الانتخابات والاستفتاءات، أو عندما تكون هناك دعوات على الإنترنت للاحتجاجات، عادة ما ينشر الجيش قوات حماية المواطنين، للقيام بدوريات في الشوارع مع الشرطة أو لحراسة المنشآت الحيوية. وهذه تشكيلات عسكرية نظامية، تضع شعار "قوات حماية المواطنين" على معداتها، وليست وحدات دائمة.
ومن التشكيلات الأخرى التي أنشأها السيسي في آذار/مارس 2014 قبل وقت قصير من مغادرته وزارة الدفاع، هي "قوات التدخل السريع"، وهي تخضع لقيادة منطقة القاهرة العسكرية (المنطقة المركزية)، وقد أُعلِـن عنها في البداية كقوة محمولة جواً قادرة على الانتشار السريع في أي مكان، داخل أو خارج البلاد. وبوصفها مشروع السيسي الشخصي، فقد روج لها بشكل كبير في وسائل الإعلام في العام الأول من تشكيلها، على أنها عماد لحلف ناتو عربي مناهض لإيران في المستقبل.
في الواقع، كانت "قوات التدخل السريع" فرقة تقليدية وليست "سريعة على الإطلاق". فضلاً عن أن التحالف العسكري العربي لم يتحقق أبداً، وليس هناك أي سجل لعمليات قامت بها "قوات التدخل السريع" خارج الحدود المصرية. تقود "قوات التدخل السريع" الوحدة 888 وشاركت في عمليات سيناء 2018، على الرغم من أنها لم تكن بالضرورة الطرف الذي أحدث فرقاً. منذ ذلك الحين، لم يُسمع سوى القليل عن هذه القوات، كما أن مستقبلها غير واضح. فقد أعرب حساب "إيجيبت ديفينس ريفيو" العسكري خلال مقابلة أن "هناك أيضاً مشكلات تتعلق بكونها قوة دائمة بدلاً من هيكلاً شاملاً يتناوب فيه وحدات مختلفة، نظراً إلى أن التأهب والجاهزية العالية بحد ذاتها تسبب الإرهاق وتحد من نطاق نشاطات الوحدة لأنها بحاجة دائماً أن تكون على استعداد".
خاتمة
أعاقت التحديات السياسية والعملياتية المزمنة المشاركة العسكرية المصرية في عمليات مكافحة التمرد، ومن المرجح أن تستمر هذه التحديات في ظل القيادة الحالية. وعلى الرغم من التوسع والاهتمام الذي أولي للقوات الخاصة بعد عام 2011، لا تزال عقلية الجيش محاصرة في عقيدة الحرب التقليدية، مما أسفر عن خسائر فادحة في صفوف المدنيين وخسائر لا داعي لها في أرواح الجنود والضباط.
كما أدى النهج التقليدي العنيف، وخاصة في سيناء، إلى ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان. وقد عزز ذلك من نفور السكان المحليين وتأجيج العداوات التي ستظل قائمة طالما لم يتم التعامل مع هذه المظالم بشكل صحيح.
في حين يستمر التعتيم الإعلامي على أخبار سيناء في وسائل الإعلام المصرية، بفضل سيطرة جهاز المخابرات العامة على صناعة الإعلام، ظهرت مقاطع فيديو للاحتجاجات التي نظمها أهالي العريش على الإنترنت. فقد حاول المواطنون التصدي لحملات هدم المنازل التي يقودها الجيش في بلداتهم. وتُرجمت المظالم التي شعر بها الأهالي إلى إدانات علنية للسيسي، ووصلت إلى حد مقارنة الجيش المصري بقوات الاحتلال الإسرائيلي. وفي مناطق أخرى من شمال سيناء، تندلع احتجاجات متفرقة بين الحين والآخر، يشارك فيها رجال القبائل الذين يطالبون بالعودة إلى بلداتهم التي تم هدمها في رفح والشيخ زويد. والأخطر من ذلك، أن هذه المظالم يمكن أن توفر الظروف الموضوعية لعودة ظهور التطرف المسلح في المستقبل.
خارج سيناء والمنطقة الحدودية الغربية مع ليبيا، لا تزال الشرطة تتولى القيادة في عمليات مكافحة التمرد في المراكز الحضرية في وادي النيل. ومن المستبعد أن يتغير هذا الوضع قريباً، بيد أن السيسي وضع بالفعل الإطار القانوني واللوجستي الضروري لإشراك الجيش في مثل هذه الأنشطة لحفظ وضبط الأمن. وإذا ما اندلعت احتجاجات شعبية مجدداً أو تمرد واسع النطاق في المناطق الحضرية، فإن الجيش مستعد لنشر جنوده في الشوارع مرة أخرى للقيام بمزيد من أعمال الشرطة والقمع الداخلي.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.