مقدمة
يرى المدافعون عن تبني نظام العقد الاجتماعي من أجل توفير الحماية الاجتماعية أن الأخيرة أصبحت أساساً لشرعية واستدامة أيّ مشروع سياسي، حتى لو كان هذا المشروع لا يفسح المجال للمشاركة السياسية. فعلى مدى التاريخ، غالباً ما برهنت مرحلة بناء الدولة خلال فترة ما بعد الاستقلال في دول عربية مثل مصر أو تونس أو الجزائر، على صحة هذا الرأي، إذ اضطلعت الدولة -بمحض إرادتها- بمهمة تقديم الخدمات والحماية لفئات المجتمع، وهو ما ساعد أنظمة الحكم حديثة التأسيس على اكتساب الشرعية سريعاً لحكمها المفروض على الدولة. وعملت السياسات الاجتماعية للدولة عموماً على دعم التمسك بعقد اجتماعي أساسي (قائم على التبعية): تقوم الدولة بموجبه بتوفير الخدمات، بينما يقدم الشعب فروض الطاعة والولاء. لا يعني هذا أن السياسات الاجتماعية في فترة ما بعد الاستقلال في المنطقة لم تحقق أيّ إنجازات إيجابية خلال سنواتها الأولى، ولكن ينبغي حالياً دراسة وبحث "قصص النجاح" تلك من خلال تحليل دوافعها السياسية، على الصعيدين المحلي والعالمي.
بدأت الدراسات التي أجريت خلال الآونة الأخيرة في المنطقة في تحليل وتفكيك السرديات الرسمية السائدة منذ فترة طويلة، بدايةً من استكشاف كيفية قيام النخب خلال فترة ما بعد الاستقلال بتكريس الإرث الاستعماري إلى دور الرعاية الاجتماعية في إدامة الدروع الأمنية المحيطة بالأنظمة الاستبدادية. لكن الوضع في فترة ما بعد الاستقلال يختلف كثيراً عن المشهد في مرحلة ما بعد الانتفاضات العربية. فمنذ 2011، لا تزال المظالم في مختلف أنحاء المنطقة تتميز بطابع اجتماعي واقتصادي -وهو ما يتماشى مع الدعوات بتوفير الخدمات والحماية- لكنها تطالب أيضاً بالمشاركة السياسية -بدرجات متفاوتة- وتُعبر عن المطلب المشترك بإنهاء العقود الاجتماعية القديمة. ثمة إجماع على أن انحسار الدور الاجتماعي للدولة في ظل النظام النيوليبرالي العالمي وأوجه القصور التي تعاني منها النماذج الإنمائية تُعد هي الدوافع الرئيسية لانتفاضات 2011، لكن عدد هذه الدوافع آخذ في الازدياد منذ ذلك الحين. فقد باتت اليوم مرتبطة أيضاً بالمعضلة القائمة بين قدرة الدولة على الإيفاء من جديد بالمطالب الثلاثة، المتعلقة بتوفير الخدمات والحماية والسماح بالمشاركة السياسية، في خضم الاضطرابات الدولية والطبيعة الذاتية للمشاريع السياسية المحلية في المنطقة العربية.
وفي هذا الصدد، أصبحت التجربة التونسية تمثل دراسة حالة توضيحية على نطاق واسع. وغالباً ما يُلخص هذا الوضع الحالي في تونس باعتباره إجهاض -أو إفساد- لأسس عقد اجتماعي جديد واستيلاء سياسي على الزخم الاجتماعي. يُستشهد أيضاً في كثير من الأحيان بالحالة التونسية بوصفها دليلاً تأكيدياً على ضرورة إجراء تحولات منهجية في كيفية فهم ديناميات فترة ما بعد الانتفاضات من خلال الإقرار، على قدم المساواة، بأن الاستمرارية والقطيعة السياسية هما حالتان يمكن أن توجدان معاً.
هذا الاضطراب المتواصل لأكثر من عقدٍ ليس سوى تجسيداً للتوترات بين النخب السياسية التي تعارض أو تحاول أن تحد من احتمالات التغيير للحفاظ على (أو إعادة توزيع) الامتيازات ودعم بعض الفئات الاجتماعية التي تأبى القبول بمسار ثوريّ لم يتحقق بعد. لكن في الوقت ذاته، حدثت أمور كثيرة، بداية من عنف الشرطة إلى الاستغلال والاستيلاء السياسي على المساعي والجهود المدنية، وهو ما أدى إلى التفكيك البطيء لشبكات العمل الجماعي وترك تأثيراً عميقاً على قدرة الأفراد على إبقاء روح الثورة حيةً. في حالة تونس، أدت الاحتياجات التي لم يجرِ تلبيتها وحالة الإرهاق العام وخيبة الأمل والجمود السياسي، إلى جانب الإدارة الفوضوية خلال جائحة كوفيد-19، إلى إفساح المجال إلى منعطف بارز آخر، تحديداً إعلان الرئيس قيس سعيّد عن إجراءات استثنائية وتعليق أعمال البرلمان ثم حلّه لاحقاً. لا يمكن بأيّ حال تناول الحماية الاجتماعية وأوجه الهشاشة في تونس دون محاولة فهم المسار الذي أدى إلى أحداث 25 تموز/يوليو، ودون أيضاً التطرق لمحدودية مشروع سعيّد السياسيّ.
هذه الدراسة ليست معنيةً بإعادة تقييم الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس، ولا تدعي تقديم إجابات. بيد أنه من منظور العقد الاجتماعي، تسلط الدراسة الضوء على النقاط الغامضة في النقاشات حول الحماية الاجتماعية في تونس في القسم الأول، وتحديداً "الديناميات غير المعلنة لأشكال الهشاشة غير المرئية". وفي القسم الثاني، تستقصي الدراسة صياغة وتداعيات المسألة الاجتماعية في المشروع السياسي الجديد الذي يقوده قيس سعيّد من خلال استعراض قوام لغته الخطابية في الفترة بين نهاية آب/أغسطس 2022 ونهاية أيار/مايو 2023. يُعزى اختيار هذه الفترة استناداً إلى الفصلين 100 و101 من دستور عام 2022، اللتين تنصان على أن رئيس الجمهورية هو صانع السياسات الرسمي، وأن حكومته هي مجرد هيئة تنفيذية لسياسات الرئيس. فقد شهدت هذه الفترة عدداً لا يحصى من الأحداث، بما في ذلك الانتخابات التشريعية وإنجاز مجلس نواب الشعب الجديد الذي لم يزل نشاطه في أيامه الأولى، ومن ثَم فهو مستبعد من التحليل الحالي. وفي حين يبدو كلا القسمين مختلفين في جوهرهما ونهجهما، فإنهما يخدمان معاً، لا سيما في غياب وجود علاقة واضحة، البحث عن ومضات لمناقشة ترتكز حول الحماية الاجتماعية في جدول أعمال قيس سعيّد. إذ يحدد القسم الأول مجموعة من العناصر الهيكلية ذات الصلة بهذه المناقشة، بينما يبحث القسم الثاني في دلالات مثل هذه العناصر في خطاب الرئيس.
في هذه الدراسة، تُفهم الحماية الاجتماعية بمعناها الاجتماعي - السياسي، وليس من مفهوم الأنظمة التقنية التي تقتصر على مخططات التصنيف القائم على الدخل والأساس المنطقي للمساعدات. ويقر هذا التعريف بأن الحماية الاجتماعية هي مجموعة من السياسات الاجتماعية التي ترتكز على نهج قائم على الحقوق وعلى العدالة في الحصول على هذه الحقوق. تشمل هذه السياسات مجموعة متنوعة من المجالات من السيادة الغذائية إلى الكفاءة المؤسسية وكفاءة البنية التحتية، ومن المخاطر البيئية إلى التعليم والإسكان. ويرفض هذا التعريف الربط بين الحماية الاجتماعية و"الأزمة"، نظراً إلى أن الأزمات ليست سوى نتيجة "للنظام الذي يعمل على النحو المقصود"، وهي عنصر خطابي خطير مناهض للحقيقة لأنه يرسخ لوهم المساواة والمعاناة بوصفها ظواهر "مؤقتة" في "أوقات استثنائية".
المهمشين لديهم هوامش أيضاً: النسيج الوثيق للهشاشة
في دراسة ميدانية نوعية أجراها "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" لدراسة أشكال الهشاشة "اللامرئية" ، ثمة العديد من المقاربات المثيرة للاهتمام التي يمكن البدء بها لمناقشة الحماية الاجتماعية من منظور العقد الاجتماعي. فبادئ ذي بدء، تتسع الفجوة بين المهمشين والجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية ، مما يكشف عن خطوط فاصلة مهمة وأزمة ثقة مستمرة. فقد أعرب الأفراد، وكذلك المجموعات التي أجريت معها المقابلات ، أنهم اختاروا العيش في انقطاع تام عن الجهات الحكومية وغير الحكومية والنأي بأنفسهم عن المجال المدني، وهو ما ينطوي أيضاً على التخلي المتعمد عن حقوقهم المدنية. هذا الاختيار المشترك بين العديد منهم يتشكل في المقام الأول بسبب اليأس، وكذلك أيضاً بسبب ما يتعرضون له من تغييب مستمر أو ما يتحملونه من إغفال من قبل النخب السياسية. بإيجاز، يتحول التغييب المستمر إلى إغفال متعمد والذي يوصف، على حد تعبيرهم، بأنه آلية تكيفية ووقائية لحماية "أوضاعهم غير الرسمية" للمقاومة الاقتصادية والنجاة من القمع أو الاستغلال. فضلاً عن أنها تُمثل وسيلة للتعبير عن الاعتراض ، نظراً إلى أن ابتعاد هذه الجماعات عن المجال المدني لا يعني غياب العمل الجماعي أو المساحات التنظيمية وأشكال الاحتجاج.
تتجانس هذه النتائج بشدة مع مناقشة "العقد الاجتماعي الوثيق" بوصفه إطاراً نقدياً بالغ الأهمية في دراسة وجود عقود اجتماعية متنوعة على مستويات متعددة، لا سيما على المستويات المهمشة سياسياً. إذ إن الهوامش هي في الواقع مساحة سياسية في حد ذاتها، والغياب الملحوظ للثقة، ورفض الجهات الفاعلة من النخبة، والتخلي عن الحقوق المدنية على هذا المستوى لا يعني بالضرورة عجز نهج العقد الاجتماعي أو استحالة وجوده خارج تعريفه التقليدي. على العكس من ذلك، يدعو هذا الأمر إلى فهم مختلف لتشكيل العقد الاجتماعي "المركزي" وتطوره، من خلال الاعتراف بثراء وتعقيد العقود الاجتماعية الوثيقة.
تتجسد العقود الاجتماعية الوثيقة في ديناميات القوة والعلاقات الجماعية، وتبنى على عادات ثقافية محددة بالسياق ومخصصة ثقافياً، وتدمج الأنماط التأسيسية للتنظيم المجتمعي. وتُمثل القبائل، بوصفها هياكل اجتماعية وسياسية سبقت الدولة "الحديثة"، مثالاً توضيحياً مهماً. ففي تونس، في حين عملت دولة ما بعد الاستقلال على محو وجودها، وحتى على تفكيكها، تؤكد الدراسات الحديثة على استمرار وجودها وانتعاش قوتها ودورها. وعلى الرغم من أن هذه الهياكل تنطوي على حلول جماعية على مستوى المجتمع المحلي، فإنها ليست مثالية لأنها تميل بالقدر نفسه إلى إدامة أوجه التفاوت داخل هذه المجتمعات وفيما بينها. وغالباً ما تنجم هذه التفاوتات عن العوامل الاجتماعية والثقافية، بشكل خاص فيما يتعلق بالجنس والوضع الاجتماعي. وبالرغم من عدم تقديم قواعد مكتوبة لهذه العقود الاجتماعية الوثيقة، فإنها تتطور بقدر ما تسمح بالحفاظ على ديناميات القوة والامتيازات، وكذلك بإعادة إنتاج مفارقة الظالم والمظلوم على الصعيد الجزئي. بيد أن قيمة هذه العقود تكمن في مساهمتها في العقد الاجتماعي المركزي، بشرط أن تحترم هذه العقود طبيعته التنظيمية وأن تحترم وسائل التنظيم الاجتماعي والديناميات الجماعية البناءة على مستوى المجتمع المحلي. في الواقع، تقدم هذه العقود فرصاً لفهم التعقيدات غير المرئية للمجتمعات المحلية وتحولاتها وتكشف - من خلال المقارنة - كيف ومتى تنفصل المجتمعات عن العقد الاجتماعي المركزي، أو تتحدى هذا العقد، ولماذا تفعل ذلك، وما البدائل التي تتبناها. في هذا السياق، تساعد العقود الاجتماعية الوثيقة على اكتشاف الثغرات التي تتطلب إصلاحاً عاجلاً على المستوى المركزي وتكشف أيضاً عن نقاط الانطلاق للحد من أوجه التفاوت داخل الجماعات بالمقابل. وهذا يعني أن العقود الاجتماعية المركزية والوثيقة ليست مناقضة لبعضها البعض؛ بل تستفيد من بعضهما البعض وتتداخل تطوراتهما.
وبناءً على ذلك، يطرح تحديد التغييب المتعمد كوسيلة للتكيف والمقاومة أسئلة صعبة أمام صانعي السياسات والخبراء على حد سواء، لأنه يشير إلى صعوبة متزايدة في الوصول إلى هذه المجموعات وأخذ دينامياتها بعين الاعتبار عند وضع السياسات. ورغم ذلك، فإن هذا يستدعي أيضاً طرح أسئلة جديدة لا تقل أهمية، لا سيما فيما يتعلق بالعلاقات بين الدولة والمجتمعات. استخدام صيغة الجمع في "المجتمعات" هنا يتوافق مع المناقشة التي غالباً ما يُتغافل عنها بشأن الفهم الضروري للمجتمع، في السياقات التقليدية، بوصفه كتلة غير متجانسة، يجب أن توجه تفرعاتها وتنوعها السلطة المركزية بدلاً من رفضها المستمر أو طمسها. وبالمثل، يجب ألا ننظر إلى هذه العلاقات من خلال مجرد غياب الدولة أو حضورها، بل أيضاً من خلال "كيفية حضور الدولة" - إذ يُمثل القمع، والتواطؤ، وعدم التدخل، وما إلى ذلك، أشكالاً مختلفة من الحضور، وكيف يكون غيابها وأين - والغياب هو أيضاً اختيار متعمد للتقاعس عن العمل أو الانسحاب المتعمد من بعض المناطق. وهذا هو جوهر أي عملية لتحديد العقد الاجتماعي أو التفاوض عليه.
أظهرت دراسة أشكال الهشاشة غير المرئية مجموعة من العوامل التي لا تقل أهمية والناجمة عن الجمع بين ندرة الموارد وانسحاب السلطة المركزية من المناطق التي تناولتها الدراسة. وتجاوزت المنهجية التجريبية المستخدمة في تعريف الجماعات التي تناولتها الدراسة الفئات السائدة لتسليط الضوء على أنماط المقاومة الاقتصادية لكل بيئة ، مما يضع الوصول إلى الموارد والصراع عليها في صدارة المناقشات. وخلصت الدراسة إلى أن هناك خريطة إقليمية تختلف تماماً عن الخرائط الرسمية، وهذه المساحة يتم التفاوض عليها وتنظيمها وإدارتها من قبل المجموعات التي تناولتها الدراسة وفق الأسس والآفاق غير المرئية أو غير الرسمية، وغالباً ما تنطوي هذه السياقات على العنف، وخاصة في البيئات التي تؤثر فيها المشاكل البيئية والمناخية على الموارد المتاحة تأثيراً كبيراً.
في حين ينطوي النهج الإقليمي للهشاشة على إمكانية التوصل إلى فهم أكثر رسوخاً للهشاشة في حالة تونس، فإن الدراسة المعنية هنا تفتقر إلى عامل حاسم لديناميات البلاد، وهو الهجرة بكافة أشكالها. إذ يشكل تنقل الفئات الضعيفة أو تحركها بعداً أساسياً في تطور العقود الاجتماعية الوثيقة والتفاوض المتبادل بينها. يقدم النظر في الهشاشة حسب البيئة منظور تحليلي أولي ملائم إلى حد كبير ولكن لا يجب أن يخدم ذلك فهم الديناميات الملحوظة بوصفها ثابتة. وفي حين ترتكز هذه الديناميات وتتشكل حول إطار مكاني معين وموارده وأنماط الأنشطة المنتظمة فيه، فإن هذه الديناميات متغيرة ويعاد تعريفها بالقدر نفسه وباستمرار من خلال تدفقات من التجارب الفردية والجماعية للحركة. وتقع هذه الديناميات في تقاطعات متعددة مع أشكال مختلفة من الهجرة وتتحاور مع مسارات الحركة والتجارب الوطنية والعابرة للحدود.
وبالتالي، يجب أن تتضمن دراسة الهشاشة ضمن إطار مكاني محدد، أو بيئة، اعتبارات منهجية تسمح بتتبع أشكال الهشاشة المتداخلة، وأشكال الهشاشة "الداخلية" "والخارجية"، وكذلك الهجرة بوصفها شكل من أشكال المقاومة، سواء أكان ذلك بحثاً عن موارد جديدة مقترناً باستمرار المعاناة أم سعياً إلى التنقل الاجتماعي - والذي يحل محل التعليم بشكل متزايد كوسيلة للنجاة. فضلاً عن أن جائحة كوفيد-19 كانت مرحلة بالغة الأهمية في دراسة الأشكال المستجدة من الهشاشة والتشكيك في التعريف ذاته لمثل هذا المصطلح الذي يظهر بشكل مختلف خارج النطاق الاقتصادي، ليشمل الشعور بالتهميش السياسي أيضاً. ففي تونس، أعقبت الجائحة موجات غير مسبوقة من الهجرة ، مما سلط الضوء على خسارة مقلقة في رأس المال البشري وزيادة تدهور الخدمات العامة، خاصة في قطاع الصحة. فقد هاجر الأفراد من ذوي المؤهلات العالية وذوي الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية، ليس بحثاً عن فرص اقتصادية، بل نوعية حياة أفضل وشعور بالحرية والتقدير والأمن. تجسد كل هذه الأشكال من الهجرة مجتمعة جوهر النظام القائم وعدم استعداده لمواجهة نموذج "الحلول الفردية للمشكلات الجماعية".
وختاماً، يمكن أن يؤدي الفهم المكاني أو الإقليمي للهشاشة إلى تحرير تصميم الاستجابة من جمود التصنيفات الفنية القائمة على الخبرة والدخل التي عفا عليها الزمن، مع دمج القضية البيئية. فضلاً عن أن وضع الموقع الجغرافي في قلب النقاش يمهد الطريق بالقدر نفسه للنُهج القائمة على العدالة في التعامل مع أشكال الهشاشة من خلال ضمان الاعتراف بديناميات التوزيع والسيطرة الشاملة على الوصول إلى الموارد. ومع ذلك، ومن أجل توسيع نطاق إمكانات النهج الإقليمي، لا بد من إدماج تجارب التنقل. وتدعو إلى النظر في عنصر الوقت بوصفه بعداً أساسياً لفهم أشكال الهشاشة المتعددة الطبقات وتطورها. يفشل الإطار الرئيسي لدورة الحياة عند التفكير في الحماية الاجتماعية في فهم الترابط الجوهري المتمثل في التعرض للهشاشة واختيار التنقل كجزء من دورة "الحياة" لمجموعة اجتماعية تتجاوز الفرد وتستدعي تفهماً بين الأجيال لاستمرار الهشاشة أو تفاقمها أو إنهائها. وخلاصة القول هي نظرة مختلفة إلى الهشاشة تحول فهمها من فئات بسيطة في العدم إلى تجارب اجتماعية وسياسية وإرادة تتقاطع في إطارات مكانية وزمنية متغيرة.
يعتمد القسم التالي على عناصر النقاش هذه لدراسة مدى دمجها وتداعياتها في مشروع سعيّد السياسي.
"ليست هناك نتائج لهذا البحث"
في ظل حالة الطوارئ، يتمتع قيس سعيّد بالسلطة المطلقة للحكم في جميع شؤون الدولة بموجب أمر رئاسي. ويُدعم ذلك بخطاب غير نصي عام مكون من عناصر متكررة وتؤكد بقوة على أن: مشروع سعيّد السياسي هو واجب أمام "الله والتاريخ والشعب"، "لتصحيح الانحراف" ومعالجة أسباب المظالم التي يبدو أنها كلها أجنبية على الدولة. لا تزال خطابات سعيّد وظهوره العلني تشكل عنصراً أساسياً في مشروعه، إذ تُشكل وتعيد تشكيل المخيلة العامة، بينما توجه عدداً لا يحصى من الرسائل إلى الجهات الفاعلة والمؤسسات السياسية المحلية والدولية غالباً بشكل غير مباشر. تُعرِّف المجموعة التنظيمية لخطاب سعيّد الشعب بأنه كيان واحد متجانس وقع ضحية للنخب السياسية السابقة (المستبعدة من هذا الكيان والمعارضة له)، وهو شعب "بائس" يحتاج إلى شخص قائد واحد لإنصافه. هذا الشخص القائد يعرف الطريق الذي لا يبدأ بإصلاحات اقتصادية اجتماعية عاجلة بل من خلال "تطهير" أو "تنقية" البلاد وهياكل الدولة من "قوى الشر"، والتي من شأن القضاء عليها أن يساعد الدولة في أداء وظيفتها على النحو اللائق والوفاء بالتزاماتها الاجتماعية. تظل "قوى الشر" هذه مجهولة، ولا تحمل اسماً، وليس لها ملامح واضحة، مما يسمح باستخدامها وتفسيرها وتوسيعها لتشمل أي شخص وفقاً للسياق. إن "أخرنة" العدو هو بالفعل سمة رئيسية من سمات خطاب سعيّد، إلى جانب إضفاء الطابع الأجنبي على محركات "الأزمة".
تتسم خطابات سعيّد بسمات وأصوات شفهية متكررة وملحوظة، وتأخذ دلالات أكثر وضوحاً عند النظر في سياقاتها، أو الصورة العامة التي تُبنى لإيصال الرسالة. من الممكن تحديد ثلاثة سياقات على النحو العام، وهي الظهور الفردي (الأقل شيوعاً)، والاجتماعات والزيارات الرسمية، والسياقات العامة التي تشمل لقاءات مع الجماهير والتفاعل مع الفئات الأكثر هشاشةً. بيد أن التساؤلات حول مكان تلك الفئات الأكثر هشاشةً، والإجراءات التي تُتخذ للتصدي إلى ضعفهم، لا تزال قائمة في مشروع سعيّد السياسي. فيما يلي، توجه هذه التساؤلات التركيز في استعراض عام لقوام خطابات سعيّد في محاولة لتحديد أين تقع الحماية الاجتماعية، بمعناها الأوسع، ضمن مشروعه السياسي.
ولتحقيق هذه الغاية، تم إجراء مراجعة ثلاثية الأبعاد لتحديد خطاب سعيّد، ومن ثَم تحديد المسألة الاجتماعية على نطاق واسع، والحماية الاجتماعية على وجه الخصوص. تشمل هذه المراجعة 1- المراسيم والقرارات، 2- النشاط الرئاسي، وهي الاجتماعات الرسمية مع الهيئة التنفيذية والزيارات الميدانية ذات الطابع الاجتماعي ، و3- مجموعة مختارة من الخطابات. جرى استعراض النشاط الرئاسي والخطابات من خلال مراجعة حساب الرئاسة الرسمي على موقع "تويتر". وتم توثيق المراسيم والقرارات الوزارية الواردة بالرجوع إلى الجريدة الرسمية التونسية. كلاهما يشكلان مواد أرشيفية تناولتها هذه الدراسة بإيجاز للفترة الممتدة من 17 آب/أغسطس 2022، تاريخ إصدار الدستور لعام 2022، إلى أيار/مايو 2023. ويُعزى اختيار هذه الفترة استناداً إلى الفصلين 100 و101 من دستور عام 2022، اللتين تنصان على أن رئيس الجمهورية هو صانع السياسات الرسمي، وأن حكومته هي مجرد هيئة تنفيذية لسياسات الرئيس.
المراسيم والقرارات الوزارية
تمت مراجعة المراسيم والقرارات الوزارية المتعلقة مباشرة بالحماية الاجتماعية على مدى تسعة أشهر متتالية بدءاً من دخول دستور 2022 حيز التنفيذ، مع التأكيد بشكل عام على الالتزامات الاجتماعية للدولة كما حددها دستور 2014. وجرى استعراض ما مجموعه 109 عدداً من الجريدة الرسمية التونسية، ولم يحدد سوى 18 نصاً تتصل مباشرة بالحماية الاجتماعية على النحو التالي: 5 مراسيم رئاسية، بما في ذلك قرض لدعم آليات الحماية الاجتماعية ، و11 قراراً وزارياً صادراً عن وزارة الشؤون الاجتماعية، و2 قراراً وزارياً صادراً عن وزارة الأسرة والمرأة والأطفال وكبار السن. يمكن وصف هذه النصوص بأنها ارتجالية وإدارية وفارغة من المحتوى في جوهرها، وتتراوح ما بين زيادات صغيرة في الأجور ومخصصات المساعدات النقدية، وإجراءات استثنائية وظرفية، إلى تعديلات طفيفة واستكمال القوانين والقرارات السابقة التي لا ترقى إلى مستوى الإصلاح.
أظهرت هذه المراجعة عنصرين من عناصر الاستجابة: 1- العدد الضئيل من التدابير الاجتماعية، مما يعكس عدم الأولوية لهذه القضية، و2- مجرد استمرار السياسات السابقة كما نفذتها هذه التدابير، ولكن الأهم من ذلك كله هو غياب الرؤية وعجز الدولة عن النهوض بدورها الاجتماعي. النصوص التي تمت مراجعتها لا توازن، على أي مستوى، الطابع غير الاجتماعي لعلامة فارقة أخرى: وهي ميزانية الدولة لعام 2023. في الواقع، يعد قانون ميزانية الدولة لعام 2023 أبرز ما في هذا المقال، إذ إنه يعكس حدة الوضع في البلاد وعجز الدولة عن تحقيق الإصلاحات الهيكلية الضرورية، ولكن الأهم من ذلك هو استمرار السياسات السابقة للظلم المالي والتنمية غير المتكافئة. تمثل النفقات المخصصة للتوظيف والشؤون الاجتماعية 8% من ميزانية الدولة، والنفقات الاستثمارية 8.7% منها، بينما تأتي 58% من إيرادات الدولة لتمويل ميزانيتها لعام 2023 من الضرائب على الاستهلاك والدخل فقط. بينما لا يحمل القانون، الذي صاغته الهيئة التنفيذية وسط "محادثات" مع صندوق النقد الدولي، أي مؤشرات على رؤية اجتماعية قائمة على العدالة أو آفاق للتغيير. وقد أثار القانون، الذي شوه سمعة الخطاب الاجتماعي للرئيس، نقاشاً عاماً تأثر إلى حد كبير بالانقسامات السياسية والمواقف الانفصالية (مع سعيّد أو ضده). وعلى الرغم من أنه يتضمن بعض بنود الميزانية التي تدعم المبادرات الاقتصادية والمشاريع الصغيرة للفئات الأكثر ضعفاً، والعائلات ذات الدخل المحدود، والخريجين العاطلين عن العمل، فإن هذه المخصصات، عند قراءتها بشكل كلي في ضوء السياق، هي مجرد إدامة لمنطق "المساعدة ورفع الأعباء".
وتشير التصريحات الرئاسية الأخيرة، لا سيما فيما يتعلق بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، إلى رؤية مختلفة و"منعطف جديد"، دون أن تتحول إلى رؤية اجتماعية اقتصادية واضحة أو خطط بديلة. وفي 4 أيار/مايو 2023، وخلال اجتماع مع رئيسة الحكومة، ذكَّر سعيّد فريقه التنفيذي بتفرد صلاحياته المتعلقة بصنع السياسات، مشيراً إلى أنه "ليس من حق أي جهة في تونس أن تتصرف خلاف السياسة التي يحددها رئيس الجمهورية". ويأتي هذا التصريح بعد قرار سعيّد بإقالة وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة، على ما يبدو بعد أن أجرت مقابلة صحفية أكدت فيها تقدم نظام دعم جديد يتماشى مع توصيات صندوق النقد الدولي. وفي السياق نفسه، وبعد إعلان حالة الطوارئ بفترة وجيزة، أمر سعيّد بإجراء مراجعة كاملة لقروض وديون البلاد، مشيراً إلى سوء الإدارة والفساد في هذا الصدد، لكنه لم يذكر أبداً أي مساع محتملة لإلغاء الديون لعدة أشهر. وفي العديد من المناسبات، أعرب سعيّد عن رفضه لأي "إملاءات خارجية"، بما في ذلك من قبل صندوق النقد الدولي، وعن رغبته في التعامل مع الوضع داخلياً، مما يعارض ويشكك في مفاوضات حكومته التقنية مع الصندوق. وفي وقت سابق من شهر حزيران/يونيو، أشار سعيّد علناً إلى مسألة الدعم المالي، مقترحاً فرض الضرائب على الأشخاص الذين يستفيدون بغير حق من مثل هذه التدابير الاجتماعية ، في إطار ما يبدو أنه مقدمة لاقتراح جديد واستجابة "أكثر عدالة" لصندوق النقد الدولي.
الخطابات والنشاط الرئاسي
بين أيلول/سبتمبر 2022 وأيار/مايو 2023، التقى الرئيس سعيّد مع أعضاء الحكومة 136 مرة. إذا استثنينا الاجتماعات مع رئيسة الحكومة بسبب طبيعة منصبها والعدد اللامحدود من القضايا التي دعيت إلى "مناقشتها" ، فإن الاجتماعات الرسمية مع وزارة الشؤون الاجتماعية تمثل فقط 6% من مجمل الاجتماعات الوزارية حسب القطاع مقارنة بالاجتماعات مع وزارة الداخلية ووزارة العدل ووزارة الخارجية، والتي تمثل على التوالي 34% و26% و12% من الاجتماعات الوزارية حسب القطاع. وتمثل الاجتماعات مع الوزارات التي ترتبط مهمتها مباشرة بالمسائل الاجتماعية 24% من المجموع الإجمالي، مع ملاحظة أن سعيّد لم يدع وزارة الأسرة والمرأة والأطفال وكبار السن في أي مناسبة خلال الفترة التي شملها التحقيق.
تُعد وزارة الشؤون الاجتماعية هي الهيئة الرئيسية المسؤولة عن الحماية الاجتماعية في تونس. بيد أن العدد المحدود من الاجتماعات مع وزارة الشؤون الاجتماعية لا يعني غياب القضية الاجتماعية من "تفاعلات" سعيّد مع فريقه التنفيذي، خاصةً عند استقباله لرئيسة الحكومة. بشكل عام، القضية حاضرة من خلال مجموعتين من العناصر، هما: 1- مجال خطابي يدور في الغالب حول شعارات تتعلق "بالدور الاجتماعي للدولة" و"حل الوضع الاقتصادي والاجتماعي" و"العدالة الاجتماعية"، 2- والتركيز الشديد على مكونات مشروع سعيّد السياسي مثل مشروع الصلح الجزائي ، و"الحرب" ضد الفساد والاحتكار، وبرنامج الشركات الأهلية المثير للجدل. ومع ذلك، فإن إلقاء نظرة فاحصة على التسجيلات المتاحة للاجتماعات مع وزارة الشؤون الاجتماعية، ومع مراعاة التركيز على مضمون تلك الاجتماعات، يظهر مزيد من التفصيل في النقاش بعيداً عن تواترها وبالنظر إلى محتوى تلك الاجتماعات، التي غالباً ما يتم اغتنامها كفرصة منفردة لسعيّد لإرسال رسائل إلى الجميع عدا الشخص الذي يجري معه الحوار مباشرة. على سبيل المثال، في اجتماع مباشر عُقد في 3 آذار/مارس 2023 مع وزارة الشؤون الاجتماعية ، بدأ سعيّد بوصف القضية الاقتصادية والاجتماعية بأنها "جوهرية" وربطها مباشرة بالمساءلة ووعده "الشعب" باستعادة العدالة. من بين سبع دقائق من الحوار الفردي، كانت ست دقائق مخصصة للتطرق إلى نقطة توتر سياسي حديثة مع الاتحاد العام التونسي للشغل ، مع وجود مواد أرشيفية "لتذكير" القيادة الحالية للاتحاد بالمهمة "الاجتماعية الحصرية" للمؤسسة. منذ بداية عام 2023، وعلى مدى خمسة أشهر، هذه هي المرة الوحيدة التي عقد فيها سعيّد اجتماع مع وزارة الشؤون الاجتماعية وحدها، والمرة الثانية كانت بحضور رئيسة الحكومة ووزير الداخلية بشأن التأخيرات في توزيع وحدات الإسكان الاجتماعي.
عند تحليل قلة هذه الاجتماعات في إطار نشاط وزارة الشؤون الاجتماعية، كما هو واضح من العدد ومضمون المراسيم والقرارات الوزارية التي تم استعراضها في القسم السابق، فضلاً عن المقارنة بعدد الاجتماعات مع قطاعات أخرى، فإن ذلك يؤكد توجهاً وهو أن: ما لا يزال يمثل أهمية وأولوية قصوى بالنسبة للرئيس، بعد أشهر من نجاحه في فرض دستور جديد، هو الأمن والقضاء والشؤون الخارجية ، وجميعها تخدم تنفيذ مشروعه.
واصل سعيّد أيضاً القيام بزيارات ميدانية منتظمة ذات طابع اجتماعي والتي بلغت 16 زيارة طوال الفترة التي تم التحقيق فيها، معظمها في العاصمة والمناطق المحيطة بها، وسط هتافات من الحشود التي عبرت عن دعمها أو أعربت عن المظالم الاجتماعية والاقتصادية خلال لقاء قصير مع الرئيس. ولهذه الزيارات دوران: إعادة التأكيد على شرعية وشعبية سعيّد، بغض النظر عن معدلات مشاركة الناخبين في مراحل مشروعه ، والحفاظ على صورة "إمام المحتاجين"، والإيثار والقرب من شعبه، مُنكراً ذاته من أجلهم، ومشاركاً في صراعاتهم وتضحياتهم. خلال زيارة ميدانية إلى سوق محلي في حي شعبي في تونس في شباط/فبراير الماضي، ألقى رجل كلمة على الرئيس قائلاً: "نحن صبورون لأنك طلبت من أن نتحلى بالصبر، وما زلنا ننتظر"، وأجاب سعيّد قائلاً: "أنا أعلم ماذا يعني أن يكون لديك أطفال وتكون مرهقاً". يعكس مثل هذا التفاعل الأفكار التي شاركها الباحثون الميدانيون الذين شاركوا في الدراسة حول نقاط الضعف غير المرئية التي تمت مناقشتها أعلاه: "الشعب" أعطى سعيّد تفويضاً مطلقاً وسلطة تامة، فقط في حالة تحقيق نتائج، والوقت يكاد أن ينفد. يُثير ذلك التساؤل عما إذا كان سعيّد يدرك تماماً التغييرات الاجتماعية والسياسية التي تجري في الوقت الراهن، والأهم من ذلك، تفكك شبكات الأمان والتماسك الاجتماعي كما لاحظ علماء الاجتماع منذ الجائحة.
منذ انتخابات 2019 والأشهر الأولى من الجائحة، وعلى مدى ثلاث سنوات، لا تزال تونس تشهد استمرار الدينامية الخبيثة نفسها التي ميزت حقبة ما بعد الثورة: وهي أن الأجندات السياسية تطغى وتلقي بظلالها على مدى خطورة الوضع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد، وتبني الدولة في خضوع لتلك الأجندات على حساب القضايا الاجتماعية. والمنطق نفسه ما زال يُقدم "للشعب": تحقيق الاستقرار السياسي، على النحو الذي تحدده النخبة الحاكمة، يأتي قبل معالجة المسائل الاقتصادية والاجتماعية. في إطار هذه الدراسة، يبدو أن القضية الاجتماعية حاضرة إلى حد ما في جدول أعمال سعيّد، ولكنها خالية من معانيها، وتتقلص بفعل الفجوة بين الخطاب والممارسة، وغياب الرؤية، وكلها مقرونة بعجز الدولة. فضلاً عن أن عدم استقرار حكم سعيّد واستبعاد الجهات الفاعلة المدنية والاجتماعية يزيد من تعزيز هذه الفجوة. بيد أن الاهتمام بالقضية الاجتماعية، كخطاب، لا يزال ذا أهمية كبيرة بالنسبة لسعيّد بوصفها وسيلة سياسية متجذرة في صميم خطاب مشروعه للتخفيف من معاناة الناس، والانقطاع عن النخب السابقة، وتقرير المصير، والسيادة، والعدالة - وهو مشروع يعبر إلى حد كبير عن استياء حقيقي يشاركه فيه التونسيون. هؤلاء الأشخاص "الشرفاء"، و"الوطنيين"، والفقراء يشكلون حزام الأمان لسعيّد، حتى إشعار آخر.
بشكل عام، تبدو الجهود التي تم تلخيصها في هذه الدراسة سعياً إلى إيجاد أدلة لتحديد مكانة الحماية الاجتماعية في المشروع السياسي الجاري في تونس بلا جدوى، ومناقشة إصلاحات الحماية الاجتماعية تبدو واهية وسابقة لأوانها في ظل الظروف الراهنة؛ وكذلك استكشاف كيف تنعكس المبادرات الدولية والمحلية في هذا الصدد في تونس في ظل حكم سعيّد. بيد أنه من الضروري الإشارة إلى أن مبدأ الحماية الاجتماعية الشاملة، وهو أجندة دولية تشغل معظم مجالات صنع السياسات العامة على الصعيد العالمي، لا سيما منذ الجائحة، ينعكس في الفصل المتعلق بالمسائل الاجتماعية في مبادرة الحوار الوطني التي يقودها الاتحاد العام التونسي للشغل إلى جانب ثلاث منظمات شريكة. وفقاً لممثل لإحدى المنظمات الأعضاء، فإن مسودة المبادرة تضع الأسس السياسية لكل الفصول من خلال اقتراح مناقشة "عقد جمهوري". وأوضح الممثل بإيجاز هذه النقطة قائلاً إنه "لا يوجد في تونس اليوم عقد اجتماعي وهو السبيل الوحيد للمضي قدماً ونحن بحاجة إلى استئناف عملية التفاوض هذه بالذات. ولكن نظراً إلى أن مصطلح 'عقد اجتماعي' غالباً ما كان مرتبطاً في السنوات السابقة بالمسائل الاجتماعية بشكل شبه حصري، فإن فهمه لا يزال قديماً في تونس، على الأقل في مجالات النقاش العامة. اللجوء إلى فكرة عقد أو اتفاق 'جمهوري' هو ببساطة وسيلة لاستيعاب الجانب السياسي والتغلب على انفصال الجانب الاجتماعي عن الجانب السياسي، ويعكس رؤية شاملة تتناول الجميع." تحليل تبني المبادرة وتكييف مبدأ الحماية الاجتماعية الشاملة مع السياق التونسي من منظور الاتحاد وفي إطار نظرته إلى "العقد الجمهوري"، يبدو وكأنه موضوع بحث مثير للاهتمام، ولكن نظراً إلى التوترات السياسية الداخلية التي تعيق الطريق أمام أي حوار، يبدو أن المبادرة لا تعدو كونها حبر على ورق.
خاتمة
تؤثر سياسة الحماية الاجتماعية الفاشلة تأثيراً كبيراً على التماسك الاجتماعي على المدى الطويل. ومع ذلك، هناك خطورة أكبر في الوهم الناجم عن ذلك، سواء بشكل خطابي أم غير ذلك، من خلال الشعور الزائف بالأمن الذي يقيد العمل الجماعي. وفي مثل هذه الحالات، لا تبرر قيود النظام القائم من خلال النقص الهيكلي في ذلك النظام ذاته بل بنقل المسؤولية إلى المواطنين، أو المخاطر العالمية، أو إلى فاعل غير معروف من الخارج. إن الحفاظ على مثل هذا الوهم أمر بالغ الأهمية بالنسبة للنخب الحاكمة كي تتهرب أكثر من المساءلة أو تخفي عجز الدولة الهيكلي عن تقديم الخدمات العامة/الاجتماعية ومنع الانهيار المؤسسي. والأهم من ذلك، فإن هذا النهج يعرقل العمل الجماعي الذي يدعو إلى المضي قدماً ضد الركود. في حالة تونس، تتسع "الهوامش"، والضعف يأخذ أشكالاً جديدة، في حين يدور المشروع السياسي الحالي حول وعود لم يتم الوفاء بها بتوفير الإعالة والحماية وشعور زائف بالمشاركة السياسية الخاضعة للسيطرة الشديدة. بيد أن التفاوض (أو إعادة التفاوض) على عقد اجتماعي في تونس لم يعد بإمكانه تجاهل الهوامش أو التزام الدولة بتوفير الإعالة والحماية والمشاركة السياسية دون تنازلات. والفشل في القيام بذلك يعادل التآكل البطيء لشرعية الدولة.
مشروع سعيّد السياسي لا يهتم بإبرام عقد اجتماعي جديد أو باستعادة العملية الاجتماعية والسياسية التي تفضي إلى تحقيق هذا الهدف. إنه مشروع من القمة إلى القاعدة، وغير تشاركي، ومنعزل، ولم يحظى بالتخطيط، إذ لا يزال يتعين إثبات النأي الحقيقي عن ممارسات الدولة السابقة (خصوصاً فيما يتعلق بالاستجابة الأمنية لجميع القضايا) والسياسات الاجتماعية والاقتصادية. على الرغم من وضوح مثل هذا الأمر، حاولت هذه الدراسة بجدية البحث عن دلائل على رؤية اجتماعية شاملة وراء مشروعات الرئيس من برنامج الصلح الجزائي وبرنامج الشركات الأهلية، فضلاً عن عدم استقرار مشروعه للجهات الفاعلة الاجتماعية، لاستنتاج (أو التحقق) أنه لا توجد رؤية على الإطلاق. العلاقة بين القيادة السياسية الحالية والمجتمع هي في أحسن الأحوال لحظة هدنة للانفصال السياسي الذي جسده سعيّد في لحظة حرجة. في غضون ذلك، تظل العدالة الاجتماعية مجرد شعار.
ورغم ذلك، ثمة فائدتان تود هذه الدراسة التأكيد عليهما. أولاً، على الرغم من التهميش المتزايد للجهات الفاعلة المدنية والاجتماعية واستبعادها من عمليات صنع القرار في عهد سعيّد، فإن الواجب الرئيسي لمنظمات المجتمع المدني اليوم هو الحفاظ على مجالات الحوار على مستوى القاعدة الشعبية ضمن الهوامش المتبقية من العمل. وهذا من شأنه أن يمهد الطريق لما هو قادم، في جميع السيناريوهات المحتملة، بما في ذلك من خلال البحوث الميدانية لتتبع الطفرات الاجتماعية وضمان إنتاج المعرفة المتأصلة في السياق والمستندة إلى الأدلة ليس فقط من أجل وضع السياسات المستنيرة، كلما كان ذلك ممكناً، بل وأيضاً للتفاوض على النحو اللائق مع الهيئات المدنية على الصعيدين المحلي والدولي. فضلاً عن أن الوقت قد حان لكي تراجع منظمات المجتمع المدني المحلية أدواتها وتعيد النظر في علاقتها مع الهوامش وكذلك مع الجهات الفاعلة الدولية والجهات المانحة. ويتسم الاستثمار في مساحات التوتر بالقدر نفسه من الأهمية مع التركيز على الديناميات داخل الحركات الشعبية الناشئة وفيما بينها وعلى مجالات صنع السياسات العالمية. إن تقلص المساحة المدنية اليوم ليس ظاهرة تونسية حصرية، بل هو بالأحرى دليل على ملاحظة أعمق ومشتركة في جميع أنحاء المنطقة وخارجها، وهي ظاهرة معدية بوضوح. تكمن الكثير من الإجابات على النضال الحالي للمجتمع المدني في هذا السياق، والاستباق هو الحل.
ثانياً، وبناءً على القضية الاجتماعية بوصفها حجر الزاوية لمثل هذه الجهود، فإن ما يجب أن يوجه العمل المستقبلي هو أيضاً تحول ضروري في نموذج الحماية الاجتماعية نحو نهج قائم على العدالة يرفض الخطاب السائد حول "المساعدات في أوقات الأزمات"، ويضمن تحصين سياسات الحماية الاجتماعية من عدم الاستقرار السياسي والاستغلال. إن النهج القائم على العدالة يأخذ النهج القائم على الحقوق خطوة إلى الأمام ويسمح بالنظر في الأسباب الجذرية للضعف من أجل حلها تدريجياً بما يتجاوز مجرد منطق التخفيف والقدرة على مواجهة الصدمات. فضلاً عن أنه يقدم مساحة لدمج الوسائل الوثيقة للتنظيم الاجتماعي السياسي للجماعة وللحد بالمثل من أوجه عدم المساواة المتأصلة في الثقافة داخل المجموعة. ومن شأن إهمال أو جعل الفئات الضعيفة ودينامياتها غير مرئية أن يشكل تهديداً دائماً لأي عملية سياسية. فضلاً عن أن نزع الطابع السياسي عن الاستجابات حول الضعف تجسد بالقدر نفسه هذا الضعف أو هشاشة النظام السياسي. وكذلك الحال بالنسبة للاستغلال السياسي للمعاناة الجماعية، سواء من قبل النخب الحاكمة أم الجهات الفاعلة المدنية، مهما كانت نواياها حسنة.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.