مقدمة
بالنسبة لمُنية ، فإن من المعتاد الآن إنفاق ثلث راتبها الشهري على التنقل من منزلها في الضواحي الغربية للمدينة إلى عملها في وسط العاصمة تونس باستخدام سيارة أجرة. وترى أنها مضطرة إلى إنفاق هذا المبلغ لأن التنقل باستخدام المواصلات العامة يتطلب التغيير بين عدة وسائل نقل والانتظار لفترات قد تتجاوز الساعتين وهو ما سيتسبب في تأخرها باستمرار عن العمل. يعاني كثير من التونسيين مثلها بصورة يومية بسبب تنقلاتهم الأساسية ويحاولون التوصل إلى حلول بديلة مختلفة. وفي هذه الحالة، ربما لم يعد التنقل ضرباً من الحرية المكفولة لكل مواطن مثلما ينص الفصل 24 من الدستور التونسي، وإنما ضرورة تتطلب تضحيات هائلة. إذ يعتبر قطاع النقل واحداً من الميادين المتعددة التي لا يزال يأمل التونسيون أن تتحقق مطالبهم الثورية بالعدالة والحرية والكرامة فيها.
اُستخدم منظور العدالة بشكل كثيف خلال الدراسات الأخيرة التي تهدف إلى بحث مدى إمكانية أو استحالة التنقل بالنسبة لبعض الشرائح المجتمعية المختلفة. فمن خلال التعمق في مصطلح "عدالة التنقل"، تقدم ميمي شيلر إطاراً شاملاً للغاية لدراسة كافة أشكال التنقل أو عدم القدرة على التنقل على نحوٍ متكامل. ووفقاً لِشيلر، فإن "أنظمة النقل… هي من تتحكم في من وماذا يمكن أن يتحرك (أو يظل في مكانه)، ومتى يمكن أن يحدث ذلك وأين وكيف وتبعاً لأيّ شروط". وهو ما يعني أن اهتمام أنظمة النقل لا يقتصر فقط على كيفية تنقل الأشخاص (أو عدم تنقلهم) من مكان لآخر، وإنما أيضاً على حركة (أو جمود) الأشياء والأفكار والنقاشات والأحاديث وكافة أشكال الاتصال. في مجال السياسات العامة، يمثل النقل مجال رئيسي من مجالات الممارسة الذي يمكن أن ترتكز السياسات المقترحة فيه على عدة مناهج فلسفية مختلفة عن العدالة. على سبيل المثال، بينما يطالب فهم أنصار نظرية جون رولز لمصطلح العدالة بتغيير حالة عدم المساواة في الوصول إلى وسائل النقل بطريقة تعود بالنفع على الفئات الأسوأ حالاً في المجتمع، يحاول الباحثون في نظرية "النفعية" النظر إلى عدالة النقل باعتبارها وسيلة لتحقيق أقصى منفعة كلية لأقصى عدد من المواطنين.
إذن، كيف تؤدي أنظمة النقل عملها اليوم في تونس وكيف تتجاوب مع المطالب الثورية بالعدالة والحرية والكرامة؟ للإجابة على هذا السؤال، تركز هذه الورقة على وسائل النقل في العاصمة تونس والمنطقة المحيطة بها، أو ما يعرف بِتونس الكبرى. يتألف هذا الإقليم من أربع ولايات هي: تونس ومنوبة وبن عروس وأريانة. ويشكل أكبر تكتل في البلاد حيث يضم 48 معتمدية ويزيد عدد سكانه عن 2.8 مليون نسمة. وباعتباره المركز الإداري والتجاري للبلاد، فإن الولايات الأربع التي يضمها الإقليم تعتبر من أكثر الولايات تطوراً في البلاد ، يبدو هذا واضحاً أيضاً في البنية التحتية وإمكانيات التنقل الأفضل حالاً من باقي الولايات. يحتضن الإقليم أكبر مطار في البلاد ويوجد به 45% من أسطول السيارات وشبكة الترام الوحيدة في تونس. وهو أيضاً واحداً من أكثر المراكز الحضرية اتصالاً بخطوط السكك الحديدية. مع ذلك، لا تزال أوجه عدم المساواة موجودة داخل إقليم تونس الكبرى. على سبيل المثال، تمتلك ولاية منوبة شبه الحضرية معدلات تنمية إقليمية أقل من سائر الولايات الأخرى. تظهر أوجه عدم المساواة أيضاً في الفرق الكبير بين معدلات الفقر في مختلف معتمديات الإقليم. وعلى الرغم من أن الإقليم يعتبر منطقة متميزة ومحظوظة فيما يتعلق بالتنمية التي تتمتع بها، فإن هذا الامتياز يعد أمراً نسبياً للغاية عند النظر إلى الفوارق الداخلية. بعبارة أخرى، فإنه حتى عند إجراء تحليل على المستوى الحضري لإقليم تونس الكبرى يمكن أن نرى بوضوحٍ مدى حدة التفاوتات التي تتعلق بأنظمة النقل.
ما هو ثمن حرية التنقل؟
يشكل النقل مصدراً كبيراً للقلق لدى ملايين التونسيين مع ارتفاع التكاليف المرتبطة به للغاية على مدار العقود الماضية. اعتباراً من عام 2015، بلغ متوسط إنفاق الأسرة على النقل 360 ديناراً سنوياً وهو ما يمثل 9.3% من النفقات الإجمالية للأسرة، وزيادة عن نسبة عام 1990 التي بلغت 7.7% (أيّ 55 ديناراً) (شكل 1). يمكن أن يُعزى هذا الارتفاع في تكاليف النقل جزئياً إلى زيادة الاعتماد على وسائل النقل الفردية. ففي حين مثلت المواصلات العامة 68% من وسائل النقل المستخدمة في إقليم تونس الكبرى في عام 1977، أخذت النسبة تتراجع تدريجياً لتصل إلى 28% في عام 2011 (شكل 2) إذ شكلت وسائل النقل الفردية ما يقرب من ثلثي إجمالي وسائل النقل المستخدمة في المناطق الحضرية الكبيرة (تونس وصفاقس وسوسة) . وعلى ما يبدو فإن هذا التحول قد حدث بسبب السياسات الحكومية التي تعطي امتيازات لحيازة السيارات الخاصة على حساب وسائل النقل العامة على مدار العقود الماضية. في الفترة بين عامي 2010 و2016، أُنفقت 0.52% من الميزانية العامة (أيّ 492.5 مليون ديناراً تونسياً) على المواصلات العامة في المجمل، مقابل 1.07% (1021.6 مليون ديناراً تونسياً) على وسائل النقل الفردية المختلفة (شكل 3). يتمثل أحد الدلائل البارزة على دعم الدولة لحيازة السيارات الخاصة في التخفيضات الضريبية على "voiture populaire" أو (السيارات الشعبية) في عهد بن علي، والتي لا تزال مفروضة على أبناء الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة الذين يرغبون في شراء سيارات بسعر منخفض.
لكن الاعتماد المبالغ فيه على السيارات الخاصة يأتي بتكاليف كبيرة للغاية ويؤدي إلى ترسيخ أنظمة النقل الجائرة. ومع مستويات التضخم العالية للدينار وانخفاض قيمته، ارتفعت أسعار السيارات من عام 2003 إلى 2015 بنسبة بلغت حوالي 63% وفقاً للناطق الرسمي باسم الغرفة الوطنية لوكلاء بيع وتصنيع السيارات. ووفقاً للمصدر نفسه، تُمثل الضرائب نسبة كبيرة من سعر بيع السيارات في تونس، تبلغ حوالي 40%. وبصرف النظر عن التكاليف المالية، طبقت الحكومة أيضاً نظام حصص يحد من عدد السيارات الواردة إلى داخل البلاد، على الرغم من المطالبات المستمرة من موردي السيارات الرئيسيين بتحرير السوق. من المهم أيضاً الإشارة إلى أن الزيادة في مبيعات السيارات تعود بالنفع عادةً على العشرات من وكلاء بيع السيارات الرسميين (أصحاب الامتيازات) الذين سيطروا على 90% من السوق في 2019 (مع سيطرة الأربع شركات الرئيسية على 46.6% من السوق) ومعظم هذه الشركات مملوكة لِمجموعات اقتصادية رئيسية ذات طابع عائلي.
تعد البيئة وسبل الرزق في المناطق الحضرية من الميادين الأخرى التي تكبدت تكاليف باهظة بسبب الزيادة في استخدام السيارات الخاصة. يشكل قطاع النقل 12% من الانبعاثات الكلية لثاني أكسيد الكربون في تونس و32% من إجمالي الاستهلاك الوطني للطاقة . وبحسب إحدى الدراسات، فإن 3% من إجمالي الوفيات تحدث مباشرة بسبب الانبعاثات الناتجة عن حركة السيارات على الطرق. بالإضافة لذلك، فإن عدد السيارات المتزايد يعني زيادة ازدحام الطرق بصورة كبيرة لا سيما تلك المحيطة بالمراكز الحضرية مثل مدينة تونس، ويعني أيضاً زيادة الحوادث، إذ تحتل تونس المرتبة الثانية بين دول شمال أفريقيا فيما يتعلق بعدد حوادث السير المميتة للفرد. ووفقاً للسلطات الرسمية، فإن التكاليف المترتبة على الاختناقات المرورية تشكل 2% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين تشكل حوادث السير 1.5%، بينما تبلغ حصة انبعاثات الغازات الدفيئة أو التلوث من 2 إلى 10%.
يواصل التونسيون الاعتماد على السيارات على الرغم من آثارها السلبية على جبهات متعددة. يوضح الشكل 4 أنه على الرغم من الانخفاض في فترة ما بعد الثورة، فقد تذبذبت أرقام التسجيل الأولى السنوية منذ الثورة، ربما بسبب الزيادات والانخفاضات في حصص الاستيراد. ومع ذلك، ارتفع العدد الإجمالي للمركبات المتداولة في تونس بشكل كبير، ويقدر الآن بحوالي 2.3 مليون مركبة . علاوة على ذلك، ارتفع عدد المركبات لكل 1000 ساكن بنسبة 36٪ في الفترة 2010-2018، ليصل إلى 191 مركبة (الشكل 5)، وهذا الرقم لا يزال أعلى بكثير من دول المغرب العربي الأخرى مثل الجزائر (153) أو المغرب (111). في الوقت نفسه، تملك 27٪ فقط من الأسر في تونس سيارة، مما يشير إلى أن وسيلة النقل هذه لا تزال متاحة فقط للأثرياء. بمعنى آخر، تمثل ملكية السيارة نظام تنقل غير عادل حيث يتطلب التنقل الأفضل نسبياً تكاليف اقتصادية عالية من المالكين، كما أن له تكاليف ضخمة على المدى الطويل على المستقبل ونوعية الحياة لجميع السكان. وعليه فإن السياسة التي تهدف إلى تعزيز ملكية السيارات الخاصة من المرجح أن تفيد عشرات من أصحاب توكيلات السيارات وتوسّع بشكل معتدل من حصة الأسر التي تمتلك السيارات مع تكبد جميع السكان تكاليف أعلى.
السعي لتحقيق العدالة والكرامة في وسائل النقل العام
يمكن القول إن السبب الرئيسي وراء الاعتماد المفرط على النقل الفردي هو إخفاقات نظام النقل العام في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك تونس الكبرى. هناك العديد من موفري خدمات وسائل النقل العام في تونس الكبرى؛ تتحكم شركة النقل المملوكة للدولة ترانستو |Transtu في 80% من جميع وسائل النقل العام في المناطق الحضرية؛ كما تدير نظام الترام المكون من ستة خطوط (يشير إليه السكان المحليون باسم المترو)، وخط قطار الضواحي الشمالي المسمى TGM، و232 خطاً لحافلات المدينة. علاوة على ذلك، تدير الشركة الوطنية للسكك الحديدية التونسية (SNCFT) خط قطار ثانٍ في الضواحي يربط الضواحي الجنوبية بوسط مدينة تونس. بالإضافة إلى حافلات ترانستو، فهناك أربع شركات حافلات خاصة هي: TUS، وTUT، وSTC، وTCV وهي أيضاً توفر خدمات النقل العام في منطقة تونس الكبرى، لكن على مستوى أصغر. أخيراً، نمت أشكال النقل غير المنظمة بشكل كبير حيث ارتفع عدد "سيارات الأجرة الجماعية" المسجلة وسيارات الأجرة الفردية من 65 و10814 في عام 2006 إلى 1026 و16307 في عام 2017، على الترتيب (الشكلان 6.1 و6.2).
تعاني المواصلات العامة في المدن من عدة مشاكل تؤثر على تنقل آلاف التونسيين. المجموعة الأولى من المشاكل هي مشاكل هيكلية؛ فمنذ تصميمه وبنائه، يسمح نظام النقل بأنواع معينة من التنقل لمجموعات معينة من الأشخاص بينما يستبعد آخرين. يعمل خط قطار الضواحي "تونس - حلق الوادي - مرسى" (TGM) منذ 1872، وهو أول خط سكة حديد في تونس، ويعد نموذجاً تاريخياً يكشف عن الغرض من أنظمة التنقل. منذ أن خططه نظام "بايليك" التابع للدولة العثمانية، وقعت منافسة شرسة بين المصالح الاستعمارية الأوروبية في البلاد من أجل الحصول على حقوق بنائه واستثماره. علاوة على ذلك، لم يربط الخط -منذ بداية تصميمه- الأحياء السكنية التاريخية في تونس بعضها ببعض، بل ربط الأماكن التي كانت تفضلها طبقة البكوات (الأمراء العثمانيين) ويترددون عليها، والتي تمثلت في المرسى والقنصليات الأوروبية على طول الخط المؤدي إلى منطقة حلق الوادي، وهي موطن معظم المهاجرين الأوروبيين غير المسلمين، وميناء يربط تونس بأوروبا.
نمت تونس بسرعة على مدار الخمسين عاماً الماضية مع إنشاء ضواحي جديدة حول المدينة، لكن يبدو أن مشاريع النقل العام فشلت في مواكبة هذا النمو السريع. حتى يومنا هذا، تواصل شبكات السكك الحديدية في تونس ربط أحياء الطبقة العليا بوسط المدينة بينما يستفيد عدد قليل جداً من أحياء الطبقة الدنيا من هذه الخدمة العامة. يوضح الشكل 7.1 عدد محطات السكك الحديدية لأي من خدمات النقل العام القائمة على السكك الحديدية في تونس الكبرى (TGM، و6 خطوط ترام، وقطار الضواحي التابع للشركة الوطنية للسكك الحديدية التونسية SNCFT) جنباً إلى جنب مع معدل الفقر للمعتمديات الـ 48 في تونس الكبرى. إن تراكم أنظمة السكك الحديدية في المناطق الأكثر ثراءً أمر لافت للنظر. في أفقر المناطق، هناك ثلاث محطات فقط للسكك الحديدية في معتمديتين. بينما تتميز أحياء الطبقة المتوسطة والعليا بمستوى عالٍ من إمكانية الوصول إلى شبكة السكك الحديدية. كما أن خدمة السكك الحديدية سيئة في بعض المناطق السكنية الخاصة بالطبقة المتوسطة العليا مثل المنزه أو أريانا فيل أو سكرة. في هذه المناطق، غالباً ما يعتمد السكان على السيارات الخاصة للتنقل، وهو خيار نادراً ما يكون متاحاً لمعظم التونسيين. وبالتالي، يعتمد 70٪ من مستخدمي وسائل النقل العام في تونس الكبرى على الحافلات العامة لتحركاتهم اليومية، لكن الوصول إلى الحافلات والسفر بالحافلة ليس بالأمر السهل دائماً.
الشكل 7.1: محطات السكك الحديدية ومعدل الفقر حسب المعتمدية
|
محافظة |
المعتمدية |
عدد محطات السكك الحديدية |
معدل الفقر |
الثلث الأفقر |
منوبة |
طبربة |
0 |
15.2% |
منوبة |
البطان |
0 |
14.5% |
اريانة |
قلعة الأندلس |
0 |
12.5% |
اريانة |
التضامن |
2 |
12.4% |
منوبة |
برج العامري |
0 |
12.1% |
منوبة |
جديدة |
0 |
11.9% |
تونس |
سيجومي |
0 |
11.5% |
بن عروس |
مرناق |
0 |
11.2% |
منوبة |
دوار هيشر |
0 |
10.8% |
تونس |
جبل جلود |
1 |
9.5% |
تونس |
سيدي حسين |
0 |
9.4% |
اريانة |
سيدي ثابت |
0 |
9.1% |
اريانة |
منيهلة |
0 |
8.8% |
منوبة |
وادي الليل |
0 |
8.2% |
منوبة |
المرناقية |
0 |
7.8% |
بن عروس |
فوشانة |
0 |
7.3% |
الثلث المتوسط |
بن عروس |
المهدية |
0 |
7.1% |
اريانة |
رواد |
0 |
6.9% |
تونس |
مدينة |
0 |
6.6% |
بن عروس |
حمام الأنف |
3 |
6.4% |
تونس |
العمران |
6 |
6.3% |
تونس |
الحريرية |
0 |
6.1% |
تونس |
الكبارية |
10 |
5.3% |
بن عروس |
المدينة الجديدة |
0 |
5.2% |
بن عروس |
بن عروس |
2 |
5.0% |
بن عروس |
حمام الشط |
4 |
5.0% |
اريانة |
سكرة |
0 |
4.8% |
تونس |
باب سويقة |
4 |
4.5% |
بن عروس |
رادس |
3 |
4.3% |
تونس |
سيدي البشير |
3 |
4.2% |
بن عروس |
بومهل البساتين |
0 |
4.1% |
تونس |
الزهور |
0 |
4.0% |
الثلث الأغنى |
تونس |
الوردية |
2 |
3.9% |
منوبة |
منوبة |
10 |
3.8% |
بن عروس |
مقرين |
2 |
3.6% |
تونس |
العمران الأعلى |
6 |
3.5% |
بن عروس |
المروج |
6 |
3.2% |
تونس |
الكرم |
2 |
3.0% |
بن عروس |
الزهراء |
2 |
2.6% |
تونس |
المرسى |
2 |
2.2% |
تونس |
التحرير |
8 |
2.0% |
تونس |
باردو |
1 |
1.8% |
تونس |
قرطاج |
8 |
1.6% |
تونس |
باب بحر |
9 |
1.6% |
تونس |
الخضراء |
4 |
1.4% |
اريانة |
اريانة |
2 |
1.3% |
تونس |
لا غوليت |
5 |
1.1% |
تونس |
المنزة |
1 |
0.2% |
الشكل 7.2 : إحصاءات السكك الحديدية حسب معدل الفقر
|
معدل الفقر |
متوسط عدد محطات السكك الحديدية |
إجمالي عدد محطات السكك الحديدية |
الثلث الأفقر
(16 معتمدية) |
7.3-15.2% |
0.1875 |
3 |
الثلث المتوسط
(16 معتمدية) |
4.0%-7.1% |
2.1875 |
35 |
الثلث الأغنى
(16 معتمدية) |
0.2%-3.9% |
4.375 |
70 |
كما تعاني وسائل النقل العام في تونس الكبرى من مشاكل إدارية. ففي نهاية عام 2018، كانت ترانستو غارقة في ديون تزيد عن 800 مليون دينار تونسي، لا سيما بسبب ارتفاع تكاليف رواتب الموظفين مع موجة من التعيينات التي تلت الثورة. ومع ذلك، فإن المدى الذي تغطيه بالكيلومتر قد تضاءل إلى حوالي 23٪ في الفترة 2010-2018. وتظهر مشاكل الإدارة أيضاً في عدم كفاءة وسائل النقل القائمة وعدم كفايتها؛ ففيما يتعلق بشبكة الترام، من السهل ملاحظة أن معظم العربات قديمة وبطيئة، ولا يعلن عن مواعيد وصولها إلى المحطات ولا يتم دائماً احترام الرحلات الدورية المحددة على موقع ترانستو الإلكتروني. ومؤخراً ظهر تطبيق وصلني|Wassalni للهاتف المحمول يوضح أوقات الانتظار ومسارات رحلات الترام وخط قطار الضواحي الشمالي وبعض خطوط الحافلات، ولكن تقييمه الحالي من المستخدمين على منصة التطبيق Play Store هو درجة 2.2/5، إلى جانب العديد من المراجعات السلبية التي تشير إلى عدم دقته ومشاكله الفنية. إن عدم موثوقية المعلومات يعني أن الركاب في كثير من الأحيان لا يستطيعون التنبؤ بأوقات انتظارهم لركوب الترام ويمكن أن يقضوا ساعات في التنقل. على سبيل المثال، يؤكد 34٪ من الطلاب الذين شملهم الاستطلاع في جامعة منوبة أنهم يقضون أكثر من ثلاث ساعات في التنقل يومياً على الرغم من وجود خط ترام يخدم حرمهم الجامعي.
يمكن تسجيل ملاحظات مماثلة حول حافلات المدينة وخط قطار الضواحي الشمالي؛ فهذا الخط مثلاً يعمل بتردد 15 دقيقة وفقاً للجدول الزمني الرسمي، إلا أن بطأه جعله وسيلة نقل أقل جاذبية من مجموعة سيارات الأجرة، التي تربط أيضاً منطقة المرسى بوسط مدينة تونس. تعاني الحافلات بشكل خاص من قلة شديدة؛ حيث يمكن أن يستغرق الوقت بين رحلتين متتاليتين على الخط نفسه ما يصل إلى ثلاث ساعات مع أوقات انتظار اعتيادية مدتها ساعة واحدة. وبحسب أحد بائعي التذاكر في إحدى محطات الحافلات الرئيسية بوسط تونس العاصمة، فإن أوقات الانتظار ترجع إلى نقص السعة مع وجود مركبتين فقط تضمنان التنقل للعديد من الخطوط. في عام 2020، جرى تشغيل 650 حافلة فقط من أصل 1247 حافلة مملوكة لشركة ترانستو في تونس الكبرى، بانخفاض 33٪ عن 966 حافلة عاملة في عام 2010 (الشكل 8). وتجسد ندرة الحافلات العامة تدهور الخدمات العامة بسبب سوء الإدارة ونقص الموارد.
هذه المشاكل الهيكلية والإدارية التي يتسم بها نظام النقل العام لها آثار دائمة على تعسف التنقل في تونس الكبرى نظراً إلى أنها تحدد من يمكنه التنقل وأين. ومن المنطلق نفسه، تكشف مسألة كيفية تنقل المواطنين عن أوجه القصور في أنظمة التنقل بعد الثورة في تونس لتوفير الكرامة للتونسيين. فالسكان الذين يعيشون في الضواحي المبنية حديثاً (سواء أكانوا من الطبقة العليا أم الدنيا) منفصلون عن المدينة أكثر من أولئك الذين يعيشون في الضواحي التاريخية والطبقة العليا عادةً. فقد أصبح الانتقال من مكان إلى آخر يُمثل عبئاً أكبر على الأشخاص الذين يعيشون في الضواحي الأكثر فقراً حيث لم يُترك أمامهم سوى خيارات أقل، فضلاً عن الظروف الأكثر خطورةً والأقسى عندما يحتاجون إلى التنقل يومياً. في إحدى هذه الضواحي، دوار هيشر، لا يوجد ترام أو محطة قطار، ولا يزال معدل ملكية السيارات منخفضاً حيث يصل إلى 16% (المتوسط على المستوى الوطني 27%)، بينما ليس أمام السكان سوى ثلاثة خطوط حافلات عامة وواحدة خاصة فقط يُمكنهم التنقل بها.
يبدو أن تدهور وسائل النقل العام المنظم أدى إلى زيادة في أشكال النقل العام غير المنظم مثل سيارات الأجرة الفردية أو الجماعية. علاوة على ذلك، من الشائع أن تعمل سيارات الأجرة العادية كسيارات أجرة جماعية أو حتى المركبات الخاصة غير المسجلة لاستخدامها على هذا النحو خلال ساعات الذروة. ويعتمد سكان العديد من الضواحي الحديثة مثل دوار هيشر أو المرناقية بشكل أساسي على هذه الأشكال من وسائل النقل غير المنظمة على الرغم من ارتفاع تكاليفها المالية وطبيعتها الخطيرة. علاوة على ذلك، يشرح بعض الشباب المقيمين في دوار هيشر كيف يتعرضون لضوابط الشرطة والاستجوابات التعسفية على متن الحافلة المتجهة إلى وسط المدينة، وهي حقيقة تثني البعض عن مغادرة الحي لمدة عام.
وبالمثل، يشكل نوع الجنس عاملاً حاسماً آخر في تشكيل أوجه العدالة وكذلك التعسف في التنقل في تونس الكبرى. ووفقاً لدراسة أجريت عام 2012، فإن 4.5% فقط من النساء في تونس لديهن القدرة على التنقل في سيارة خاصة (مقابل 22.5% للرجال) مما يجعلهن يعتمدن على وسائل النقل العام أكثر من الرجال (36.1% مقابل 22.4%). بيد أن استخدام النقل العام ليس بالمهمة السهلة؛ فقد أفاد 22.4% من النساء أنهن تعرضن لشكل من أشكال العنف على متن إحدى وسائل النقل العام في السنوات الأربع الماضية. لا تتوقف الاعتداءات على حرية المرأة وكرامتها في التنقل عند هذا الحد، فهيمنة الذكور على الأماكن العامة، لا سيما في الأحياء ذات الدخل المنخفض، تعرض النساء لأنواع أخرى من المخاطر، بما في ذلك التحرش في الشوارع. إذ تفتقر وسائل النقل العام في تونس الكبرى إلى أي آليات أمنية لحماية النساء، ولا يزال تطبيق الهاتف المحمول "SafeNess' الذي تم إطلاقه حديثاً لمساعدة النساء غير معروف وغير مستخدم تقريباً.
الإجراءات العامة المعمول بها (وغير المعمول بها) ومستقبل التنقل في تونس
يمثل استمرار عدم تكافؤ وسائل التنقل تحدياً رئيسياً للعدالة الاجتماعية في تونس. ويبدو أن هناك وعياً متزايداً لدى المسؤولين الحكوميين بضرورة معالجة مسألة التنقل، ولا سيما إصلاح قطاع النقل في البلاد. يشير المنتدى الذي عقد في أيار/مايو 2022 لعرض السياسة الوطنية للتنقل الحضري ولقاء الجهات المعنية إلى أن السلطات الحكومية تدرك عجز أنظمة التنقل الحضري الحالية على العمل على النحو المنشود وعدم وجود استراتيجية متماسكة للنقل والتنقل حتى الآن. ومن النقاط الرئيسية التي تم تسليط الضوء عليها في هذه السياسة هي عدم استدامة نموذج التنقل القائم على الطرق وملكية السيارات الفردية، فضلاً عن الرغبة في اعتماد نهج متعدد النماذج، لا سيما من خلال الاستثمار بكثافة أكبر في النقل القائم على السكك الحديدية. وبالمثل، تتوقع الخطة الوطنية العامة للنقل في تونس لعام 2040 استثمارات بقيمة 67 مليار دينار تونسي (23.3 مليار دولار)، ومن المقرر إنفاق 40% منها على السكك الحديدية من خلال تنفيذ 19 مشروع. كما تخصص خطة التنمية 2015-2020 التي أعدتها وزارة النقل أكبر حصة من الأموال اللازمة، بنسبة تصل إلى 30%، للسكك الحديدية. وتشير هذه العناصر إلى أن الحل الرئيسي الذي تتصوره السلطات الحكومية لمشكلة التنقل هو التحول من الاعتماد المفرط على الطرق والسيارات الخاصة إلى النقل العام بالسكك الحديدية.
ومع ذلك، لم تُنفذ هذه الخطط بشكل جيد حتى الآن على أرض الواقع. كما أكدت العديد من الأطراف المتدخلة (العامة والخاصة) في منتدى التنقلات الحضرية، أنه على الرغم من المحاولات المتعددة من جانب الدولة لوضع سياسات نقل طويلة الأجل وخطط لإعادة الهيكلة، لم يتحقق سوى القليل على الأرض حتى الآن، ولا تزال أنظمة النقل العام مستمرة في التدهور. ولم يحرز أي تقدم واضح حتى الآن في تنفيذ الخطة الوطنية العامة للنقل في تونس. ومن بين المشاريع الرئيسية التي تدل على عدم التوافق بين الخطط والتطبيق على أرض الواقع في تونس الكبرى هي شبكة القطارات فائقة السرعة التي يبلغ طولها 85 كيلومتراً، الشبكة الحديدية السريعة (ر ف ر)، التي تتكون من خمسة خطوط تربط وسط مدينة تونس بضواحيها المتعددة. وعلى الرغم من إنشاء شركة تونس للشبكة الحديدية السريعة في عام 2007 وبدأ المشروع في عام 2010، وقد كان من المقرر الانتهاء من تنفيذ الشبكة في عام 2013، فإن المشروع لم يكتمل بعد ولا يوجد تاريخ محدد لافتتاحه. وبحسب ما قاله هيثم المدّوري، وهو مهندس وصحفي يتابع هذا الموضوع عن كثب، فإن التأخير يرجع إلى أسباب متعددة تتراوح ما بين الاضطرابات السياسية التي سببتها الثورة وسرقة المواد من مواقع البناء.
وكما هو الحال اليوم، تشكل الدعوة الثورية للتونسيين إلى العدالة والحرية والكرامة نقطة فشل فيما يتعلق بالتنقل. فقد أدت عقود من الاعتماد المفرط على السيارات الفردية والطرق إلى أزمة حادة في وسائل النقل العام في تونس الكبرى. واليوم، تجد البلاد نفسها في وضع يكون فيه حتى الأثرياء غير سعداء نظراً إلى ارتفاع التكاليف المرتبطة بقيادة السيارات. علاوة على ذلك، فإن أولئك الذين يستخدمون السيارات الخاصة يفعلون ذلك بتكلفة أعلى للظروف المعيشية للمجتمع بأسره. ومع ذلك، فإن الفقراء، سواء أكانوا من سكان الضواحي الفقيرة أم النساء، هم الأكثر معاناة من التصميم الجائر لأنظمة التنقل.
ومن ثم، فإن حل مشكلة التنقل في تونس الكبرى اليوم يتطلب معالجتها على أنها مسألة عدالة اجتماعية. وفي هذا الإطار، يعد التحول الذي شهدته الدولة مؤخراً في التخطيط من نموذج النقل القائم على ملكية السيارات الفردية إلى مزيد من الاستثمار في السكك الحديدية هو تحول قيم. ومن بين الخطوات الرئيسية الأخرى في هذا السياق إعطاء الأولوية للتخطيط الحضري وإدماجه في التنقل الحضري. وعلاوة على ذلك، فإن مراعاة المظالم التاريخية واحتياجات السكان ينبغي أن تكون عنصراً أساسياً عند وضع السياسات طويلة الأجل للتنقل. لكن الأهم من ذلك هو أن حل أزمة التنقل في تونس الكبرى يتطلب إجراءات ملموسة لأن الخطط المتتالية لقطاع النقل في تونس لم تسفر عن تغيير حقيقي يذكر حتى الآن. وهذا يعني الجمع بين خطة عمل شاملة وطويلة الأجل ومكاسب سريعة تدعم الحرية والعدالة والكرامة في التنقل لسكان تونس الكبرى. ويمكن أن تشمل هذه المكاسب السريعة ضمان الالتزام بالمواعيد في وسائل النقل العام، وتحسين التعريف بأوقات الانتظار، والتشجيع على جعل الدراجات وسيلة نقل بديلة، لا سيما في المناطق التي لا تتصل بشبكة الطرق، والعمل على وضع آليات أمنية تحمي المرأة في وسائل النقل العام.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.