تهدف هذه الورقة إلى مناقشة الجذور الأيديولوجية والتاريخية للسياسة الاجتماعية في الجزائر. فرغم تخلي الدولة عن النهج الاشتراكي منذ دستور شباط/فبراير 1989، إلا أن سخاء السياسة الاجتماعية ظلّ مستمراً إلى يومنا هذا، حتى وإن تفاوتت درجاته من حقبة إلى أخرى. فحتى في السنوات التي واجهت فيها الدولة تهديداً وجودياً بسبب الحرب مع الجماعات الإسلامية (1991- 1999) - والتي تزامنت مع أزمة اقتصادية خانقة، وتراجعت فيها مداخيل الدولة بشكل كبير أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس والعجز عن السداد، وأوقعها فريسة لبرنامج إعادة التصحيح الهيكلي - ظلت التحويلات الاجتماعية تشكل جزءاً أساسيًّا من ميزانية الدولة، ولم يدفع برنامج التصحيح الهيكلي إلى التخلي التام عن دعم السلع والخدمات الأساسية.
مع عودة الأمن في مطلع الألفية، عادت كذلك أسعار المحروقات إلى الارتفاع، فعادت الدولة إلى سياسة الإنفاق السخي، واحتلت التحويلات الاجتماعية مساحة مهمة في ميزانيتها . بنيت خلال هذه الفترة مئات الآلاف من المساكن الاجتماعية التي وزعتها الدولة على الفئات الضعيفة ومتوسطة الدخل، وظل سعر البنزين في الجزائر هو الأرخص في العالم، بينما تستفيد حزمة واسعة من السلع الاستهلاكية الأساسية من دعم مباشر من الدولة. فيما تم توظيف الآلاف من الشباب خريجي الجامعات ومعاهد التكوين في الأجهزة الإدارية ليستفيدوا من أجور حتى وإن كان لا يقابلها إنتاج حقيقي. بينما أطلقت الحكومة برامج وآليات مختلفة لمساعدة الشباب على إقامة مؤسساتهم الخاصة بمنحهم قروضاً دون فوائد أو بفوائد منخفضة .
وفي سنة 2014، مع بدء تراجع أسعار النفط التي تشكل المصدر الأساسي لمداخيل الدولة من العملة الصعبة (أكثر من 95%)، عادت الأصوات المطالبة بضرورة مراجعة سياسة الدعم الاجتماعي الشاملة، بشكل يضمن حصر الاستفادة منها بالفئات ضعيفة الدخل، ويضمن مواجهة التبذير الحاصل في استهلاك المواد المدعومة، أو مواجهة التهريب الذي يطال هذه السلع إلى البلدان المجاورة.
وبالفعل، قامت الحكومات المتعاقبة على مدار السنوات السبع الماضية (2014-2021) بخفض تدريجي لحجم الدعم على المحروقات (البنزين، المازوت) وكل أنواع الطاقة الأخرى (الكهرباء والغاز)، وتقليص عملية التوظيف في القطاع العمومي، وتجميد برمجة (وإنجاز) المشاريع السكنية الموجهة إلى الفئات الاجتماعية الوسطى والهشة.
وعشية إعداد قانون المالية لسنة 2022 في ظروف مالية صعبة، تآكلت فيها احتياطات العملة الصعبة إلى ما دون الأربعين مليار دولار، وتراجع فيها سعر برميل النفط إلى ما دون الأربعين دولاراً ، صرحت الحكومة بشكل مباشر أنها مصممة على مراجعة صيغ الدعم، والتوجه نحو ما تسميه بالدعم المستهدف ليكون بديلاً عن الدعم الشامل المكلف والمرهق للخزينة العمومية. فحدث جدل كبير في كيفية التوفيق بين الاستقرار المالي للدولة، وبين ضرورة الحفاظ على السلم الاجتماعي في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي خلّفتها جائحة كورونا، وتراجع القدرة الشرائية للجزائريين بشكل تصاعدي منذ سنة 2014 بسبب سياسة التقشف المتبعة، وتخفيض الإنفاق العمومي خاصة في مجال مشاريع البناء والأشغال العمومية، والتضخم، وتقليص حجم الصادرات، وتراجع قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية.
في هذا السياق، جاء قانون المالية لسنة 2022 صارماً وموجعاً حتى للطبقة الوسطى. فبالرغم من عدم رفع أسعار المحروقات الأساسية، إلّا أن ضرائب ورسوماً جديدة فُرضت على حزمة كبيرة من السلع والأنشطة. وبرر الوزير الأول ذلك ''بضرورة إصلاح نظام الدعم الاجتماعي من دون أن يعني ذلك المساس بالطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية'' . ولكن، ما إن كاد يبدأ الجدل في وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية، حتى أمر رئيس الجمهورية بتعليق كل الضرائب الجديدة المفروضة في قانون المالية، مع الحفاظ على دعم السلع ذات الاستهلاك الواسع بنفس الآليات التقليدية .
انطلاقاً مما سبق، تبحث هذه الورقة في الجذور الأيديولوجية للسياسة الاجتماعية للدولة الجزائرية، وتطرح تساؤلين رئيسيين:
- ما هي الجذور التاريخية والأيديولوجية للسياسة الاجتماعية في الجزائر؟
- لماذا ظلت سياسة الدعم الاجتماعي ثابتة في الخطاب السياسي الجزائري رغم كل التحولات التي مرت بها الجزائر؟
سنبدأ أولاً بشرح مضمون السياسة الاجتماعية في الجزائر وتعريف أهم مكوناتها. ثم بعدها سنحاول أن نتتبع جذورها التاريخية في النصوص الرسمية وفي ممارسات الدولة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.
أولاً- مضمون السياسة الاجتماعية في الجزائر
تقوم السياسة الاجتماعية في الجزائر- والتي يُعبَّر عنها كذلك بسياسة الدعم الاجتماعي، أو نظام التحويلات الاجتماعية - على دعم الدولة المباشر وغير المباشر لمجموعة من السلع الأساسية، والخدمات أو دعم قطاعات بعينها. بعض هذا الدعم شامل، يستفيد منه كل الجزائريين بغض النظر عن حجم مداخيلهم (دعم السلع الأساسية)، والبعض الآخر (مثل السكن) موجه لفئات محددة، أو أنه يختلف حجمه باختلاف مداخيل الأسر والأفراد. ويمكن أن نلخص هذه المجالات في ما يأتي:
- دعم السلع ذات الاستهلاك الواسع (دعم الأسر): تحظى سلة من السلع الأساسية في الجزائر بدعم الدولة لأسعارها، حيث تقوم الخزينة العمومية بدفع الفرق بين سعر الاستيراد وسعر البيع للمستهلك بصيغ مباشرة وغير مباشرة، ما يجعل هذه السلة تصل إلى المستهلكين بسعر أقل من سعر شرائها من السوق العالمية. أو بشرائها بسعر مدعوم من طرف المنتجين المحليين على غرار ما يحدث لأسعار حليب البقر الطازج أو أسعار القمح.
هذه السلة ليست ثابتة، ويتم تكييفها حسب ظروف الموازنة العامة، ولكن ثمة خمس سلع أساسية ظلت الدولة ملتزمة بدعم أسعارها بطرق مختلفة : الخبز (من خلال دعم المواد الأولية لصناعته: مادة الفرينة يتم بيعها للخبّازين بسعر أقل من سعر شرائها من السوق العالمية مقابل تسقيف سعر الخبز). الدقيق (من خلال دعم سعر بيع القمح للمطاحن ودعم سعر شرائه من المزارعين). الحليب، السكر والزيت (من خلال دعم المنتجين مقابل تسقيف الأسعار). أو من خلال إلغاء أو تخفيض الضريبة على القيمة المضافة أو الرسوم الجمركية على بعض السلع الاستهلاكية مثل البقول والحبوب الجافة أو المواد الأولية التي تدخل في صناعة الزيوت الغذائية... بلغت ميزانية دعم الأسر سنة 2022 حوالي 7.597 مليارات دينار أو ما يعادل 4.36 مليارات دولار، ما يمثل قرابة 31 بالمائة من مجموع التحويلات الاجتماعية.
- دعم أسعار المحروقات والكهرباء: تحتل الجزائر المرتبة الثالثة في العالم من حيث انخفاض أسعار البنزين والديزل رغم لجوء الدولة إلى تخفيض الدعم عنه ثلاث مرات خلال السنوات العشر الماضية . ويتم دعم هذه المواد من خلال بيعها بسعر أقل من تكلفة الإنتاج وأقل من السوق العالمية بكثير. وكذلك الأمر بالنسبة لأسعار الكهرباء وغاز المدينة، حيث إن الدولة تدعم مباشرة الشركة الوطنية للكهرباء والغاز لتعويض خسائر إيصالها الكهرباء للمستهلكين بسعر أقل من التكلفة.
- دعم الصحة والتعليم: الصحة العمومية والتعليم مجانيّان في الجزائر، وتستفيد شرائح واسعة من المعوزين وأصحاب الأمراض المزمنة من الرعاية الصحية والتأمين الصحي. بينما تخصص الدولة منحة تمدرس لفائدة أبناء العائلات متوسطة وضعيفة الدخل، وإطعام مدرسي مجاني – أو بمبلغ رمزي – لفائدة التلاميذ في مختلف الأطوار التعليمية. أما في التعليم العالي، فإن الطلبة يستفيدون من التعليم المجاني، ومنحة دراسية شهرية، وإطعام وإقامة ونقل مجاني .
- دعم الشغل من خلال المساهمة في دفع جزء من أجور العمال الشباب لدى القطاع الخاص والقطاع العام عبر الوكالة الوطنية لتشغيل الشباب .
- دعم السكن: من خلال بناء المساكن وبيعها إما بسعر منخفض للفئات المتوسطة، أو بمنحها مجاناً للفئات الهشة (السكن الاجتماعي). خصصت الحكومة سنة 2022 247 مليار دينار لدعم السكن .
ثانياً - الجذور التاريخية للسياسة الاجتماعية للدولة
لا يمكن فهم المنطق الذي يحكم السياسة الاجتماعية للدولة الجزائرية إلا بالرجوع إلى السياق التاريخي الذي نشأت فيه هذه الدولة. يسمح لنا هذا الرجوع إلى تجاوز الاختزالات التي تدّعي أن الغرض الوحيد لهذه السياسة هو شراء السلم الاجتماعي لا استمرار النظام السياسي القائم، أو خلق فرص ريعية لزبائن السلطة أو لأقرباء المسؤولين وأصدقائهم. صحيح أن هذه الظواهر موجودة، وصحيح أيضاً أن الدعم الاجتماعي يستفيد منه النظام سياسياً، ولكن لا يمكن إطلاقاً القول إن السبب وراء سخاء الدولة الجزائرية هو فقط أهداف واستراتيجيات سلطوية. ليس من العلمية في شيء تفسير فشل الانتقال الديمقراطي باستمرار السياسة الاجتماعية السخية، كما لا يمكن اختزال الفشل الاقتصادي وضعف الاستثمار في إخلال نظام الدعم الاجتماعي بقوانين السوق ونظام الأسعار والتنافسية. سياسة الدعم الاجتماعي في الجزائر وجدت قبل ظهور المطلب الديمقراطي، أي منذ الاستقلال مباشرة حينما كانت النخب الحاكمة تتمتع بشرعية ثورية قوية، ووجدت أيضاً في عزّ النظام الاشتراكي حيث كانت الدولة هي المنتج والمشغّل والموزّع. هل يجوز أن نفسر فشل النظام الاشتراكي (1962-1989) وفشل التحول الاقتصادي نحو اقتصاد السوق منتجاً بهيمنة الطابع الاجتماعي للدولة وما يسببه ذلك من إخلال بقوانين السوق والاستثمار؟ بالطبع هذا ليس منطقياً. الفرضية الأساسية التي تنطلق منها هذه الورقة هي أن الطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية يجد جذوره في الظروف التاريخية التي تأسست فيها هذه الدولة. وأن استمراره إلى ما بعد التعددية والليبرالية أكبر من أن يختزل في استخدامه كمورد سياسي من طرف السلطة. يعد الدعم الاجتماعي إحدى ركائز الثقافة السياسية للدولة الجزائرية، ومن الصعب على أي نظام سياسي ديمقراطياً كان أم شمولياً، ليبرالياً أم يسارياً، أن يلغيه أو يتراجع عنه كلياً.
السياق التاريخي لنشأة الدولة الجزائرية
نشأت الدولة الجزائرية كردّ فعل ثوري على نظام إمبريالي رأسمالي هيمن على الجزائر لأكثر من قرن من الزمن، استولت فيه فئة قليلة من المعمّرين الأوروبيين ومن العائلات الاقطاعية الجزائرية المتعاونة مع الاستعمار على مجمل ثروات البلاد. واستغلت شرائح واسعة جداً من الفلاحين كعبيد أو خماس في المزارع أو الورشات أو المصانع... إن ثورة أول تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 هي في نظر النخب الجزائرية آنذاك ثورة الكادحين على الاقطاعيات والرأسماليين. فالدولة التي تمخضت عن هذه الثورة التزمت في بيان الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 كأهم وثيقة تأسيسية للدولة الجزائرية، بتأسيس دولة اجتماعية ديمقراطية. إن صورة الدولة في مخيال الجزائريين تشكلت داخل هذا السياق التاريخي والأيديولوجي.
تمثّلات الجزائريين لصورة ووظيفة الدولة
الدولة الوطنية كنقيض لدولة الاستعمار: أول ما عرف الجزائريون الدولة، عرفوها كقوة خارجية محتلة، تفرض الضرائب أو تنهب الموارد وتستغل الخيرات. كانت هذه حالة البايلك العثماني، ثم الإدارة الفرنسية. لا تزال الذاكرة الجماعية للجزائريين مشحونة بصورة سلبية عن الدولة. لذلك، عملت النخب السياسية بعد الاستقلال على بناء دولة تكون وظيفتها قطيعة مع شكل الدولة الذي تكرس في مخيلة الجزائريين. أرادت هذه النخب أن تبني دولة لا تجمع الضرائب وحسب، ولكن تعمل على توزيع الثروة (بشكل عادل) بين/وعلى كل الجزائريين، وتقضي على الفقر والبؤس الذي خلّفه الاستعمار، وتحدّ من الفوارق الاجتماعية، وتحارب البورجوازية والإقطاعية، وتؤمم الموارد الطبيعية، وتقدّم خدمات وحماية اجتماعية. ولم تتأسس الدولة كطرف يفصل بين الخلافات التي تنشأ داخل المجتمع، بل كدولة رعاية، تعمل على توفير السلع والخدمات للجزائريين.
ب- الدولة ضد السوق : يعكس مبدأ الدولة ضد السوق الجذور الأيديولوجية للسياسات الاجتماعية في الجزائر. حتى عند مناضلي الحركة الوطنية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، كان يُنظر إلى الاستعمار على أنه قوة رأسمالية إمبريالية، تعمل على استغلال العمال الكادحين الجزائريين وإفقارهم. وكان يُنظر إلى اللامساواة الموجودة بين الجزائريين والمعمرين من زاوية علاقات الإنتاج داخل المجتمع، خاصة وأن حزب الشعب قد تأسس من مناضلين ينتمون إلى اليسار الماركسي، وحظوا بالدعم من الحزب الشيوعي الفرنسي. لهذا السبب، وفي سياق دولي تهيمن عليه الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، تأسست الدولة الجزائرية المستقلة كجهاز بيروقراطي يحارب السوق ، ويمنعه من التغلغل داخل العلاقات الاجتماعية. وفي السنوات الثلاثين الأولى من الاستقلال، كانت إرادة محاربة السوق مُعلنة، وموثقة في مختلف النصوص التأسيسية للدولة، وتجسد ذلك في النهج الاشتراكي الذي قام على تأميم الأملاك الزراعية والمؤسسات الصناعية، وهيمنة الدولة على القطاع الاقتصادي بمختلف حلقاته ومستوياته، ومحاربة القطاع الخاص، ثم دعم الأسعار على كافة المستويات وخاصة المستوردة منها. واستخدمت الدولة عائدات النفط من أجل تحدي قوانين السوق، وإبقاء الأسعار في مستويات منخفضة تستطيع جميع الفئات الاجتماعية الوصول إليها.
أما بعد إقرار الليبرالية في دستور 1989، فلم يتغير الأمر كثيراً، إذ استمرت الدولة في تحدي قوانين السوق حتى في عزّ الأزمة الأمنية والاقتصادية لسنوات التسعينيات. ولا يزال البعد الاجتماعي اليوم يطغى على توجه الدولة. ويكفي النظر إلى حجم الميزانية المخصصة للتحويلات الاجتماعية كل سنة .
النصوص المؤسسة للدولة الجزائرية
- لا يخلو أي نص تأسيسي للدولة الجزائرية من الإشارة إلى الطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية، وسنستعرض في ما يأتي أهم هذه النصوص والصيغ التي تؤكد فيها ذلك.
- أ- بيان أول تشرين الثاني/ نوفمبر 1954: أول هدف وُضِع لبيان الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر هو ''إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية'' . وتحول هذا الهدف إلى مبدأ لكل المواثيق الرسمية للدولة الجزائرية بعد ذلك، ويستخدمه الخطاب الرسمي لتأكيده على عدم تخلّيه عن السياسة الاجتماعية للدولة مهما كانت الظروف المالية لها. ولكن، لا شك أنه يستعمل كذلك لتبرير الاستمرار في الإنفاق الاجتماعي المكلف أمام الانتقادات التي تطال هذه السياسة، أو أمام أعشاش الفساد التي تشكلت حولها.
- ب- ميثاق مؤتمر طرابلس 1962 : اعتبر الثورة الجزائرية ثورة ضد الاقطاع الداخلي، وضد الإمبريالية الفرنسية وهيمنة المعمرين على موارد البلد. وأعطى هدفا أساسيًّا للثورة وهو بناء دولة تتكفل بطبقة الفلاحين التي كانت الأكثر تضرراً خلال الثورة.
- ت- دستور 1963: ينص دستور 1963 في ديباجته على أن أحد أهم وظائف الدولة التي قامت لأجلها الثورة هي ''انتهـاج سياسـة اجتماعيـة لفائـدة الجماهـير كي يرتفـع مسـتوى معيشـة العـمال، والتعجيـل بترقيـة المـرأة قصـد إشـراكها في تدبيـر الشـؤون العامـة، وتطويـر البـلاد، ومحـو الأميـة، وتنميـة الثقافـة القوميـة، وتحسـين السـكن، والحالـة الصحيـة العامـة".
- ث- دستور 1976: كرس دستور 1976، المتمخض عن الميثاق الوطني، النهج الاشتراكي بكل ما يحمل ذلك من دلالات ومعانٍ في مجال هيمنة الدولة على الاقتصاد والتجارة الخارجية، وتحكّمها في الأسعار، مع التأكيد على مجانية التعليم والصحة.
أما بعد التعددية، رغم إقرار الليبرالية الاقتصادية في دستور 1989، إلا أن الدولة لم تتراجع عن طابعها الاجتماعي. بنيت جزائر ما بعد 1989 على تصور لا يلغي الطابع الاجتماعي للدولة، ولا يرى فيه عائقاً أمام نمو القطاع الخاص، ولا مخلًّا بقوانين السوق وخاصة نظام الأسعار.
وعرفت الجزائر خلال الثلاثين سنة الماضية أربعة دساتير أساسية هي دستور 1989 و1996 و2016 و2020. وتؤكد كل هذه الدساتير على الطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية، وأن حماية الطبقات الهشة هي إحدى وظائفها الأساسية، وتنص على أن مرجعيتها في ذلك هي بيان الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر الذي تمت صياغته عشية حرب التحرير الكبرى (1954-1962).
خلاصة
تأسست الدولة الجزائرية ضد تناقضات النظام الاستعماري التي جعلت من الإدارة الاستعمارية أداة في يد المعمرين لإفقار الجزائريين. إن النخب الوطنية التي كافحت من أجل الاستقلال، وضعت مبكراً مبدأ الدولة الاجتماعية والعدالة الاجتماعية ضمن أهدافها للترويج والدعاية للمشروع الاستقلالي. وبالفعل، ساهم هذا الشعار في حشد الجزائريين وتعبئتهم حول جبهة التحرير الوطني حتى تحقيق الهدف.
وعدت النخب السياسية بعد الاستقلال بجعل الدولة في خدمة الجزائريين الذين أنهكهم النظام الاستعماري، فوضعت كل المواثيق السياسية المؤسسة للدولة الجزائرية والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية لتستجيب لهذه الوظيفة.
وسمحت مداخيل النفط الهائلة بصيانة هذه الوظيفة الاجتماعية، بحيث مكّنت الدولة من دعم التعليم والصحة والسلع الأساسية والنقل. سمحت هذه السياسة السخية كذلك، باحتلال الجزائر المرتبة التاسعة ضمن 169 دولة في مؤشر التنمية البشرية لسنة 2010، فيما كانت من بين الدول القليلة التي استطاعت تحقيق أهداف الأمم المتحدة للألفية .
ولكن نظام الدعم الشامل لم يكن دائماً في صالح الطبقات الهشة، بل إن المستفيد الأكبر منه هي الطبقة الغنية. فمثلاً، كشفت دراسة للديوان الوطني للإحصاء أعدت سنة 2012، أن أكثر من 50 بالمئة من ميزانية التحويلات الاجتماعية يستفيد منها الأكثر غنى في المجتمع . فمثلاً، المستفيد الأكبر من دعم الحليب هم منتجو الأجبان ومستقاتها، والمستفيد من دعم السكر هي مصانع المشروبات والحلويات، والأمر نفسه بالنسبة للبنزين والزيت والكهرباء والماء. ولا تزال الطبقات تشكو من ضعف القدرة الشرائية ومن عدم نجاعة نظام الدعم الاجتماعي الحالي. والحكومة نفسها تقر بهذا، وتتخذه مبرراً لرفع الدعم أو رفع الأسعار من دون أن تجد طريقة لتجسيد ذلك.
ولكن، كلما تهاوت أسعار النفط المتقلبة في السوق العالمية، تجد الدولة نفسها في حرج وعاجزة عن الوفاء بالتزاماتها. يتعالى خطاب ضرورة إصلاح نظام الدعم الاجتماعي في أوقات الأزمات وشح الموارد، متحججة تارة بمحاربة التبذير وتوجيه الدعم لمستحقيه، وتارة أخرى بمبررات اقتصادية لتحفيز الاستثمار. ولكن بمجرد أن تعود الأسعار للارتفاع مجدداً، تخفت الأصوات المطالبة بالإصلاح وتعود الممارسات الريعية والتبذيرية إلى الواجهة.
ثمة جانب آخر لهذه المسألة، إذ إن قضية الطابع الاجتماعي للدولة في الجزائر لا تقل أهمية عن باقي المسائل الأخرى المتعلقة بالثوابت الوطنية. ممارسات الدولة نفسها خلال ستين سنة، والظروف التاريخية التي نشأت منها، تجعل التخلي عن الطابع الاجتماعي أمراً خطيراً ليس فقط بالنسبة للفئات الهشة التي أنهكتها الأزمات الاقتصادية المتعاقبة، وتبعية الاقتصاد الجزائري لسوق المحروقات، بل بالنسبة إلى الصورة التي كرستها الدولة عن نفسها وتستمد منها النخب الحاكمة شرعيتها السياسية. أي معنى للدولة الجزائرية سيبقى إذا ما تخلت عن وظيفتها الاجتماعية؟ وأي شرعية سياسية ستبقى للنخب الحاكمة إذا ما رمت بهذه الورقة؟ هنالك ثمن واحد يمكن دفعه لأجل ذلك: مقايضة الدعم الاجتماعي بتقاسم السلطة. المشكلة أن هذا الخيار غير جاهز الآن لسببين: في سياقات البحبوحة المالية ليس هنالك ما يدفع بالسلطة إلى الانفتاح سياسياً لأنه بإمكانها أن تشتري السلم الاجتماعي وتشبع الطلب الاجتماعي على كل شيء، وتخرج السياسة من اهتمامات الأفراد. وهذا ما حدث طوال فترة حكم بوتفليقة . أما في حالات الأزمة الاقتصادية (التي تحدث بشكل دوري بسبب تقلبات أسعار النفط)، فإن القوى الاجتماعية التي ستستفيد من أي انفتاح سياسي هي القوى الراديكالية والشعبوية. لقد جُرب هذا الخيار في التسعينيات، وكان ثمنه باهظاً (حرب أهلية خلّفت عشرات الآلاف من القتلى و دماراً اقتصاديًّا شاملًا). ورغم ذلك، لم تحضّر الدولة المجتمع لمثل هذه الأوقات العصيبة. لا يتوجّب على السلطة أن تنتظر أوقات الأزمات الاقتصادية كي تفتح المجال السياسي أمام الأحزاب والممارسة السياسية، فحينها يكون التفوق دائماً للأحزاب الأكثر راديكالية وشعبوية. يجب عليها أن تفكر من الآن بأن الدولة الاجتماعية لا يمكن أبداً أن تكون مورداً سياسياً، ولا بديلاً عن المشاركة السياسية وتوزيع السلطة داخل الجسم الاجتماعي.
أما عن الأصوات التي تطالب بتحرير الأسعار لتحفيز النمو الاقتصادي وخلق سوق تنافسية، فيجب أن نتساءل هل فعلاً سياسة الدعم الاجتماعي هي التي جعلت النمو الاقتصادي خارج المحروقات ضعيفاً وهامشياً؟
صحيح أن السياسة الحالية للدعم الاجتماعي تتحدى النظام الدولي للأسعار، ولكنها ليست الحاجز الوحيد أمام ظهور سوق تنافسية في الجزائر، لأن الدعم أصلاً لا يمسّ جميع السلع. إن ظهور السوق التنافسية مشروط بتشكُّل حقل اقتصادي مستقل، يسير وفقاً لقوانين السوق المعروفة. الإشكال اليوم هو أن الحقل الاقتصادي احتُلّ بأدوات سياسية من طرف السلطة، وما سياسة الدعم إلا إحدى هذه الأدوات، بل إن إسهامها هامشيًّا مقارنة بالأدوات الأخرى مثل ضعف استقلالية القضاء، عدم استقرار قوانين الاستثمار، استغلال المسؤولين للمنصب لإعاقة المستثمرين المستقلين، استخدام العلاقات داخل السلطة لتحييد المنافسين....السوق التنافسية في الحقل الاقتصادي لا يمكن أن تتشكل دون قضاء مستقل يحمي المتنافسين ويسهر على احترام الجميع للقوانين، ويحتكم إليه المتضررون من الممارسات الاحتكارية أو من تعسف أعوان الدولة والبيروقراطيين. بل يمكن الذهاب أبعد من هذا لنقول إن نظام الدعم في بعض القطاعات يعتبر عاملًا محفزاً للاستثمار مثل دعم أسعار الطاقة، والمحروقات والماء ومجانية شبكات الطرق... هذه عوامل محفزة في الحقيقة، ولكن تبقى من دون فعالية في تشجيع الاستثمار لأن الاستثمار يعني حرية المبادرة الاقتصادية، وهذه الأخيرة هي كغيرها من الحريات الأخرى لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود قضاء مستقل، وإعلام حر، وبرلمان يمارس الرقابة على الحكومة ويشرّع القوانين التي تحمي هذه الحريات.
لا يمكن التحجج إذاً بأن الداعي لرفع الدعم هو تشجيع الاستثمار لأن القطاعات الأخرى التي ليس فيها دعم تعاني بدورها من الركود. إذا ما أرادت السلطة تخفيف تكلفة الدعم الاجتماعي فعليها أن تحرر المبادرة الاقتصادية، وتتوقف عن التدخل في الحقل الاقتصادي بأدوات سياسية، وتسمح للرأسمال الوطني بأن يتراكم باستغلال قوة العمل وليس باستغلال النفوذ. بهذه الطريقة فقط يمكن رفع الدخل الفردي، وتحسين مستوى معيشة الأفراد بدل جعلهم مرتبطين بما تجود به عليهم الدولة... وبهذا فقط يصبح لخطاب رفع الدعم أو مراجعته مصداقية سياسية ونجاعة اقتصادية.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.