الانتماء للهُويّة والإصلاح الدستوريّ في الجزائر: توفيق الأيديولوجيّات لتحقيق الانتقال السلميّ

في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر سيصوت الجزائريون على استفتاء على دستور جديد اقترحه الرئيس الجزائري الحالي تبون. لقد أغفلت الدساتير المتعاقبة الجزائرية على مر السنوات التنوع الذي يوجد محليا. تقول هذه الورقة إن العملية الدستورية الأخيرة ماهي الا فرصة قد ضاعت لتشجيع مناقشات سلمية وهادفة بين الجماعات المختلفة في البلاد وقد قاد ذلك إلى تصعيد التوترات بين العلمانيين والإسلاميين وكذلك بين القوميين العرب والأمازيغ. يدعو هذا المقال الجهات الفاعلة في المجتمع المدني إلى تحدي سيطرة السلطات المركزية على النقاش حول الهوية وإلى بدء حوار مجتمعي تشتد الحاجة إليه.

arab-reform-initiative-Identity-Belonging-and-Constitutional-Reform-in-Algeria-min
جزائريون مظاهرون يحمل العلمين الجزائري والأمازيغي أحتجاجا برحيل النظام الجزائري من مدينة الجزائر عاصمة الجزائر 03 إيار/مايو 2019. تستمر الامظاهرت الجزائرية التي بدأت في أوائل شباط/فبراير 2019 ما بعد إعلان الرئيس السابق ترشحه لفترته الرئيسية الخامسة فهي تدعي إلى تغيير عميق للنظام. ©EPA-EFE/MOHAMED MESSARA

مع بداية الحراك الشعبيّ في شباط/فبراير عام 2019، عادت التوتّرات الأيديولوجيّة والدينيّة والثقافيّة المترسخة منذ عقود في الجزائر إلى الظهور من جديد وهيمنت بشدة على النقاشات العامّة.1https://www.algerie-eco.com/2020/10/10/revision-de-la-constitution-la-campagne-electorale-sous-les-feux-des-islamistes/ مع ذلك، نادراً ما تأخذها السلطات المركزيّة في الحسبان، فقد قدَّمت الدولة مؤخّراً مشروعاً لتعديل الدستور لا يطرح قضايا الهُويّة بوصفها أولويّة، ويكتفي باقتراح بعض الإجراءات الصوريّة من قبيل إضفاء الطابع الرسميّ على اللغة الأمازيغيّة.2https://www.rfi.fr/fr/afrique/20200911-alg%C3%A9rie-nouvelle-constitution-stade-projet-fait-d%C3%A9j%C3%A0-grincer-dents يزيد الإنكار السياسيّ المستمرّ لتلك التوتّرات من حدّتها بين الجماعات المُتعارضة -الإسلاميّين مقابل العلمانيّين، والأمازيغ مقابل القوميّين العرب- ويبرهن لجميع الأطراف أنّ مسوّدة الدستور الجديد ما هي إلا مجرّد تمويه آخر تصطنعه الدولة لضمان استمرار هيمنة النظام السياسيّة على المسائل المتعلِّقة بالهُويّة.3من بين الأمثلة الأخرى على الإجراءات الصوريّة التي لا تأثير لها في الواقع: اعتماد "المحافظة السامية للأمازيغيّة"، وإدخال مواد تكفل حرّيّة الوجدان، واعتماد "الأكاديميّة الجزائريّة للغة الأمازيغيّة". ستحاول هذه الورقة تقصّي الأسباب الأساسيّة للنزاع الدائر حاليّاً بين تلك الجماعات المُتعارضة، وكيف أخفق الدستور في الاعتراف بالتنوّع الثقافيّ والأيديولوجيّ، ثم سنطرح بعض الأفكار حول البدائل الممكنة بهدف الوصول إلى حوارات وسياسات عامّة توافقيّة في إطار عمليّة دستوريّة تمثّل جميع الأطراف بدرجة أكبر.

الدستور ومسألة الهُويّة

لم تُعبّر الدساتير الجزائريّة المتعاقبة4التعديلات التي أدخلت على الدستور الجزائريّ منذ صدور أوّل نسخة منه عام 1963: دستور عام 1963، وقد أوقف هوّاري بومدين العمل به عام 1965، ستور عام 1976، عُدِّل في أعوام 1979 و1980 و1988، وهو منصوص عليه في الميثاق الوطني الجزائري الذي أصدره هوّاري بومدين في 5 تمّوز/يوليو عام 1976 وعُدِّل عام 1986، دستور عام 1989، دستور عام 1996، عُدِّل في أعوام 2002 و2008 و2016. بصدقٍ عن تنوّع البلاد، بل في المقابل، استغلّها النظام لبسط هيمنته وسيطرته على الشعب. فقد قيَّد الدستور الأوّل5https://mjp.univ-perp.fr/constit/dz1963.htm -الذي ناقشه 300 مندوب من "جبهة التحرير الوطنيّ" عام 1963 واعتُمد بموجب استفتاء شعبيّ في السنة نفسها- الحرّيّةَ السياسيّة بدرجة كبيرة من خلال الاعتراف بحزب واحد فقطّ، هو "جبهة التحرير الوطنيّ"، وأقرَّ الديانة الإسلاميّة واللغة العربيّة بوصفهما العنصرين الوحيدين المكوِّنَين للهُويّة الجزائريّة المعترف بهما دستوريّاً، وهما عنصران لم يُشكّك أحدٌ بهما من ذلك الحين. على الرغم من التعديلات الكثيرة التي أدخلت على الدساتير الجزائريّة المختلفة، لم تُولِ اللجان المتعاقبة المكلَّفة بصياغة التعديلات الدستوريّة اهتماماً كبيراً لمسألة الهُويّة والقضايا الثقافيّة. غالباً ما تشكّلت تلك اللجان من مندوبين من حزب الأغلبيّة، متمثّلاً في "جبهة التحرير الوطني"، أو قام الرؤساء الجزائريّون بتعيين أعضائها من مؤيّدين أقوياء للنظام. لطالما آثرت تلك اللجان أنْ تنظر إلى الشعب الجزائريّ باعتباره كتلة متجانسة ذات ثقافة واحدة ودين واحد ولغة واحدة، ولطالما عبَّرت عنه بتلك الطريقة. لعلّ هذه الجهود الرامية إلى مُجانسة السكّان ترتكز إلى مفهوم الدولة الراسخ حول التنوّع، الذي تعتبره مصدراً للانقسام ويمثّل تهديداً على استقرار أراضيها، خصوصاً في ظلّ المجموعات الأيديولوجيّة أو الثقافيّة المتنوِّعة التي يُمكن أنْ تؤثّر فيها المصالح الأجنبيّة.6أحد أشهر الاتهامات الموجهة للمجموعات المناهضة للمجانسة مثل الأمازيغ أو العلمانيّين هو أنّهم يخدمون مصالح أجنبيّة.

كانت احتجاجات تشرين الأوّل/أكتوبر من عام 1988 واحدة من أهم الأحداث في التاريخ الجزائريّ المعاصر، وشكّلت صدمة سياسيّة واجتماعيّة كانت إيذاناً بنهاية نظام الحزب الواحد الاشتراكيّ. فقد اندلعت على مدار عدّة أسابيع أعمال شغب عنيفة للغاية في معظم الولايات الجزائريّة الكبرى، يتزعّمها في الغالب شباب يطالبون بمزيدٍ من الحرّيّة والديمقراطيّة وتحسين الظروف المعيشيّة. ألقت قوّات الأمن، فيما بعد، القبضَ على الآلاف وعذّبتهم، وقتلت أيضاً 500 متظاهر.

ونتيجة لخطورة الوضع، كان الهدف من المشروع الدستوريّ لعام 1989م7https://mjp.univ-perp.fr/constit/dz1989.htm -الذي شرع الرئيس الشاذلي بن جديد في وضعه وأنجزه بحماسة كبيرة رئيس الوزراء مولود حمروش، المعيَّن حديثاً آنذاك- هو الخروج على الدساتير السابقة والطموح بشكلٍ أساسيّ إلى بلورة مطالب حراك عام 1989 مع ضمان استمراريّة وبقاء الدولة شديدة المركزيّة. اتّسم نصّ دستور 1989 في الأساس بالانفتاح على نظام التعدّديّة الحزبيّة، الذي وضع حدّاً لهيمنة نظام الحزب الواحد (متمثّلاً في "جبهة التحرير الوطنيّ") ومهَّد الطريق بالتالي أمام نشأة منظّمات المجتمع المدنيّ (الجمعيّات واللجان) وتأسيس "المجلس الشعبيّ الوطنيّ" (البرلمان في الجزائر) وتقليص دور الجيش في السياسة.

ومع أنّ دستور عام 1989 تجاوز بكثير الدساتير الماضية، فقد آثر مجدَّداً تجاهل التنوّع الثقافيّ والدينيّ في الجزائر، وأبقى بدلاً من ذلك على العناصر التأسيسيّة للدولة الجزائريّة التي ينصّ عليها دستور 1963: الإسلام هو الدين الوحيد في الدولة، واللغة العربيّة هي اللغة الوحيدة للشعب الجزائريّ. لكنّه سمح، مع ذلك، بإنشاء تشكيلَين سياسيَّين متعارضَين أيديولوجيّاً، ظلّا لسنوات الطرفين الرئيسيّين في النقاش المتعلِّق بالهُويّة الوطنيّة، أحدهما حزب علمانيّ أمازيغيّ ديمقراطيّ: وهو "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطيّة" والآخر إسلاميّ محافظ، وهو "الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ".8Aït-Aoudia Myriam, “Les dilemmes des nouveaux partis face à la participation à la première élection pluraliste post-autoritaire. Retour sur un impensé à partir du cas algérien”, Revue internationale de politique comparée, 2013/2 Vol. 20, p. 15-32. DOI : 10.3917/ripc.202.0015 فازت "الجبهة" في انتخابات عام 1992، التي كانت أوّل انتخابات ديمقراطيّة تشهدها الجزائر على الإطلاق، لكنْ سرعان ما ألغت الدولة هذه الانتخابات، ما أدّى إلى اندلاع اضطرابات أهليّة ونزاع مسلّح استمرّ طيلة عقد.

ساهمت الحرب الأهليّة (من عام 1992 إلى عام 2000) التي أعقبت تلك الأحداث في زيادة حالة الجمود التي تغلِب على النقاش الوطنيّ حول الهُويّة في وقتٍ تصاعدت فيه التوتّرات الأيديولوجيّة في البلاد بين الديمقراطيّين العلمانيّين والإسلاميّين، وكلا الطرفين ناشطٌ سياسيّاً، وبين الأمازيغ والقوميّين العرب، بينما كانت السلطات مشغولة بمحاربة الإرهاب. بعد انتخاب الرئيس اليمين زروال عام 1995، وسط أجواء الحرب الأهليّة والديكتاتوريّة العسكريّة، طُرِح دستور جديد للاستفتاء الشعبيّ عام 1996، كانت معظم موادّه مستمدّةً من دستور عام 1989 مع تغيير واحد: إذ اعترف -للمرّة الأولى- بهُويّة الجزائر الأمازيغيّة، واعتبرها إحدى مكونات الهُويّة الجزائريّة، مع الإسلام والقوميّة العربيّة (العروبة)،9أيْ الانتماء إلى الثقافة العربيّة. إضافة إلى إدراج اللغة الأمازيغيّة في المنهج التعليميّ الثانويّ.

لم يُلَبِّ هذا التغيير تطلّعات كثيرين، وتظاهر مئات الآلاف من القبايل (سكّان منطقة القبائل)،10القبايل: السكّان الأصليّون في منطقة القبائل شمال الجزائر، ويتوزعون على سلسلة جبال الأطلس التلّيّ، على بُعد تقريباً 170 كيلومتر شرق العاصمة الجزائر. ويمثّلون أكبر عدد من السكّان الناطقين بالأمازيغيّة في الجزائر وثاني أكبر مجموعة سكّانيّة ناطقة بها في شمال أفريقيا. عام 2001، فيما عُرِف بـ"أحداث القبائل" أو "الربيع الأسود". لم يطالب المحتجّون بالعدالة الاجتماعيّة فحسب، وإنما أيضاً الاعتراف الكامل بالهُويّة الأمازيغيّة (لغويّاً وثقافيّاً وحضاريّاً) وإضفاء الصفة المؤسّساتيّة على اللغة الأمازيغيّة بوصفها لغة وطنيّة رسميّة. طالبت أيضاً مجموعات كثيرة -خاصّة في أوساط المنظّمات الطلابيّة اليساريّة وكذلك بين الأحزاب السياسيّة من قبيل "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطيّة"- أنْ تتبنّى الدولة توجّهاً أكثر علمانيّة يعترف بالتنوّع الدينيّ وحرّيّة الفكر. لجأت قوّات الأمن إلى العنف خلال هذه الاحتجاجات، وهو ما أسفر عن وفاة 128 متظاهراً.

وفي أعقاب مواجهات "الربيع الأسود"، أطلق الرئيس بوتفليقة عمليّة في عام 2002 لتعديل الدستور. اعترفت التعديلات الجديدة باللغة الأمازيغيّة بوصفها لغة وطنيّة في المادّة 3 مكرّر، مع مواصلة اعتبار الإسلام ديناً للدولة الجزائريّة (المادّة 2) والإبقاء على اللغة العربيّة بوصفها اللغة الرسميّة الوحيدة للجزائر (المادّة 3).11اللغة الوطنيّة هي لغة يُعترف بأنّها جزء من الثقافة الوطنيّة وغالباً ما تُدرَّس في المنطقة التي ينتشر فيها الناطقون بها (كمنطقة القبائل على سبيل المثال). أمّا اللغة الرسميّة فهي لغة تعترف الدولة بأنّها إحدى لغاتها، وتُستخدم في الوثائق الرسميّة والمؤسّسات الحكوميّة، بما في ذلك المحاكم وخلال التواصل الحكوميّ الرسميّ.

بعد انتخابات اتّسمت بقدر كبير من التنافس لانتخاب الرئيس بوتفليقة لولاية رابعة، أدرك النظام أنّ ثَمّة حاجة ملحّة لإجراء تغييرات قبل أنْ تزعزع انتفاضة حتميّة الاستقرار الصوريّ للمؤسّسات. أدَّت هذه التطوّرات إلى حث النظام على البدء في صياغة نسخة أخرى جديدة من الدستور في عام 2016 لإدخال بعض التعديلات التي بَدَا أنّها طفيفة، كتقييد مدّة الرئاسة بولايتين فقطّ. لكنّ التعديل الدستوريّ لعام 2016 كان استثنائيّاً في عدّة أوجه، يأتي في مقدِّمتها اعترافه باللغة الأمازيغيّة لغةً رسميّة للدولة (المادّة 4). أسفر هذا الوضع الجديد عن إنشاء "الأكاديميّة الجزائريّة للغة الأمازيغيّة"، التي تأسّست عام 2017 للنهوض باللغة الأمازيغيّة وتطويرها. وقد نصّت التعديلات نفسها على حرّيّة الوجدان، دون تفسير معناها أو توضيح ماهيّة "الوجدان" الذي يقصده النصّ، وهو الغموض ذاته الذي يزيد من تعقيد صياغة قوانين معيَّنة تتعلّق بحماية الأقلّيّات الدينيّة.12https://www.rtl.fr/actu/international/algerie-trois-eglises-protestantes-fermees-par-les-autorites-7799267109

تشترك التعديلات الدستوريّة الجزائريّة كافّة في أمر واحد: وهو أنّها لم تَحدث في إطار عمليّة تأسيسيّة تشارُكيّة وغالباً ما تمّت صياغتها بعد أزمات وطنيّة عميقة. وقد دأبت الدولة الجزائريّة باستمرار على التصريح برغبتها في تلبية تطلّعات الشعب عند الإعلان عن إجراء تعديلات دستوريّة، لكنّها في المقابل لم تشاور المواطنين بالقدر الكافي خلال عمليّة صياغتها. وفي حين يُفترَض أنْ يكون الدستور نصّاً أساسيّاً يعبِّر عن الطبيعة الخالصة للميثاق الاجتماعيّ للشعب الجزائريّ، لم تهتمّ الدساتير المختلفة بالتنوّع السكّانيّ في الجزائر أو مطالب أولئك السكّان بالاعتراف بهُويّاتهم المتميِّزة وتمسّكهم بثقافاتهم.

وعلى الرغم من إجراء تعديلات على الدستور للاعتراف بالخلفيّات الثقافيّة المتنوّعة، كالأمازيغيّة،13بمعنى الانتماء إلى الهُويّة الأمازيغيّة. ما يزال هناك تجاهُل من قِبَل الجهات التشريعيّة لإصلاحاتٍ أخرى ذاتُ صلة يمكنها تعزيز تلك الخطوات؛ لأنّ تلك الإصلاحات يُنظَر إليها باعتبارها من "المحرَّمات" السياسيّة و"مثيرة للانقسام". على سبيل المثال، خلال عمليّة تعديل قانون الماليّة (ميزانيّة الحكومة) في العام 2017، اقترح "حزب العمّال الجزائريّ" إضافةَ مادّة لرفع ميزانيّة "المحافظة السامية للأمازيغيّة"14المحافظة السامية للأمازيغيّة: الجهاز الدائم (إلى جانب الأكاديميّة الجزائريّة للغة الأمازيغيّة) المسؤول عن تعزيز اللغة الأمازيغيّة. من أجل إتاحة مزيد من التمويل اللازم لتعليم اللغة الأمازيغيّة. رُفض هذا المقترح من قِبَل اللجنة المسؤولة عن الميزانيّة، التي تشكّلت أساساً من ممثّلين عن أحزاب الأغلبيّة، مثل "جبهة التحرير الوطنيّ" وحليفه المقرّب "التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ"، لأنّ معظم المندوبين الذين قاموا بالتصويت اعتبروا أنّ ذلك المقترَح يمثّل مطلباً غيرَ ضروريّ.

دستور 2020: هل هو دستور الحراك أم استمرار للإنكار المتواصل للتنوّع الجزائريّ؟

في كانون الأوّل/ديسمبر 2019، وبعد حوالي عام من الاحتجاجات الشعبيّة، اختِير عبد المجيد تبّون رئيساً للجمهوريّة في أعقاب انتخابات شهدت أدنى مشاركة في تاريخ الجزائر. وَعد الرئيس تبّون، خلال حملته الانتخابيّة، بالإفادة من الحراك و"احترام" دعوات الشعب الجزائريّ إلى إحداث تغيير جذريّ عميق. ودعا تبّون إلى تشكيل "لجنة" من أجل صياغة دستور جديد، يمثّل دستوراً للحراك.15https://aps.dz/algerie/110006-belhimer-la-nouvelle-constitution-repondra-aux-revendications-du-hirak سيُعرَض مشروع الدستور هذا، الذي يُشير إلى الحراك في ديباجته، على استفتاءٍ شعبيّ في الأوّل من تشرين الثاني/نوفمبر 2020، لكنّه أثار بالفعل عدداً من التوتّرات بين أطياف المجتمع الجزائريّ. فهو يكرِّس اللغة الأمازيغيّة كلغةٍ رسميّة لها نفس الوضع القانونيّ الثابت المنصوص عليه في المادّتين الثانية والثالثة من الدستور (المتعلّقتان بالإسلام واللغة العربيّة)، ويقترح تدابيرَ إضافيّة مثل أنْ تكون المدارس الحكوميّة حياديّة وتجنيبها التأثير الأيديولوجيّ16https://www.inter-lignes.com/amendement-constitutionnel-lassociation-des-oulemas-musulmans-emet-des-reserves-sur-certains-articles/ والإبقاء على الموادّ المتعلّقة باحترام "حرّيّة الوجدان". اعتبرَت الأطراف العربيّة والأمازيغيّة، على السواء، هذه التعديلات المقترَحة تدابيرَ سطحيّة تافهة، لا تتجاهل خصوصيّات الشعب الجزائريّ فحسب ولكنّها أيضاً منفصلة عن الواقع الاجتماعيّ؛ إذ ما يزال التوافق السلميّ بين الجماعات الأيديولوجيّة المتباينة أمراً بعيد المنال.

وبَينما توجد توتّرات واضحة في أوساط الجزائريّين، ما تزال الدولة ترى النقاش حول القضايا الأيديولوجيّة انحرافاً خاطئاً ومصدراً للانقسام.17يعتبر المتحدّث الرسميّ باسم الحكومة النقاشَ حول الهُويّة "استفزازاً صارخاً لمشاعر الشعب". المصدر: https://www.liberte-algerie.com/actualite/le-pays-a-besoin-dune-constitution-consensuelle-339997. لا يتجاهل مشروعُ الدستور وجودَ هذا التنوّع فحسب، وإنّما يميل إلى اعتبار أنّ الجزائريّين ليسوا سوى عرب ومسلمين من أصول أمازيغيّة على النظام الاعتراف بها. من المفارَقات أنّه فيما تحاوِل الدولة تجاهُل التوتّرات بين أطياف المجتمع من أجل حماية النسيج الاجتماعيّ، كما تزعُم، فإنّها تُسهم بشكلٍ كبير في تفاقُم آثار تلك التوتّرات، ممّا يزيد من تكثّف الهجوم بين الأطراف. يعتقد كثيرون أنّ هذه التوتّرات تخدم الدولة، نظراً لأنّها تشغل المجموعات المتناحرة، فيما تقوم السلطات بتمرير القوانين "متخفّية". وقد كان هذا مثلاً هو الحال حين تمّ تمرير قانون الماليّة في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، دون مناقشته بالقدر الكافي في البرلمان أو في الأوساط العموميّة الأوسع.

مشروع الدستور الحاليّ إنّما هو محاولة أخرى من الدولة الجزائريّة لتمرير وثيقة دون مشاورات شعبيّة، الأمر الذي من الأرجح أنْ يؤجِّج حالةً أخرى من الصراع بين أطياف المجتمع المستقطَبة بالفعل. فوَفقاً لوليد العَقون، خبير القانون الدستوريّ المعروف ومقرِّر لجنة الخبراء المسؤولة عن هذه التعديلات، تمّ رفض العديد من المقترَحات المتعلّقة بقضايا الهُويّة، التي قُدِّمت داخل لجنة التعديلات الدستوريّة، من قِبَل اللجنة ذاتها،18https://www.algerie360.com/walid-laggoune-une-constitution-est-faite-pour-des-citoyens-et-non-pour-des-croyants/ على الرغم من رفضه إعطاء تفاصيل عن ماهيّة تلك المقترَحات المرفوضة. وبَينما أقرَّ العَقون أنّ المواطنة والدين مفهومان منفصلان تماماً، فقد ذكَر في عدّة مناسبات أنّ التوازن المتزعزع بين الهُويّة ومعنى "الجزائريّة" ما زال إلى اللحظة خارج نطاق النقاشات الجارية، وأنّ الهُويّة تظلّ موضوعاً حسّاساً في تناوله إلى حدٍّ كبير.

الحراك: مساحة للنقاش الشعبيّ أم وعاء للتوتّرات الأيديولوجيّة؟

تتعدّد وتتنوّع التوجّهات الأيديولوجيّة في داخل الحراك. ومع أنّ التوتّرات القائمة أعقد من أنْ يتمّ تحديدها، لكنْ يمكن تلخيصها في ثنائيّة المحافظين والتقدّميّين: أيْ الإسلاميّين الذين يدعمون الاعتراف بالثقافة الأمازيغيّة ولكنْ مع ربطها بالعروبة والإسلام، والتقدّميّين الذين يدعمون التعدّديّة الثقافيّة وتأسيس دولة علمانيّة. تحمل المنظور الإسلاميّ حركة الرشاد، وهي رابطة من المثقّفين المحافظين من الشتات الجزائريّ في فرنسا وإنجلترا وأميركا، ومنهم شخصيّات مهمّة من "الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ"، التي تمّ حلها، مثل مراد دهينة. يتردّد صدى هذا التيّار، البارز في أوساط الحراك، بعمقٍ لدى الشعب الجزائريّ، إذ يدافع عن جزائر تتجذّر فيها قيم الإسلام وثقافتها عربيّة-أمازيغيّة مزدوجة، على الرغم من ميل هذا التيّار الواضح إلى العروبة.

أمّا المنظور الثاني، الذي يمثّله عدد أقلّ ولكنّ له نفس التأثير في أوساط الطبقات التقدّميّة في المجتمع، هو المنظور العلمانيّ، بمعنى فصل الدين عن الدولة والاعتراف بالتنوّع الدينيّ والثقافيّ داخل المجتمع الجزائريّ. ومع أنّ من الصعب القول إنّ هناك منظّمة بنفس حجم حركة الرشاد تمثّل هذا التوجّه العلمانيّ، لكنْ هناك العديد من المنظّمات والأحزاب السياسيّ التي تقع في إطار هذا الاتّجاه، حتّى إنْ لم تكُن تُعلِن بوضوح علمانيّتها. من بين تلك الأحزاب "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطيّة" و"تجمّع العمل الشبابيّ" و"الحركة الديمقراطيّة والاجتماعيّة". والمنظّمات والأفراد القريبين من وجهة النظر تلك هم غالباً من الأمازيغ، وأقلّ حماسةً للاعتراف بالعروبة كمكوِّن أساسيّ للهُويّة الجزائريّة.

انعكست تلك الانقسامات على الطريقة التي تفاعل بها المكوّنان الأساسيّان للحراك مع مشروع الدستور. فقد استنكر العلمانيّون عدم ضمان التنوّع الدينيّ بشكلٍ كافٍ، على الرغم من موادّ الدستور التي تكفل حرّيّة الوجدان؛ فيما ينتقد كثير من الإسلاميّين بشدّة هذه الموادّ نفسها، ويعتبرونها تهديداً للثقافة "الإسلاميّة" الجزائريّة. أمّا بالنسبة إلى الثقافة الأمازيغيّة، فقد اعتبر الأمازيغ أنّ الموادّ التي تصف "تمازيغت"19تمازيغت هو الاسم المحلّيّ الأصليّ للغة الأمازيغيّة. كلغة وطنيّة ورسميّة -دون تبنّي إطارٍ قانونيّ يسمح بالنهوض بها- هي مجرّد تلاعُب من قِبَل الحكومة. في غضون ذلك، يرى القوميّون العرب هذه الإجراءات "كارثيّة" وتؤدّي إلى "القضاء التامّ" على اللغة والثقافة العربيّتَين في الجزائر، على حدِّ قول الناشط السياسيّ المحافظ نور الدين ختال.

أدّى الانقسام حول هذه القضايا -وخاصّة مسألة الهُويّة الأمازيغيّة وموقع الدين [في الحياة العامّة]- إلى تخلّي كثيرين عن الحركة مؤخّراً، كما لُوحِظ في النقاشات الدائرة على مواقع التواصل الاجتماعيّ. وبَينما يشير هذا إلى أنّ قضيّة الهُويّة الأمازيغيّة -إلى جانب قضيّة التنوّع الدينيّ- ما تزال قضيّة جدليّة، فإنّه يُبرِز أيضاً وجود فجوة كبيرة بين الأطياف المجتمعيّة المتباينة داخل الحراك نفسه. إضافةً إلى هذا، يُرجَّح أنّ كثيراً من التقدّميّين تخلّوا عن الحركة بسبب زيادة تأثير حركة الرشاد داخل الحراك في العام 2020. وبعيداً عن التوتّرات الدائرة بين التنظيمات، تهيمن النقاشات العامّة بين العلمانيّين والإسلاميّين على المنصّات الإلكترونيّة والشوارع، بما في ذلك أوساط الشتات الجزائريّ وخصوصاً "ساحة الجمهوريّة" في باريس، منذ حزيران/يونيو 2020؛ حيث واصل الجزائريّون احتجاجاتهم هناك بدلاً من الجزائر التي مُنِعت فيها المظاهرات.

وهناك منظور ثالث يكتسب زخماً في أوساط الحراك اليوم، وهم "النورماليّون" [العاديّون]، وذلك نتيجة التوتّرات القائمة بين الإسلاميّين والعلمانيّين وبين القوميّين العرب والأمازيغ. عادةً ما يمثّل "النورماليّين"20صفحة فيسبوك الرسميّة للنورماليّين: https://www.facebook.com/621628585154021. شخصيّاتٌ شعبيّة مثل الشاعر والناشط السياسيّ المسجون حاليّاً محمّد تاجديت، وهم يزعمون أنّهم "عاديّون"، لا إسلاميّون ولا علمانيّون، لا قوميّون عرب ولا أمازيغيّون، وإنّما جماعة وسطيّة كما يصفون أنفسهم. يطمح هذا التوجّه إلى إبعاد النقاش والجدل عن الجماعات الأيديولوجيّة المختلِفة، من خلال دعم مواقف حياديّة، وهو توجّه يرى الانتماءات الأيديولوجيّة والهُويّة أموراً عرَضيّة. ومع أنّه تيّار تمثّله أقلّيّة، يظلّ تجسيداً لرفض قطاع من السكّان لأيّ نوعٍ من المواجهات "الجدليّة". ويرفض "النورماليّون" أيضاً مشروعَ الدستور، لا بسبب قضايا الهُويّة، وإنّما بسبب معارضتهم النظامَ نفسه، ولأنّهم يعتقدون أنّ الدستور سيُبقي هذا النظام في مكانه.

لا يُمكن إغفال حقيقة أنّ الحراك رفض بشدّة العمل ضمن إطار تنظيميّ رسميّ، ولذلك لم يستطِع تقديم بدائل سياسيّة ملموسة، لا سِيَّما فيما يتعلّق بقضايا الهُويّة. ومع ذلك، تمخّض العديد من المبادرات عن الحراك منذ بداية الحركة لمناقشة الدستور الجزائريّ الجديد، وهو دستور يأخذ في الاعتبار مطالبَ الحراك التي كثيراً ما تكون متباينة. وقد أنشأ الناشط والباحث هشام رويبح مجموعة "اكتب دستورك"21https://www.algerie360.com/des-citoyens-benevoles-proposent-la-constitution-citoyenne-de-transition/ على منصّة فيسبوك من أجل البدء في فتح حوار ونقاش حول الدستور الجديد. فيما عمِلَ مشروع "مشمُول"، الذي أطلقه كاتب أمازيغ، قائد الفرقة الموسيقيّة "غناوى ديفيزيون"، مدّةَ عامٍ على جمع الآراء حول اتّجاه الدستور الجديد، ونشر النصّ المُقترح في ربيع عام 2020.22https://fr.sputniknews.com/maghreb/202006241044001054-mechmoul-un-projet-citoyen-de-transition-democratique-en-algerie/ في حين نشرت صحيفة "ليبرتي" اليوميّة مسوّدة أوّليّة لـ"ميثاق المواطن" في 28 آب/أغسطس 2019، حيث اقترح 160 مثقّفاً موادّ دستوريّة من أجل صياغة ميثاق جديد شامل ومتنوّع.23https://www.liberte-algerie.com/actualite/revolution-une-charte-pour-une-perspective-democratique-322781

يبدو جلِيّاً أنّ هذه المناقشات المكثّفة بين المجموعتين لم يكن لها صدىً في آذان صنّاع القرار، الذين تجاهلوا -دون شكّ- وجودَهما والخطرَ الذي تشكّلانه إذا لم تؤخَذ اقتراحاتهما بعَين الاعتبار. إضافةً إلى ذلك، فشلت السلطات في الاستفادة من المبادرات العديدة التي ظهرت منذ بداية الحركة، وخسرت مجدّداً فرصة أخرى لسدّ الفجوة بين الدولة والشعب. ولئِن كان واضحاً أنّ الحراك يمكن أنْ يضطلع بدور أكبر في عمليّة تعديل الدستور بدلاً من مجرّد الإشارة إليه في ديباجة مشروع التعديل، فمن الصعب على ما يبدو أنْ نتصوّر أنّ النظام قد يتخلّى عن امتيازاته ويخاطر باستمراريّته. فقد تسبّب وباء كورونا وما تلاه من توقّف المسيرات الشعبيّة الأسبوعيّة، إضافةً إلى اعتقال الشخصيّات الرئيسيّة البارزة في الحراك، في توجيه ضربة قاصمة للحركة وتجريدها من قوّتها الرئيسيّة المتمثّلة في ضغط الشارع الثوريّ.

هل سيكون الدستور الجزائريّ -من خلال مشروع التعديل الدستوريّ هذا- قادراً على تمثيل إرادة الشعب التي يُعبّر عنها الحراك؟ على الرغم من أنّ هذا السؤال ضروريّ وفي وقته المناسب، يبدو من الصعب تصوّر أنّ هذا الدستور، إذا ما حظي بالتأييد عن طريق الاستفتاء، سيُنظر إليه على نحوٍ مختلف عن سابقيه. وفي حين دعَت العديد من الأصوات بين الحراك إلى إقرار فترة انتقاليّة24https://www.france24.com/fr/20200219-alg%C3%A9rie-un-an-apr%C3%A8s-quel-bilan-pour-le-hirak ،و/أو انتخاب جمعيّة تأسيسيّة25https://www.liberte-algerie.com/actualite/plaidoyer-pour-une-constituante-339012 فقد فضّل الرئيس تبّون الإبقاء على الوضع الراهن وتبنّي الطريقة التقليديّة المعتمدة على المبادرات القادمة من الأعلى إلى الأسفل. في الواقع، تألّفت اللجنة المسؤولة عن تعديل الدستور، بناءً على مبادرة من الحكومة، من فريق من الخبراء يعيّنهم الرئيس. وتمثَّل دورُهم في صياغة مواد جديدة وتقديمها إلى الرئيس، ثمّ إلى البرلمان، وأخيراً إلى "ممثّلي المجتمع المدنيّ" الذين اختارهم الرئيس بنفسه من بين الجمعيّات والتجمّعات الداعمة لانتخابه مثل جمعيّة "الكشّافة الإسلاميّة الجزائريّة". بينما أعلنت "الهيئة العليا للانتخابات" أنّه تمّ التشاور مع 5 آلاف شخص خلال عمليّة تعديل الدستور. بيد أنّ الطبيعة الإقصائيّة التي اتّسمت بها عمليّة صياغة الدستور، القادمة من الأعلى إلى الأسفل، وإهمالها لقضايا الهُويّة إلى حدٍّ ما، تجعل منه مشروعاً محكومٌ عليه بالفشل. ففي الوقت الراهن، دعت بالفعل العديد من الأحزاب من الجانبين (من جهة "جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين" و"حركة مجتمع السلم" و"حركة الإصلاح" التي تُمثّل الإسلاميّين،26https://www.tsa-algerie.com/constitution-les-islamistes-font-feu-de-tout-bois-contre-tamazight/ ومن جهة أخرى "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطيّة" و"الحركة الديمقراطيّة والاجتماعيّة" و"جبهة القوى الاشتراكيّة" التي تُمثّل الديمقراطيّين)27https://www.elwatan.com/edition/actualite/le-ffs-critique-le-projet-de-revision-de-la-constitution-la-demarche-du-pouvoir-ne-repond-pas-aux-aspirations-des-algeriens-17-09-2020 إلى مقاطعة الاستفتاء.

المجتمع المدنيّ بوصفه قوّة محرِّكة للحوار وقاطرة لدفع الإصلاح الدستوريّ

على الرغم من الجهود التي تبذلها الدولة لتجاهل الحوار بشأن الهُويّة، وعلى الرغم من محاولات "النورماليّين" الرامية إلى تحويل بؤرة التركيز بعيداً عن التوتّرات الأيديولوجيّة، يبدو أنّها تحظى بقدرٍ كبير من الأهمّيّة اليوم، ليس فقطّ من أجل بناء فكرة عن دولة جزائريّة تقدّميّة وأكثر شمولاً على الأقلّ، بل أيضاً لوضع إطار للحوار وَفقَ آليّات سلميّة وفعّالة.

يبدو واضحاً أنّ الطبيعة التصادميّة التي يتّسم بها التفاعل بين المجموعتين الثقافيّتَين، والتي ظلّت قائمة لعقود من الزمان، ليست ذات طابع دينيّ أو عرقيّ فحسب، وإنّما بالأحرى تتعلّق بمنظومة متكاملة من المعتقدات. فمنذ إعلان الدستور الأوّل عام 1963، فشلت التعديلات الدستوريّة والتصريحات الحكوميّة -التي اعتبرت الشعب الجزائريّ ليس أكثر من مجرّد كتلة عربيّة مسلمة واحدة- في إثارة أيّ نوع من النقاشات السلميّة بين الجماعات المختلفة، وساهمت في تفاقم التوتّرات بين العلمانيّين والإسلاميّين، وأيضاً بين القوميّين العرب والأمازيغ. في الوقت نفسه، أفضت الصعوبات والتفاوتات الاقتصاديّة والاجتماعيّة إلى اتّساع الفجوة مع اتّهام كلُّ مجموعة الأخرى بالوقوف وراء الأزمة الاقتصاديّة28https://www.lemonde.fr/afrique/article/2020/08/10/coronavirus-l-algerie-face-a-une-situation-economique-difficile-et-inedite_6048580_3212.html التي أعقبت هبوط أسعار النفط. ولقد تفاقم هذا الموقف بسبب تأييد الحكومات الجزائريّة المتعاقبة دوماً لهذه النقاشات المتعارضة تعارُضاً تامّاً، واستغلالها لتحقيق غايات سياسيّة، وتضمين مفاهيم سطحيّة في الدساتير البعيدة أصلاً عن الواقع. وقد أدّى ذلك إلى إثارة خلاف فعليّ وإلى التمييز في كثير من المواقف، وخاصّةً أثناء الحرب الأهليّة خلال حقبة التسعينيّات من القرن الماضي. وبناءً على ما تقدَّم، يبدو أنّ الحوارَ والنقاشَ في إطار عمليّةِ إصلاحٍ دستوريّ كبير وعميق أمرٌ بالغُ الأهمّيّة من أجل تجنّب اندلاع أعمال العنف مجدَّداً، ومن أجل بناء نهج أكثر قوّة من أجل "الجزائر الجديدة".29 مصطلح يستخدمه عادةً الرئيس تبّون وإدارته للإشارة إلى البلاد بعد سقوط عبد العزيز بوتفليقة عام 2019.

بينما لم يَتَبقَّ سوى بضعة أسبوع حتّى موعد الاستفتاء المقرَّر عقده في 1 تشرين الثاني/نوفمبر، بات من الواضح اليوم أنّ المجتمع المدنيّ لا بدَّ أنْ يؤدِّي دوراً أكبر في دحض هذا الاستقطاب الثنائيّ ورفضه. إذ يمكن للجهات الفاعلة في المجتمع المدنيّ أنْ تهيِّئ بيئة ملائمة لإجراء حوار موضوعيّ وشامل حول الدستور، عن طريق الوساطة والعمل المجتمعيّ لتسهيل مراعاة تنوّع الشعب الجزائريّ. ولا بدَّ أنْ تبدأ منظّمات المجتمع المدنيّ هذا الحوارَ وتنظّمه لرفض مشروع الإصلاح الدستوريّ الحاليّ ولمواجهة سيطرة السلطات المركزيّة على حوار الهُويّة. وعلى الرغم من أنّ الدستور الجديد سيُعتمَد على الأرجح بعد استفتاء تشرين الثاني/نوفمبر، الذي من المتوقع أنْ يكون معدّل المشاركة فيه منخفضاً للغاية، لا بدَّ من تقديم مزيد من المقترحات ودعمها على نطاق واسع. فلا بدَّ لأيّ مشروع دستوريّ يطمح إلى دعم التماسك الاجتماعيّ أنْ يراعي تنوّع الشعب الجزائريّ ويتقبّله على نحو أكثر شمولاً. ومع أنّ هذا قد يؤدِّي إلى زيادة الانقسامات لفترة وجيزة، لن يُفضي غيابُ النقاش إلّا إلى تفاقم التوتّرات وإرساء الأساس لبروز المشاكل في المستقبل. من الممكن تحقيق هذه الغاية عن طريق اتّباع العديد من السبل، ومنها تعديل المادّة الثانية في الدستور للاعتراف بالمعتقدات الدينيّة الأخرى غير الإسلام كجزءٍ من الهُويّة الجزائريّة، وإتاحة مجالٍ أوسع أمام التنوّع العرقيّ من خلال توفير المزيد من الموارد والصلاحيّات للقادة السياسيّين المحلّيّين من أجل ضمان هذا التنوّع وتعزيزه وحمايته.

يتعيَّن إطلاق مبادرات المجتمع المدنيّ من أجل إرساء أُسُس لإطار يدعم حواراً صحّيّاً بين الجزائريّين ويدعمه بهدف صياغة دستور يعكس تطلّعات أطياف الشعب كافّة. والواقع أنّ العديد من المنظّمات والأحزاب السياسيّة أعربَت بالفعل عن تمسُّكها بالتعدّديّة، مثل "الرابطة الجزائريّة للدفاع عن حقوق الإنسان" أو "أحزاب الميثاق الديمقراطيّ". بيد أنّه ما يزال صعباً على الجزائريّين أنْ يثقوا في المنظّمات "التقليديّة". ولذلك لكي يُتوَّج أيّ مشروع إصلاحيّ شامل بالنجاح لا بدَّ أنْ يتمخّض من رحم المجتمع المدنيّ الجزائريّ. على سبيل المثال، لا بدَّ أنْ تروِّج منظّمات المجتمع المدنيّ لمثل هذه المواضيع الصعبة كالدين والهُويّة الثقافيّة من أجل مواجهة النظام الذي يستخدمها بُغية التلاعب السياسيّ. وهذا من شأنه أيضاً أنْ يسمح بفهم أفضل لأهمّيّتها من أجل تيسير قبول الجزائريّين لها ودعم قدرتها. ومع أنّ الصراعات الأيديولوجيّة ستظلّ موجودة بكلِّ تأكيد، فإنّ أخذها بعَين الاعتبار في المناقشات العامّة يُشكِّل أهمّيّةً محوريّة لبناء أمّة تعيش في سلام مع تنوّعها.

Endnotes

Endnotes
1 https://www.algerie-eco.com/2020/10/10/revision-de-la-constitution-la-campagne-electorale-sous-les-feux-des-islamistes/
2 https://www.rfi.fr/fr/afrique/20200911-alg%C3%A9rie-nouvelle-constitution-stade-projet-fait-d%C3%A9j%C3%A0-grincer-dents
3 من بين الأمثلة الأخرى على الإجراءات الصوريّة التي لا تأثير لها في الواقع: اعتماد "المحافظة السامية للأمازيغيّة"، وإدخال مواد تكفل حرّيّة الوجدان، واعتماد "الأكاديميّة الجزائريّة للغة الأمازيغيّة".
4 التعديلات التي أدخلت على الدستور الجزائريّ منذ صدور أوّل نسخة منه عام 1963: دستور عام 1963، وقد أوقف هوّاري بومدين العمل به عام 1965، ستور عام 1976، عُدِّل في أعوام 1979 و1980 و1988، وهو منصوص عليه في الميثاق الوطني الجزائري الذي أصدره هوّاري بومدين في 5 تمّوز/يوليو عام 1976 وعُدِّل عام 1986، دستور عام 1989، دستور عام 1996، عُدِّل في أعوام 2002 و2008 و2016.
5 https://mjp.univ-perp.fr/constit/dz1963.htm
6 أحد أشهر الاتهامات الموجهة للمجموعات المناهضة للمجانسة مثل الأمازيغ أو العلمانيّين هو أنّهم يخدمون مصالح أجنبيّة.
7 https://mjp.univ-perp.fr/constit/dz1989.htm
8 Aït-Aoudia Myriam, “Les dilemmes des nouveaux partis face à la participation à la première élection pluraliste post-autoritaire. Retour sur un impensé à partir du cas algérien”, Revue internationale de politique comparée, 2013/2 Vol. 20, p. 15-32. DOI : 10.3917/ripc.202.0015
9 أيْ الانتماء إلى الثقافة العربيّة.
10 القبايل: السكّان الأصليّون في منطقة القبائل شمال الجزائر، ويتوزعون على سلسلة جبال الأطلس التلّيّ، على بُعد تقريباً 170 كيلومتر شرق العاصمة الجزائر. ويمثّلون أكبر عدد من السكّان الناطقين بالأمازيغيّة في الجزائر وثاني أكبر مجموعة سكّانيّة ناطقة بها في شمال أفريقيا.
11 اللغة الوطنيّة هي لغة يُعترف بأنّها جزء من الثقافة الوطنيّة وغالباً ما تُدرَّس في المنطقة التي ينتشر فيها الناطقون بها (كمنطقة القبائل على سبيل المثال). أمّا اللغة الرسميّة فهي لغة تعترف الدولة بأنّها إحدى لغاتها، وتُستخدم في الوثائق الرسميّة والمؤسّسات الحكوميّة، بما في ذلك المحاكم وخلال التواصل الحكوميّ الرسميّ.
12 https://www.rtl.fr/actu/international/algerie-trois-eglises-protestantes-fermees-par-les-autorites-7799267109
13 بمعنى الانتماء إلى الهُويّة الأمازيغيّة.
14 المحافظة السامية للأمازيغيّة: الجهاز الدائم (إلى جانب الأكاديميّة الجزائريّة للغة الأمازيغيّة) المسؤول عن تعزيز اللغة الأمازيغيّة.
15 https://aps.dz/algerie/110006-belhimer-la-nouvelle-constitution-repondra-aux-revendications-du-hirak
16 https://www.inter-lignes.com/amendement-constitutionnel-lassociation-des-oulemas-musulmans-emet-des-reserves-sur-certains-articles/
17 يعتبر المتحدّث الرسميّ باسم الحكومة النقاشَ حول الهُويّة "استفزازاً صارخاً لمشاعر الشعب". المصدر: https://www.liberte-algerie.com/actualite/le-pays-a-besoin-dune-constitution-consensuelle-339997.
18 https://www.algerie360.com/walid-laggoune-une-constitution-est-faite-pour-des-citoyens-et-non-pour-des-croyants/
19 تمازيغت هو الاسم المحلّيّ الأصليّ للغة الأمازيغيّة.
20 صفحة فيسبوك الرسميّة للنورماليّين: https://www.facebook.com/621628585154021.
21 https://www.algerie360.com/des-citoyens-benevoles-proposent-la-constitution-citoyenne-de-transition/
22 https://fr.sputniknews.com/maghreb/202006241044001054-mechmoul-un-projet-citoyen-de-transition-democratique-en-algerie/
23 https://www.liberte-algerie.com/actualite/revolution-une-charte-pour-une-perspective-democratique-322781
24 https://www.france24.com/fr/20200219-alg%C3%A9rie-un-an-apr%C3%A8s-quel-bilan-pour-le-hirak
25 https://www.liberte-algerie.com/actualite/plaidoyer-pour-une-constituante-339012
26 https://www.tsa-algerie.com/constitution-les-islamistes-font-feu-de-tout-bois-contre-tamazight/
27 https://www.elwatan.com/edition/actualite/le-ffs-critique-le-projet-de-revision-de-la-constitution-la-demarche-du-pouvoir-ne-repond-pas-aux-aspirations-des-algeriens-17-09-2020
28 https://www.lemonde.fr/afrique/article/2020/08/10/coronavirus-l-algerie-face-a-une-situation-economique-difficile-et-inedite_6048580_3212.html
29  مصطلح يستخدمه عادةً الرئيس تبّون وإدارته للإشارة إلى البلاد بعد سقوط عبد العزيز بوتفليقة عام 2019.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.