مقدمة
يقف المشرّع اليمني على مسافة من بعض أشكال الجرائم الإلكترونية، إذ لم يتطرّق إلا إلى حماية العمليات المصرفية، حيث أصدر في سنة 2006 قانون رقم (40) بشأن أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الالكترونية، مع اعتماده على القانون رقم (12) لسنة 1994 بشأن الجرائم والعقوبات في موادها (245) والتي ضمن الفصل الثاني "الاعتداء على الحرية الشخصية " ، تحت بند الاصابة الخطا والمادة (256) تحت بند الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة ، والمادة(257) تحت بند التهديد بإذاعة الاسرار الخاصة من الفصل الثاني كذلك ، اما المادة (313) فهي من الفصل الثالث "في اكل أموال الناس بالباطل " تحت بند الابتزاز. يتمّ تطبيق هذه المواد كنوع من المعالجة بشكل جزئي، بالإضافة إلى القانون رقم (13) لسنة 1994 بشأن الإجراءات الجزائية. وهنا يظهر الخلل في المنظومة القانونية، يظهر العوار التشريعي والنقص بقدرتها على التعامل مع الجرائم الإلكترونية.
هذا الفراغ التشريعي لم يتمّ تداركه في التعرّف على مدى خطورة الجرائم الإلكترونية على النساء ومدى تأثّر النساء بمثل هذه الجرائم، غاب عن المشرّع اليمني مواكبته للتعديلات والتحديثات للمنظومة القانونية فلم يتطرّق أو يتعامل مع الجرائم الالكترونية المعنية بقضايا التحرش والابتزاز وانتهاك الخصوصية التي تتعرض لها النساء في اليمن.
وعلى الرغم من التطوّر الهائل واتساع رقعة التواصل عبر الشبكة العنكبوتية، والتي أصبحت في متناول الجميع بدون استثناء إلا أنها في ذات الوقت تُعتبر وسيلةً ذات خطورة عالية وخاصة لدى المجتمعات التقليدية أو المحافظة. فقد أصبح عدد مستخدمي الأنترنت في اليمن أكثر من 9 ملايين مستخدم؛ أي أكثر من ربع السكان وذلك بناءً على التقديرات الصادرة لعام 2023.
يؤثّر هذا التزايد على نسبة ارتكاب "الجرائم الإلكترونية" في اليمن التي ارتفعت وتزايد معها عدد النساء اللواتي يتعرّضن للابتزاز والتشهير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في ظلّ دولة تعاني من استمرار حالة الحرب وعدم وجود قانون يعمل على الحدّ من هذه الظاهرة وإيجاد رادع أو عقوبة تتناسب مع خطورة هذه الجرائم على النساء وعلى المجتمع ككلّ.
في هذه الورقة سيتمّ تناول: واقع النساء اليمنيّات مع الجرائم الالكترونية وقصص لضحايا الابتزاز الإلكتروني، ودور الأسرة والمجتمع، من هو المبتزّ؟ وما هي القوانين التي تقوم الدولة بإتباعها للحد من هذه الجريمة في ظل فراغ تشريعي وتدهور أمني يمسّ شريحة الفتيات والنساء ويعمل على إضفاء وصمة العار عليهن؟ كيف تتعامل الجهات الأمنية والقضائية مع الضحايا وما دور مؤسسات الدولة في مواجهة الجرائم الإلكترونية؟ وما الدور الذي تلعبه الحركات النسوية وحملات المناصرة للضغط على صانعي القرار، لإيجاد حلول لمثل هذه الجرائم التي تعتبر دخيلة على المجتمع اليمني.
تعدّد ضحايا الجرائم السيبرانية
أيقظت سارة حراكاً شعبياً عندما أقدمت على إطلاق الرصاص على نفسها في أحد شوارع مدينة تعز، جنوب غربي اليمن. حدث ذلك بعد أن توجهت سارة مثل غيرها من النساء اليمنيات إلى قسم شرطة في محافظة تعز للتبليغ عن جريمة ابتزاز إلكتروني؛ تمّ اختراق حسابها على منصّة "فيسبوك"، في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 من قِبل صديقتها وأحد أقاربها. وعلى الرغم من تمكّن السلطات الأمنية من التعرّف على الجناة إلّا أن السلطات التزمت الصمت، وتسبّب ذلك بعدم معاقبة الجناة، فقررت سارة الانتحار. لم تكن قضية سارة الأولى من نوعها؛ بل هناك العديد من النساء اللاتي تمّ ابتزازهن فأقدمن على الانتحار أو تعرّضن للاعتداء الجسدي الذي أفضى إلى الموت.
حدث الأمر نفسه مع بشرى ذات الثامنة عشر عامًا والتي تمّ الاعتداء عليها وخطفها واغتصابها من قبل مجموعة من الشباب الذين قاموا بتصويرها وتهديدها بشكل مستمرّ لابتزازها جنسيًا، وعندما لم ترضخ للتهديد تمّ نشر صورها على الإنترنت، ما دفع أسرتها إلى قتلها للتخلّص من العار.
كذلك حدثت قضية ابتزاز اخرى من مجهولين في محافظة عدن "العاصمة المؤقتة" حالياً، فقد تمّ في تموز/يوليو 2021 اختراق حساب مهاء (اسم مستعار) على منصة "فيسبوك" والتي يبلغ عمرها واحد وثلاثين عاما ً وتمّ الاستحواذ على صورها وصور صديقتها من حسابها الشخصي وقام المبتزّون بإنشاء حسابات مزيّفه بإسم مهاء وتمّ نشر الصور عبر تلك الحسابات كما تمّ نشر صورة بطاقتها الشخصية وصور لها بدون نقاب ولصديقتها بدون حجاب وصورة لجواز سفر شقيقتها. طلب المبتزّون من مهاء مبلغ 800 دولار مقابل حذف الصور ولكنها ردّت بعدم قدرتها على دفع المبلغ، فطُلب منها اللقاء بهم في أحد الفنادق فرفضت أيضاً وقامت بدفع ما يعادل نحو 280 دولار بالريال اليمني حتى يتمّ حذف الصور وإغلاق الحسابات المزيّفة.
وفي آب/ أغسطس 2023، قامت مهاء بالحديث عن تجربتها عبر نشر منشور في حسابها على "فيسبوك" تذكر تفاصيل ما وقع معها من ابتزاز من قبل مجهولين، لتجد بعد عدّة أيام رسالة من أحد المبتزين يهددها بعدم الحديث وإيقاف النشر وإلا ستُنشر صورها على منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
كما تلقّت عفراء (اسم مستعار)، التي تبلغ من العمر واحد وثلاثين عاماً من محافظة تعز جنوب غربي اليمن، في شباط/ فبراير 2022 رسالة نصّية حول مشاركة صورها ومقاطع فيديو خاصة بها، وطلب المبتزّ أن تسلّمه هاتفها وجهاز اللابتوب الخاص بها. لكنها تجاهلت الرسائل، لتتلقّى بعد عدّة أيام عدداً من الصور لمحادثاتها الخاصة مع صديقتها أُرفق بطلب مبلغ 1300 دولار، لكنها أيضاً تجاهلت الأمر تماماً. وبعد شهرين، في شهر نسيان/ أبريل 2022 قام المبتزّ بنشر صور تخرّجها من الجامعة على حساب مزيّف يحمل اسمها على "فيسبوك". ومن المفارقات أنّ عفراء تعرّضت للمساءلة القانونية بعد عام، بسبب محاولتها الانتحار نتيجة الضغوظ النفسية التي تعرّضت لها من قبل المبتزّ الذي عُرف لاحقاً بأنه ابن جيرانها.
أما عائشة التي تعيش في العاصمة صنعاء، فقد تعرّضت من قبل شريكها السابق للتهديد والابتزاز وفضح علاقتهما عبر نشر صورها وصور صديقاتها وجيرانها في عدد من الحسابات المزيّفة بإسمها. وكانت نتيجة هذه الواقعة أن تعرّضت عائشة للتعنيف من قبل أفراد أسرتها إذ أقدم أحد إخوتها على الاعتداء عليها بالضرب عدّة مرّات وأخذ منها هاتفها ووُصفت بأنها "جالبة العار لأسرتها ولن يتزوجها أحد".
ويستمرّ الحال مع قصة اخرى، حنان (اسم مستعار) ذات الثلاثين عاماً تعمل مقدّمة برامج تلفزيونية تعيش أيضا في صنعاء وتعرّضت للابتزاز من قبل زوجها السابق بأن قام بنشر صورٍ خاصة لها تظهر أجزاء من جسمها عبر حسابات مزيفة على منصة "فيسبوك" بشكل متكرر.
وقد عانت بشرى (اسم مستعار) من المشكلة ذاتها، وهي تعمل مندوبة مبيعات في إحدى شركات الأدوية في العاصمة صنعاء وتبلغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً، إذ جمع الشريك السابق لإبنة شقيقتها معلومات شخصية عنها وقام بنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.
تتكوّن لدى أغلب أفراد المجتمع فكرة التخلّص من المجني عليها لكونها أصبحت مصدرًا يجلب المشكلات، فلم تعد قضيتها فردية ويجب مناصرتها بل على العكس تصبح مثل هذه القضايا ذات تأثير مجتمعي فلا تتضرر الفتاة فقط؛ وإنما ينتج عن ذلك ضرر على جميع أفراد أسرتها، وهذا ما تعرّضت له أسرة "أبا عمّار" عندما قام شاب في محافظة إب وسط اليمن، بنشر صورة لإحدى فتيات العائلة ما اضطرّها إلى مغادرة المحافظة بأكملها والانتقال إلى محافظة أخرى بعد أن تعرّضت تلك العائلة إلى معاملة غير لائقة وازدراء من قبل المحيط. لهذا تعتمد العديد من الضحايا إلى اتخاذ طريقتين لحلّ مثل هذه القضايا إمّا عبر إسكات الجاني ويكون ذلك بدفع مبالغ مالية من قبل الضحية دون معرفة أسرتها خوفًا من القتل أو اللجوء إلى الانتحار أما الطريقة الثانية المتّبعة من قبل بعض الأسر حيث يتمّ التخلّص من المجني عليها "حتى لا تكون وصمة عار" على قبيلتها وأسرتها.
"من يقوم بالجرائم الإلكترونية في اليمن"
تتعرّض بشكل يومي 25 فتاة وامرأة لانتهاك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتشكّل فئة صغيرات السن اللاتي تتراوح أعمارهن بين 21 إلى 24 سنة، أكثر الفئات المستهدفة حيث يكثر استخدامهن لمنصّات التواصل الاجتماعي مما يزيد من تعرّضهن للضغط والابتزاز. أما الفئات العمرية الأكبر سنّاً، فإمّا يتعرّضن للضغوط أو للابتزاز لكونهن من الشخصيات الاجتماعية العامة، أو من الناشطات، وقد يكون جهلهن بأساليب الحماية الرقمية سبباً يسهّل تعرّضهن للابتزاز عبر مواقع التواصل. ،
وصل عدد الحالات المستهدفة في اليمن إلى 5000 حالة حدثت من عام 2020 إلى 2021، عبر اختراق حسابات لنساء أو عبر سحب ملفات صورهن من حساباتهن الشخصية أثناء إصلاح الموبايل أو أجهزة اللابتوب، وهذه المشكلة تعتبر ذات تأثير متزايد في المجتمع اليمني وهناك أكثر من 20 قضية يتمّ العمل عليها حاليًا ومتابعتها مع الجهات الأمنية. بالإضافة إلى قيام العديد من المهتمين بالأمن الرقمي إلى عقد العديد من التدريبات للفتيات من أجل رفع الوعي حول كيفية حماية البيانات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي وأخذ الاحتياطات من الجرائم الإلكترونية المتكررة.
ما هي أركان الجريمة الإلكترونية؟
الجريمة الإلكترونية أو السيبرانية: هي فعل ينتهك القانون، يُرتكَب باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لاستهداف الشبكات والأنظمة والبيانات والمواقع الالكترونية أو التكنولوجية وتسهيل ارتكاب جريمة. ولكون هذه الجريمة تعتدي على الخصوصية في إمكانية الحصول على البيانات والمعلومات الشخصية بدون علم المجني عليه، فهي تعرّض حياة الآخرين للخطر، إذ قد تصل إلى ارتكاب جريمة قتل. كما يحدث بحق النساء في اليمن بسبب تعرض العديد منهن إلى التهديد بعد اختراق حساباتهن الشخصية والاستيلاء على معلوماتهن الشخصية أو صورهن أو نشر مقاطع فيديو لهن، أصبحت هذه الظاهرة تؤثر بشكل كبير على النساء؛ مما جعل بعضهن يقدمن على الانتحار.
أدّت هذه الانتهاكات إلى دفع العديد من الحركات النسوية في اليمن والعاملين في الجانب الحقوقي والأمن الرقمي للمطالبة بحمايتهن من المنتهكين للخصوصية، وعدم إطلاق الأحكام الجزافية، وتحميل الدولة والسلطة التنفيذية والتشريعية مسؤولية عدم وجود قانون لمكافحة الجرائم الإلكترونية. وقد ترتّب على غياب قانون خاص بالجرائم الإلكترونية التعامل مع هذه القضايا وفقًا لقانون العقوبات اليمني، الذي لا يحمي الضحية ولا ينصّ على عقوبات مناسبة إذ إنّ أقصى عقوبة لا تتجاوز غرامة مالية زهيدة. كما أن هناك ميلاً إلى حلّ أغلب القضايا المماثلة داخل أقسام الشرطة تحت ذريعة تفادي جرائم الشرف التي قد تنجم عن هذه الانتهاكات في المجتمع اليمني المحافظ، وقد حال هذا الوضع دون لجوء الكثير من ضحايا هذه الجرائم إلى الجهات المختصة واكتفائهن بالصمت أو بالانتحار تفادياً لوصمة العار التي قد تلحق بهن أو بأسرهن.
وفي بدايات انكشاف جرائم الابتزاز الإلكتروني للنساء في اليمن وخروجها إلى العلن ، هزت المجتمع اليمني في 26 آب/ أغسطس 2020 حادثة حصلت في العاصمة صنعاء، إذ تصدّرت حينها جميع وسائل التواصل الاجتماعي قضية عبد الله الأغبري؛ الذي تمّ الاعتداء عليه بالضرب والتعذيب مما أدى إلى موته. وفي تفاصيل الواقعة أن الأغبري حصل على أدلّة تثبت أن ملّاك "محل السباعي" لبيع الهواتف النقالة وصيانتها في حي القيادة وسط العاصمة صنعاء يقومون بابتزاز النساء والفتيات بعد قيامهم بإفراغ أجهزة التليفونات الخاصة بهن. على إثر ذلك تعرّض الأغبري لاعتداء أدّى إلى مقتله وقد تمّ تداول مقطع فيديو ظهر فيه المجني عليه يتلقى أشد أنواع التعذيب. أثارت تلك الحادثة الرأي العام اليمني وخرجت تظاهرات في شوارع عدد من المحافظات اليمنية وأُطلقت حملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي تطالب بإنفاذ أقصى العقوبة بحق منفذي جريمة القتل. وأصدرت محكمة شرق الأمانة في العاصمة صنعاء أسرع حكم قضائي على الجناة من أجل السيطرة على الغضب المجتمعي، وشمل قرار المحكمة أحكاماً بالإعدام لعدد من الجناة والسجن لآخري.
الأمن الرقمي وحماية الخصوصية
يُظهر مؤشر الأمن السيبراني العالمي (GCI)، الصادر عن الإتحاد الدولي والمعني بتقييم مستوى التنمية والمشاركة لكل الدول على أساس خمسة ركائز (التدابير القانونية، التدابير التقنية، التدابير التنظيمية، تنمية القدرات، التعاون) احتلّت اليمن المرتبة الـ22 عربيًا والـ182 عالميًا (من أصل 182 دولة) في مؤشر الأمن السيبراني العالمي لعام 2020. ووفقًا لتقييم 2020 الصادر عن أكاديمية الحوكمة الإلكترونية (NCSI)، فقد حصلت اليمن على 6 مؤشرات فقط من أصل 77 مؤشر أعتمد عليها التصنيف في تقييم القدرات السيبرانية للبلد. وهذا ما يوضح مدى هشاشة البنية التحتية وغياب القوانين المعنية بمكافحة الجرائم الإلكترونية؛ مما أدى إلى انتشارها بشكل كبير في المجتمع اليمني.
عرفٌ سائد وتشريع غائب
في ظلّ حربٍ مستمرّة لأكثر من عشر سنوات يصبح العرف القبلي هو النظام السائد لحلّ مثل هذه الجرائم. ومع تقاعس المشرّع اليمني صدر آخر قانون يتعلّق بالقضايا الالكترونية عام 2006 وكان بشأن أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الالكترونية. عُني المشرّع اليمني بالجانب المالي أكثر من الجانب المجتمعي في ظلّ جريمة تؤدي إلى أن تفقد النساء أرواحهن بسبب صورة أو مقطع فيديو على وسائل التواصل.
تتعرّض النساء إلى العديد من الانتهاكات بين عنف أسري ومجتمعي وفي ظلّ الفراغ التشريعي يتمّ أحياناً التضحية بهن وتعتمد الجهات الأمنية على المادة رقم (313) من قانون الجرائم والعقوبات اليمني، والتي تنصّ على أنه "يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز 5 سنوات أو بالغرامة كل من يبعث قصداً في نفس شخص الخوف من الإضرار به أو بأي شخص اخر يهمه امره ويحمله بذلك وبسوء قصد على ان يسلمه أو يسلم اي شخص اخر أي مال أو سند قانوني أو أي شئ يوقع عليه بامضاء أو ختم يمكن تحويله إلى سند قانوني." وهذه العقوبة تقديرية لسلطة القاضي بما يراه مناسبًا، مع أن الغرامة في هذه الحالة تصل إلى 70 ألف ريال أي بمعدل ما بين (25 دولار و130 دولار) وهذا يعود إلى جهة إصدار الحكم بسبب اختلاف سعر الصرف بين مناطق اليمن، وفي كثيرٍ من الأحيان يتمّ الحلّ ودّياً من قبل أهل الضحية فيتمّ سحب الشكوى خوفًا من الفضيحة وهذا طبعًا في الحالات التي تصل إلى أقسام الشرطة وهي حالات نادرة جدًا.
أما في إطلاق سلطة القاضي والتي جاءت بناءً على النصوص القانونية من قانون الجرائم والعقوبات اليمني والتي يتم العمل بها حاليا كنوع من المعالجة الجزئية لمثل هذه الجرائم، فهي تحمل فرصة للجناة لعدم إنفاذ العقوبة والاكتفاء باحدى العقوبتين على الرغم من أنها غير مجدية في مثل هذه الجرائم والمثال على ذلك ما تعرّضت له "نجله" من ابتزاز من قبل زميلها في الجامعة عبر الفيسبوك في محاولة للضغط عليها للزواج به، وتهديدها وجهاً لوجه بالسلاح. ففي 30 كانون الثاني/يناير 2023، "حكمت محكمة غرب تعز على الجاني بالسجن لمدّة ستة أشهر وغرامة تعويضية بقيمة مليون ريال يمني، نحو 4 آلاف دولار بموجب المادة (254) من قانون العقوبات اليمني. وعلى الرغم من ذلك لم يدفع الجاني التعويض وسمح للوساطة القبلية بالتدخل فتمّ تأجيل تنفيذ مدة العقوبة لعدة أشهر "حتى يستكمل الجاني امتحاناته". وفي شباط/فبراير 2024، نفّذ الجاني عقوبة الحبس فقط ولم يدفع مبلغ التعويض، تلك عيّنة من صعوبات إنفاذ القانون في المحاكم اليمنية".
ويأتي عدم قدرة الجهات الأمنية على معالجة مثل هذه القضايا بمنحنى اخر من الصعوبات التي تعانيها النساء في أقسام الشرطة والنيابات فلا تنتهي معاناة النساء مع المنظومة القانونية حتى تبدأ في أقسام الشرطة ومكاتب التحقيق وتتمثل بعدد من الصعوبات منها عدم القدرة والمعرفة أو امتلاك الخبرة في التعامل مع الجرائم الالكترونية من قبل مسؤولي إنفاذ القانون، ما يؤدي إلى الاستعانة بمحقق خاص أو خبير يُعنى بمثل هذه الجرائم لتتبّع المعلومات وإجراء التحقيق والفحص. تجدر الإشارة إلى أن النساء الضحايا تتحمّلن التكلفة المالية كاملة مقابل هذا الإجراء، وقد تضطر العديد منهن إلى دفع رشاوى مالية، لضباط أقسام الشرطة ووكلاء النيابة حتى يقوموا بفتح ملفات تحقيق للشكاوى التي يتم رفعها من قبلهن.
فقد ذكرت بعض النساء مّمن قدّمن شكاوى إلى أقسام الشرطة إلى أن الموظفين طلبوا منهن دفع رشاوى لتغطية تكاليف عدد من الإجراءات القانونية مثل إصدار مذكرات الاعتقال والتنقل لتسليم الأوامر كذلك تزويد السيارات المستخدمة في عمليات اعتقال المتهمين بالوقود وتعيين الخبراء لاستخراج المعلومات من الهواتف وتنفيذ الأحكام الصادرة بسجن المتهمين. وقد أفادت إحدى الضحايا أنها اضطرّت إلى دفع مبلغ 400 دولار لتغطية تكاليف الإجراءات القضائية واعتقال المتهمين ونقل أحد الجناة الى مكتب وكيل النيابة للتحقيق معه.
وتترافق مع هذه الممارسات تعرّض عدد من الفتيات للإساءة اللفظية والتعنيف من قبل أفراد الأمن أنفسهم باعتبارهن نساء "متساهلات في شرفهن" و "منحلّات أخلاقياً"، وتُوجَّه لهنّ تهماً تتعلق بسبب التقاط الصورلأنفسهن وبأنهن قمن بإرسال هذه الصور والفيديوهات إلى المبتز، ويتمّ وصمهن بالعار خاصة حين ترفض الضحية التصالح مع الجاني او التنازل عن القضية كما يحدث في العديد من القضايا.
هكذا، تتضامن النيابة مع الجاني ويتمّ تحويل القضية من قضية ابتزاز وتهديد للضحية إلى قضية مخالفة القيم والآداب العامة، فتصبح الضحية في مواجهة قضايا شرف وفي صدام مع الجهات الأمنية والمجتمع. لذلك تلجأ العديد من النساء إلى التنازل عن القضية وإغلاقها خوفاً من عقاب الأسرة والمجتمع وعدم حصولها على الحماية من قبل سلطات الدولة.
غياب مؤسسات الدولة وجهود نسوية للمناصرة
تتغيّب المؤسسات الحكومية عن المشهد على الرغم من جسامة الجرائم الالكترونية وتأثيره على الثقافة المجتمعية وأهمها المؤسسات والوسائل الإعلامية، فيغيب الحديث عن مدى خطورة الجرائم الالكترونية أو عن إمكانية معالجة هذه الجرائم أو السعي من أجل اعادة النظر في المنظومة القانونية أو تسليط الضوء على آثار تلك الجرائم على الواقع المعاش في اليمن في ظل التدهور الاجتماعي والاقتصادي وحالات العنف المتزايدة ضد الفتيات والنساء. كذلك كان دور وزارة التربية والتعليم ضعيف ولم يُعنَ بمثل هذه الجرائم، فقد تصدر المشهد إدارة التربية والتعليم بمديرية المكلا بمحافظة حضرموت بالشراكة مع المساحة الآمنة في مؤسسة الوصول الإنساني بتدشين برنامج النزولات التوعوية حول الابتزاز الالكترونية، استهدفت في المرحلة الأولى عشر ثانويات ومجمّعات تعليمية ضمن خطة قسم مكافحة الابتزاز الإلكتروني والذي تمّ إنشاؤه بإدارة الأمن والشرطة في نفس مديرية المكلا لتوعية أفراد المجتمع وخاصة الفتيات حول كيفية عدم الوقوع بمخاطر الابتزاز الإلكتروني والحدّ من انتشاره وكيفية التعامل معه. يذكر أن هذه البرامج تركّز على الفتيات دون إدراج مدارس الشباب فيها ، وهذا مؤشر يوضح الفكر المجتمعي وطريقة تفكير الجهات الحكومية وتجسيد فكرة أن الفتيات هنّ المتسبّبات بـ"وصمة العار" على الرغم من كونهن ضحايا.
لم تعمل الإدارة التعليمية على عقد جلسات من أجل رفع الوعي الأسري مثلاً حول كيفية معالجة مثل هذه القضايا من دون اللجوء إلى العنف الجسدي أو عقد جلسات مع الشباب حول مدى تأثير هذه القضايا على التماسك المجتمعي والحفاظ على القيم والعادات المجتمعية وكيف يمكن المساهمة في الحد والتخفيف من الأضرار على فئات المجتمع المختلفة.
لهذا، تعدّدت الجهات التي تضامنت لمواجهة قضايا الابتزاز الالكتروني ضد النساء لتحويل ضحايا الابتزاز الإلكتروني إلى مشكلة اجتماعية. فكان لابد من التصدّي على مستوى عام وبناء وعي مجتمعي يواجه هذا النوع من التحديات بعيداً عن المعالجات الفردية والثقافية التي تكرّس أزمات الضحايا بدلاً من إيجاد حلول تعمل على الحد من العنف الممارَس على النساء.
فمنها ما كان يعنى بالجانب التوعية والتدريب عبر المنظمات والمبادرات والتكتلات النسوية في اليمن وخارجها أما في الجانب الآخر فقد كانوا معنيين بالحماية الرقمية والعمل على إزالة الصور والفيديوهات عبر التشبيك مع شركة ميتا.
سعت كلٌّ من مبادرة مسار السلام وشبكة التضامن النسوي إلى عقد العديد من الورشات التدريبية وحملات المناصرة لعدد من النساء العاملات في المجتمع المدني وهذا ما تمّ مؤخراً مع مؤسسة وجود للأمن الانساني بمشاركة نسوية في داخل اليمن وخارجها. وفي ظل غياب اعلامي واضح من الجهات الحكومية والجهات الامنية تظلّ الحركات النسوية هي المتصدرة لمواجهة هذه الانتهاكات التي تتعرض لها العديد من النساء على اختلاف دورهن بالمجتمع.
ومن الأمثلة على ذلك، ما قامت به مؤسسة عدن للفنون والعلوم بإطلاق حملة مناصرة لمبادرات شبابية ومؤسسات نسوية في إطار مشروع "احمني من الابتزاز الالكتروني"، تمّت بمشاركة ثماني مبادرات ومؤسسات شبابية في محافظة عدن جنوب اليمن والعاصمة المؤقتة حالياً، لتنفيذ حملات مناصرة للتخفيف من ظاهرة الابتزاز الإلكتروني.
كذلك ما قامت به مباردة مجتمع واحد للخدمة الإنسانية المجتمعية من خلال "حملة مناصرة ضد الابتزاز الإلكتروني" ومبادرة "كن انسان"، بالاضافة الى دور المنظمات الإعلامية "صدى" ضمن مشروع السلامة الرقمية بالشراكة مع "المنظمة الوطنية للإعلاميين اليمنيين " بتدريب 15 صحفياً وصحفية وناشطاً وناشطة في مديرية "المكلا"، محافظة حضرموت في الجزء الشرقي من اليمن.
لم تكتفِ الحركات النسوية بحملات المناصرة بل قامت بتنظيم عدد من الجلسات النقاشية والحوارية لإظهار مدى خطورة هذه القضية، فقد عملت مبادرة "هي من أجل المجتمع" و"الشبكة العالمية للنساء صانعات السلام"، حلقة نقاشية افتراضية بعنوان "الأمن الرقمي للنساء في اليمن" وذلك بدعم من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون. وقد تفرّدت مبادرة "وئام " الشبابية في تنفيذ تدريب يعنى بفئة الصمّ والبكم وهو يعتبر التدريب الاول من نوعه في اليمن يهتم بتعريف الجرائم الالكترونية باستخدام لغة الاشارة حتى تتناسب معهم ، للتحذير من مخاطر وكيفية الحماية من تلك الجرائم.
كما كان للمهتمين بالحماية الرقمية دوراً مع عدد من الصحفيين/ات لمساندة النساء الضحايا والتعامل مع قضاياهن من خلال الدعم والمساعدة الفنية والتدخل لإزالة المحتوى المسيء من صفحات الفيسبوك. من الأمثلة على ذلك، مؤسسة يودت " ممثلة بعزمي غالب"، ومنصة سند للحقوق الرقمية ممثلة بكلٍّ من المدرّب "مختار عبدالمعز ومدير المنصة فهمي الباحث"، والتي تجمع متخصصين بالأمن المعلوماتي يعملون بشكل تطوّعي لحلّ قضايا الابتزاز الالكتروني وهي مكونة من 300 خبير وتقني وتعمل بالتعاون مع مرصد الحريات الإعلامية.
كلّ تلك الجهود كانت من خلال مبادرات وحملات لتكتّلات نسوية أدركن مدى خطور الوضع على النساء والفتيات في اليمن في ظل حرب مستمرة وفراغ قانوني أتاح للجاني فرصة الفرار من العقاب. هذه المحاولات المستمره كانت سبباً في إنشاء أول شعبة متخصصة بالابتزاز الإلكتروني في النيابة العامة تابعة لمكتب النائب العام في محافظة عدن العاصمة المؤقته حالياً، وجاءت بعد إصدار قرار من النائب العام القاضي قاهر مصطفى. وعمل تكتّل "نون" النسوي بالشراكة مع مؤسسة PASS سلام لمجتمعات مستدامة وبدعم من منظمة Saferworld، ضمن المرحلة الثانية من مشروع التغيير في تخصيص الموارد لدعم منظمات حقوق المرأة WORs والشبكات والتكتلات النسائية في الدول الهشة والمتأثرة بالصراع FCAS في العاصمة المؤقتة عدن.
ويعتبر ما صدر مؤخراً من قبل محكمة صيرة الابتدائية في عدن أول حكم في قضية جنائية تتعلق بجريمة الابتزاز الإلكتروني، كان ذلك برئاسة القاضية "سارة عبدالرحيم باعمر" ووكيل نيابة الصحافة والمطبوعات والنشر الالكتروني القاضي "خالد الحسنى"، ليُعتبر سابقة قضائية نتجت عن جهود التكتلات النسوية في اليمن ضد الجرائم الإلكترونية. وقضت المحكمة:
"بإدانة المتهم صدام م. س. ن والمتهمة ل. م. ع بالتهم المنسوبة إليهما. وقد تم الحكم على المتهم صدام بالسجن لمدة سنة، مع الاكتفاء بالمدة التي قضاها في الحبس الاحتياطي ووقف التنفيذ لبقية المدة. أما المتهمة ل. م. ع، فقد عوقبت بالسجن لمدة شهر تبدأ من تاريخ القبض عليها مع التنفيذ الفوري. كما قررت المحكمة أن يكون الحق الخاص قد انقضى بتنازل المجني عليها عن حقها. واعتبرت حيثيات وأسباب الحكم جزءاً لا يتجزأ من منطوق الحكم. كما قضت المحكمة بمصادرة جهاز الجوال نوع "ال تي" أسود موديل 3600، وتلف الفلاشه نوع "ساندسك" 16 جيجا."[36]
بناءً على كلّ التجارب المريرة التي عاشتها وتعيشها النساء ضحايا جرائم الابتزاز الإلكتروني في اليمن وبسبب القصور المستمرّ في معالجتها على الصعيد القانوني وغياب الوعي المجتمعي، قد تساهم بعض التوصيات في سدّ الثغرات بهدف التوصّل إلى حلول جذرية تحمي حياة النساء وحقوقهن وحرياتهن وذلك بوضع وتنفيذ تدابير خاصة بالتشريعات والسياسات تعمل على منع الجرائم الإلكترونية وإنصاف الضحايا، وإزالة جميع العوائق الامنية والقضائية التي تعترض تحقيق المساواة والعدالة والإنصاف للضحايا وتقديم تعويضات تتناسب مع حجم القضية والأضرار النفسية التي تتعرض لها الفتيات والنساء ... ومن تلك التوصيات :
- وضع وتنفيذ سياسات اجتماعية وبرامج تعليمية تهدف الى القضاء على الصورة النمطية المتعلقة بالنوع الاجتماعي والأعراف الاجتماعية السلبية والتوجيهات التمييزية ضد الفتيات والنساء.
- بناء القدرات وتدريب جميع موظفي الجهات الحكومية التي تعنى بالجانب الأمني والقضائي ووحدات مكافحة الجرائم الالكترونية لضمان اتباعهم الآليات والوسائل المناسبة والصحيحة لهذه القضايا.
- تزويد الجهات الامنية والقضائية بالموارد البشرية والمالية المطلوبة لتقديم جميع أنواع الدعم اللازمة للضحايا.
- ضمان حصول الضحايا على خدمات الدعم الشاملة بما في ذلك دعم الصحة النفسية والحماية من الاعتداء الأسري.
- رفع مستوى الوعي العام عن طريق الحملات التثقيفية العامة حول الجرائم الالكترونية، والآليات والوسائل المتاحة للإبلاغ عن هذه الجرائم وطرق الدعم والحماية المتاحة والتضامن مع منظمات المجتمع المدني والتكتلات النسوية.
- وضع آليات الرقابة اللازمة لمنع مسؤولي إنفاذ القانون من ارتكاب السلوكيات السيئة بما في ذلك التمييز ضد النساء أو الفساد أو الرشوة، والتحقيق بشأنها والمعاقبة عليها.
https://www.youtube.com/watch?v=QU9qOeJKG68
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.