الأرصفة لا تتحدّث: إسكات مسرح الشوارع في مصر

نجح مسرح الشارع في ترسيخ نفسه كنوع فني في مصر في العقدين الأخيرين، إلا أنّ القيود المتزايدة على حرية التعبير والتجمع في السنوات الأخيرة أجبرت فناني الشوارع على الصمت. تتناول هذه الورقة، من خلال سلسلة من المقابلات مع الفنّانين، العوامل التي ساعدت في ظهور مسرح الشارع وعمليّة التسيس التي مرّ بها بعض روّاده والأسباب التي أدّت إلى تراجع عروض الشوارع.

arab-reform-initiative-bawader-the-pavements-dont-speak-silencing-street-theatre-in-egypt
جمهور في مهرجان فن الشارع "الفن ميدان"، آب/أغسطس 2012. © أمنية خليل / flickr.com

" في خساير كبيرة طبعاً، في ناس محبوسة، في ناس سفرت، في ناس هجرت، في ناس اكتأبت، ففي تفريغ."

بهذه الكلمات اختار الموسيقيُّ والشاعر أيمن حلمي وصفَ الوضع الحاليّ لمسرح الشارع في مصر. فبَينما يعلو الضجيج والصخب في القاهرة، يتمّ إسكات المزيد من فنّاني الشوارع من أمثاله.

بعد منع إقامته في الساحات العامّة من خلال الإجراءات الأمنيّة المشدّدة، صار من الصعب التنبّؤ بوضوح بمصير مسرح الشارع، في ظلّ القمع الحاليّ الذي يمارسه النظام على الحرّيّات الأساسيّة. ووَفقاً لما قاله حلمي، يبدو المستقبل قاتماً حتّى الآن.

ونظراً لوجود قليل من الدراسات والمؤلّفات التي تتناول مسرح الشارع، فإنّ تسليط الضوء على هذا الشكل الفنّيّ أمر لا بدّ منه لفهم الحالة المسرحيّة في مصر، فضلاً عن بحث السياسات التي تخضع لها الساحات العامّة وكيف يتمّ توظيفها جماهيريّاً كوسيلة احتجاجيّة.

ستتناول هذه الورقة، من خلال سلسلة من المقابلات مع الفنّانين، ظاهرةَ مسرح الشارع الحديثة في مصر، بما في ذلك العوامل التي ساعدت في ظهورها وأهداف بعض أشهر عروض الشوارع. وستُناقش الورقة أيضاً عمليّة التسيس التي مرّ بها روّاد مسرح الشارع، إضافةً إلى الأسباب التي أدّت إلى تراجع عروض الشوارع.

الانفصال عن المؤسّسة الفنّيّة

مهّد الطريقَ أمام مسرح الشارع المعاصر في مصر كثيرون ممّن ناضلوا طويلاً وواجهوا الصعوبات من أجل الاعتراف بإمكانيّات هذا الشكل الفنّيّ. كان الأعضاء المؤسّسون لفرقة "حالة" المسرحيّة التي قدّمت عروضها في الشارع، ومنهم أيمن حلمي وعلي صبحي، جزءاً من جيل من الفنّانين في عِقد التسعينيّات من القرن الماضي وبدايات العِقد الأوّل من الألفيّة الثالثة، ممّن كانت لديهم رغبة جارفة في الخروج عن المؤسّسات الثقافيّة الرسميّة. كان هذا الجيل ينتمي إلى موجة من الشباب المحبَط، الذي سئم قلّة الفرص وتقييد حرّيّة التعبير، وظهرت هذا الموجة لتتحدّى جيلاً نخبويّاً هَرِماً سيطرَ على المؤسّسات الثقافيّة التقليديّة وتلكّأ في الرحيل عنها.

كان المشهد الفنّي الذي بدأ فيها حلمي وصبحي مسارَهما المهنيّ في مجال الفنّ ناضجاً بالفعل مع وجود شباب منخرطين في السياسة ومشاركة جماهيريّة عاليّة في عروض الشوارع، إضافةً إلى ارتفاع حدّة المعارضة. فقد كانت تلك العوامل متطلّبات أساسيّة لظهور مسرح الشارع المعاصر في البلاد.

لم يتعمّد هؤلاء الفنّانون الشباب التخصّصَ في عروض الشوارع؛ وإنّما أرادوا تقديمَ عروضهم في أيّ مكان متاح أمامهم. ولذا نزلوا إلى الساحات العامّة، كالحدائق والأرصفة، لتقديم عروضهم، وسرعان ما ارتبطوا بتلك التجرِبة.

عند الحديث عن أوّل عروض الشارع التي شارك في تقديمها مع الفرقة عام 1998، قال محمّد عبد الفتّاح -وهو عضو آخر من مؤسّسي فرقة "حالة"- أنا بصراحة حبيت فكرة الناس الي ماشية بالصدفة وبتتفرج على العرض بشكل تلقائي ومش متحضرة ومش عارفين انهم رايحين مسرح فعجبني ده قوي."

بالنسبة إلى صبحي، فإنّ سِحر عروض الشوارع يتعلّق بكسر قوانين وقيود المسرح. ويشمل هذا جميع القواعد الرسميّة وغير المعلَنة التي يتطلّبها دخول المسارح التقليديّة، والتي تكون فيها أدوار الممثّلين والجمهور جامدة ومُحدّدة سلَفاً. إذ يكون الممثّلون مقيّدين بخشبة المسرح ومُلزَمين بنصّ مُحدّد، فيما لا يُتاح للجمهور سوى لعب دور سلبيّ، إذ عليه الوصول والمغادرة في مواعيد معيّنة ويظلّ جالساً في المقاعد نفسها، وإغلاق هواتفهم. على النقيض، لا ينطبق أيٌّ من هذه القواعد على حالة مسرح الشارع، حيث الممثّلون والجمهور يتبادلون الأدوار؛ وتمتدّ الحدود المتاحة أمام الممثّلين إلى أقصى ما يسمح به الشارع، ويُمكن للجمهور أنْ يعبّر عن رأيه مع تطوّر العرض والأداء.

وقال صبحي: "أنا بالنسبة لي بكل بساطة لما بتروحي عرض جوة مسرح في اتفاق بينك وبين صانع العمل والمؤدي ... مسرح الشارع حر تماماً، مجرد تماماً من كل القواعد والاحكام الفنية... ده شيء أساسي جداً... انه فعلاً بيديلك إحساس قوي جداً، ان الشارع ملك للجميع. الإحساس بأن الشارع فعلاً بتاعي بيخليني حر أكتر بيخليني أبدع أكتر، بيخليني معنديش قيود معينة، مش خايف من حاجة معينة، بقول الي أنا عايز أقوله، بعمل الي انا عايز اعمله، برسم الرسمة الي عايز ارسمها، مش حد معين عايزني ارسمها."

إحياء المسرح المصريّ

لم يكُن الدافع وراء نجاح فرقة "حالة" ومسرح الشارع هو تلك المواهب الشبابيّة فحسب، وإنّما يُضاف إليها العديد من المبادرات التي اقتنعت بهم وشجّعتهم. ففي بدايات العِقد الأوّل من الألفيّة الثالثة، انطلقت العديد من الفعاليّات وتأسّست المحافل المتنوّعة لكي تدعم وتلبّي حاجات الحركة الفنّيّة التي أدّت إلى إحياء المسرح المصريّ.

تعود بعضُ جذور هذا الإحياء إلى ثمانينيّات القرن العشرين التي شهدت زيادةً ملحوظةً في عدد المبادرات المسرحيّة المستقلّة. ومع قليل من الدعم المادّيّ واللوجيستيّ المقدَّم من الحكومة، نجحت الفرق المسرحيّة المستقلّة في تقديم عروض كان لها دورٌ مهمّ في إعادة ابتكار وتنشيط الحركة المسرحيّة في مصر، ونزلت بمفاهيم كحريّة التعبير وحرّيّة الحركة إلى مستوى أفهام "رجل الشارع العاديّ"، وكان لها دورٌ بارز في استعادة وضع الشارع باعتباره ساحة عامّة حرّة للتعبير الفنّيّ. يعتقد النقّاد أنّ هذه الموجة هي التي حالَت دون انهيار المسرح في مصر، ونثرت بذور الإحياء الذي حدث في العِقد الأوّل من الألفيّة الجديدة. ويذكر حلمي متحدّثاً عن عِقد التسعينيّات من القرن الماضي، قائلاً إنّه وسط كلّ هذا، "كان في خلاف في الفترة ده على مستوى النقاد والمفكرين على المصطلح نفسه وعن هل أسهل نسمي الفرق المسرحية ده الفرق الحرة ولا الفرق المستقلة. وكان في محاولات للوصول لحل متفق عليه، يعني إيه مستقل، ويعني إيه حر، ومين فيهم الأفضل." وما يزال مصطلحا "الحرّ" و"المستقلّ" يُستخدمان لوصف هذه الموجة الجديدة.

الجمع بين الإبداع الفنّيّ والنشاط السياسيّ

لم تكُن الحركة التي أدّت إلى إحياء المسرح في الثمانينيّات والتسعينيّات -وأدّت في نهاية المطاف إلى ظهور فرَق مثل فرقة "حالة" وفرقة "أطفال الشوارع"- حركةً فنّيّة خالصة. فقد جاءت خلال فترةٍ من التاريخ المصريّ حين كانت الأوضاع السياسيّة متقلّبة، وكانت تنظيمات وجماعات سياسيّة على غرار "حركة شباب 6 أبريل" (نيسان) وحركة "كفاية" تهيمن على وسط مدينة القاهرة (وسط البلد)، وتنظّم احتجاجات في الشوارع وحلقات نقاشيّة عامّة بشكل دوريّ. وكأقرانهم في العمل السياسيّ، تأثّر الفنّانون الشباب بتلك البيئة المشحونة سياسيّاً، فأنشأوا حركاتٍ سياسيّة تمثّل مظالمهم كفنّانين. ومن تلك الحركات "حركة 5 سبتمبر" (أيلول) التي أسّسها وأدارها العديد من الفنّانيّن ومنهم مؤسّسي فرقة "حالة".

قال حلمي: "كانت ده حركة مميزة جداً اشتركت فيها الفن مع السياسة. ووقتها كانت ده بداية معرفتي بأن فيه حاجة اسمها ’أدباء من أجل التغيير‘ و’فنانون من أجل التغيير‘ وحركات كثير كان اسمها من أجل التغيير في الفترة ده. فده كانت فترة فيها حراك حقيقي، وكمان انت ممكن تقدري حجمه أو قمته أو اثره لو حطيتي في الاعتبار الفترة الي مصر كانت بتعيشها وقتها... بس الفترة ده لأن انا عشتها انا فاهم انه كانت في حاجة بتحصل مختلفة ومهمة جداً".

تسعى "حركة 5 سبتمبر" (أيلول) -التي أخذت اسمها من تاريخ اليوم الذي وقع فيه حريق مسرح بني سويف عام 2005- إلى التعريف بمَن فقدوا حياتهم في ذلك اليوم. فقد اندلع الحريق نتيجة سقوط شمعة وراء الكواليس خلال أحد عروض "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي". من بين المشكلات العديدة التي أدّت إلى وقوع ذلك الحادث المأساويّ أنّ الفعاليّة أُقِيمت في قصر بني سويف الثقافي غير المُجهَّز، في إحدى أفقر محافظات البلاد. وصل إجماليّ عدد الضحايا إلى خمسين، ومنهم رموز ثقافيّة مثل الدكتور صالح سعد وحازم شحاته والدكتور محسن مصيلحي وبهاء الميرغني. مع وجود مخرج وحيد، ومع عدم وجود معدّات لإطفاء الحريق أو موظّفين في المكان، تسبّب الحريق في انتشار حالة من الذعر والتدافع. جاء فريق إطفاء متأخّراً بعضَ الشيء وغيرَ مجهَّز، ثمّ وصلت متأخّرة عنه سيّارة للإسعاف فيها طاقم سيّء التدريب. كان هناك أكثر من سبعين مصاباً في الموقع، ومَن وصل منهم إلى المستشفى تلقّوا العلاجَ في مرافق طبّيّة غير مجهَّزة بشكلٍ كافٍ في بني سويف أوّلاً ثمّ نُقِلوا إلى القاهرة. وفي محاولة للاحتجاج على الأخطاء العديدة في شهادات الوفاة التي حُرِّرت للضحايا، احتشد الأهالي أمام المشرحة، ولكنّ قوّات الشرطة تعدّت عليهم وأوسعتهم ضرباً. وبالطبع لم تظهر أيٌّ من إخفاقات أجهزة الدولة بشكلٍ دقيق في التقارير الإعلاميّة التي نُشِرت لاحقاً.

قال حلمي إنّ " كان دا حدث مهم قوي شكل وعيي أنا بالذات واعتقد ناس وفنانين كثير برضو ".

الوصول إلى مرحلة النضج

شمل ظهور مسرح الشارع في مصر تطوّراً ليس في أداء الممثّلين وحسب وإنّما في الجمهور أيضاً، وهي حقيقة يُمكن ملاحظتها في ثورات الربيع العربيّ 2011. وَفقاً لما يقوله الشاعر والناشط المخضرم زين العابدين فؤاد، فإنّ المدهش بشكلٍ خاصّ في ثورات 2011 هو مستوى إبداع أولئك الذين لم تكن لديهم خلفيّة فنّيّة. وهذا ما جعل ميدان التحرير مسرحاً مفتوحاً استضاف أشكالاً مختلفة من الإبداع تنوّعت ما بين الغناء والرقص إلى أداء المنولوجات الساخرة. وقال فؤاد متحدّثاً عن العروض التي قدّمها المتظاهرون: "ده اشكال متعددة من اشكال المسرح وده مرتجلة خالص بنت اللحظة ودول ناس ملهومش تاريخ في الفن. مناخ الحرية جوة الميدان اطلق طاقات فنية وتعبيرية مختلفة". عادةً ما استخدمَت هذه العروض المُرتجَلة رسائل الدعاية الحكوميّة، مع تحريفها بطريقة تشبه ما فعلته بعد ستّ سنوات فِرَق مسرح الشارع، مثل فرقة "أطفال الشوارع" عام 2017.

قد تبدو هذه الموجة الإبداعيّة سبباً لتحفيز العروض الاحترافيّة في الشوارع، ولكنّ هذا لم يحدث. بل كان لها، في الواقع، تأثير معاكس. فهذا المناخ الذي صار فيه الجميع فنّانين في الشوارع صعّب على الفنّانين المحترفين أنْ يجدوا مادّة لعروضهم الجديدة؛ ممّا يُفسّر إلى حدٍّ ما كيف انتهت عروض الشوارع لفرقة "حالة" عام 2010 قُبَيل اندلاع الثورة، ولم يتمّ استئنافُها مطلقاً.

قال عبد الفتّاح، مؤسّس الفرقة، "في أوقات الشارع نفسه بيتفوق على انجاز المسرح وده في 2011 حصل. احنا مكناش قد الي الناس بتعمله بتلقائي."

الفنّ في الميدان

توقّفت فرقة "حالة" عن تقديم عروض الشوارع، ولكنْ لم تتوقّف الرغبة في استمرار شغل الساحات العامّة. فقد شجّعت التجرِبة العديد من الفنّانين المشارِكين فيها على الاستمرار في تقديم عروض الشوارع. ومع مرور الوقت، تبنّى فنّانون مثل علي صبحي وأيمن حلمي الفكرةَ وحوّلوها إلى شيءٍ أحدث وأكبر؛ وظهر ذلك جليّاً في تطوّر الحركات الفنّيّة التي وُلِد من رحمها مهرجان فنّ الشوارع المسمّى "الفنّ ميدان".

مزَج مهرجان "الفنّ ميدان" بين العديد من الأفكار الرئيسيّة، ومنها عروض الشوارع المعاصرة التي قدّمتها فرقة "حالة"، وحرّيّة الحركة وحرّيّة شغل الساحات العامّة التي قدّمها ميدان التحرير، علاوةً على المفاهيم القديمة مثل مهرجانات الشوارع التقليديّة، أو "الموالد" التي كانت تقام عادةً للاحتفال بالذكرى السَنويّة لميلاد أو وفاة بعض الأولياء والصالحين. وبعد سنوات من المحاولة، نجحت الحكومة في وضع حدٍّ لهذه الموالد، ولم يتبقَّ منها في الوقت الراهن في القاهرة سوى اثنين فقطّ. في البداية، بدأت الدولة خلال عِقد السبعينيّات من القرن الماضي رعايةَ مبادرات من شأنها أنْ تقدّم بديلاً يُمكن التحكّم فيه والسيطرة عليه بسهولة أكبر مثل السيرك القوميّ والفرقة القوميّة للفنون الشعبيّة. لاحقاً، أطلقت الدولة في التسعينيّات حملة لتقسيم الساحات المفتوحة اللازمة لعَقد هذه المهرجانات. وقد تمكّنت من ذلك، في الأساس، من خلال بناء الأسوار والحواجز ومنع إقامة المخيّمات حول أماكن عَقد الموالد، الأمر الذي أدّى إلى انخفاض حادّ في أعدادها. بَيد أنّ الموالد لم تنتهِ، بل استمرّت ناتئة ومتجذّرة في المخيّلة العامّة. وكثيراً ما كان العديد من منظّمي "الفنّ ميدان" يذكرون هذه الموالد كمثال على الفعاليّات التي مكّنت الجماهير من شغل الساحات العامّة.

تُشير تسمية "الفنّ ميدان" بصورة تقريبيّة إلى "الفنّ في الميدان"، ولكنّ كلمة "الميدان" تحمل معاني أخرى مثل المنصّة، والساحة، والمجال. وقد أكّد منظّمي الفعاليّات كثيراً على هذه المعاني المتعدّدة أثناء نقاشاتنا. وترجمتها إلى "المجال العامّ" ليست صحيحة تماماً في السياق القاهريّ، وفقاً لما ذكره المؤرّخ الحضَري نزار الصيّاد.

فقد قال الصيّاد "لا أعتقد أنّ هذا المعنى يقابل حقّاً مفهومَ ’المجال العامّ‘ (public sphere) عند الفيلسوف الألمانيّ المعاصر يورغن هابرماس، وهو مفهوم ليست له ترجمة دقيقة في اللغة العربيّة. لذا، بشكلٍ ما، أعتقد أنّ مصطلح ’ميدان‘ كان دائماً هو أنسب مصطلح يُمكن استخدامه".

فهو يرى أنّ مصطلح "ميدان" يحمل كثيراً من المعاني. ومن خلال الجمع ما بين المجال العامّ والساحة العامّة، فإنّ بعض سماته تتضمّن أنّه عامّ ويُمكن من خلاله التواصل والتعبير عن النفس، فضلاً عن أنّه يحمل دلالة جماعيّة أكثر منها فرديّة.

وأوضح أنّ "مصطلح ’الميدان‘ هنا ليس حيّزاً مادّيّاً، بل هو مفهوم ... تغيَّر مع مرور الوقت في السياق المصريّ، ولا سِيّما كما هو واضح في الحالة القاهريّة". ومن بين هذه المظاهر الاحتجاجات السابقة، مثل ثورة 1919، فضلاً عن تشييع جنازات شخصيّات عامّة من ميدان التحرير مثل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والمغنّية الشهيرة أمّ كلثوم. مضيفاً "أعتقد أنّ مفهوم ’الميدان‘ نشأ مع الوقت. وقد استغرق الأمر وقتاً حتّى تبلور المفهوم في عقول المصريين وفي استخدامهم للحيّز المادّيّ".

انطلقت أولى فعاليّات "الفنّ ميدان" في نيسان/أبريل 2011، ونظّمتها مجموعة متنوّعة من الفنّانين والنشطاء من مختلف الخلفيّات. وقد تعمّد المنظّمون اختيارَ ميدان عابدين العريق بالقاهرة ليشهد تلك الفعاليّات في أوّل يوم سبت من كلّ شهر، بدلاً من ميدان التحرير حتّى لا يكون هناك أيّ تعارض مع الاحتجاجات التي كانت تجري عادةً في ميدان التحرير أيّام الجمعة وحتّى لا يحدث تشويش عليها. في قمّة نشاطه، أقيمت فعاليّات مهرجان "الفنّ ميدان" -الذي كان يُموّل بالكامل من خلال التبرّعات الخاصّة- في أكثر من 18 محافظة مصريّة، وشارك في تلك الفعاليّات أكثر من 150 فنّاناً في حفلات مباشرة أمام جمهور من الحضور يزيد على 4 آلاف شخص. شملت الأنشطة العديد من العروض المباشرة والمناقشات العامّة والمعارض الفنّيّة وعروض الأفلام القصيرة ومعارض الكتب. إذ لم يقتصر الأمر على تقديم فنٍّ يسهل الوصول إليه لشريحة كبيرة من الجمهور فحسب، بل أدّى أيضاً إلى لقاءات يراها بعض الفنّانين نقطةَ تحوّل في رحلتهم الإبداعيّة.

واجه المنظّمون عقبات عديدة، بما في ذلك نقص التمويل. بَيد أنّ اعتماد قانون التظاهر لعام 2014 -الذي جعل من الصعب على مثل هذه الفعاليّات العامّة الحصول على التصاريح اللازمة لعَقدها- هو ما أدّى إلى انهيار المهرجان تماماً، ليتوقّف نهائياً عام 2014.

تعرُّض فنّاني الشوارع للهجوم

مع العقبات العديدة التي فرضتها السلطات المصريّة بعد عام 2014، كان الأمل ما يزال باقياً في قلوب قِلّة من الفنّانين الذين اعتقدوا أنّ باستطاعتهم تقديم فنونهم. ولم تتبدّد آخر هذه الآمال حتّى عامَي 2016 و2017؛ تقريباً في نفس الوقت الذي قُبِض فيه على أعضاء فرقة "أطفال الشوارع" الغنائيّة الساخرة، وسُجِنوا بتهمة إهانة السلطات، الأمر الذي يعكس مدى القمع الذي يمارسه النظام ضدّ استخدام الساحات العامّة.

في البداية، قام ستّة طلّاب التقوا في "جمعيّة النهضة العلميّة والثقافيّة (الجيزويت)" بتأسيس فرقة "أطفال الشوارع" وطافوا محافظات مصر لتقديم عروض الشوارع. قدّم هؤلاء الفنّانون الشباب البارعون في أمور التكنولوجيا، الذين تتراوح أعمار معظمهم ما بين 19 و25 عاماً، مزيجاً بين الساحات العامّة والافتراضيّة، من خلال تصوير عروض الشوارع التي قدّموها وعرضها في فيديوهات قصيرة ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعيّ؛ وقد وجدوا أنّ هذا من شأنه أنْ يُتيح لمحتواهم الوصول إلى شريحة أكبر من الجمهور. كانت فكرة بسيطة أثبتَت فيما بعد أنّها بالغة القوّة؛ وكان ذلك، وَفقاً لتحليل الخبراء، أخطرَ ما يُمكن لفنّان الشارع فعله في مصر تحت حكم عبد الفتّاح السيسي.

فقد قال أحد أعضاء الفرقة، في منشور على موقع تويتر في أيار/مايو 2016، "إحنا (نحن) الستّة مطلوبين... خمسة هربانين، وأصغر واحد فينا واللي عنده [مرض] السكّر مقبوض عليه". وشملت الاتّهامات الموجّهة إليهم: التحريض على التظاهر، ونشر مقاطع فيديو على شبكة الإنترنت تحوي إساءة لمؤسّسات الدولة. وعندما قُبِض عليهم في أيار/مايو 2016، ظلّوا رهن الاحتجاز قبل المحاكمة لأربعة أشهر إلى أنْ صدَر ضدّهم حكمٌ بالحبس لمدّة أربع سنوات، في حين قضى أحدهم سنتين في السجن، ثمّ وُضِع تحت المراقبة لمدّة سنتين أُخرَيَين.

وبعد إطلاق سراحهم، بدأوا في تقديم عروض كوميديّة على خشبات المسارح التقليديّة دون التطرّق لأيّ موضوعات سياسيّة.

عروض الشارع في الوقت الحاضر

من خلال إلقاء نظرة على الإسهامات الكبيرة التي قدّمها فنّانو الشوارع، يتبيّن أنّ كثيراً من تراثهم ليس ظاهراً اليوم. فعندما يتعلّق الأمر بهؤلاء الفنّانين، فإنّ واقعهم الحاليّ لا يعكس إلّا قليلاً من المستقبل المهنيّ الذي طمحوا لتحقيقه في البداية.

قال حلمي "مافيش مجال عام مفتوح، في بس صوت واحد موجود. وغير بقى اكتئاب ما بعد الثورة زي ماقولتلك قبل كده. فكل الظروف في اتجاه ان الدنيا تبوظ وكل الحاجات الي طلعت وقت الثورة تموت وحدة وحدة."

كان ذلك تحوّلاً لم يكُن ليتوقّعه هو أو غيره من فنّاني الشوارع مثل علي صبحي. وعند سؤالهم عمّا إذا كانوا ما يزالون يقدّمون عروضاً في الشوارع، كانت الإجابة نفياً بالإجماع تقريباً.

قال صبحي "للأسف دلوقتي لا. آخر مرة كانت 2017. الفكرة ان المساحات العامة في مصر مؤخراً، نقدر نقول آخر أربع سنين عليها تضييق كبير جداً، تضييق أمني كبير جداً جداً جداً. ودلوقتي الوضع أصعب كمان لأنه اقتصادياً كمان في مشكلة. فلكذا سبب. امنياً، اقتصادياً. يمكن كمان الفنانين مبقاش عندهم نفس الشغف بتاع الأول انهم ينزلوا ويعملوا حاجات في الشارع وكدة. كل ده أسباب خلتنا نوقف شوية شغلنا لغاية مانشوف الدنيا فيها ايه."

وعند سؤاله عمّا إذا كان يعرف أيّ شخص ما يزال يقدّم عروض الشوارع في الوقت الحاضر، صمت حلمي محاولاً أنْ يتذكر أيّ اسم، ولكنْ بلا جدوى. وقال إنّ هناك أسباباً مختلفة لذلك. فقد نضبت مصادر التمويل المهتمّة بالأنشطة الثقافيّة أو توقّفت إمدادتها. وبعد أنْ أصابهم الإحباط، اختفى الحافز الذي دفع الفنّانين ذات يوم إلى إطلاق مبادرات شخصيّة. ولكنّ حلمي أكّد على أنّ العقبة الرئيسيّة التي قيّدت من قدرة هؤلاء الفنّانين على الانتقال في الساحات العامّة هي بدء العمل بقانون التظاهر عام 2014. فمن دون الحصول على تصريح للتظاهر، يُمكن اعتقال أيّ شخص.

مضيفاً "هتلاقى في احكام ضد ناس بسنوات كتيرة جداً، سنة على الاقل، او أربع سنين لمجرد انه كان في الشارع مع ناس سواء كان بيقول ايه مش مهم بيتظاهر او بيقول اي مطلب مش هتفرق بس في الآخر ان في قانون دلوقتي ان اي حاجة في الشارع ممنوعة اصلاً. فالفضاء العام اتقفل اصلاً. "

جذور عميقة

لعلّ الحكومة نجحت في إسكات مثل هذه المبادرات بإغلاق الساحات العامّة، ولكنّ هذا لا يعني نهاية مسرح الشارع في مصر.

يعتقد الشاعر زين العابدين فؤاد أنّ هناك عامل الاستمراريّة، وهو ضروريّ لفهم الثورة التي شهدتها فنون الشارع في ميدان التحرير عام 2011، والتي لم يأتِ أيٌّ منها من العدم، بل كانت سبباً في إحياء بعض التقاليد القديمة، مثل الموالد المذكورة آنفاً.

وقال فؤاد "ابتدى يتقال شعارات زي "علّي الصوت، علّي الصوت، الي هيهتف مش هيموت"، الشعار ده والي كان بيجمع الناس من البيوت عشان ينزلوا الميادين، الشعار دا مش جديد بس الجديد انه ازاي ظهر واتحوكوا الناس بيه. الشعار ده انا كتبته في فبراير 1968 لما خرجنا من كلية الهندسة في مظاهرات. وبقينا نقوله وحنا خارجين من الكلية الى ان وصلنا لميدان التحرير. الشعار ده اتقال في 1968 واتنسى واتقال تاني في 1972 واتنسى واتقال في 1977 واتنسى. وفجأة لما حركة "كفاية" ابتدت استخدموه. ليه لان كان في حد متصل من 1972 وموجود في "كفاية" وموجود في 2011. ففي هنا عنصر الاستمرارية".

على الرغم من عدم إمكانيّة التنبّؤ بكيفيّة تأثير الإجراءات الصارمة الحاليّة على مستقبل مسرح الشارع، يعتقد صبحي أنّ من المستبعد أنْ يزول هذا الشكل الفنّي من الوجود في مصر؛ قائلاً: "ماظنش ان فن الشارع هينتهي في مصر ولا هينتهي في أي حتة لأنه فن أصيل. هو بس شكله بيتغير عبر العصور. في الاول احنا كان عندنا زمان حكواتي، الحكواتي الشعبي ده الي هو كان بيقعد بربابة بيحكي حكاية والناس بتقعد تسمعه، وتحول بقى في حاجة اسمها مسرح ظل وبقى في اراجوز وبقى في حاجات تانية."

وختَم حديثه قائلاً: "على قد ماهتخنق على الفن على قد ماهو هيلتوي ويطلع من حتة تانية بشكل تاني وبمفهوم جديد وأسلوب جديد، لأنه في الآخر الشارع مفتوح للجميع."

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.