تُعد مقاومة الانقلابات موضوعًا محوريًا في العلاقات المدنية-العسكرية، إذ تؤثر بشكل مباشر على تنظيم وسلوك القطاعات الأمنية في مختلف الدول. وعلى الرغم من وجود تدابير وقائية متشابهة لمواجهة الانقلابات، إلا أن نطاق هذه التدابير وأولوياتها يختلفان وفقًا لعوامل متعددة، أبرزها ”التهديد المهيمن المتصور“ كما يدركه أصحاب السلطة. فعندما ينصب اهتمام الحكام أساسا على خطر الانقلابات العسكرية، فإنهم غالبًا ما يلجؤون إلى تفتيت قطاعاتهم الأمنية. ويتسم هذا التشرذم إلى إنشاء أجهزة أمنية متعددة ذات صلاحيات متداخلة، وتقييد تبادل المعلومات، وتشجيع المنافسة الداخلية، وحظر العمليات المشتركة، وإغلاق قنوات الاتصال الأفقية. في مثل هذا السيناريو، يفتقر قطاع الأمن إلى آليات تنسيق فعالة، وتحكم السيطرة على جميع قنوات الاتصال بشكل عمودي من قبل السلطة الحاكمة. أما في الحالات التي يُنظر فيها إلى "الاضطرابات الشعبية" باعتبارها ”التهديد المتصوَّر المهيمن“، فيكون النهج المُفضَّل هو تعزيز وحدة القطاع الأمني وزيادة التنسيق المؤسسي. لضمان استجابة فعالة للأحداث
تبحث هذه الورقة في كيفية تشكيل التهديدات المتصوّرة السائدة للأبعاد التنظيمية والسلوكية للقطاعات الأمنية، وتأثير ذلك على العلاقات المدنية-العسكرية. وترى الورقة أن التهديدات المتصورة المهيمنة – سواء كانت داخلية مثل الانقلابات العسكرية أو خارجية مثل الاضطرابات الشعبية – تلعب دورا محوريا في تحديد بنية المؤسسات الأمنية ومدى التنسيق بينها ومستوى استقلاليتها. ومن خلال تحليل حالتي تركيا ومصر، تستكشف الورقة كيف تؤثر هذه العوامل التنظيمية على توازن القوى بين النخب السياسية والعسكرية، وكذلك على العلاقة الأوسع بين القطاعات الأمنية والمجتمع.
وتكتسب المقارنة بين تركيا ومصر أهمية تحليلية لعدة أسباب. فقد شهد البلدان فترات طويلة من الهيمنة العسكرية، لكن تطور العلاقات المدنية-العسكرية فيهما اتخذ مسارات مختلفة. ففي تركيا، تشير العلاقات المدنية العسكرية بشكل عام - وليس حصريًا - إلى التفاعلات بين النخب السياسية والجيش، حيث تهدف استراتيجيات مقاومة الانقلابات بشكل أساسي إلى الحد من استقلالية الجيش ومنع تدخلاته الحكم المدني. أما في مصر، فمنذ تولي عبد الفتاح السيسي الحكم في عام 2014، أصبحت النخب السياسية والجيش في مصر كيانا مترابطا. مما جعل العلاقات المدنية-العسكرية تشمل ليس فقط العلاقة بين النخب السياسية والجيش، بل تمتد إلى العلاقة بين الجهاز العسكرية-السياسية والمجتمع بشكل أوسع، وبالتالي اتسعت مفهوم تحصين النظام ضد الانقلابات ليشمل استراتيجيات "تحصين النظام ضد الثورات" التي تهدف إلى قمع المعارضة المجتمعية والحفاظ على استقرار النظام.
يتبنى هذا التحليل نظرية التهديد المتكاملة (ITT) كإطار مفاهيمي لربط إدراك التهديدات والتغيرات الهيكلية والسلوكية في قطاع الأمن، واستكشاف تأثيراتها على العلاقات المدنية-العسكرية في كل من تركيا ومصر. ففي تركيا أدى التهديد المتصوّر المهيمن كان التهديد المتصوّر المهيمن للانقلاب العسكري إلى تفتيت قطاع الأمن وتجريد الجيش من استقلاليته وضمان التفوق المدني. أما في مصر، فقد كان التهديد المتصوّر المهيمن مرتبط بالثورة والمحرك الأساسي لإعادة هيكلة القطاع الأمني بعد العام 2013، حيث اتجهت "أجهزة الإكراه" إلى التوحّد وتبادل المعلومات وتعزيز آليات التنسيق في ظل نظام ذي طابع عسكري مفرط.
إطار نظرية التهديد المتكاملة (ITT)
توفر نظرية التهديد المتكاملة (ITT)، التي طورها ستيفان وستيفان، إطارًا قويًا لتحليل التهديدات المتصورة في العلاقات المدنية-العسكرية. تصنف هذه النظرية التهديدات إلى نوعين أساسيين: التهديدات الواقعية، وهي تهديدات ملموسة وغالبًا ما تكون مادية، مثل المخاطر التي تهدد الأمن أو السيادة أو الاستقرار الاقتصادي، والتهديدات الرمزية، التي تمس الهوية الأيديولوجية أو الثقافية للجماعة .وبمرور الوقت، توسع تطبيق هذه النظرية ليشمل سياقات مختلفة، بما في ذلك النزاعات العرقية والعنصرية، والعلاقات بين الأقليات، والديناميات داخل الدول وما بينها. وقد استكشف باحثون، مثل ستيفان وستيفان، الانقسامات العرقية في الولايات المتحدة، في حين درس آخرون، مثل مارتينيز وفرنانديز، تصورات التهديد في الديناميات المدنية-العسكرية المرتبطة بالسياسة الخارجية.
وفي الشرق الأوسط، غالبًا ما تنبع الصدامات المتكررة بين النخب المدنية والعسكرية من التهديدات المتصورة المتجذرة في الاختلافات الأيديولوجية والسياسية والمجتمعية، ما يجعل من هذه الدراسة أداة قيّمة لتحليل العلاقات المدنية-العسكرية. تركز هذه الورقة على تركيا ومصر كدراستي حالة لاستكشاف كيفية تأثير التهديدات المتصورة السائدة على استراتيجيات منع الانقلابات والديناميكيات المدنية-العسكرية الأوسع نطاقًا. وتكتسب هاتان الحالتان أهمية خاصة بسبب تاريخهما المشترك من النفوذ العسكري القوي، ومساراتهما المتباينة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فقد سعت النخب السياسية في تركيا إلى تفكيك الوصاية العسكرية، بينما أصبحت المؤسسة العسكرية في مصر مترسخة بشكل متزايد في السلطة السياسية، خاصة منذ عام 2014.
تُعتبر هذه الدراسة ذات قيمة خاصة لدراسة العلاقات المدنية-العسكرية لأنها تشرح كيف أن تصورات التهديد – سواء كانت واقعية أو رمزية – تقود السلوك التنظيمي وإعادة الهيكلة المؤسسية. وتشكّل التهديدات المتصوّرة السائدة العدسة التي تقيّم من خلالها الأنظمة المخاطر، سواء من الجيش أو المجتمع المدني أو القوى الخارجية. ففي تركيا على سبيل المثال، اعتبرت النخب السياسية أن الجيش يشكل تهديدًا واقعيًا أساسيًا لسلطتها، ما دفعها إلى تنفيذ إصلاحات مهمة، مثل تحويل مجلس الأمن القومي إلى هيئة استشارية وتعزيز الرقابة البرلمانية على النفقات العسكرية. أما في مصر، فقد شكّل التهديد الرمزي للمعارضة الأيديولوجية، إلى جانب التهديد الواقعي المتمثل في التعبئة الجماهيرية، دافعا للجهود الرامية إلى تركيز السيطرة المركزية ومقاومة الثورة ضد النظام.
وتستخدم هذه الورقة مفهوم التهديد المتصور المهيمن، المستند إلى نظرية التهديد المتكاملة، لتحديد وتحليل هذه التهديدات في تركيا ومصر. ومن خلال تتبع تطورها، تسلط الورقة الضوء على كيفية تأثير هذه التهديدات المتصورة على استراتيجيات تحصين النظام ضد الانقلابات وانعكاساتها على الديناميكيات المدنية-العسكرية.
تركيا: من الوصاية العسكرية إلى التفوق المدني (!)
لقد شكّل تاريخ تركيا مع التدخلات العسكرية عاملا رئيسيا في صياغة استراتيجياتها لتحصين النظام من الانقلابات. فقد تدخلت القوات المسلحة التركية في السياسة عدة مرات، لا سيما عبر انقلابات 1960 و1980، والإنذارات والتدخلات غير المباشرة في 1971 و1997 و2007، إضافة إلى محاولة الانقلاب في عام 2016. وقد كان الدافع وراء هذه التدخلات هو اعتبار الجيش نفسه حارس الدولة العلمانية الحديثة، وهو دور استمده من الثقافة العسكرية للإمبراطورية العثمانية المتأخرة والسنوات الأولى للجمهورية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك.
وعلى مر السنين، تطورت استراتيجيات تركيا لمواجهة الانقلابات استجابةً لتغير التهديدات المتصورة المهيمنة المتغيرة. ركزت الجهود الأخيرة في بدايتها على تجنب استياء الجيش، إلا أنها كانت تهدف إلى تقييد استقلاليته وتفكيك أجهزته وضمان سيادة المدنيين. وقد اعتمدت حكومة حزب العدالة والتنمية، وخاصة بعد عام 2016، تدابير أكثر منهجية، بما في ذلك تمكين القوى البديلة، وإعادة صياغة الفصل بين السلطات، وتعزيز أجهزة الاستخبارات، وتغيير نظام التجنيد والتعليم العسكري. وقد ساهمت هذه التحوّلات بشكل أساسي في تنظيم القطاع الأمني وطبيعة العلاقات المدنية-العسكرية في البلاد.
سنوات الجمهورية الأولى والوصاية العسكرية
في السنوات الأولى للجمهورية، سعى مصطفى كمال أتاتورك إلى التخفيف من تدخل الجيش في السياسة. واستخدمت التدابير التشريعية والتعيينات الاستراتيجية لفرض السيادة المدنية مع ضمان الولاء والالتزام برؤية أتاتورك للدولة العلمانية الحديثة. ومع ذلك، احتفظت القوات المسلحة التركية بدور فرضته على نفسها بوصفها ”حامية“ الدولة العلمانية. وقد خلق هذا الأمر توترات على وجه الخصوص عندما انتقلت تركيا إلى نظام التعددية الحزبية، وبدأ السياسيون القادمون يحيدون عن الرؤى العلمانية لأسلافهم. وفي نهاية المطاف، وبعد أن فشلت الحكومة المدنية في تنفيذ تدابير هامة لمنع الانقلاب، خلقت الحكومة المدنية الظروف التي أدت إلى أول تدخل عسكري للجمهورية التركية في عام 1960.
ديناميات ما بعد انقلاب 1960
بعد تدخل 1960، سعى الضباط المنفذون للانقلاب إلى حماية أنفسهم من التداعيات القانونية ومنع الانقلابات المضادة المحتملة من خلال صياغة دستور جديد وتطهير الضباط الذين يعتبرون غير موالين. وقد رسخ هذا الدستور دور الجيش في السياسة بشكل أكبر، وأدى إلى دورة من الحكومات المدنية الهشة التي زعزعتها التدخلات العسكرية اللاحقة.
ظل التهديد المتصور بعد الانقلاب داخليًا في الغالب، حيث ركز الجيش على الحفاظ على وصايته على الدولة العلمانية. وترسخ ذلك أكثر مع مذكرة 1971 ثم انقلاب 1980 الذي أدى إلى إنشاء مجلس الأمن القومي ودستور 1982.
الوصاية العسكرية وانقلاب 1980
أدى انقلاب 1980 إلى ذروة الوصاية العسكرية في تركيا. وقد برر الجيش تدخله بالتذرع بتهديدات متعددة، من اليسار المتطرف إلى وعدم الاستقرار السياسي. وخلال ثلاث سنوات من الحكم العسكري، عززت القوات المسلحة التركية سيطرتها على مؤسسات الدولة من خلال عمليات تطهير واسعة وتعديلات دستورية. وأضفى دستور عام 1982 الطابع المؤسسي على النفوذ العسكري، ما خلق نظامًا سياسيًا برأسين، حيث تعايشت فيه الحكومة المدنية مع المجلس الوطني القومي .وفي هذا السياق، قاد الجيش سردية التهديد المتصورة تجاه الجماعات اليسارية الانفصالية الفوضوية.
حقبة حزب العدالة والتنمية: التشرذم والتفوق المدني
تزامن صعود حزب العدالة والتنمية في عام 2002 مع تحول في التهديدات المتصورة المهيمنة. في البداية، كان يُنظر إلى الجيش على أنه العقبة الرئيسية أمام سلطة حزب العدالة والتنمية، ما دفع الحزب إلى تنفيذ إصلاحات قانونية ومؤسسية كبيرة تهدف إلى الحد من استقلالية الجيش مع الاستفادة من عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لتبرير أفعاله. وشملت هذه الإصلاحات تحويل مجلس الأمن القومي إلى هيئة استشارية، وتقليص صلاحيات الجيش في الشؤون المدنية، وتعزيز الرقابة البرلمانية على النفقات العسكرية. وقد عززت المذكرة الإلكترونية لعام 2007 والمحاولة الانقلابية في عام 2016 من عزم حزب العدالة والتنمية على تفكيك الوصاية العسكرية. بشكل أكثر جذرية من السابق، عقب محاولة الانقلاب في عام 2016، قامت الحكومة بإعادة هيكلة شاملة للجيش، حيث وضعت قادة القوات المسلحة تحت السلطة الرئاسية، ونقلت الإشراف على الدرك وخفر السواحل إلى الوزارات المدنية، كما أنشأت أنظمة جديدة للتجنيد والتدريب تستهدف الأفراد العسكريين الحاليين والمستقبليين، مع التركيز على الولاء الأيديولوجي.
تُبرز تجربة تركيا كيف أن التهديدات المتصورة المتغيرة – بدوافع أيديولوجية و/أو سياقية – تعيد تشكيل الديناميكيات المدنية العسكرية. لقد أدت جهود حزب العدالة والتنمية إلى تفتيت المؤسسة العسكرية، ما قلل من قدرتها على العمل كقوة سياسية موحدة. وفي حين أن هذه التدابير قد عززت التفوق المدني، إلا أنها تثير أيضًا مخاوف بشأن الحوكمة، حيث أن الاعتماد على الولاء الأيديولوجي قد يؤدي إلى تسييس قطاع الأمن.
مصر: من مقاومة الانقلاب إلى مقاومة الثورة
أدى تغير التهديد المهيمن المتصور لدى الأنظمة الجمهورية المصرية إلى إعادة تشكيل تنظيم أجهزتها القمعية. فعلى مدى سبعة عقود تقريبًا، كان قطاع الأمن مجزأً عن قصد، حيث كان مصدر القلق الأساسي لحكام مصر هو التهديد بانقلاب عسكري. غير أن ثورة 2011 أجبرت الجيش والأجهزة الأمنية المتنافسة على التوحد لمواجهة التهديد الوجودي الجديد المتصور، والمتمثل في الاضطرابات الشعبية.
من 1952 إلى 2011: جهاز مجزأ
وُلدت الأجهزة القمعية المصرية مجزأة. في تموز/يوليو 1952، تمت هيكلة وتدعيم مخطط النظام القائم الآن على يد الضباط الأحرار، وظهر النظام الجديد إلى حيز الوجود عبر انقلاب عسكري. كان الهمّ المباشر للمتآمرين هو تأمين نظامهم الجديد من مؤامرات مضادة مماثلة.
فتمت هيكلة متاهة من الأجهزة الأمنية لتوازن بعضها البعض مع تداخل المهام، وهو تكتيك كلاسيكي لحماية النظام من الانقلابات في العديد من الأنظمة الاستبدادية. تم تقسيم قطاع الأمن إلى وزارة الداخلية وشرطتها السرية، والجيش ومخابراته العسكرية، وجهاز المخابرات العامة الذي تأسس حديثًا. وقد شكل تنافسهم الملامح الرئيسة للسياسة المصرية منذ بدايتهم وحتى ثورة 2011.
2013 : جهاز موحد
في أعقاب ما يقرب من ثلاث سنوات من الاضطرابات الثورية التي هزت الدولة وهددت بهدم أسس النظام الذي كان الجيش يشكل فيه قوة مؤثرة ضمن الائتلاف الحاكم، قام جنرالات الجيش بقيادة عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع آنذاك، بانقلاب في تموز/يوليو 2013. ما أعقب ذلك لم يكن استعادة لصيغة حسني مبارك الاستبدادية، بل أسس الجنرالات نظامًا جديدًا فرضوا من خلاله حكمهم المباشر دون مشاركة مجتمع مدني أو تحالف سياسي واسع.
سعى السيسي إلى توحيد الأجهزة القمعية للمرة الأولى منذ عام 1952 للرد على التهديد الجديد المهيمن المتصور المتمثل في الاضطرابات الشعبية. ”يقول المؤرخ خالد فهمي: ”الهاجس الأمني الآن هو الشعب، وليس الانقلاب. في الماضي كانت المخاوف دائمًا من الانقلاب، ما أدى بالتالي إلى تفكك أجهزة الدولة. في عام 2011، أدركوا أن الشعب قادر على القيام بثورة في الشارع، لذا عليهم منع حدوث ذلك مرة أخرى “. ويتفق مع ذلك باحثون في الجيش المصري مثل سارة التونسي وعلي الرجّال. فقد كتبوا في عام 2021: ”على الرغم من أن القلق المهيمن على الأجهزة الأمنية والحكم في مصر منذ عام 1952 كان الانقلاب المضاد“، إلا أنه ”لا يبدو أن السيسي يواجه خطرًا كبيرًا في هذا الصدد “.
وقد عمل السيسي بشكل منهجي على وضع جميع الأجهزة تحت سيطرته المركزية لضمان عدم حدوث ثورة مرة أخرى، وحاول تعزيز التنسيق بدلًا من التنافس. يقول على الرجّال: ”رأت قوى القمع أن هناك حاجة إلى الوحدة. ربما كانت هناك معارك داخلية، ولكن كانت هناك معركة أكبر من أجل البقاء." ويتفق معه هشام صبري، ضابط شرطة أمن الدولة السابق، ويقول: ”قبل عام 2011، كان هناك تنافس بين الأجهزة الأمنية ولكن هذه المنافسة انتهت بعد عام 2013."
أشرف السيسي على إنشاء هيئة تنسيقية تضم رؤساء الأجهزة الأمنية. وأصبحت المخابرات الحربية والمخابرات العامة والأمن الوطني ملزمة بتبادل جميع المعلومات التي جمعتها. وتم تشجيع التواصل الأفقي. وتقوم هيئة التنسيق الجديدة بالتنسيق فيما بينها بشكل منتظم. ليس لها اسم رسمي ولا وضع قانوني. وقد أطلق عليها بشكل غير رسمي اسم ”الخلية" أو (اللجنة الأمنية).
وقد مثلت هذه الهيئة التنسيقية المحور الإداري للعديد من المجالس التي تشكلت أو أعيد تفعيلها بعد الانقلاب، وذلك لضمان التنسيق بين مكونات الجهاز القمعي وأجهزة الدولة الأخرى. وعلى عكس المجالس المشتركة في الأنظمة السابقة، حيث كانت غالبا ما تتخذ طابعا صوريا أو نادرا ما كانت تنعقد، فإن هذه المجالس بدأت تعقد اجتماعات منتظمة وتنسق السياسات تحت إشراف السيسي.
وبمجرد ترشيد مؤسسات القطاع الأمني، عزز السيسي سيطرته على جميع أجهزة الدولة. بعد عام ونصف من الانقلاب، تحدث وزير الداخلية محمد إبراهيم مصطفى بثقة عن ”العصر الذهبي“ للوحدة والتضامن بين الجيش والشرطة والقضاء.
تشمل هذه الهياكل الوحدوية مجلس الدفاع الوطني، الذي مُنح في عام 2014 صلاحيات واسعة للإشراف على جميع المسائل المتعلقة بالسياسة الأمنية، تمامًا كما حدث في عام 2012. لكن القانون الجديد لعام 2014 بشأن تشكيل المجلس واختصاصاته نص على أن المجلس يجب أن يجتمع بانتظام كل ثلاثة أشهر، بالإضافة إلى كل مرة يستدعيه فيها الرئيس أو أثناء حالة الحرب. وكانت هذه التأكيدات على عقد اجتماعات منتظمة مرة كل ثلاثة أشهر على الأقل موجودة في القانونين الأصليين لعامي 1957 و1968، لكن تم تجاهلها فيما بعد. نادرًا ما كان المجلس يجتمع أو يمارس سلطاته قبل أن يعيد المجلس الأعلى للقوات المسلحة تفعيله فجأة في 14 حزيران/يونيو 2012، وهي الخطوة التي عارضتها منظمات حقوق الإنسان في ذلك الوقت، ونددت بها منظمات حقوق الإنسان التي اعتبرتها محاولة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة لفرض هيمنة الجيش على الدولة قبل تسليم السلطة إلى رئيس مدني منتخب.
ويتألف مجلس الدفاع الوطني من 14 عضوًا: رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس البرلمان، ووزير الخارجية، ووزير الداخلية، ووزير المالية، ومدير المخابرات العامة، ووزير الدفاع، ورئيس أركان الجيش، ومدير المخابرات الحربية، وقائد القوات البحرية، وقائد القوات الجوية، وقائد الدفاع الجوي، ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة.
وتضمّن كل من دستور 2012 ودستور 2014 مادة تناولت تشكيل وتكوين مجلس الأمن القومي الذي يشرف على السياسات المتعلقة بالإغاثة في حالات الكوارث الطبيعية والأمن الغذائي والأزمات الاقتصادية، وتتولى رئاسة الجمهورية تنظيم أمانة المجلس التي تتحكم في ميزانيته، وشدد القانون المنظم لعمله في 2014 على ضرورة اجتماع المجلس مرة واحدة على الأقل كل ثلاثة أشهر.
الحرب على الشعب
أدى توحد وكلاء الإكراه بعد الانقلاب لمواجهة التهديد المهيمن المتصور للاضطرابات الشعبية إلى مستوى غير مسبوق من العنف المميت في البلاد. فعلى سبيل المثال، بلغ عدد القتلى في يوم واحد، 14 آب/أغسطس 2013، ما يعادل تقريبًا عدد قتلى عقد التسعينيات بأكمله من مكافحة التمرد في عهد مبارك. وتعتبر مذبحة رابعة والنهضة أكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث.
خلال الأشهر السبعة الأولى وحدها، خلفت حملات القمع التي شنتها الدولة وأعمال العنف التي أعقبت الانقلاب ما لا يقل عن 3248 قتيلًا، 90% منهم من المدنيين. وبحلول نهاية الفترة الرئاسية الأولى للسيسي في 2018، كانت ”حروب الدولة على الإرهاب والجريمة“ تقتل، في المتوسط، مواطنين مصريين اثنين يوميًا منذ الانقلاب. وخلال الفترة نفسها، حكمت المحاكم على ما لا يقل عن 2658 متهمًا بالإعدام.
منذ الانقلاب، تم بناء ما لا يقل عن 34 سجنًا جديدًا تديرها وزارة الداخلية بحلول عام 2021. ولا تتوفر أرقام دقيقة بشأن عدد السجناء السياسيين، ولكن بعض التقديرات تشير إلى أن العدد بلغ نحو 60,000 في العام التالي للانقلاب. وبحلول العام 2022، تراوح العدد بين 20,000 و30,000 سجين.
حماية الانقلاب في مصر وتركيا: مسارات مختلفة وأهداف مشتركة
في الختام، طورت كل من مصر وتركيا استراتيجيات مختلفة للحيلولة دون وقوع انقلابات في كل من مصر وتركيا، والتي شكلتها سياقاتهما التاريخية والسياسية الفريدة. تعكس المقاربة المصرية، التي تتسم بالتحول من جهاز أمني مجزأ إلى جهاز أمني موحد، تركيز النظام على مواجهة الاضطرابات الشعبية باعتبارها التهديد المهيمن المتصور. وتهدف هذه المركزية في عهد السيسي إلى منع حدوث اضطرابات ثورية مماثلة لتلك التي شهدها عام 2011. هناك عاملان يحتاجان إلى مزيد من التدقيق لمعرفة كيف ستسير المعادلة الحالية في المستقبل القريب.
أولهما أن توحيد الجهاز القمعي المصري ينطوي أيضًا على توسيع بصمة الجيش في الاقتصاد المدني لعدة أسباب، منها نظرة السيسي التي تعتبر الجيش مؤسسة متفوقة ونموذجًا مثاليًا لإعادة تنظيم المجتمع والدولة بأكملها، وضمان ولاء الضباط بهذه الامتيازات. إلا أن السيسي يتعرض لضغوط من المانحين الدوليين لخصخصة هذه الشركات العسكرية وتحجيم دورها، لأنها تتلاعب بقوى السوق الحرة بحزمة من القوانين التي تمنحها ميزة غير عادلة مقارنة بنظيرتها المدنية فيما يتعلق بالضرائب والتعريفات الجمركية والتصاريح. وقد ظل النظام يماطل في مثل هذه الخطوة، حيث أعلن عدة مرات خلال السنوات الثلاث الماضية عن نيته خصخصة بعض هذه الشركات، لكنه لم ينجح في ذلك أبدًا، لأن مجرد القيام بذلك قد يثير عداء كبار الضباط. أعلنت الحكومة في كانون الأول/ديسمبر 2024 أنها ستطرح أربع شركات في سوق البرصة في عام 2025. فهل سيحدث ذلك بالفعل؟ هل ستحذو الشركات الأخرى حذوها؟ هل ستعوض الامتيازات المباشرة وغير المباشرة الأخرى الجيش؟ لا يزال من غير الواضح ما إذا كان هذا التوجه سيؤثر على التهديد المتصور للانقلاب العسكري وإذا ما كان سيمكنه أن يستعيد هيمنته وبالتالي إعادة هيكلة قطاع الأمن مرة أخرى.
ثانيًا، بينما قضى قطاع الأمن الموحد في عهد السيسي على المعارضة وفكك أساسًا أي كيان مستقل عن الدولة وقادر على التعبئة، فهل ستصمد هذه الوحدة إذا حدث انفجار تلقائي للمعارضة مدفوعًا بتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية؟ إن المستوى غير المسبوق للقمع الذي أعقب انقلاب 2013 كان ممكناً جزئياً بسبب الدعم الواسع الذي حظي به السيسي في أيامه الأولى. ومع ذلك، فقد هذا النفوذ تدريجيًا في السنوات التالية، بفضل الأخطاء الاقتصادية ومشاريع الفيل الأبيض. في حين أن كبار الضباط وقسم كبير من الأجهزة القمعية سيقفون بقوة خلفه في مواجهة هذا التهديد الوجودي، فكيف سيتصرف أصحاب الرتب الدنيا والمجندون في الجيش والشرطة إذا ما واجهوا انتفاضة اجتماعية وطنية على مدى طويل، غير تابعين لأي تنظيم أو حزب سياسي؟
على العكس من ذلك، تركزت استراتيجية تركيا في مواجهة الانقلابات على التفكيك المنهجي لاستقلالية الجيش. وقد تم تكثيف هذه الاستراتيجية بشكل خاص بعد محاولة الانقلاب في عام 2016. ويعكس هذا التحول إعادة تعريف أوسع نطاقاً لـ”الأمن“ و”أمن الدولة“ في ظل حزب العدالة والتنمية، حيث تم تأطير التهديدات بشكل متزايد من حيث المعارضة السياسية والانشقاق. وقد تم استبدال الدور التاريخي للجيش كحارس للعلمانية بإخضاعه للقيادة المدنية، مما عزز سلطة الحزب الحاكم.
ومن خلال تقليص استقلالية المؤسسة العسكرية وترسيخ الولاء الأيديولوجي من خلال نظم التجنيد والتدريب الجديدة، ضمن حزب العدالة والتنمية تماشي الجهاز الأمني مع أهدافه السياسية. تُبرز إعادة تشكيل العلاقات المدنية-العسكرية اختلافًا حاسمًا عن مصر: ففي حين أن تركيا نزعت الطابع السياسي عن جيشها لتعزيز التفوق المدني، عمدت مصر إلى عسكرة المجال المدني لتوطيد السلطة.
يكشف هذان المساران المتباينان كيف أن التهديدات المتصوَّرة لا تشكّل هيكلية الأجهزة العسكرية-الأمنية فحسب، بل أيضاً الاستراتيجيات الأوسع نطاقاً التي تستخدمها الأنظمة. في تركيا، مكّن هذا التطور حزب العدالة والتنمية من ترسيخ حكمه مع إعادة تشكيل فهم الدولة للأمن، ما يطرح أسئلة مفتوحة حول التداعيات طويلة الأمد على الحكم الديمقراطي والديناميكيات المدنية-العسكرية.
في نهاية المطاف، توضح المسارات المتباينة للعلاقات المدنية-العسكرية في تركيا ومصر كيف أن الأنظمة تكيّف أجهزتها العسكرية-الأمنية مع التهديدات المتصوَّرة، مستخدمةً استراتيجيات متباينة تعكس سياقاتها التاريخية والسياسية الفريدة. وعلى الرغم من اختلاف هذه المقاربات في التنفيذ، إلا أنها تسلط الضوء على منطق مشترك: استغلال الهياكل الأمنية للحفاظ على السلطة، وتكشف عن التفاعل المعقد بين التهديدات المتصورة والتصميم المؤسسي وديمومة النظام.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.