تُسجِّل موريتانيا، ذلك البلد الصحراوي الفقير ذي الكثافة السكانية المنخفضة في شمال غرب أفريقيا، أعلى نسبة من العبودية المتوارثة مقارنة بأي بلد آخر في العالم. فمن بين عدد سكانها الذي يبلغ نحو 4,75 مليون نسمة، يُقدِّر "مؤشر الرق العالمي" أن هناك 90 ألف شخص يعيشون في ظل العبودية المتوارثة في البلاد. وعلى أرض الواقع، يُعد هذا شكلاً من أشكال العبودية القائمة على أساس النسب، التي تعامل البشر على أنهم ممتلكات، مع فرض هذه الممارسات بالقوة. فضلاً عن أن ما يقرب من 500 ألف شخص آخرين يعيشون تحت وطأة العبودية الحديثة أو "الأوضاع الشبيهة بالعبودية".
تتسم العبودية في موريتانيا أيضاً بأنها عبودية ذات نزعة عنصرية. ففي بلد يعاني سكانه من الفقر المدقع إلى حد كبير، تهيمن النخبة العربية-البربرية، الناطقة باللغة العربية، دون هوادة على مفاصل الدولة الموريتانية واقتصادها، وهي مجموعة إقصائية وعدوانية، يعرفون أنفسهم على أنهم بِيض (أو "البِيضان")، ويمثلون 30% من السكان على الأكثر. أما المُستعبَدون فهُم السود من داخل المجال اللغوي والثقافي العربي الإسلامي في موريتانيا (العرب السود أو "السودان"). في حين يُطلق على السود الذين تحرروا من العبودية، وهي العُرف الذي دام قروناً عديدة في موريتانيا، لقبُ "الحراطين" (الجمع حراطين، والمذكر حرطاني، والمؤنث حرطانية). ويُشكل الحراطينُ والسود المستعبدون نحو 40% من السكان. وفي بعض الأحيان يُشير مصطلح الحراطين إلى "العبيد" إضافة إلى "العبيد" السود المُحرَّرين. أما الموريتانيون السود غير الناطقين باللغة العربية -الجماعات الإثنية الموريتانية، الهالبولار والفلاني والسُّنِنكي والوولوف والبامبارا- فلم يُستعبَدوا قط من قبل البِيض الموريتانيين، على الرغم من أنهم يتشاركون في الأصل الإثني العرقي نفسه مع الحراطين المستعربين؛ وهم يشكلون نحو 30% من سكان البلاد. وبشكل عام، يشار إلى جميع السود في موريتانيا باسم "عبد" (والجمع "عبيد").
يصف الباحثان والناشطان الموريتانيان زكريا ولد أحمد ومحمد ولد سيرى العبوديةَ المتوارثة ذاتَ النزعة العنصرية التي لا زالت مستمرة في موريتانيا، فيقولا:
"بسبب التقاليد البدوية التي كانت سائدة في جميع أنحاء البلاد حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، كان الاستغلال (بما في ذلك الاستغلال الجنسي)، والسخرة في مجالات الزراعة وتربية الماشية، والاتجار بالعبيد ووهبهم، جزءاً لا يتجزأ من النظام الاجتماعي المحلي. فقد جرى العرف بأن العبيد [السود] هم مِلكية خاصة يمكن إعارتها أو وهبها أو بيعها للغير أو استغلالها. ولا يحق لهم الزواج دون موافقة أسيادهم، أو امتلاك الممتلكات أو وراثتها، أو الإدلاء بشهادتهم أمام المحكمة. ونتيجة لذلك، عاش العبيد، لا سيما النساء منهم، في حالة ’موت اجتماعي‘ واستغلال اقتصادي. إذ تتسم العبودية، في نظامها الموريتاني، بأنها متوارثة وتنتقل من ناحية الأم إلى ذريتها؛ ومن ثَمَّ، كان متوقعاً من الإماء أن تلِدن المزيد من العبيد الجدد لأسيادهن".
"في المجتمع العربي-البربري الحالي في موريتانيا، لا يزال ممكناً بيع السود المستعبدين، واستئجارهم، وتبادلهم، ووهبهم، وإعدامهم دون محاكمة، وضربهم، وإخصائهم، واغتصابهم، وتصديرهم للعمل كعبيد في بلدان أخرى، [نظراً لأنهم يعتبرون ملكاً لأسيادهم]. وتوجد حالياً أسواق للعبيد في موريتانيا، أبرزها في مدينة عرعر. وفي الوقت الراهن، يقوم العبيد السود في موريتانيا برعاية قطعان الحيوانات، ويجمعون التمر والصمغ العربي، ويعملون في الواحات والحقول الصالحة للزراعة في البلاد".
لا تزال العبودية المتوارثة ذات النزعة العنصرية قائمة في موريتانيا على الرغم من المحاولات الرسمية المتعددة للقضاء عليها. فقد أعلنت الإدارة الاستعمارية الفرنسية إنهاء العبودية عام 1905، لكنها لم تُدخل هذا القرار حيز التنفيذ قط. ومع عبارة "المساواة للجميع"، أُلغيت العبودية بموجب الدستور عند الاستقلال عام 1960. وفي عام 1981، أصبحت موريتانيا، بموجب مرسوم رئاسي، آخر بلد في العالم يلغي العبودية. إلا أنه لم تصدر أي قوانين جنائية لفرض هذا الحظر. واستجابة للضغوط الدولية، أصدرت الحكومة الموريتانية عام 2007 قانوناً يسمح بمقاضاة مالكي العبيد. بيد أن هذا القانون نادراً ما تم تطبيقه. بل إن عدداً من النشطاء الحقوقيين المناهضين للعبودية تعرَّضوا للملاحقة القضائية أكثر بكثير من "سادة العبيد" البِيض الموريتانيين القلائل. إضافة إلى ذلك، تُقدم تعويضات لتجار العبيد عن تحرير المستعبدين، بينما لا يُقدم لضحايا هذه الممارسات الوحشية أي شيء. وفي عام 2015، أنشأت الحكومة الموريتانية -استجابةً لضغوط التعبئة الدولية وبعض الضغوط المحلية- ثلاث محاكم خاصة لمحاكمة ممارسات العبودية؛ ولكنها حتى الآن لم تُحاكِم سوى حالات قليلة للغاية.
على الرغم من أن ذلك ينافي الواقع تماماً، تتبنى الحكومة الموريتانية والدولة التي يهيمن عليها البِيض موقفاً مؤداه أن العبودية قد انتهت كليّاً في موريتانيا، وأن الحديث عنها يشير إلى محاولات التلاعب من جانب الغرب، أو عمل من أعمال العداء تجاه الإسلام، أو بتأثير المؤامرة اليهودية العالمية.
سنحاول في هذه الورقة توضيح أسباب فشل الجهود الرسمية الرامية إلى القضاء على العبودية في موريتانيا. وتشمل هذه العواملُ عناصرَ الأيديولوجيا والثقافة (الشريعة، والفقه، وتفوق البِيض)؛ والبنية الاجتماعية التقليدية (القبلية والطائفية)؛ والتأثير المستمر لعلاقات القرابة الوهمية بين البِيض والحراطين والعبيد السود؛ والاقتصاد القائم على عمل العبيد في البيئة الصحراوية؛ وتعنت الدولة والحكومة الموريتانية. في حين يناقش الجزء الثاني من الورقة بإيجاز الاقتصاد الموريتاني، والآراء الرسمية للحكومة بشأن العبودية، قبل أن يختتم بتوصيات لإنهاء العبودية والأوضاع الشبيهة بها في موريتانيا.
الجزء الأول: لماذا تستمر العبودية المتوارثة ذات النزعة العنصرية في موريتانيا
الأيديولوجيا والثقافة: الشريعة، والفقه، وتفوق البِيض
ثمة العديد من العوامل تفسر كيف يستمر "البِيضان" في موريتانيا في الإفلات من العقاب فيما يتصل بالاستغلال المأساوي والاستعباد الوحشي للسود بالرغم من الإلغاء الرسمي لهذه الممارسات. تضطلع الأيديولوجيا والثقافة بدور كبير في هذا السياق. يميز الإسلام بين الشريعة (ما شرّعه الله للناس من الأوامر والنواهي والحلال والحرام) وبين التفسير البشري المتغير (وغير المعصوم من الخطأ) لهذه الشريعة: وهو الفقه. فقد قدم الفقه في موريتانيا تفسيراً مروعاً للشريعة الإسلامية في إطار المذهب المالكي، وهو تفسير يُبرر استعباد السود. وقد وردت هذه الصيغة من الشريعة في الدستور الموريتاني، ويحتج بها مالكو العبيد البِيض -والموظفون التابعون للمنظومة القانونية في موريتانيا- لتبرير "حقوقهم" في استغلال السود المستعبدين في العمل القسري، بالرغم من أن قوانين الدولة تعلن عكس ذلك. فضلاً عن أن البِيض من العرب والبربر (أو "البِيضان") يتولون دور المعلمين في الإسلام ويحرمون السود المستعبدين من التعليم اللازم لتشكيل فهمهم الخاص للدين (ثمة إجماع على أن الإسلام لم يسمح قط باستعباد المسلم إخوانه المسلمين، أياً كان لونهم). ونتيجة لذلك، يرى العديد من السود المتدينين في موريتانيا أن ترك "أسيادهم" البِيض خطيئة، وأن خضوعهم لهؤلاء السادة التزامٌ ديني. ومن ثَمَّ، فإن تفسير البِيضان للشريعة في موريتانيا يتعارض مع قوانين الدولة التي تكفل الحرية لجميع الموريتانيين.
قاد بيرام الداه ولد اعبيد -وهو أحد أبرز دعاة إلغاء العبودية في موريتانيا، ورئيس "مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية" (المعروفة بحركة "إيرا" IRA)- حملةً لحرق كتب الفقه المالكي التي كان يُحتج بها لتبرير استعباد الموريتانيين السود. ومن الأمثلة التي توضِّح شذوذ هذا الفهم المشترك للإسلام في موريتانيا، هزت عملية "الحرق الرمزي للكتب" -التي حدثت عام 2012- المجتمعَ الموريتاني في صميمه، وأدت إلى اندلاع مظاهرات حاشدة ضدها في جميع أنحاء البلاد. وواجه اعبيد وحركة "إيرا" ذلك بأن هناك في موريتانيا نوعين من القوانين المتناقضة تهدف إلى الحفاظ على العبودية واستمرارها. تميل قوانين العبودية التي نص عليها الدستور، والمستندة إلى نصوص المذهب المالكي المكتوبة بين القرنين التاسع والسادس عشر الميلاديين، إلى تجاوز الضمانات الدستورية التي تساوي بين جميع المواطنين الموريتانيين. إذ يبدو أن قوانين العبودية في موريتانيا تضفي الشرعية على ممارساتها وتقننها؛ فهي تُقرر أن العرق الأسود أدنى منزلة، وتسمح بامتلاك السود، وإخصاء الرجالِ السود، واغتصاب النساء السوداوات. إلا أن هذه الكتب الدينية تُستخدم حالياً لتدريب الأئمة وقوات الشرطة والقضاة في موريتانيا. وقد اتُّهِم اعبيد بالردّة وحكم عليه في البداية بالإعدام بسبب حرق الكتب. ومن الجدير بالذكر أن تهم الردّة في موريتانيا لم توجه إلا إلى من يدعون إلى حقوق الإنسان والمساواة وإلغاء العبودية، بينما لم توجه قط إلى أولئك الذين يمارسون العبودية والعنصرية ضد السود تحت ستار الإسلام.
بنية اجتماعية هرمية: القَبَلية والطبَقية
للتنظيم الاجتماعي التقليدي في موريتانيا أبعاد قَبَلية ومهنية تتجاوَز سيادة البِيض؛ إذ يبقى "العبيد" و"الحراطين" (العبيد المحررين) في قاع التسلسل الهرمي. كان السود المستعبدون يُضَمّون على مدار القرون الماضية إلى أدنى مراتب القبائل البيضاء والنظام الطبقي في البلاد. فالعبودية في مجتمع البِيضان جزء من بنية اجتماعية قبلية وهرمية تقوم على مبدأ اللامساواة منذ المولد. وفي سياق تكون فيه فرص البقاء والحياة خارج النظام القبلي بعيدة المنال، صار السود المستعبدون في موريتانيا، على مدى القرون، أعضاء خاضعين وتابعين للقبائل البيضاء. ويعد النظام الطبقي أيضاً جزءاً من البنية الاجتماعية الموريتانية. فمنذ قرون رسّخ أسلاف "البِيضان" الحاليين أنفسهم باعتبارهم الطبقة المهيمنة من المقاتلين والقبائل الدينية. وقد صار العبيد والحراطين -الذين أُجبروا بالقوة على القيام تقريباً بجميع أعمال الزراعة والرعي والأعمال المنزلية في البلاد، وبشكل مجاني- الطبقةَ الأدنى في التسلسل الهرمي الموريتاني. وبين هاتين الطبقتين [البِيضان والسودان]، هناك الفنانون والحرفيون والرعاة البِيض.
وللطبقة الاجتماعية قوة خفية؛ "فباعتبارها أداة لتعيين القيمة لشرائح كاملة من الجنس البشري، كثيراً ما توجّه كلّاً منا خارج نطاق وعيّنا. فهي تغرس في عظامنا تصنيفاً غيرَ واعٍ للخصائص البشرية وتحدّد القواعد والتوقعات والصور النمطية التي وُظّفت لتبرير الوحشية ضد جماعات بأكملها في جنسنا البشري". وتحدد الطبقة أيضاً فحوى الطريقة التي يُنظر بها إلى السود ويعاملون بها في موريتانيا.
قرابة وهمية بين البِيض والسود
"بسبب الإطار القبلي في المجتمع المحلي، لا يزال كثير من العلاقات تقوم على أساس التقاليد؛ فعلى سبيل المثال، لا تزال القرابة الوهمية بين السادة السابقين وعبيدهم من القبيلة نفسها أمراً ذا مغزىً لكلا الطرفين في موريتانيا". تعمل المشاعر العائلية مع الثقافة العربية الإسلامية المشتركة إلى حد كبير ضد مصالح الحراطين والسود المستعبدين (العبيد). فقد أدت إلى قبول بعضهم الخضوع والتبعية، وتساعد الأقلية من البِيض (البِيضان، وهم 30٪ من السكان) على الهيمنة على الاقتصاد السياسي للبلاد؛ لأنهم -نتيجة ما يجدون من الاحترام والتبجيل- يحظون إلى حد كبير بالدعم السياسي والاجتماعي من الحراطين الذين يمثلون 40٪ من السكان.
بل إن بعض العائلات النخبوية من الحراطين، الذين هم سود مستعبدون محررون داخل المجال الثقافي العربي الإسلامي، قد امتلكوا هم أنفسهم "عبيداً سوداً". وهناك عدد محدد منهم يصلون إلى مناصب حكومية رفيعة، طالما كانوا يمثلون مصالح البِيض في العبودية والعنصرية المعادية للسود وغير ذلك من السياسات. وقد شارك عدد من الحراطين في التهجير القسري لسبعين ألفاً من الموريتانيين السود الناطقين بغير العربية، بين عامَي 1989 و1991، على الرغم من أن معظمهم لا تربطهم بالسنغال أي صلة.
ولا تزال التبعية هي المنصب الوحيد المتاح أمام النخبة من الحراطين الذين يقبلون بالوضع الراهن:
"كان هؤلاء عبيداً محررين، فهم أشخاص لديهم -من الناحية القانونية- حقوق الملكية والتعاقد وتوريث ممتلكاتهم لأبنائهم. غير أنهم لم يكونوا متساوين مع النبلاء، وظلوا مرتبطين -من عدة أوجه- بعائلات أسيادهم القدامى. وقد تبايَنت مسؤولياتهم بناءً على ما إذا كانوا قد واصلوا العيش كجزء من تلك العائلات أو أثبتوا أنفسهم كرعاة أو مزارعين مستقلين. كانوا مدينين بـ’حُسن الوفادة لأسيادهم القدامى وأفراد عائلات هؤلاء السادة، وعادة ما كانوا يقدّمون لهم مبالغ سنوية أو هدايا عينية‘".
الجزء الثاني: الاقتصاد السياسي للعبودية وتواطؤ الدولة
من الواضح أن العبودية التقليدية القائمة على النسب في موريتانيا هي الأكثر تماسكاً في المناطق الريفية الأكثر عزلة بالصحراء (التي تبلغ نسبتها 90٪ من مساحة موريتانيا). إذ يُعتبر عمل السود المستعبدين أمراً محورياً في البنية الاقتصادية لهذه المناطق. فالعبيد يقومون برعي الحيوانات والعناية بأشجار النخيل ويزرعون الحبوب تحت تلك الأشجار، مما يجعل الحياة أمراً ممكناً في تلك الصحارى. يُضاف إلى ذلك أن العزلة وقلة البدائل في الحصول على الطعام والمياه تساعد في فرض تنظيم اجتماعي قائم على التسلسل الهرمي ذي النزعة العنصرية والعبودية المتوارثة. ونظراً لقلة البدائل في الصحراء والدولة والحكومة الموريتانية المعادية، يخشى كثير من الموريتانيين السود المستعبدين، بحقّ، أنهم قد يَهلكون إذا تركوا "أسيادهم" البِيض الذين يسيطرون تقريباً على جميع الأراضي والواحات وموارد المياه وقطعان الحيوانات.
إن نسبة كبيرة من النخبة المعاصرة في الدولة الموريتانية (وجميعها تقريباً من البِيض) -من موظفين حكوميين ورؤساء ودبلوماسيين ووزراء ورؤساء بلديات وولاة وأعضاء بمجلس الشيوخ وقضاة وقادة دينيين- تمتلك هي نفسها "عبيداً سوداً". وترفض السلطات المحلية، خاصة الولاة ورؤساء البلديات، تسجيل الشكاوى التي يقدمها السود المستعبدون وتناولها ومعالجتها. وبالتالي، فإن الأشخاص الذين يعتقلون ويُقاضون ويحكمون على حالة العبودية المتواصلة هذه هم أشخاص مكلَّفون باستمرار هذا العرف والعادة.
يستغل مُلّاك العبيد هؤلاء مناصبهم في السلطة للحفاظ على إرثهم من العبودية المتوارثة التي تستهدف السود.
ترتبط العبودية بأشكال أخرى من القمع العنصري في موريتانيا. إذ توظّف النخبة العربية-البربرية من البِيض سيطرتها على مفاصل الدولة الموريتانية لتعزيز مصالحها المادية. فهي تتعامل مع خزينة الدولة كحسابها المصرفي الشخصي. ونتيجة العنصرية المزمنة، يعاني الموريتانيون السود من تمييز شديد ضدهم فيما يتعلق بالتعليم والفرص الاقتصادية، التي هي السبيل الوحيدة أمامهم لتجاوز ميراث العبودية. فالحراطين تقريباً محرومون تماماً من شراء الأراضي في البلاد، ولذا يعملون في المَزارع كعبيد أو مُزارِعين مستأجرين (عليهم دفع الزكاة ’إلى أسيادهم‘، إضافةً إلى إعطاء الموريسكيين البِيض النصيبَ الأوفر من المحصول).
أسهم عنف الدولة، الداعم لقمع واستغلال واستعباد الأشخاص السود، في استمرار العبودية والعنصرية في موريتانيا. إضافة إلى أن النخبة العربية-البربرية المهيمنة على الجيش والحرس الوطني والشرطة تعمل على الحفاظ على الوضع الراهن. التمرد على أي من أشكال العبودية المتعددة في البلاد سيؤدى إلى سحب الحراطين إلى مخافر الشرطة ومكاتب الحرس الوطني، حيث يتعرضون للضرب لإجبارهم على الرضوخ. وهناك مدن وقرى ومخيمات صحراوية في موريتانيا يجري فيها التعذيب والقتل العشوائي بانتظام. وفي العام 1999، شارك أعضاء مجلس الشيوخ والقضاة البِيض بمقاطعة كرو، الواقعة في جنوب وسط البلاد، في عمليات قتل عشوائي جماعية للعديد من الحراطين.
تنشر نخبة الدولة من البِيض في موريتانيا أيديولوجيا الصمت والإنكار لصرف الانتباه عن العبودية العنصرية في أوساطهم. "كلما عُرِضت مسألة استعباد الحراطين [على المسؤولين الموريتانيين]، تُواجه بالإنكار ونبرة دفاعية مغلَّفة بمصطلحات الأمن القومي والتماسك الاجتماعي". وللحفاظ على الوضع الراهن، جعل "البِيضان" مناقشة مسألة العبودية من المحرَّمات. وأخيراً، فإن المحاكم الخاصة والقوانين التي تجرِّم العبودية في موريتانيا لم يتم تفعيلها وتنفيذها.
توصيات
على الرغم من الإلغاء الرسمي للعبودية عدة مرات، هناك عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية مسؤولة عن استمرار العبودية المتوارثة ذات النزعة العنصرية في موريتانيا. غير أن حملة حقوقية ذات شقين يمكنها أن تلغي العبودية بغير رجعة في البلاد. فمن ناحية، لا بد للحملة أن تستهدف المتضررين بشكل مباشر من العبودية، سواء المحررين أو القابعين في الاسترقاق؛ ومن ناحية أخرى، يجب أن تكون موجهة إلى السلطات المسؤولة عن تطبيق الآليات القانونية وإلى المجتمع الدولي.
ومن أجل تحرير المسترَقّين من "أسيادهم"، يعدّ التعليم أمراً أساسياً. فخفض نسبة الأمية وتوعية الموريتانيين المستعبدين بحقوقهم الإنسانية وسبل الحماية القانونية محلياً وإقليمياً ودولياً من الاسترقاق، هي أمور ستجعلهم أكثر استقلاليةً. ويستحوذ التعليم الديني على القدر نفسه من الأهمية. فلا بد أن يكون النشطاء والمعلمون قادرين على مواجهة التمييز والعنصرية المعادية للسود التي يروج لها مالكو العبيد تحت ستار الإسلام. ولا بد للتعليم أيضاً أن يستهدف ذلك الاعتقاد السائد في أوساط المستعبدين أنهم جزء من قبائل أسيادهم البِيض وعائلاتهم، على الرغم من الاستغلال المروِّع من قبل هؤلاء السادة.
من المهم أيضاً أن تكون لدى المحررين فرص اقتصادية كافية ليعيشوا حياة الأحرار. ولا بد من إطلاق أو تعزيز البرامج التنموية أو الإجراءات الإيجابية -لا سيما الخاصة بإتاحة ملكية الأراضي- التي تعود بالنفع على الموريتانيين السود.
يجب ممارسة ضغوط محلية وإقليمية ودولية أكبر على الحكومة الموريتانية للإقرار باستمرار العبودية وإلزامها بتنفيذ قوانين إلغائها، بما في ذلك استخدام آليات دعم الضحايا غير المعمول بها حالياً. فقد يكون لدبلوماسية الدول المجاورة والدول الإسلامية ذات السجل الحقوقي الجيد نسبياً أثر فعال للغاية. ونظراً لأن موريتانيا عضو في الاتحاد الأفريقي، يمكن للاتحاد استخدام سلطاته كمنظمة إقليمية للضغط على الحكومة الموريتانية لإنهاء العبودية، وذلك من خلال تسمية ممارساتها المستمرة وفضحها وفرض العقوبات عليها.
ويجب على الأمم المتحدة والولايات المتحدة أن تكونا أقوى في إدانتهما للعبودية في موريتانيا، بما في ذلك وضع شروط على تقديم المساعدات وغير ذلك من الإجراءات.
يمكن أيضاً ممارسة الضغط على الحكومة الموريتانية لإنهاء العبودية بصورة فعالة من خلال حشد التضامن العرقي بين الأمريكيين الأفارقة -الذين لديهم تاريخ من استعباد البِيض/البِيضان لهم- وبين الموريتانيين السود المستعبدين.
Global Slavery Index country data 2013: Mauritania. Global Slavery Index. Walk Free Foundation.
Global Slavery Index country data 2013: Mauritania. Global Slavery Index. Retrieved May 2021.
Zekeria Ould Ahmed Salem, “The Politics of the Haratin Social Movement in Mauritania, 1978-2014,” in Osama Abi Merched, Social Currents in North Africa: Culture and Governance after the Arab Spring (Oxford: Oxford University Press, 2018).
Bruce Hall, quoted in Alexis Okeowo (8 September 2014). "Freedom Fighter: A slaving society and an abolitionist's crusade". The New Yorker. Retrieved May 29, 2021.
كما يُدلّل محمد ولد سيرى، في كتابه بالفرنسية "موريتانيا" (باريس: دار نشر آرماتان، 2014)، على استمرار العبودية التقليدية والمتوارثة والعنصرية في موريتانيا المعاصرة. وفي عام 2009، أشارت غولنارا شاهينيان، المقررة الخاصة المعنيّة بأشكال الرق المعاصرة، إلى أن "ثمة حالات خطيرة من العبودية، بأشكالها التقليدية والحديثة على حد سواء، لا تزال قائمة في موريتانيا". في حين صرحت "المنظمة الدولية المناهضة للعبودية" (Anti-Slavery International)، وهي منظمة دولية غير حكومية، أن "موريتانيا واحدة من آخر بلدان العالم التي لا يزال فيها أشخاص يولدون في ظل العبودية، ويَملكهم حرفياً أشخاصٌ آخرين، ويواجهون حياة من سوء المعاملة والسخرة". https://www.antislavery.org/what-we-do/mauritania.
Zekeria Ould Ahmed Salem, op. cit.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.