الجيل الجديد من الاحتجاجات في المغرب: مقارنة بين حراك الريف وحركة 20 شباط/فبراير

Arab Reform Initiative - الجيل الجديد من الاحتجاجات في المغرب: مقارنة بين حراك الريف وحركة 20 شباط/فبراير
متظاهرون يحملون صورة ناصر الزفزافي، زعيم حركة الاحتجاج في الريف المغربي، والعلم الأمازيغي أثناء مظاهرة تضامنية بالرباط، المغرب | حزيران / يونيو 2017 © Abdelhak Senna / EPA

ملخَّص

منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر 2016 اندلعت موجة من الاحتجاجات الشعبية في جهة الريف الواقع شمالي غربي المملكة المغربية على خلفية الموت البشع الذي تعرّض له بائع السمك محسن فكري نتيجة طحنه في شاحنة نفايات بعد أن دخل إليها محاولاً استعادة أسماكه التي صادرتها السلطات. وطيلة الأشهر التي تلت وفاة فكري لم تتوقف الاحتجاجات في منطقة الريف، وانتقلت إلى بعض المناطق الأخرى من المملكة وهي مستمرة حتى اليوم. ورغم أن مطالب المحتجين تتمحور حول قضايا تنموية واقتصادية، مثل التشغيل والبنية التحية؛ فإن القمع المستمر والاعتقالات العشوائية لقياداتها قد يؤديان إلى التصعيد، الأمر الذي قد يؤدي بسهولة اضطرابات سياسية أوسع.

ويمكن اعتبار حراك الريف موجة جديدة من الاحتجاجات السياسية والاجتماعية، هي الأكبر منذ احتجاجات حركة 20 شباط/فبراير 2011. ورغم وجود عناصر للتشابه بين المظالم التي سببت حراك الريف وحركة 20 شباط/فبراير 2011. كانتشار البطالة وفساد أجهزة الدولة؛ فإن بنية الحركتين وطريقة الاشتغال تختلفان على عدة أصعدة. وهو ما ستحاول هذه الورقة وصفه وتحليله عبر التركيز على خمسة أبعاد هي:
أولاً- البعد الجغرافي: مقارنة الطابع الإثني والجهوي لحراك الريف مع الطابع الوطني لحركة 20 شباط/فبراير.
ثانياً- طبيعة الخطاب: مطالب سياسية ولكن مشتتة بالنسبة لحركة 20 شباط/فبراير بسبب اختراق التنظيمات الحزبية، مقابل مطالب سياسية مغلفة بخطاب تنموي.
ثالثاً- دور التنظيمات السياسية والنقابية والمدنية.
رابعاً- بروز الزعامات: نجاح حراك الريف في إفراز زعامة ميدانية (ناصر الزفزافي) الذي يمتلك شعبية، مقابل فشل حراك 20 شباط/فبراير في إفراز قيادات ميدانية مستقلة وذات مصداقية.
خامساً- هيكلة الحراك: تجادل هذه الورقة في أن حراك الريف يتميز عن حركة 20 شباط/فبراير في عدة مستويات. أولاً تمكّن حراك الريف من بناء هوية مشتركة مؤسسة على الطابع الجهوي وأحياناً (الطابع الإثني) وخطاب سياسي واضح يمزج بين المطالب السياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى تميزه عن التنظيمات السياسية الكلاسيكية، ثم أخيراً قدرته على هيكلة الحراك بشكل أكبر، وإفراز قيادة شعبية تتمتع بالمصداقية في نظر أعضائه. إن هذه المميزات هي التي قد توفر للحراك فرصة للتعبئة والتأطير أكبر من تلك التي كانت تتميز بها حركة 20 شباط/فبراير.

اقرأ المزيد

مقارنة بين حراك الريف وحركة 20 شباط/فبراير

يمثل الحراك الشعبي في منطقة الريف – الواقعة شمالي غربي المملكة المغربية – والذي انطلق منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر 2016، موجة جديدة من الحركات الاحتجاجية، هي الأكبر منذ حراك 20 شباط/فبراير 2011. ومنذ ذلك الحين تواصلت الاحتجاجات بشكل متقطع قبل أن تأخذ منحىً تصعيدياً بعد حملة اعتقالات شملت العشرات من الناشطين، من ضمنهم زعيم حراك الريف، ناصر الزفزافي بداية رمضان 2017 على خلفية احتجاجه داخل أحد مساجد مدينة الحسيمة. ومن شأن استمرار قمع الاحتجاجات السلمية؛ تأجيج الأوضاع وردكلة (تجذير) الحراك وانحرافه نحو مطالب سياسية أو ربما دعوات للانفصال.

ومن النظرة الأولى يظهر حراك الريف باعتباره استمراراً لحركة 20 شباط/فبراير 2011 لا سيما من حيث تشابه الأسباب التي ساهمت في ظهورهما، خصوصاً وجود احتقان اجتماعي وسياسي، وانتشار البطالة وفساد أجهزة الدولة. هذا بالإضافة إلى الطبيعة السلمية للحراكين، ورفعهما بعض الشعارات والمطالب المتشابهة مثل محاربة الفساد والعدالة الاجتماعية. ولكن النظر المعمّق للحراكين يكشف وجود تمايزات على عدة أصعدة، أهمها اقتصار حراك الريف على منطقة جغرافية محدودة (منطقة الريف)، وقدرة هذا الأخير على الاستمرار والصمود رغم المقاربة القمعية التي نهجتها السلطات، على خلاف حراك 20 شباط/فبراير الذي أفل نشاطه بعد أشهر قليلة من انطلاقه. وهو ما تسعى هذه الورقة إلى إبرازه من خلال إجراء مقارنة بين الأسباب التي ساهمت في إبقاء جذوة حراك الريف متقدة وأفول حركة 20 شباط/فبراير. الأمر الذي يتطلب السعي نحو فهم العوامل السياسية والاجتماعية التي أدت إلى اندلاع كلّ منهما، وأيضاً النظر إلى أسلوب الاحتجاجات وتكتيكاتها.

وتعتبر هذه الورقة أن السبب الرئيسي الذي يفسر استمرار حراك الريف وصموده يرجع إلى نجاح ناشطي الحراك في بناء هوية مشتركة وقيادة موحدة ساعدت على الحفاظ على وحدة المطالب ووضوحها، بالإضافة إلى هيكلة الحراك مع الحفاظ على استقلاليته من اختراقات الأحزاب السياسية، ثم أخيراً تنويع أساليب الاحتجاجات وتكتيكاتها وخروجها عن النمط التقليدي للاحتجاج، الأمر الذي لم تفلح فيه حركة 20 شباط/فبراير وهو ما عرّضها للضعف والأفول.

صناعة خصوصية الريف

إن تشابه العوامل البنيوية – من احتقان سياسي وارتفاع مؤشرات الفساد والتحكم السياسي – هو الذي أدى إلى اندلاع الاحتجاجات السياسية؛ إلا أن تطور الحراكين اتخذ مسارات متباينة لا سيما على مستوى طبيعة الحراك ودور وسائل التواصل الاجتماعي والهيكلة والتنظيم وأسلوب الاحتجاج، وهي عوامل كان لها تأثير بيّن على استمرارية الاحتجاجات وصمود نشطائها.

فعلى مستوى جغرافية الاحتجاج، تميز حراك 20 شباط/فبراير بالطابع الوطني وبلوَر هوية وطنية عابرة للبعد الإثني والمحلي. فمنذ البداية، نزل عشرات الآلاف من الناشطين بشكل متزامن في حوالي 70 مدينة وقرية بمختلف جهات المملكة، وهو أكبر احتجاج سياسي عرفه عهد الملك محمد السادس. ولقد كان ظهور حركة 20 شباط/فبراير تعبيراً عن جيل جديد من الاحتجاجات السياسية التي تركز على مطالب سياسية وطنية مثل مكافحة الفساد والاستبداد السياسي، بالإضافة إلى انتقالها من منطق الحركات الاحتجاجية المحلية أو القطاعية إلى احتجاجات وطنية ذات مطالب سياسية ودستورية واجتماعية.

وقد شكلت البيئة الإقليمية العربية قوة دافعة لحركة 20 شباط/فبراير، باعتبارها ظهرت في سياق الربيع العربي الذي أطاح بنظام زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر، وهو ما دفع المؤسسة الملكية في المغرب إلى التفاعل الإيجابي مع مطالب المحتجين عبر إطلاق حزمة إصلاحات سياسية ودستورية مهمة أبرزها تعديل الدستور الذي أقر تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات، وإجراء انتخابات سابقة لأوانها ضمنت الصدارة لحزب العدالة والتنمية المعارض آنذاك، ومن ثمة مكّنته من تشكيل الحكومة.

ورغم أن منطقة الريف لم تكن معزولة عن دينامية 20 شباط/فبراير باعتبار أن عدداً من نشطاء حراك الريف حالياً كانوا أعضاء ناشطين في حركة 20 شباط/فبراير، وضمنهم ناصر الزفزافي؛ فإن تميز منطقة الريف ببعض الخصوصيات التاريخية والثقافية جعل من إمكانية تفجر الأوضاع فيها أكبر مقارنة بمناطق أخرى. فالقمع الوحشي الذي عرفته الانتفاضة الشعبية في تلك المنطقة سنة 1958 صنع ذاكرة كامنة متوجسة من الدولة المركزية يقابلها توجس مماثل في مواجهة أشكال التعبير الاحتجاجي الريفي من قبل الدولة، ما خلق حالة من انعدام الثقة بين الطرفين. هذه الذاكرة المتوجسة صنعت إحساساً بالمظلومية لدى ساكني الريف، لم تزده الأحداث التي عرفها المغرب في عهد الملك الراحل الحسن الثاني إلا تجذيراً وقابلية للتوظيف في لحظات التوتر.1استمرار توتر الثمانينيات عبر عنه من خلال انتفاضات شعبية دفعت المئات من المواطنين في منطقة الريف للخروج إلى الشارع للاحتجاج على غلاء المعيشة وانتشار البطالة، الأمر الذي قابلته السلطات بالمقاربة القمعية نفسها التي وصفها العاهل المغربي الراحل في أحد خطاباته الرسمية عقب احتجاجات 1984 بأنها مسيرة من طرف "الأوباش" في إشارة منه إلى ساكني منطقة الريف.

ونتيجة هذه العلاقة المتوترة؛ أهملت السلطات المغربية منطقة الريف لفترة طويلة من مشاريع التنمية التي تعرفها مناطق المغرب المختلفة. ولم تبدأ الدولة الاهتمام بمنطقة الريف إلا بعد زلزال سنة 2004 الذي ضرب المنطقة ودمر عشرات البيوت. ورغم بعض الاهتمام المتأخر في السنوات الأخيرة؛ فإن المنطقة لا زالت تعرف نسب بطالة عالية لا سيما في صفوف الشباب مقارنة مع المعدل الوطني.2Nadia Lamlili, “Tensions à El Hoceima : les chiffres des inégalités sociales qui expliquent la grogne marocaine”, Jeune Afrique, 25 mai 2017

إن تمركز الحراك الحالي في منطقة الريف، رغم المحاولات التضامنية مع هذا الحراك من خارج هذه المنطقة، سواء داخل المغرب عبر مسيرات تضامنية في الرباط والدار البيضاء وغيرها من المدن المغربية، أو من طرف الريفيين المقيمين في الخارج؛ أعطى فرصة للسلطات المغربية لوصم الحراك بالنزعة الانفصالية وتلقي "أموال من الخارج"، على الرغم عن محاولات قيادات حراك الريف طمأنة الرأي العام الوطني، والتأكيد على ارتباطهم بالهوية الوطنية وثوابتها.

بوعزيزي المغرب

لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً مهماً في التعبئة والتأطير في كلا الحراكين. فقد انطلقت احتجاجات 20 شباط/فبراير في البداية عبر الفضاء الافتراضي من خلال دعوات على صفحات التواصل الاجتماعي تدعو إلى النزول للاحتجاج في الشارع، إلا أن هذه الدعوات للاحتجاج لم تكن نتيجة سبب مباشر مثلما هي الحال في تونس (وفاة البوعزيزي)، ولكنها حصلت نتيجة التأثر بموجة الاحتجاجات التي عرفها العالم العربي سنة 2011.

لكن حراك الريف وجد "بوعزيزيه" في الموت البشع الذي تعرّض له بائع السمك، محسن فكري، نتيجة طحنه في شاحنة نفايات بعد أن علق داخلها أثناء محاولته استعادة أسماكه التي صادرتها السلطات بشكل تعسفي. وكان لنقل صور جثة فكري عبر وسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في تأجيج مشاعر الغضب والإحساس بالظلم لدى ساكني المنطقة. ويظهر أيضاً أن ناشطي حراك الريف استفادوا من أخطاء 20 شباط/فبراير، وعملوا على توظيفٍ أكثر فعالية واحترافية لوسائل التواصل الاجتماعي مقارنة مع حركة 20 شباط/فبراير. فقد ظهرت عدة مواقع إلكترونية مساندة لحراك الريف، كما أسس زعيم الحراك ناصر الزفزافي صفحة على الفيسبوك نالت اهتمام عشرات آلاف المتابعين، كما أن تسجيلاته المباشرة على صفحته في الفيسبوك جلبت مئات آلاف المشاهدين، وهي نسب مشاهدة عالية لا يحققها أي من السياسيين المغاربة باستثناء عبد الإله بنكيران قبل عزله من رئاسة الحكومة.

مقومات الصمود بين الحراكين

تميز حراك الريف بقدرته على الصمود والاستمرار بالرغم من حملات الاعتقال والمنع المستمر للاحتجاجات، وهو أمر يختلف به عن حراك 20 شباط/فبراير الذي فشل في الحفاظ على ديناميكيته، رغم أنه تعرض لضغط أمني أقل من حراك الريف. ما الذي يفسر إذاً صمود حراك الريف مقابل أفول حراك 20 شباط/فبراير؟

فشل حراك 20 شباط/فبراير في الحفاظ على قدر من الصمود بسبب النزاعات الداخلية بين مكوناته وعدم قدرته على بلورة هوية مشتركة تجمع بين التناقضات الموجودة داخله. فمنذ البداية تشكل حراك 20 شباط/فبراير في أغلبه من فئات كانت مسيسة أو لديها قابلية للتسيس، تضم خليطاً من التيارات السياسية والإيديولوجية (أحزاب يسارية معارضة، جمعيات حقوقية وأمازيغية، نقابات عمالية، جماعة العدل والإحسان، السلفيون، غيرهم). هذا التنوع في الاتجاهات السياسية والإيديولوجية الذي اخترق حركة 20 شباط/فبراير انعكس على طبيعة مطالبها وخطابها السياسي. فمنذ اليوم الأول ظهرت أربع أرضيات تأسيسية مختلفة لحركة 20 شباط/فبراير، تتضمن مطالب عامة و"طوباوية"؛ مثل محاربة الفساد والاستبداد وتعديل الدستور وحل البرلمان وقضاء مستقل ومحاكمة المتورطين في الفساد، بالإضافة إلى مطالب فئوية مثل إدماج العاطلين عن العمل في سلك الوظيفة العمومية. والمشترك بين هذه المطالب هو غياب أهداف محددة ومرحلية وإجراءات قابلة للتنفيذ.

إلى جانب ذلك، كان حراك 20 شباط/فبراير منقسماً بين تيارين متناقضين: إصلاحيون وراديكاليون. الإصلاحيون كان سقف مطالبهم لا يتجاوز إصلاح النظام السياسي عبر تبني نظام الملكية البرلمانية. أما الراديكاليون فكان سقفهم مفتوحاً وطال تغيير النظام السياسي نفسه. هذا التباين بين سقفي المطالب أدى إلى نوع من الغموض في مطالب حراك 20 شباط/فبراير، وهو ما خلق حالة توجس مبكر من الحركة شملت نشطاء داخل الحراك نفسه.

كما أن القيادات التي تصدرت المشهد في حراك 20 شباط/فبراير كانت تفتقد الخبرة السياسية، وجزء منه كان يفتقد للمصداقية والاستقلالية. فمثلاً أسامة الخليفي الذي تم تسويقه على أنه قائد حراك 20 شباط/فبراير؛ تم استقطابه من طرف حزب الأصالة والمعاصرة وهو الحزب المقرب من القصر الملكي آنذاك. ولجأت الدولة – نتيجة خبرتها الطويلة في التعامل مع المعارضات المختلفة – إلى سياسة "فرق تسد" لإضعاف حركة 20 شباط/فبراير. فقد لعبت السلطات المغربية على تفجير التناقضات الداخلية للحركة وعملت على إضعافها من الداخل، خصوصاً بين الإسلاميين واليساريين، وبين الاتجاهات الراديكالية والمعتدلة. وهو ما أدى إلى انسحاب جماعة العدل والإحسان من الحراك بعد أشهر من انطلاقه، وإلى فتور نشاط العديد من قياداته.

في مقابل ذلك، نجح حراك الريف في الصمود. ويرجع هذا الصمود والاستمرارية رغم قمع الدولة المستمر إلى عوامل عدة. فمن جهة، استطاع ناشطو حراك الريف صياغة مطالب سياسية واجتماعية محددة وقابلة للتنفيذ. فمنذ اليوم الأول لانطلاق الاحتجاجات في تشرين الأول/أكتوبر 2016 عقب وفاة محسن فكري، صاغ ناشطو الحراك مجموعة مطالب محددة أبرزها محاكمة عادلة وبحث معمّق لمعرفة أسباب وفاة محسن فكري، ورفع مظاهر "العسكرة" والتعامل الأمني مع منطقة الريف، وتشجيع الاستثمار والبنية التحتية في المنطقة وبناء جامعة ومستشفى جامعي ومستشفى لأمراض السرطان. ومع الزمن تطوّرت المطالب تدريجياً إلى المطالبة بتدخل ملكي لحل التوتر الحاصل في المنطقة.

وقد عملت قيادات حراك الريف على تأطير مطالبها بشكل واضح، وتجلى ذلك في رفضها تبني العنف والدعوات الانفصالية، وتركيزها على نقد الدولة (وزارة الداخلية) والحكومة والأحزاب السياسية مع العمل في الوقت نفسه على تفادي الاصطدام مع الملك باعتباره رئيساً للدولة. كما تصدت أيضاً لبعض التوجهات الراديكالية التي أرادت اختراق الحراك، لا سيما تلك التي أرادت الدفع في اتجاه تبني مواقف راديكالية من النظام، مثل الدعوات للانفصال أو الحكم الذاتي أو الاحتجاج يوم عيد العرش.3كشك، "والد ناصر الزفزافي يرد على الدعوة للاحتجاج يوم 30 يوليوز"، 26 حزيران/يونيو 2017: وهو ما جعل مطالب الحراك تحظى بشعبية في صفوف فئات واسعة داخل المنطقة. ويظهر أن ناشطي حراك الريف لم يقطعوا شعرة معاوية مع النظام، على أمل عقد صفقة سياسية مقبولة مع الملكية تتمثل في إطلاق سراح المعتقلين والحصول على وعود من الملك لتنفيذ مشاريع تنموية مستدامة في المنطقة. ولكن من شأن تسويف السلطات واستمرار اعتقال نشطاء الريف أن يؤدي إلى مزيد من الاحتقان.

وبشكل عام، فإن هذا الانسجام في مواقف حراك الريف يرجع في الراجح إلى تمكن الناشطين من بناء هوية مشتركة بين أعضائه، تشكلت بفضل الإحساس المشترك بالمظلومية وبالتهميش في هذه المنطقة، بالإضافة إلى البعد القبلي والإحساس بالهوية الأمازيغية-الريفية كعنصر مشترك بين المحتجين. وقد ظهر هذا البعد الهوياتي أساساً في رفع العلم الأمازيغي وعلم جمهورية الريف وغياب العلم الوطني المغربي. وهي رموز تحيل على الهوية الجهوية للحراك. وتزداد قوة هذه النزعة الجهوية مع الوقت كلما ماطلت السلطات في تقديم حلول مجدية.

ومن جهة أخرى، لعبت شخصية ناصر الزفزافي دوراً كبيراً في توحيد مطالب الحراك وإعطائه هوية واضحة. فالزفزافي يعتبر نموذجاً للتهميش الذي يعاني منه شباب المنطقة، كما أن سيرته الذاتية تشبه سيرة مواطن مغربي متوسط، فهو شاب عاطل عن العمل في نهاية الثلاثينيات من عمره، قضى فترة من شبابه في التنقل بين مهن هشة وموسمية. ورغم أنه لا يمتلك تجربة سياسية حزبية؛ فإن نشاطه السياسي المعارض راجع على الأرجح إلى نشاطه ضمن الحركة الثقافية الأمازيغية وحركة 20 شباط/فبراير، التي كان عضواً عادياً فيها. ويبدو أنه اكتسب هذه النزعة المعارضة أيضاً من عائلته؛ فقد كان والده مناضلاً يسارياً في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قبل أن ينسحب منها سنة 1999 عندما انتقلت من المعارضة إلى الحكومة. ثم إن عم الزفزافي كان يمثل اليد اليمنى لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، وهو ما جعله متأثراً بالتراث النضالي لعبد الكريم الخطابي، الأمر الذي يظهر من خلال استعارة بعض العبارات المنسوبة إلى عبد الكريم الخطابي، وبخاصة شعار حراك الريف الشهير: "هل أنتم حكومة أم عصابة؟".

وقد لعبت شخصية الزفزافي وفصاحته دوراً في التعبئة والتأطير. فهو مزدوج التعليم (ديني وعصري) ويمزج بشكل سلس في خطاباته بين لغته الأم (الأمازيغية-الريفية) والدارجة المغربية واللغة العربية الفصيحة. وتضم خطب الزفزافي وكلماته المسجلة والمباشرة خليطاً يمزج بين عدة سجلات إيديولوجية وسياسية عابرة للانقسامات التقليدية: إسلامي/علماني، عربي/أمازيغي.

فمن جهة ركز الزفزافي في خطابه على المطالب السياسية والتنموية، لا سيما البطالة والفقر والفساد. إلا أنه في الوقت نفسه يحيل خطابه على بعض الأبعاد الثقافية والدينية، لا سيما اعتزازه بالثقافة الأمازيغية المحلية ويستعمل أيضا مصطلحات دينية قريبة من التدين الشعبي، لا سيما نقده اللاذع لعلماء السلطان واستغلال الدولة للدين في تبرير سياساتها، وهو ما دعاه أيضاً إلى الاحتجاج داخل أحد مساجد الحسيمة عقب خطبة جمعة تم تعميمها يوم 26 أيار/مايو 2017، تدعو إلى طاعة ولي الأمر والكف عن الاحتجاج، وهو ما اعتبره الزفزافي استغلالاً سيئاً للدين من طرف الدولة.4www.youtube.com/watch?v=aNvOY9jkflY

بالإضافة إلى ذلك، ينتقد ناشطو حراك الريف النخب الحزبية التي يصفونها بالدكاكين السياسية والجمعيات الارتزاقية، ولهذا خاطب الزفزافي العاهل المغربي بشكل مباشر ودعاه للتدخل لحل الأزمة في الريف وهو مؤشر على فقدان الثقة في الطبقة السياسية. وقد أعطت هذه الاستقلالية عن التنظيمات الحزبية مصداقية للناشطين مقارنة مع حركة 20 شباط/فبراير، كونها حافظت في نظرهم على "طهارة الحراك من دنس الأحزاب السياسية".5مقابلة الكاتب مع ناشطة في حراك الريف، الحسيمة، يوم 10 آب/أغسطس 2017.

وهكذا فإن الخطاب السلس والبسيط والمباشر لناشطي الحراك جعله جذاباً في نظر فئات اجتماعية عابرة للإيديولوجيا. ومنه، فإن تمكن حراك الريف من إفراز زعامات ميدانية (ناصر الزفزافي ورفاقه) تمتلك حضوراً وقدرة على التعبئة، ساعد حراك الريف على هيكلة الحراك وتكوين تنظيم أكثر فعالية على مستوى التعبئة أعطاه مناعة أمام قمع السلطات، وهو أمر فشل فيه حراك 20 شباط/فبراير.

بالموازاة مع وجود قيادة موحدة ومطالب محددة؛ تمكن الناشطون أيضاً من هيكلة الحراك عبر بناء شبكة نشطة تضم لجنة تنظيمية ولجنة إعلامية بالإضافة إلى قيادة الحركة. فبعد وفاة محسن فكري مباشرة، اجتمع شباب الحراك في أحد مقاهي مدينة الحسيمة ودارت بينهم مناقشات معمقة حول طرق الاشتغال وتنظيم الاحتجاجات. ومن بين الأفكار الرئيسية التي تم التوافق عليها في هذه الاجتماعات؛ كان الالتزام بسلمية الحراك وإبداع أشكال احتجاجية جديدة.6مقابلة الكاتب مع ناشط في حراك الريف، الحسيمة، يوم 9 آب/أغسطس 2017.

هذا التنظيم يفسّر إلى حد ما استمرارية حراك الريف. فقد ظهرت فعالية هذه الشبكة المنظمة من الناشطين بشكل بارز أثناء الإعداد لمسيرة 18 أيار/مايو 2017، التي بدا فيها ناصر الزفزافي محاطاً بمجموعة من الحراس الشخصيين، وظهرت لجنة التنظيم متحكمة في مختلف تفاصيل المسيرات والأشكال الاحتجاجية من تنظيم للصفوف وضمان عدم انزلاق الاحتجاجات نحو العنف. كما عملت مجموعة من المواقع الإلكترونية المحلية على تغطية واسعة للمسيرات الاحتجاجية، ساعدت على إيصال صوت الحراك إلى خارج منطقة الريف، لا سيما في صفوف الجالية المقيمة في أوربا. ويبدو أن هذه الشبكة النشطة التي تم بناؤها تمكنت من الصمود رغم حملة الاعتقالات التي شملت أغلب قيادات الحراك. فبعد مرور أسابيع من اعتقال الزفزافي ورفاقه بقيت المسيرات الاحتجاجية تخرج بشكل مستمر وعفوي.

أما فيما يخص حركة 20 شباط/فبراير فإنها قد انتهجت أسلوب الاحتجاجات الكلاسيكية. أي النزول المنظم والمستمر إلى الشارع من خلال دعوات في الواقع الافتراضي. وفي الحقيقة كانت وتيرة الاحتجاجات في حركة 20 شباط/فبراير تتميز بالطابع الموسمي، أي تنظيم مسيرات شهرية في المدن الكبرى مثل الرباط والدار البيضاء وطنجة وفاس وغيرها، مع غياب للمسيرات والوقفات اليومية كما هي عليه الحال في الريف. وهذا يرجع إلى الانقسامات الداخلية داخل حركة 20 شباط/فبراير وطبيعتها الوطنية. فتشتت الحركة على صعيد عشرات المدن جعل من شأن التنسيق بين مختلف نقط الاحتجاج أكثر صعوبة مقارنة مع التنسيق المحلي بين ناشطي حراك الريف. ورغم تأسيس تنسيقية وطنية وأخرى محلية لتنظيم الاحتجاجات وصياغة المطالب وغيرها؛ فغالباً ما كانت عملية اتخاذ القرار بطيئة وغير منسقة.

في المقابل، لجأ حراك الريف إلى المزج بين مروحة واسعة من التكتيكات والأساليب الاحتجاجية، وأبدع أشكالاً جديدة من الاحتجاج، أضيفت إلى السجل النضالي للحركات الاحتجاجية في المغرب، وهو ما يفسر نجاح حراك الريف في تنظيم أكثر من 700 حركة احتجاجية تمثّلت في وقفات ومسيرات، حيث سجلت الحسيمة لوحدها 145 احتجاجاً، في ظرف سبعة أشهر بين شهر تشرين الأول/أكتوبر 2016 ونهاية شهر أيار/مايو 2017،7موقع اليوم 24، "الخلفي: إقليم الحسيمة شهد 700 وقفة.. وتدخلات الأمن محدودة"، 1 حزيران/يونيو 2017. وذلك رغم المنع المتكرر للاحتجاجات من طرف السلطات.

فبالإضافة إلى الاحتجاجات العفوية التي خرجت من الأحياء الشعبية بشكل مستمر، والمسيرة الضخمة التي نظمت يوم 18 أيار/مايو 2017؛ برزت بعض التكتيكات الجديدة مثل القسم الذي أداه زعيم الحراك ناصر الزفزافي أمام المحتجين بالاستمرار في النضال مهما كلفه ذلك، وهو ما أكسبه شعبية كبيرة بين نشطاء الحراك، جعلت بعضهم يقسم أنه مستعد للتضحية بحياته من أجل "حراك الريف المقدس".8مقابلة الكاتب مع باحث مقيم في الحسيمة، الرباط، يوم 19 آب/أغسطس 2017.

كما أن النشطاء تحدوا منع السلطات والقمع المستمر للحراك عبر إبداع أشكال جديدة من الاحتجاجات، مثل الاحتجاج على أسطح المنازل والطنطنة، أي الضرب على الأواني في الليل من أجل إحداث صوت مزعج للتعبير عن الاحتجاج، بالإضافة إلى اللجوء إلى الاحتجاج وسط مياه البحر. وعندما منعت السلطات مسيرة يوم 20 تموز/يوليو 2017 بمدينة الحسيمة وأغلقت منافذ المدينة لمنع توافد المحتجين؛ لجأ هؤلاء إلى الجبال المجاورة وأيضاً إلى القوارب السريعة للدخول للمدينة من منافذ غير تقليدية يصعب على السلطات تعقبهم من خلالها، وهي تكتيكات جديدة وغير مسبوقة في تاريخ الاحتجاجات في المغرب.

خاتمة

بعد مرور حوالي عشرة أشهر من الاحتجاجات، ما تزال جذوة الغضب متقدة في منطقة الريف. ويبدو أن الإحباطات المتراكمة نتيجة اعتماد مقاربة أمنية صرفة وغياب حل سياسي في الأفق؛ ستؤدي على الأرجح إلى ردكلة (تجذير) مطالب الحراك. لقد شكلت مسيرة 20 تموز/يوليو 2017 نقطة تحول في مسار الحراك، لا سيما بعد مقتل ناشطين أثناء المواجهات مع شرطة مكافحة الشغب، وهو ما أدى إلى تحول في المزاج الشعبي في المنطقة، وقد يؤدي إلى تنشيط الشبكات السلبية المكونة من فئات لم تكن ناشطة في الحراك ولكنها كانت متعاطفة معه. وقد زاد خطاب العرش يوم 30 تموز/يوليو 2017 من حجم الإحباط لا سيما ثناء الملك على الأجهزة الأمنية، وبسبب عدم إطلاق سراح كافة معتقلي حراك الريف. ثم إن الخطاب الملكي ليوم 20 آب/أغسطس 2017 لم يشر إلى موضوع الريف وإنما خُصص بالكامل نحو سياسة المغرب الخارجية، لا سيما في أفريقيا، وهو ما اعتبره ناشطون نوعاً من اللامبالاة من طرف أكبر سلطة في البلاد.

ورغم أن الاحتجاجات لا تزال محصورة في منطقة الريف؛ فإن من شأن انتقالها نحو مناطق أخرى، لا سيما المناطق الأمازيغية التي عاشت عقوداً من التهميش، أن يؤدي إلى المزيد من التوتر. ولقد أثبتت المقاربة الأمنية المعتمدة حالياً فشلها لإضعاف حراك الريف. ولكن ما يزال أمام الدولة المغربية هامش محدود من المناورة لتخفيف التوتر وإيجاد مخرج من المأزق الحالي. ولعل أهم إجراء يمكن للسلطات القيام به هو الإفراج عن نشطاء الحراك، ودخول القصر الملكي في تفاوض مباشر معهم بهدف إيجاد صيغة تسوية مناسبة للطرفين، من شأنها امتصاص الغضب في المنطقة وتجنب المزيد من التوتر.

www.jeuneafrique.com/441734/politique/tensions-a-al-hoceima-chiffres-inegalites-sociales-expliquent-grogne-marocaine/

http://qushq.com/والد-ناصر-الزفزافي-يرد-على-الدعوة-للاحتجاج-يوم-30-يوليوز/

www.alyaoum24.com/887604.html

Endnotes

Endnotes
1 استمرار توتر الثمانينيات عبر عنه من خلال انتفاضات شعبية دفعت المئات من المواطنين في منطقة الريف للخروج إلى الشارع للاحتجاج على غلاء المعيشة وانتشار البطالة، الأمر الذي قابلته السلطات بالمقاربة القمعية نفسها التي وصفها العاهل المغربي الراحل في أحد خطاباته الرسمية عقب احتجاجات 1984 بأنها مسيرة من طرف "الأوباش" في إشارة منه إلى ساكني منطقة الريف.
2 Nadia Lamlili, “Tensions à El Hoceima : les chiffres des inégalités sociales qui expliquent la grogne marocaine”, Jeune Afrique, 25 mai 2017
3 كشك، "والد ناصر الزفزافي يرد على الدعوة للاحتجاج يوم 30 يوليوز"، 26 حزيران/يونيو 2017:
4 www.youtube.com/watch?v=aNvOY9jkflY
5 مقابلة الكاتب مع ناشطة في حراك الريف، الحسيمة، يوم 10 آب/أغسطس 2017.
6 مقابلة الكاتب مع ناشط في حراك الريف، الحسيمة، يوم 9 آب/أغسطس 2017.
7 موقع اليوم 24، "الخلفي: إقليم الحسيمة شهد 700 وقفة.. وتدخلات الأمن محدودة"، 1 حزيران/يونيو 2017.
8 مقابلة الكاتب مع باحث مقيم في الحسيمة، الرباط، يوم 19 آب/أغسطس 2017.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.