الدين والدولة في سوريا بعد الحرب

Arab Reform Initiative - Religion and the State in Post-War Syria
مسؤولون سوريون ورجال دين في كنيسة الصليب في دمشق، سوريا، شباط / فبراير 2013 © EPA

ملخص تنفيذي

شكّل الدين أحد العناصر الرئيسية في الصراع السياسي في سوريا منذ استقلالها، واستُخدم كأداة لمواجهة شرعية تولي الأسد الأب السلطة في الاستفتاء الدستوري عام 1973، الأمر الذي أدى إلى سعيه إلى إحكام السيطرة الكاملة على المؤسسة الدينية واتّباع سياسات تمييزية طائفية مغطاة بشكلانية قانونية ودستورية مفرطة. وتطور الأمر مع الأسد الابن بإخضاع السياسات العامة المتعلقة بالطوائف والأديان لمتطلبات السياسة الخارجية للنظام في مرحلة عاصفة من تاريخ المنطقة، فتحولت نتائج هذه السياسات إلى أحد عوامل الثورة الرئيسية.

ومع اندلاع الثورة زادت أهمية الدين في الصراع، فعمل نظام الأسد على إثارة الشعور الطائفي وتعزيز مخاوف الأقليات في الوقت نفسه، كامتداد لإستراتيجية اتبعها والده في الثمانينيات لعزل الثورة على أساس ديني. الأمر الذي أثار سؤال حماية الأقليات والحريات الدينية بعد الحرب.

يمثل الانتقال السياسي عبر المفاوضات السبيل الوحيد الذي يتيح إمكانية التحكّم في تحييد الدين عن أن يكون عنصراً في الصراع السياسي، وفي هذه الحال وبالنظر إلى الخبرة السورية فإنه لابد من التركيز على السياسات العامة سواء في التوافق على المبادئ فوق الدستورية والتي يجب أن تكون عامة إلى أقصى حد ممكن في أي اتفاق حل سياسي، أو في مستوى ضبط هذه السياسات وضمان التزامها بالحدود الدستورية وإفضائها إلى دعم اجتماعي واستقرار سياسي مستدام.

اقرأ المزيد

أثبتت الأحداث خلال قرن من عمر الدولة السورية أن الدين كان عنصراً رئيسياً في الصراع السياسي؛ إذ لم يكد يُعلن عن قيام الدولة حتى دخلت حقبة استعمارية استُخدمت فيها الطوائف لتثبيت الانتداب الفرنسي،1انظر: زين العابدين سرور. الجيش والسياسة في سوريا 1918-2000: دراسة نقدية، دار الجابية، لندن، ط1، 2008، ص.ص: 15–51. تم ذلك من خلال تمييز في بنية الجيش الناشئ (قوات الشرق الخاصة) الذي بني بشكل أساسي من الأقليات الدينية والعرقية، ومن خلال تقسيم الدولة إلى ثلاث دول على أساس طائفي؛ دولة للعلويين، ودولة للدروز، والباقي دولة لبقية السكان.

وباستثناء الفترة الليبرالية الممتدة بين 1946-1958 وفترة الوحدة مع مصر 1958-1961 فقد ظل الدين عنصراً رئيسياً في الصراع السياسي، إذ كان أساساً للسيطرة على الجيش مع استيلاء الضباط البعثيين الذين تقودهم اللجنة العسكرية التي شُكّلت أساساً من العلويين خلال عقد من الزمن 1961-1970، حيث نُفّذت عمليات تسريح واسعة النطاق بغرض تعزيز النفوذ العلوي في الجيش. وفي عهد الأسد الأب ظهر ما يمكن تسميته بعلونة السلطة أو العلونة السياسية، حيث استُخدم العصب الطائفي للأقلية العلوية لتثبيت سلطة الأسد عبر استيلاء مُمنهج على مفاصل الدولة الأساسية والتحكم بها واتباع سياسات عامة تمييزية تسهم في تحقيق ذلك، وعلى الرغم من أن دستور الدولة الذي أُقر عام 1950 كان دستوراً علمانياً وغير تمييزي باستثناء مادتين منه هما: "دين رئيس الجمهورية الإسلام"، و "الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع"، فإن ذلك لم يحل دون خلق سياسيات تمييزية كجزء من الصراع على السلطة تمنح امتيازات لأبناء الطائفة على حساب المكونات السكانية الأخرى لتسهيل السيطرة على مفاصل الدولة.

  1. 1. طفرة عهد الأسد

عندما أراد حافظ الأسد إحكام سيطرته قرر تعديل الدستور عام 1973 ليتسنى له تجميع دوائر القرار في الدولة بين يديه، وقد واجه الأسد عقبتين في هذا المسعى؛ أولهما مشكلة الشرعية، فمن جهة هو جاء نتيجة انقلاب عسكري، ومن جهة ثانية هو ابن أقلية دينية يُنظر إليها من عموم المسلمين (سنة وشيعة) على أنها طائفة منشقة تمثل ديانة مستقلة، الأمر الذي يجعل المادة الدستورية التي تحدد دين رئيس الدولة بالإسلام عقبة أمام تكريس أي شرعية له. وهكذا تم إلغاء هذه المادة من مسودة دستوره الجديد الذي خطط له، وقد اتّخذ الإخوان المسلمون من غياب هذه المادة باباً للطعن في شرعيته، ولكن ذلك تسبب بتأجيج طائفي حاد انتهى بأحداث الثمانينيات المروعة، والسماح للأسد في سياق تثبيت حكمه باتباع سياسات عامة تهدف بشكل أساسي إلى التحكم بالمؤسسات الدينية، ورفع الجدران بين الطوائف عبر تخويفها من بعضها وبشكل خاص من الأكثرية السنية، وتكريس فكرة أن بقاءه هو ضمانة بقائها.

ورث الأسد الابن وضعاً مستقراً لجهة الطوائف الدينية، لكنه واجه مأزق الشرعية والتوريث، وبدلاً من المضي في الإصلاح لخلق شرعية جديدة خشية أن يؤدي ذلك إلى انهيار حكمه؛ أحدث نقلة غير مسبوقة في تاريخ الدولة فرضتها حاجته للبقاء، فقد ربط السياسات العامة خصوصاً المتعلقة بالأديان بحاجات السياسة الخارجية،2عندما شعر بشار الأسد أن مصلحة نظامه تقتضي مساهمته في "الحرب على الإرهاب" لم يتردد في الانتقال إلى سياسة أمنية متشددة موجهة ضد الجماعات الإسلامية، وعندما شعر أن النظام في خطر عند غزو العراق لجأ إلى تعزيز نفوذ هذه الجماعات ودفعها للتطوع والقتال في العراق، ثم لما شعر أن النظام بأكمله بات مهدداً بشكل مباشر من قبل الولايات المتحدة سمح لمظاهر التدين أن تطفو على السطح للتخويف من بديل أصولي أراد أن يوحي بأنه محتم، وفي الوقت الذي احتاج فيه طهران كخشبة إنقاذ بعد احتلال العراق ومقتل الحريري عاد وشدد قبضته الأمنية على الجماعات الإسلامية في حين عُزِّزت الامتيازات غير العادلة للأقلية الشيعية (السورية واللاجئة). يُنظر: الحاج، عبد الرحمن. التطلعات السياسية للجماعات الدينية في سوريا 2000-2010، مركز الدراسات والأبحاث الإستراتيجية، كانون الثاني/يناير 2011، لندن، ص: 62. ويفسر هذا التغيير الانقلابي التنقلات الكثيرة والسريعة في السياسات الحكومية خلال سنوات قليلة من حكمه.

اندلعت الثورة بعد عقد من حكم بشار الأسد ولايزال من الصعب الجزم بنهاية واضحة للأحداث المتغيرة، إلا أن العلاقة التقليدية للدين بالدولة قبل الثورة ستتغير بشكل كبير حتى لو تمكن الأسد من الحسم لصالحه. إذ سيظهر للطوائف دور سياسي جديد لتضمحل علمانية الدولة التي كانت شكلية أساساً، إلى جانب دخول لاعب طائفي جديد هو الشيعة ممثلة النفوذ الإيراني، وهو أمر سيكون له الدور الأبرز في صياغة سياسات الدولة العامة وربما مستقبل الدولة ونظامها السياسي برمته، حيث سيكون نموذج العراق في عهد المالكي هو النموذج الأقرب للتحقق.

  1. أسئلة الثورة وإعادة البناء

اندلعت الثورة في ظل قبضة أمنية غير عادية، وإحكام السيطرة على المؤسسات الدينية، الأمر الذي سمح أن يكون خروجها شكلاً من أشكال التمرد على المؤسسة الدينية ذاتها والتي ثبت في سنوات الثورة أنها بالفعل تحت السيطرة التامة للنظام، وعلى اعتبار أن المساحة المتاحة للاجتماع هي الجامعات والمساجد فقد كانت هي المنطلق الأنسب للتجمع والتظاهر، وبقدر ما كان الأمر عملياً ومبنياً على المساحة القابلة للاستغلال في الفضاء العام وغير المرتبط بأية إيديولوجية مسبقة؛ كان يتم استثماره بشكل ممنهج لإثارة المخاوف في الأقليات الدينية، ليغدو الدين مرة أخرى عاملاً فاعلاً في تأجيج الصراع وإخماد الثورة.

وخلال السنوات الأولى من الثورة عمل نظام الأسد على تحريك العصبية الطائفية إلى حدها الأقصى، وعلى تعزيز مخاوف الأقليات في الوقت نفسه، كامتداد لإستراتيجية اتبعها والده في الثمانينيات لعزل الثورة على أساس ديني. فمن جهة حرص على استفزاز الشعور الديني عندما أجبر المعتقلين والمتظاهرين على السجود لصور بشار الأسد، ومن جهة ثانية أطلق مئات الجهاديين السلفيين من السجون، ومن جهة ثالثة بدأ بتعزيز الخطاب الطائفي إلى أقصى الحدود من خلال مذابح تطهير طائفية ممنهجة (كان معظمها في الفترة الأولى بالسلاح الأبيض)، وتعزيز الدور الإيراني والميليشيات الشيعية الأجنبية في قمع الثورة.

وقد دفعت أحداث الثورة السورية وتطوراتها إلى بروز ثلاث قضايا رئيسية إلى الواجهة عند الحديث عن مستقبل سوريا في أي انتقال سياسي:

الأولى: حماية الأقليات، بما يتضمنه ذلك من حماية وجودية من أية عمليات انتقامية، أو تحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية، فقد انحازت معظم الأقليات الدينية3ثمة أفراد انشقوا عن جميع الأقليات وبشكل خاص عن الإسماعلية والمسيحية والدروز كانوا جزءاً من الثورة، لكن هؤلاء فعلياً هم أقلية في طوائفهم. وذلك لا يقلل من قيمة وجودهم التي كانت مهمة للغاية لتثبيت الطابع الوطني للثورة، بقدر ما يصف واقعاً عاماً. إلى نظام الأسد لعوامل عدة، أهمها سيطرة النظام على مؤسساتها الدينية، وخوف الأقليات من مصير مجهول إذا ما التحقت بالثورة في مواجهة نظام حديدي لا يبدي أية رحمة ضد خصومه. في حين انحازت الطائفة العلوية إلى جانب النظام للدفاع عن مكتسباتها من جهة، ومخاوفها من الانتقام بسبب دورها في القمع الذي قام به النظام في أحداث الثمانينيات من جهة أخرى، وغرقت في وحل الحرب، وتعمّد النظام توريطها في مجازر طائفية وحشية (مثل مجزرة الحولة 25 أيار/مايو 2012، ومجزرة القبير 6 حزيران/يونيو 2012)،4يُنظر تقرير "بالسكين: المجازر التي ارتكبها نظام الأسد بالسلاح الأبيض" رقم 39، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، 2013. وبذلك لم يترك لها خياراً سوى الدفاع عنه والتمترس خلفه.

والواقع أنه باستثناء العلويين لا توجد مستقبلاً مخاوف حقيقية على الأقليات من طرف المعارضة، فالمخاوف الفعلية تتعلق بالأقلية العلوية فقط. إذ من المحتمل أن تواجه انتقاماً شعبياً واسع النطاق، وفي وضع كهذا لن يكون بالإمكان كبح جماح الرغبة بالانتقام إلا بتحقيق عدالة انتقالية شاملة.

الثانية: ضمان حياد الدولة أمام جميع مواطنيها ودياناتهم، ويتضمن ذلك ضمان مشاركة الأقليات في إدارة الدولة وإمكانية الوصول إلى جميع المناصب فيها بدون أي تمييز، كما يتضمن ذلك عدم فرض ديانة الأكثرية ومعتقداتها الدينية على الأقليات الدينية ولو عبر البرلمان، والمجالس التشريعية. فعلى الرغم من مساهمة الحركات الإسلامية التي انتشرت على نحو واسع خلال الثورة، بتعزيز خطاب التضحية والصمود في مواجهة عنف النظام؛ فإن هذه الحركات أثارت السؤال عن إمكانية فرض تطبيق الشريعة الإسلامية وموقع حقوق الأقليات منها في المستقبل.

الثالثة: الحريات الدينية وحق الأقليات في التعبير الصريح والعلني عن معتقداتها وممارسة طقوسها بدون قيود، فمظاهر الأسلمة، وترك العرب السنة يصارعون ويعانون شبه وحيدين في مواجهة إجرام غير مسبوق يمارسه نظام الأسد؛ قد يشكل ردة فعل في التعبير المفرط وغير الصحي عن الهوية، بحيث يتحول ذلك إلى تمييز يؤدي إلى ترهيب غير مباشر لتعبير الأقليات الدينية عن نفسها.

  1. الدساتير والسياسات

على الرغم من وجود مواد دستورية تمييزية تحدد دين رئيس الدولة في دستور 1950 وهو دستور أقرّ في المرحلة الليبرالية من تاريخ سوريا؛ إلا أن السياسات الحكومية العامة كانت غير تمييزية ومتقيدة عموماً بالمواد الدستورية، وهو أمر سمح لشخصية مسيحية مثل فارس الخوري أن يكون رئيساً لحكومة دون أية عقبات. ومنصب رئيس الحكومة هو أهم من منصب الرئاسة من الناحية العملية. في حين كانت الأنظمة الأكثر راديكالية والتي جاءت نتيجة الانقلابات البعثية بعد عام 1963 والتي كانت علمانية جذرية بشعاراتها؛ كانت سياساتها العامة تمييزية لأقصى الحدود، إلى حد تسبّبت فيه بحروب داخلية وصراع عنيف على السلطة، وأخيراً كانت سبباً مباشراً بين أسباب اندلاع الثورة.

ما يجب ملاحظته هنا أن السياسات العامة التي يفترض أن تمثل التجسيد الفعلي للمواد الدستورية والمساحات التي يتيحها الدستور؛ يمكن أن تنفصل عن الدستور من خلال الحرص على شكلية قانونية مفرطة يمكن من خلالها تمرير سياسات تمييزية مفرطة أيضاً. هذا الوضع بالذات يميز نظام الأسد5هذه الملاحظة أشار إليها باتريك سيل في كتابه "الأسد والصراع على الشرق الأوسط"، 1989. أكثر من أي نظام سابق في تاريخ سوريا، وهو يقودنا للقول: إن الدستور والمواد الدستورية ليست ضمانة كافية وحدها لعدم التمييز، وما ينبغي التركيز عليه هو السياسات العامة وكيفية ضمان ارتباطها بحدود المواد الدستورية.

ففي حين يفترض أن تكون السياسات العامة محددة بإطار مواد الدستور؛ يفترض أنها في الوقت نفسه مرتبطة أيضاً بمصالح جميع المواطنين، وبمجموع القيم والمبادئ فوق الدستورية التي حكمت تشكيل الدستور نفسه. إذ من الممكن التلاعب بها عبر عدة طرق، كالاعتماد على حرفية النص الدستوري والثغرات التي قد يتيحها للالتفاف على روح الدستور وتجاهل مصالح جميع مكونات الشعب لتقديم امتيازات لمكوِّن محدد أو أكثر. ويتطلب أي تلاعب وجود نظام يسمح بذلك، فوجود محكمة دستورية عليا، ومجلس شعب ممثل حقيقي لمكوناته يعوق تمرير مثل هذه السياسات العامة، لهذا يتطلب خلق هذه السياسات نظاماً يتم فيه إيقاف دور المحكمة الدستورية عن العمل وتحويلها إلى مؤسسة شكلية، ووجود مجلس شعب يفتقر إلى التمثيل الفعلي لشعبه مستعد ليقر فقط ما يريده الرئيس. وهذا حصل في جميع مؤسسات الدولة السورية، وحتى في التشريعات الاستثنائية التي سهّلت ارتكاب الفظائع في السجون. إذ كيف يمكن محاسبة المؤسسة التنفيذية على اتباعها سياسات عامة تمييزية، في ظل وجود نظام يمنع بشكل كامل هذه المحاسبة؟

كما أن وجود الدين كعنصر أساسي في الصراع السياسي في سوريا يحتم التعامل مع موضوع الدين وعلاقته بالدولة بكثير من الحذر والإيجابية. إذ يجب تذكر أن الدين لن يموت بغض النظر عن ماهيته، وأنه لا توجد صيغة واحدة للعلاقة بين الدين والدولة في الدولة الحديثة، ويجب أن تقود الاستفادة من تاريخ العلاقة بينهما في سوريا إلى تأسيس علاقة انسجام بين الدولة والدين، يُحيّد الدين فيها عن أن يكون جزءاً من أدوات الصراع، وهو أمر سيتطلب مقاربة جديدة تحت قبة الدولة، بحيث تُحقق ضمانة فعلية لمصالح جميع الأديان والطوائف. إن استمرار استعمال الدين في الصراع السياسي سيؤدي لا محالة إلى انعدام أي أمل في الاستقرار، مما سيوفر مناخاً ملائماً لعودة الدكتاتورية دوماً.

ويتطلب ذلك توافقات فوق دستورية تؤسس لصياغة دستور وتضمن سياسات عامة بديلة غير تمييزية. على هذا الأساس فقط يمكن تحقيق مصالح جميع مكونات الشعب السوري، وإقناع مختلف الأطراف بها، وتحقيق تفاعل اجتماعي يؤمن استقراراً طويل الأمد.​ لكن المشكلة الراهنة أن صياغة هذه المبادئ والتوافقات ستكون جزءاً من اتفاق سياسي محتمل كجزء من مفاوضات جنيف. وفي حال انتهت الأمور بحل سياسي تفاوضي فإنها ستستند من جهة على مفاوضين لا يملكون تمثيلاً حقيقياً للشعب السوري، ومن جهة أخرى ثمة ضغوط للمجتمع الدولي عموماً والدول المنخرطة في الصراع في سوريا للسير باتجاه توافقات محددة لا تحقق بالضرورة تطلعات السوريين، ولا تأخذ بالاعتبار تاريخ العلاقة بين الدين والدولة في سوريا.

أما إذا لم يكن الحل تفاوضياً، فستكون الأمور مختلفة تماماً، وسنكون أمام وضع أكثر تعقيداً. فمن جهة نظام الأسد الذي أصبح أسيراً لسياسات طهران؛ سيستنسخ غالباً نموذج المالكي المفضل للإيرانيين، وقد يؤدي ذلك إلى تعديلات شكلية على المواد الدستورية، لكن الأكيد أن السياسات العامة ستتخذ طابعاً تمييزياً حاداً وهو أمر ينذر بنتائج وخيمة تعزز الاضطراب في سوريا ويهيئ مناخاً لأكثر الحركات عنفاً وتطرفاً، وستكون نسخاً جديدةً تتجاوز تنظيم الدولة الإسلامية.

أما إذا كسبت المعارضة عسكرياً وحسمت الصراع لصالحها؛ فسيكون للتنظيمات الإسلامية التي تطمح جميعها إلى قيام دولة إسلامية درواً أساسياً في صياغة الوضع القانوني والدستوري للبلاد، ومن غير المضمون في هذه الحال أن تكون ثمة توافقات فوق دستورية تحظى برضى الأغلبية السنية كما تحظى برضى الأقليات، كما من غير المضمون الحيلولة دون ظهور سياسات تمييزية معكوسة، كتلك التي مارسها نظام الأسد ضد الأكثرية لتثبيت حكمه.

توصيات

لا تنطلق هذه التوصيات من رؤية تقليدية جاهزة تنحاز إلى مفاهيم معيارية صارمة على حساب الوقائع؛ وإنما تسعى للوصول إلى التأسيس لصيغة واقعية تهدف لتحقيق استقرار طويل الأمد مدعوم بتوافق وتفاعل اجتماعي بين مختلف التكوينات الدينية لأبناء البلاد. وتنطلق من أن تحقيق مبدأ "عدم التأسيس"6يُنظر: ج. بيري، مايكل، الدين في السياسة: جوانب دستورية وأخلاقية، ترجمة: عربي ميقاري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر بيروت، ط1، 2014، ص23. في التشريع وإدارة الدولة بالاعتماد على الدين (بدوافع دينية بحتة)، وضمان "الحرية الدينية" والتعبير العلني للمكونات عن نفسها؛ يتطلب مقاربة محلية نعتقد أن هذه التوصيات تحققها.

وباعتقادنا، يمكن أن تشكل التوصيات الآتية مدخلاً لتأسيس جديد لعلاقة الدين بالدولة في سوريا بعد بنائها على الخبرة التاريخية، والسماح بتأسيس راسخ لمجتمع جديد بعد الحرب:

- التركيز على التوافقات السياسية فوق الدستورية بدل التركيز على المواد الدستورية

ذلك أن هذه التوافقات هي التي سترسم إطار المواد الدستورية، وهذا ليس متاحاً في حال حَسَمَ الأسدُ وحلفاؤه الصراع عسكرياً لصالحهم، ومن الواضح أنه بدون الأسد كل ذلك ممكن. والوضع المثالي لوجود مثل هذه التوافقات يمكن أن يحقق إقناعاً لمختلف الأطراف، ويضمن تفاعلاً اجتماعياً يؤمّن استقراراً طويل الأمد. لكن العقبة الرئيسية في ذلك هي أن هذه التوافقات ستتم ضمن اتفاق سياسي يتضمّن توافقات فوق دستورية يقوم بها أطراف أفرزتهم ضرورات التمثيل السياسي للثورة وليس للشعب، وتتدخل فيها أطراف دولية تحاول أن تضمن تحقيق مصالحها في ذلك. وفي وضع كهذا فإنه لضمان أن لا تحول هذه التوافقات دون وجود دستور يلبي تطلعات جميع مكونات الشعب السوري؛ يجب أن تبقى هذه التوافقات في حدودها الدنيا والعامة، وتكتفي بمبدأ عدم التمييز الشامل على أساس الدين.

- التركيز على ضمان السياسات العامة

على الرغم من أهمية الدستور والمواد الدستورية، ودورها في وضع إطار للسياسات العامة؛ فإن أخذ التجربة السورية بالاعتبار يتطلب أن يكون التركيز الرئيسي على ضمان انضباط السياسيات العامة بالمواد الدستورية.

إن التركيز على الألفاظ بدل التركيز على صياغة الآليات والمفاهيم في إطار الدستور سيؤدي إلى استمرار الصراع والاحتقان الطائفي، فبدل التركيز على تسميات محددة يجب التركيز على ما يضمن تحقيق مضامينها. فإذا تعذّر مثلاً التوافق على تعريف نظام الدولة بأنه "ديمقراطي"؛ فإن تحقيق مفهوم الديمقراطية في المواد الدستورية يصبح أهمّ من التمسّك بالمصطلح. إذ ليست كل الدول الديمقراطية العريقة تنص على مصطلح الديمقراطية في تعريفها بنفسها (دستور الولايات المتحدة لا ينص على ذلك مثلاً)، بالطبع هذا مجرد مثال، لأننا لا نتوقع خلافاً كبيراً حول استخدام هذا المصطلح في أي توافق حول نص الدستور.

- الانتقال من "دين رئيس الدولة" إلى "دين الدولة" في الدستور

لا يبدو هذا المبدأ مريحاً بالنسبة لعلمانية جذرية، لكنه يمكن أن يكون مفهوماً في سياق ديمقراطيات أوربية راسخة تبني صيغة إيجابية في العلاقة بين الدولة والدين، كما في دساتير الدول الإسكندنافية مثلاً. وأيضاً في سياق انتقال سياسي يؤمن الاستقرار طويل الأمد للبلاد بعد حرب طاحنة.

فمن جهة لن يتعارض هذا المبدأ مع عدم التمييز في جميع المستويات، ومن جهة أخرى بني هذا المبدأ على أساس أن ضمان حقوق الأقليات يمر من اطمئنان الأكثرية واستقرارها، وسيمكن هذا المبدأ من تجاوز مواد أخرى عدة وحساسة تتعلق بالدين في الدستور وإدارة الدولة.

إن الدفع للتنصيص على "علمانية الدولة" في أي دستور مقبل من قبل أطراف خارجية منغمسة في الصراع الدائر في سوريا؛7سعت روسيا مراراً لإدخال هذه الصيغة في القرارات الدولية وبشكل خاص القرار 2253 للعام 2013 الصادر عن مجلس الأمن وفشلت، وأخيراً صاغت مسودة دستور بنفسها واقترحته على الأطراف المختلفة في سوريا يتضمن هذه المادة بالذات، والطريف أن دستور روسيا نفسه لا ينص على علمانية الدولة. سيكون له نتائج سيئة. إذ من الواضح أنه لن يكون بالإمكان التوافق على هذا النص، والإكراه على هذا النص بقوة المجتمع الدولي وليس بالإرادة الوطنية سيكون له نتائج وخيمة. من المهم أن لا يتم قبول إدخال أي من المواد الدستورية أو النصوص الإشكالية بدون توافق وتفاوض بين مكونات الشعب السوري؛ لأن ذلك يمكن أن يعيد الدين ليكون عنصراً في الصراع السياسي مرة أخرى.

Endnotes

Endnotes
1 انظر: زين العابدين سرور. الجيش والسياسة في سوريا 1918-2000: دراسة نقدية، دار الجابية، لندن، ط1، 2008، ص.ص: 15–51.
2 عندما شعر بشار الأسد أن مصلحة نظامه تقتضي مساهمته في "الحرب على الإرهاب" لم يتردد في الانتقال إلى سياسة أمنية متشددة موجهة ضد الجماعات الإسلامية، وعندما شعر أن النظام في خطر عند غزو العراق لجأ إلى تعزيز نفوذ هذه الجماعات ودفعها للتطوع والقتال في العراق، ثم لما شعر أن النظام بأكمله بات مهدداً بشكل مباشر من قبل الولايات المتحدة سمح لمظاهر التدين أن تطفو على السطح للتخويف من بديل أصولي أراد أن يوحي بأنه محتم، وفي الوقت الذي احتاج فيه طهران كخشبة إنقاذ بعد احتلال العراق ومقتل الحريري عاد وشدد قبضته الأمنية على الجماعات الإسلامية في حين عُزِّزت الامتيازات غير العادلة للأقلية الشيعية (السورية واللاجئة). يُنظر: الحاج، عبد الرحمن. التطلعات السياسية للجماعات الدينية في سوريا 2000-2010، مركز الدراسات والأبحاث الإستراتيجية، كانون الثاني/يناير 2011، لندن، ص: 62.
3 ثمة أفراد انشقوا عن جميع الأقليات وبشكل خاص عن الإسماعلية والمسيحية والدروز كانوا جزءاً من الثورة، لكن هؤلاء فعلياً هم أقلية في طوائفهم. وذلك لا يقلل من قيمة وجودهم التي كانت مهمة للغاية لتثبيت الطابع الوطني للثورة، بقدر ما يصف واقعاً عاماً.
4 يُنظر تقرير "بالسكين: المجازر التي ارتكبها نظام الأسد بالسلاح الأبيض" رقم 39، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، 2013.
5 هذه الملاحظة أشار إليها باتريك سيل في كتابه "الأسد والصراع على الشرق الأوسط"، 1989.
6 يُنظر: ج. بيري، مايكل، الدين في السياسة: جوانب دستورية وأخلاقية، ترجمة: عربي ميقاري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر بيروت، ط1، 2014، ص23.
7 سعت روسيا مراراً لإدخال هذه الصيغة في القرارات الدولية وبشكل خاص القرار 2253 للعام 2013 الصادر عن مجلس الأمن وفشلت، وأخيراً صاغت مسودة دستور بنفسها واقترحته على الأطراف المختلفة في سوريا يتضمن هذه المادة بالذات، والطريف أن دستور روسيا نفسه لا ينص على علمانية الدولة.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.