أوروبا هي التي تدفع ثمن الفشل في سوريا، وليست الولايات المتحدة

epa04938794 Migrants arrive at the railway station in Szentgotthard, 246 kms southwest of Budapest, Hungary, and near the Austrian border, after they were transported to here from the Croatian border 19 September 2015. It was the second day the Croatian government sent thousands of migrants to Hungary after they crossed the Serbian-Croatian border before. The migrants are taken to collection and registration points set up in the region. EPA/GYORGY VARGA HUNGARY OUT © الوكالة الأوروبية للصور الصحفية

هو ذا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد استشعر الضعف في مواقف القوى الغربية، يقرر أنّ سوريا هي منطقة هيمنة طبيعية لروسيا، ويبدو أنّها لا تقل عن أوكرانيا، كإقليم تعرضت فيه مصالحها الحيوية للخطر. وسواء أكان قد نشر ترسانته في سوريا لمحاربة داعش أو لدعم الأسد، فإنّه بفرضه وجوداً عسكرياً مكثفاً في سوريا قد جعل نفسه اللاعب الوحيد الذي يحسب حسابه والقادر على فرض الشروط. ورغم أنه لا يملك استراتيجية لإنهاء النزاع، لكنّه الوحيد الذي فكر بضمان الوجود الروسي في هذا البلد المحوري، في حين أن الغرب ليس لديه أي استراتيجية لمواجهته.

فعلى مدى السنوات الأربع الماضية بقي الأوروبيون مصطفين خلف القيادة الأمريكية في الشأن السوري. لقد كان بعضهم مستعداً للتحرك ضد الأسد بعد استخدامه الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين. والفرنسيون التزموا جدياً بخط أوباما الأحمر، إلا أنّ كيري ولافروف وجدا المخرج بالاتفاق حول ترسانة الأسد الكيماوية، الأمر الذي رحب به الجميع واعتبروه انفراجاً. ورغم الخيبة من أنّ ما جرى في الواقع كان إنقاذ الأسد والإبقاء على قدراته العسكرية، اعتقدت الدول الأوروبية بأنّها تستطيع التعايش مع هذه المشكلة. ولم تكُ داعش آنذاك مصدر قلق كبير إذ كان يستطيع بعض المقاتلين الشجعان من الجيش السوري الحرّ التعامل معها. إلا أنّ هذا التقاعس فرض تبعاته التي باتت جميع انحاء أوروبا تعيها وتُحسها تماماُ.

ومنذ ذاك الحين، يدور النقاش في أوروبا حول كل "الأسباب الوجيهة" للإبقاء على الأسد واحتواء الصراع. فقد ساد الاعتقاد بأنّه مع تشديد التدابير الأمنية في الداخل واستمرار القصف على الأراضي العراقية والسورية يمكن السيطرة على الأعداد المتزايدة من الجهاديين الذين يتحركون جيئةً وذهاباً للانضمام إلى داعش. كان لا يزال بالإمكان القول للرأي العام أنّ سياسة الاحتواء قد تنجح.

وقد حذرت الوكالات الدولية من أن أوضاع اللاجئين في تركيا والأردن ولبنان أصبحت لا تحتمل بنسب متفاوتة. وأنّ رقم الـ 4.5 مليون لاجئ الذي أعلنته مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين هو في الحقيقة يقارب سبعة ملايين، وبينما ترتفع أعداد اللاجئين فإن المساعدات تتضاءل وتتناقص. فقد اللاجئون الأمل وبدأوا في الفرار إلى أوروبا. بعضهم يموت في البحر، ولكن معظمهم يتمكن من الوصول إلى الشواطئ الشمالية. لقد فرّ حوالي ربع اللاجئين من المناطق التي تسيطر عليها داعش، في حين أن نحو 70% يبحثون عن ملجأ من البراميل المتفجرة التي تقصف بها قوات الأسد مناطق المدنيين كل ساعة. لقد وجد رؤساء بلديات المدن في جميع أنحاء أوروبا الآن أنفسهم أمام فشل سياسة الاحتواء. فهم مطالبون بإسكان اللاجئين بشكل عاجل وتأمين احتياجاتهم الحيوية. كما قد أصبح سكان المناطق الريفية المنعزلة من السويد وألمانيا وفرنسا ودول أخرى مضطرين للتعامل مع أولئك الذين فروا من سوريا. وتقع الحكومات تحت ضغط الجماعات اليمينية المتطرفة التي وجدت القضية المثالية لشن حملاتها ضد الحكومات وكسب الشعبية.

ليس هناك ما يوحي بالاعتقاد بأن هذا التدفق سيتوقف. وبالتأكيد، سيؤدي التدخل الروسي إلى زيادة القتال وفرار عدد أكبر من المدنيين الذين يوشكون على تضخيم أعداد اللاجئين المتدفقين إلى أوروبا.

لقد ارتكب الرئيس أوباما خطأً تاريخياً بتقليله من شأن الصراع السوري. وعندما يقال إنّ الفوضى تفتك بالمنطقة وإنّ سوريا تنحو بشكل كبير لتصبح مزيجاً من رواندا والصومال وأفغانستان، فالحقيقة هي أنّ الولايات المتحدة ما زالت تملك خيار أن تقول أنّها تفضل الانسحاب وترى الهيمنة الروسية على سوريا أقلَّ إضراراً بمصالحها الخاصة. ستتلطخ فترة رئاسة أوباما بالمأساة السورية، لكن في النهاية، لن تضطر الولايات المتحدة للتعامل مع جموع اللاجئين على حدودها. كما أنّ المخاطر الأمنية المتزايدة للمتطرفين الغربيين الذين يقاتلون بين صفوف داعش تبدو أكثر بعداً عن الولايات المتحدة منها عن أوروبا.

لقد أصبحت سوريا سرطاناً ينخر مصداقية أوروبا. وحلّ الصراع معقد بلا شك. إذ لا يمكن اتخاذ قرار متسرِّع بالذهاب إلى حرب من أجل تغيير النظام كما حدث في ليبيا. ولكن الاستمرار في تصوير المسألة باعتبارها معضلة للاختيار بين التسرُّع في الحرب دون خطة لتحقيق الاستقرار، وبين التجاهل المنهجي لمسببات صراع مسموم مستمر منذ خمس سنوات – ستتفاقم تبعاته فقط -  أمرٌ يتعذر فهمه.

ينبغي أن يدرك الأوروبيون أنّ مصالحهم ليست هي نفسهَا مصالح الولايات المتحدة. وأزمة اللاجئين هي البرهان الأكثر سطوعاً على أنّ أوروبا لا تستطيع الانفصال عن منطقة الشرق الأوسط، وأنّ القادة الأوروبيين ليس بمقدورهم تحمل مغبة تجاهل هذا الصراع. فسوريا لا تقِلّ أهمية عن البلقان بالنسبة للمصالح الأوروبية، ومن حق الأوروبيين الضغط على الولايات المتحدة في قضية تهدد استقرارهم الداخلي. التصريحات العلنية لن تكون كافية. يجب أن يطرحوا مقترحاً أوروبياً واضحاً يمتاز بالواقعية والجرأة في الوقت عينه.

يجب أن تشير أوروبا بوضوح إلى أنّ المسؤولية في أزمة اللاجئين تقع بمعظمها على الأسد، وأن تصرِّح بما لا لبس فيه بأنّه لن يكون له أيّ دورٍ في الترتيبات الانتقالية. ففي خضم حملة عسكرية شرسة تشنها القوات الروسية، والإيرانية، وقوات الأسد، من شأن اللغة الناعمة التي تقترح التسوية دون أن تأخذ باعتبارها ما يكِنّه الآخرون فقط أن تضعف موقف الحكومات الغربية، وتعزز تعنّت النظام وترسخ عناصره، وتزيد من يأس الفصائل المسلحة المعتدلة، فضلاً عن ملايين السوريين العاديين الذين يريدون أن يروا بعض الإنسانية تعود إلى بلادهم. إنّ الضعف الغربي سيؤدي إلى إطالة أمد الصراع.

والآن أكثر من أي وقت مرّ في السنوات الأربع والنصف الماضية، هناك حاجة ملحة لحماية المدنيين. ففي حين كانت تركيا قد عملت لأكثر من عامين على إنشاء منطقة حظر طيران غير معلنة على شريط ضيق من الأرض على طول حدودها، تمّ الآن القضاء على هذا الشريط من قبل القوات الجوية الروسية التي تحدّت هذه المنطَقة العازلة التي تحمي الحدّ الأدنى للمصالح التركية وبضعة عشرات الآلاف من الأسر السورية.

إنّ حماية السوريين من القنابل الجوية العشوائية للنظام هو العامل الوحيد المهم لتغيير قواعد اللعبة والذي سيجعل الحل السياسي ممكناً. يتفق الخبراء العسكريون على أنّ منطقة آمنة يمكن فرضها بواسطة سفن بحرية أو من الأراضي التركية، دون الحاجة إلى حملة جوية واسعة النطاق تقوم بتدمير نظام الدفاع الجوي للنظام. هذه المنطقة الآمنة من شأنها أن تكون الخطوة الأولى لمعالجة الأسباب الجذرية للأزمة والآثار المترتبة عنها. كما أنّها ستقوم بإنقاذ الأرواح، وإبطاء نزوح اللاجئين، وستتيح للبنى المدنية المعتدلة بأن توطد جذورها وتنشأ وتتطور، كما أنها ستكسر دائرة التطرف.

إنَّ تصاعد التّدخل الروسي يعطي خيار المنطقة الآمنة قيمة استراتيجية مضافة، على عكس ما يمكن ظنه من أنه قد جعل فكرة المنطقة الآمنة أمرا عفا عليه الزمن. وعلى أوروبا والولايات المتحدة أنّ تحاججا الرئيس بوتين بأنّ النظام السوري سيدفع ثمناً عسكرياً نتيجة الدعم الروسي المباشر إلى أن تدخل روسيا والنظام في مفاوضات حقيقية حول المرحلة الانتقالية. وقد تفتح المنطقة الآمنة آفاقاً لم تكن متصورة حتى الآن عن الترتيبات العسكرية والأمنية على الأرض والتي قد تسبق المفاوضات السياسية. إنّ المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري تعي فعلياً الخطر المتزايد الذي تمثله داعش كونها (المعارضة) أول ضحايا جرائمها. وقد يمكن في ظل ظروف معينة، حين تلتزم القوى الغربية جدياً بحماية المدنيين وإنهاء اللعبة دون الأسد، أن يتم إقناع المعارضة المسلحة بالموافقة على تجميد جبهات المعارك ضد قوات النظام كي تقوم بتوجيه سلاحها ضد داعش باعتبارها أولوية، مع قيام الجيش الموالي بنفس العملية في المناطق الخاضعة لسيطرته. كما أن تقاسم الأعباء بشكل فعلي قد يؤدي إلى خلق القوّة البريّة الضرورية لقتال داعش.

لا أحد في سوريا يرغب أن يرى داعش تُستبدل بجبهة النصرة، إذ تُدرك قوّى المعارضة المعتدلة أنّ السبيل الوحيد لخلق القدرات المحلية من أجل تحقيق استقرار البلاد يتمّ بجعل الجيش السوري الحرّ وما تبقى من وحدات عسكرية من الجيش "الموالي" البعيدة عن الميليشيات الدموية، والتي لم تشارك في قتل المدنيين، تعمل في نفس الاتجاه. مما يمهد الطريق لإعادة بناء الجيش والأمن السوري الوطني، الأمر الذي يعدُّ شرطا مسبقاً للتسوية السياسية كي يكون هناك أي أمل بتحقيقها.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.